الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك أموالًا كثيرة وألف إردب من الشعير. ولعلهم قد قدروا في التزامهم هنا بعدم تقديم الأضاحي المحروقة أمرًا آخر. وهو احترام شريعة الفرس المجوس التي حرمت تدنيس النيران بحثث الحيوانات.
ومضى عند دارا الثاني، ونكاية في المصريين حصل اليهود من خلفه أرتاخشاشا "أرتاكسركسيس" الثاني على وعد بتنفيذ مطلبهم، وربما في مقابل وقوفهم في وجه الثوار المصريين أيضًا، ويبدو أنهم أعادوا معبدهم بصورة ما. وبعد قليل أعلن الملك المصري أمون حر نفسه فرعونًا وحرر بلاده من الفرس في حوالي عام 404ق. م، ولو أن وثائق الآراميين واليهود لم تؤرخ باسمه حتى العام 401ق. م مما قد يعني ترددهم في الاستجابة له، ثم انقطعت وثائقهم بعد عام 399ق. م، مما يدل على تبدد شملهم خلال عهود الأسرات الفرعونية الأخيرة، وإن استعادوا بعض وجودهم مرة أخرى بعد ذلك في بداية العصر البطلمي1.
1 Cf.، Sayce And Cowley، Aramaic Papyri Discovered At Aswan، 1906; G.R. Driver، Aramaic Documents Of The Fifth Century B.C.، 1957; Zas، 1964، 63 F.;B. Porton، Archives From Elephantine، 1968 Etc.
الأسرتان الأخيرتان:
توالى على مصر بعد إجلاء الفرس في عام 404ق. م أكثر من ستين عامًا، لم يخب الصراع خلالها بين مصر المستقلة التي ما فتئت تذود عن سمعتها وحاولت الانتقام لنفسها مما أصابها إبان فترة الاحتلال، وبين فارس التي ما فتئت تعاودها حمى الاستعمار ورغبة الثأر لشرفها المسلوب. وتعاقبت على عرش مصر بعد عهد آمون حر أسرتان حاكمتان من شرق الدلتا، صحت عزائم أصحاب الشخصيات القوية من ملوكها على النهوض بعد النكسة واستعادة المجد القديم، بينما تقطعت دابر أصحاب الشخصيات الضعيفة منهم مناوأة الارستقراطية الإقطاعية لهم، بحيث لم تزد فترة حكم الواحد منهم عن بضعة شهور أحيانًا. ونشأت أولى الأسرتين، وهي التاسعة والعشرون، في مدينة منديس "تمي الأمديد وتل الربع شمال شرق السنبلاوين"، ولم تستمر أكثر من عشرين أو واحد وعشرين عامًا تعاقب فيها أربعة ملوك أو خمسة، كان أهمهم أثرًا مؤسسها نايف عاورود "بانرع - مرن نثر"- ثم ثالث ملوكها هجر "أو هقر". وجرى كل منهما على سنة التعاون مع العالم الإغريقي لمواجهة الفرس أعداء الطرفين.
وبدأ الفرس مع بداية عصر الأسرة التاسعة والعشرين مستغلين قلقلة انتقال العرش المصري من أسرة المحرر أمون حر، وحشدوا جيشًا وأسطولًا كبيرين في فينيقيا لغزو مصر1، ولكن صرفهم عن إتمام خطتهم مشاكل ولاية عرشهم وثورة آسيا الصغرى وجزرها ضدهم بعد أن أيدتها دولة إسبارطه الطامعة في زعامة الإغريق وصاحبة أقوى الجيوش البرية في أرض اليونان. واتقاء لعودة غدر الفرس تقاربت وجهات النظر بين مصر وبين إسبارطه، وبدأت مصر بمد يد العون فأمدت حليفتها في عهد نايف عاورود بأموال وخمسمائة ألف مكيال من الغلال وتجهيز مائة سفينة مقاتلة، ولكن هذا المدد الذي تحملته خزائن مصر المجاهدين المجهدة لم يؤدِ الغرض منه وحطمه قائد أثيني كان يخدم الفرس عند رودس2. وبعد سنوات عقدت إسبارطه الصلح مع الفرس، ولم تتذكر مصر في صلحها، فبقيت مصر وحدها.
