الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن: عصر الانتقال الثاني أو عصر اللامركزية الثانية
أولًا: عصر الأسرة الثالثة عشرة
في نصفه الأول:
انتقلت مقاليد الحكم في مصر من الأسرة الثانية عشرة على أيد حاكمة جديدة في أواخر الربع الأول من القرن الثامن عشر ق. م، بوسائل غير معروفة، وتعاقب على عرشها ملوك لم يستطع كاتب بردية تورين التاريخية أن ينسبهم على بيت معين أو عاصمة واحدة، ويبدو أنهم كانوا من بيوت عدة، استحب بعضهم مدنية طيبة عاصمة له واستحب بعضهم الآخر مدينة إثت تاوي عاصمة له، وانتسب هؤلاء وهؤلاء في أسمائهم إلى معبودي العاصمتين، آمون وسوبك، وحرص بعضهم على التسمي بأسماء تشبه أسماء ملوك الأسرة الثانية عشرة مثل أمنمحات وسنوسرت، وأسماء تشبه أسماء مؤسسي الأسرة الحادية عشرة السابقة لها مثل اسم إنتف، ليعبروا في الحالتين عن وراثتهم الشرعية للأسرتين.
ظلت وحدة البلاد قائمة في بداية هذا العصر من الناحية الشكلية، واستمرت أعمال تعداد السكان وإحصاءات المواشي والعقارات تجري في مكاتب الإدارة المحلية والإقليمية وورث الحكام الجدد عن الأسرة السابقة لهم حدودًا جنوبية تمتد إلى ما بعد الشلال الثاني عند حصني سمنة وقمة فحافظوا عليها لفترة قصيرة، وسجلت بردية من أوائل عهودهم بقاء ثلاثة عشر حصنًا1 نشطت فيها دوريات مراقبة الوافدين عبر الحدود. ورددت أكثر رسائل حاميات هذه الحصون ما يفيد استتباب الأمن على مناطق الحدود لولا أنه كان استتبابًا خادعًا كما سنتبين بعد قليل. وكان من قول أصحابها فيها "إن أملاك الملك سالمة صحيحة، وكل أموره هنا باقية سلمية"2.
ثم ما لبثت عهود النصف الأول من هذه العصر أن تخللتها فترات اضطراب داخلي لا نعرف شيئًا عن تفاصيلها غير ما نمت عنه بردية تورين من قصر فترات حكم ملوكها ومرور ست سنوات بغير ملك يعترف به الجميع. وليس من المستبعد أن يكون قد ترتب على تلك الفترات المضطربة اضطرابات أخرى خارجية أحاطت بالإشراف المصري في الشمال وفي الجنوب، حتى ولي العرش رجل من خاصة الشعب يدعى نفر حوتب "خع سخم رع" استعاد وحدة بلاده ووجد اسمه على بعض آثار وادي حلفا في الجنوب، كما عثر على نصب في فينيقيا بالشام يصور "يوناثان" أمير جبيل جالسًا أمام شخص عظيم اختفت صورته، ولكن النصوص المدونة إلى جانبه رجحت أنه الفرعون المصري نفر حوتب "خع سخم رع"3.