1 Kienitz، Op. Cit.، 76 “Xenophon، Anabasis، I، 4-5”.
2 Diodorus، Xvi، 79.
ولبت مصر المتعطشة للانتقام والباحثة عن الأحلاف دعوتين أخرتين في عهد هجر "خنم ماعت رع - ستبن خنوم" لمناوأة الفرس، إحديهما من أثينا، والأخرى من إفاجوراس ملك قبرص، فأعانت هذا الأخير بخمسين سفينة، ومدد من الغلال، وأخذ كل منهما يكافح الفرس في ناحية؛ مصر تكافحهم على حدودها، وأهل قبرص يكافحونهم في جزيرتهم وعلى سواحل فينيقيا، وبدأ الفرس بمهاجمة مصر ولكنها كسرت حدة جيشهم في معركة غير محددة المعالم ناضلتهم فيها برجالها وبمرتزقة من الإغريق كان على رأسهم خابرياس الأثيني. وبعد نضال طويل سلمت قبرص أمام الفرس في عام 380ق. م1 وبقيت مصر وحدها مرة أخرى.
وكان هجر أطول ملوك الأسرة حكمًا في هذا العصر القلق "393 - 380ق. م"، ولأمر ما بدأ ارتباطه بالإله خنوم رب أسوان واضحًا في اسمه، وعللت بردية الأيام الديموطية استقراره النسبي بسخائه مع المعابد، ولكن ما لبث الحظ أن تخلى عنه، على حد قولها؛ لأنه خالف الشريعة وجافى إخوته، فاكفهر الجو السياسي، وتبعه اثنان حكم أحدهما عامًا واحدًا وحكم الآخر بضعة شهور، وانتقل عرش مصر بعدهما في ظروف قلقة إلى أسرة جديدة من سمنود "على مبعدة قليلة من عاصمة الأسرة السابقة".
استعان مؤسس الأسرة الأخيرة، الثلاثين، نخت نيف "خبر كارع" - أو نكتانب كما سماه الإغريق "خلال 380 - 363ق. م" بمساعدات المعابد. وبتأييد كهنة سايس على تدعيم ملكه، ثم رد لهم الفضل مضاعفًا، فأحال ضريبة العشر المفروضة على منتجات وواردات وصادرات نقراطيس مركز التجارة الإغريقية إلى صالح معابد نيت في سايس2. ونشط العمران في عهده في المعباد المصرية، ابتداء من شمال الدلتا حتى جزيرة فيلاي جنوبي أسوان. وكان عليه أن يتيقظ لغدر الفرس ويستعين بمن يمكن الاستعانة به ضدهم، لولا أن أحلاف الأمس وهم الإغريق أصبحوا يعملون لمن يجزل العطاء لهم، حتى ضد بعضهم بعضًا، وهكذا عوضًا عن أن تتعاون أثنيا معه خضعت لضغط الفرس فاستدعت قائدها خابرياس الذي كان يعمل بأعوانه في الجيش المصري، وساهمت في إعداد 20 ألفًا من المرتزقة لمعاونة الفرس ضد مصر. وفي ظل هذه الملابسات تجمع في بلاد الشام الخاضعة للفرس جيش ضخم قدره رواة الإغريق بمائتي ألف من جيوش الفرس وأتباعهم فضلًا عن عشرين ألفًا من مرتزقة الإغريق "وهو تقدير مبالغ فيه"، وكان فوق طاقة مصر أن ترده وحدها بسهولة فعبر الحدود في صيف 373ق. م، واستخدم الفرع المنديسي في نقل بعض قواته الكبيرة، وهنا لجأ القادة المصريون إلى إجزاء بارع فتريثوا حتى تدفق أفراد هذه القوات على الدلتا ووصلوا منف، ثم حصروهم عندها حتى دهمتهم مياه الفيضان وأشاعت الفشل فيهم فتراجعوا أمامها وأمام هجمات المصريين3.
ولما كانت معاونة الإغريق تشترى بالأكثر من المال، بذل "جدجر""إرماعت نرع"، أوتيوس كما دعاه
1 Bury، Op. Cit.، 556-57; Gyles. Op. Cit.، 43.
2 Erman U. Wilken، Zaes، Xxxviii، 127 F.; Posener، Asae، 1934، 141 F.; Gunn، Jea، 1934، 55 F.
3 Diodorus، Xiv، 10; Xv. 41-43; Plutarch، Agesilaus، 23. 3; Naville، The Shrinc Of Saft El-Henneh And The Land Of Goshen، 6 F.; Zaes، 1963، 90 F.