1 Gardiner، Ancient Egyptian Onomastica، 1947، Vol. I، Pp. 10-11.
2 Smither، Jea، XXXI، 1945،3 F.
3 Dussaud، Les Peuples De L’orient Mediterraneen، Ii، L’egypte، 278.
وجريًا على عادة أغلب الحكام الجدد غير ذوي الدم الملكي الموروث، تعمد نفرحوتب أن يظهر تقواه وعلمه أمام أفراد شعبه لكي يؤكد لهم أنه لا يقل عن ورثة البيوت المالكة القديمة حرصًا على التراث المجيد، فسجل باسمه نصًّا طريفًا، تحدث فيه عن رغبته الملحة في أن يزور مكتبة معبد الإله أتوم في مدينة عين شمس ليطلع في وثائقها القديمة على الصورة الأصلية لإله الغرب أوزير وهيئة جسده وأطرافه، حتى يوصي رجاله بصنع تماثيله على منوالها. وروى كيف أفضى برغبته هذه إلى رجال حاشيته العلماء فاصطحبوه إلى المكتبة حيث فتح الوثائق بنفسه وعرف منها ما لم يعرفه غيره1.ثم حضر الملك نفسه عبد المعبود أوزير في أبيدوس، وجمع كهنته وأوصاهم بعدم التهاون في مراسيم معبدهم وطقوسه، وقال لهم بعد حديث قصير: "
…
أنا الملك، عظيم البأس، شديد الإدارة، لن يحيا من يعاديني، ولن يتنفس الهواء من يتآمر ضدي، لن يبقى له اسم بين الأحياء، ولسوف تزهق روحه أمام الموظفين يطرد من عند هذا الإله هو ومن لا يهتمون بأمر جلالتي ومن لا يعملون بأمر جلالتي
…
"2. ولم تكن نغمة التهديد هذه معهودة من فراعنة العهود المصرية المستقرة، ولم يكن من داعٍ لذكرها بين الكهنة ما لم تكن قد أحاطت بصاحبها الذي ولي العرش بمجهوده حركات عصيان أجبرته على أن يردد تهديده ووعيده في كل مناسبة تسنح له ولو في وسط الكهان وداخل أروقة المعابد.
وظهر من أسماء خلفاء نفر حوتب على العرش، اسم خنجر، وهو اسم غريب بعض الشيء عن الأسماء المصرية المألوفة، وتسمى به ملك أو ملكان، وقص كاهن من معاصري خنجر "الأول؟ "، يدعى "أميني سنب" قصة طريفة تكشف عن بساطة العلاقات بين الحكام والمحكومين في عهده، وقال فيها: "أتاني كاتب الوزير وهو ولده سنب، ودعاني باسم والده، فذهبت معه ووجدت الوزير محافظ العاصمة عنخو في ديوانه، فأصدر إليَّ أمرًا قائلًا: تقرر أن تتولى ترميم معبد أبيدوس وسوف يصحبك الفنانون لإنجاز هذه المهمة ويصحبك كهنة مخزن القرابين بالمنطقة
…
وقام أميني سنب بمهمته ولقي جزاءه الذي ختم روايته عنه بقوله "وهكذا حققت أملي، ورضي الرب عني، وأثنى الملك علي".
وظلت قصور ملوك هذه الفترة عامرة بموظفيها وحشمها وخدمها ومراضعها وجواريها، وبأهل الموسيقى والطرب وجماعات الصناع والعمال، فضلًا عن سكانها من الأمراء والأميرات. وكانت تجري عليهم جميعهم رواتب مقررة، احتفظ سجل يومي من عهد ملك يدعى "أمنمحات سوبك حوتب" بصورة لها ضمنها تفاصيل الدخل والخرج يومًا بيوم لفترة اثني عشر يومًا. ويفهم من هذا السجل أن مخصصات القصر كانت نوعين: مخصصات دائمة تكلف بأدائها ديوان رأس الجنوب وديوان مدفوعات الناس والخزانة، ومخصصات طارئة غطت مصاريف المكافآت، والحفلات الخاصة، وكان الوزير أو من ينوب عنه هو المسئول عنها3. وكانت واردات القصر ومصروفاته، على الرغم من كثرة الحفلات والمكافآت التي تحدث السجل عنها في فترة الاثنى عشر يومًا، هزيلة تنم عن فقر الملكية في عهدها قياسًا إلى الثراء الواسع الذي اشتهرت به ملكية الأسرة الثانية عشرة وملكيات الدولة القديمة.
1 Mariette، Abydos، Ii، 28-30; Breasted، Op. Cit.، I، 755.; Max Pieper، Die Grosse Inschrift Des Koenigs Neferhotep، 1929.
2 Mc Iver، El-Amrah And Abydos، Pl. XXXIX.
3 Pap. Boulaq XVIII; Zaes، XXIII، 56 F.; XXIX، 100 F.; LVII. 46. 70.