مؤرخو الإغريق، الكثير في سبيل شرائها من إسبارطه ومن أثنيا معًا، فاستعاد خابرياس الأثيني إلى خدمته هو وعشرة آلاف من قومه، وفاوض أجيسيلاوس ملك إسبارطه العجوز ليستعين بخبرته فانضم إليه بألف من رجال "وكانت مصر قد أسلفت العون له بمددها الذي غرق عند رودس". وجند جدحر ثمانين ألفًا من المصريين والمهجنين، وأعد ما بين 200 - 300 سفينة وصله بعضها من آسيا الصغرى1، وتأهب للخروج بهم عبر الحدود لضرب جيوش الفرس خارج بلاده وليحرمهم من خيرات الشام ومراكز تجمعاتهم فيها، ولكن الأمور لم تكن هينة أمامه، فقد تنافس القائد الأثيني والملك الإسبارطي على القيادة العليا، وحل جدحر هذه المشكلة بأن تولى هو القيادة العليا، وعهد بقيادة المرتزقة كلهم إلى أجيسيلاوس الإسبارطي العجوز الذي بلغ الثمانين وظن أنه سوف يأتي برجاله الألف العجب العجاب، كما عهد بقيادة الأسطول إلى خابرياس الأثيني المغرور2، ولكنه لم يستطع أن يستل الحقد من قلب أحدهما تجاه الآخر أو تجاهه هو. ولتموين جيشه الضخم، والإنفاق على مشروعه الكبير، ولإرضاء المرتزقة الذين أبوا أن يتسلموا أجورًا عينية كالعادة واتفقوا معه على أن يتسلموها نقدًا، رأي أنه لا بأس من فرض تضحيات اقتصادية على شعبه طيلة فترة الحرب وفي سبيل هدف أسمى، واستأنس في ذلك بمشورة خابرياس الأثيني، فأمر بمصادرة كثير من المعادن الثمينة في مصر، وحض الكهنة على التبرع بجانب من أملاكهم الخاصة والاكتفاء بإنفاق عشر المخصصات المرصودة للمعابد وتحويل بقيتها لخزائن الدولة حتى تنتهي الحرب، وحض كل مواطن على التبرع بجانب من مدخراته، وفرض نسبة ضريبية معينة على عمليات البيع والشراء، مع تعميم ضريبة العشر على الأرباح ومصادر الدخل المختلفة3.
وعندما خرج الجيش اللجب إلى بلاد الشام لضرب الفرس فيها، أعاد إلى الأذهان ذكريات جيوش الدولة الحديثة وأمجادها، لولا أن أتاه الأذى من مأمنه، في مصر والشام معًا، ففي مصر انقلب على جدحر أخوه ونائبه على عرشه واستعان بتذمر الكهنة والمتضررين من الضرائب الجديدة التي رأوها تنصرف إلى المرتزقة الأجانب أكثر مما تصل إلى مواطنيهم. ولما كان هذا الأخ شيخًا استدعى ولده من جيش عمه ليقود الانقلاب بدلًا عنه. وفي الشام أحدثت أخبار الانقلاب انشقاقًا في صفوف الجيش، واختار المرتزقة صوالحهم، فانسحب خابرياس الأثيني بجنوده، وانضم أجيسيلاوس الإسبارطي بجماعته إلى ابن الأخ المطالب بالعرش وعاد معه إلى مصر ليتلقى جزاء تأييده له4. وهنا لجأ جدحر كسيرا إلى صيداوروي منافسوه أنه طلب حق اللجوء السياسي بعد ذلك من الفرس، وهكذا أتت نهايته على غير ما أراده لنفسه وانتهى مشروعه إلى غير ما أمله فيه شعبه.
1 Gyles، Op. Cit.، 44; Xenophon، Agesilaus، Ii، 27”.
2 Diodorus، Xv، 9، 92; Gyles، Op. Cit.، 44 And Notes.
3 Op. Cit.، 45 “After Ps. Aristotle، Oeconomica، Ii، 25 F.; Polyaemus، Iii، 5 F.”.
4 Diodorus، Xvi، 40، 46، 48; Gyles، Op. Cit.
ولما كانت مقادير الشرق قد أصبحت مرتبطة بما بين الإغريق والفرس ومصر، ظهر رأيان متعارضان رددهما فريقان من بلاد الإغريق في خضم النزاع بين مقدونيا الناهضة بزعامة فيليب الثاني وبين أثينا العجوز الواهنة، بشأن مدى المنطقية في التعاون مع مصر على قتال الفرس. وعبر أرسطو عن الرأي الأول بلسان مقدونيا وأيد فيه منطقية مساعدة المصريين حتى لا يقعوا ثانية فريسة للفرس، ونبه قومه إلى أن دارا وإكسركسيس لم يتمكنا من قتال الإغريق إلا بعد إخضاع مصر، وأنه لا يستبعد حدوث الأمر نفسه إذا تكرر استعمار الفرس لها من جديد. وذهب إلى ضد هذا الرأي خطيب أثينا الأشهر ديموسثينيس فسخر ممن يريدون حرب الفرس في مصر، ودعاهم إلى أن يقفوا في أطماع الغول المقدوني في أرضهم قبل أن يقفوا في وجه الفرس1.
ونعود إلى مصر التي ولي عرشها ابن الأخ "مخت حرحب""سنجم إب رع"، أو نكتانبو "الثاني" كما دعاه بعض المؤرخين الكلاسيكيين2، فأخرص الأصوات الباقية على الولاء لعمه، وأرضى الكهنة المتذمرين، وأعاد الإسبارطيين بالهدايا، وقد مات قائدهم العجوز في الطريق. ثم رد بالجيش المصري هجومًا حاول الفرس أن يستغلوا له ما كان من تفرق الكلمة في بلده، وترتب على انتصاره عليهم أن انقلبت مدن فينيقيا ضدهم وتزعمتها صيدا التي قيل إن جدحر الملك المخلوع قد لجأ إليها، وبهذا ظن نخت حرحب أن زمانه صفا له وأن الأمن تحقق له في الداخل وفي الخارج، فكثر إنشاء العمائر الدينية في عهده تخليدًا لذكره وإظهارًا لتقواه وتعبيرًا عن الشكر المعتاد للأرباب ومداراة للكهنة.
وحتى هذه المرحلة كانت مصر لا تزال تعتبر نفسها في نهضة، ولا تزال عند الإغريق كعبة للمعرفة والعلم القديم، وحسبنا أن نشير إلى ما رواه بعض المؤرخين الكلاسيكيين من أن الفيلسوف الأثيني الأشهر أفلاطون قد زار مصر في أوائل القرن الرابع ق. م ليتعلم فيها الحكمة واللاهوت والعلوم، وتتعرض صحة هذه الزيارة للشك ولكن يكفي ما في روايتها من دلالة على تقدير العالم الخارجي لمصر حتى وهي في أيام محنها. وانعكست مشاعر العصر وآماله ونكساته على فنونه التي نكتفي باستعراض القليل منها. فقد انتقلت إلى حوزة المتحف المصري والمتاحف الأوروبية، ومتحف برلين بخاصة، رءوس مصرية صغيرة من أحجار صلبة رائعة، اختلف الباحثون في توقيتها بين عصر الأسرة السادسة والعشرين وبين عصر الأسرة الثلاثين، واتصفت ملامح هذه الرءوس باتساع ما بين الأنف والشفة، وتقطيب ما بين الحاجبين، وكرمشة الركن الخارجي للعين3. وظهرت بهيئة تشبه هيئة الرءوس الإغريقية والرءوس الرومانية التي أتت بعدها بأجيال طويلة. ولا تعني هذه المشابهة أن فناني الرءوس المصرية كانوا إغريقًا أو متأثرين بفن الإغريق أو الرومان بالضرورة، فالإغريق حينذاك وعلى الرغم من تقدمهم الحضاري، كانوا لا يأنفون من استيحاء
1 Ibid.، “After Aristotle، Rhetoric، Ii، 20، 3-4; Demosthenes، Rhodians، 3-4”.
2 Of. Tresson، Kemi، 1931، 126 F.; Ernst Meyer، Zas، 1931، 68 F.; Bickermann، In Melanges Maspero، 1934، 77 F.; V. Clere، Rev. Eg.، 1951، 25 F.
3 Berlin، 255، 12500، 23728; K. Bose، Die Menschliche Figur، 58 A، 205-206، 208.