الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صفات ذات أعمدة حول أفنيتها الكبيرة، وظهر لها ما يماثلها في عمائر الحيثيين في الأناضول. ودعت هذه التجديدات في العمائر الدينية والمدنية إلى احتمال دخول الكاسيين بفكرتها من بيئاتهم الأصيلة القديمة1.
ولم تخل الفنون التشكيلية، من نماذج طيبة وإن كانت قليلة للغاية، ومن هذه النماذج رأس صغيرة للبوءة من الطين المحروق2 يعتبر آية من آيات الفن في تمثيل شرطة العين وتجويفها وتكوين الفم والأنف والتعبير عن شعيرات الوجه، بخطوط بسيطة متمكنة. ورأس صغيرة لرجل، من الطين المحروق الملون أيضًا3، مثلته بأنف أقنى بعض الشيء، وأجادت
التعبير عن بروز شفته العليا عن السفلى، وعن تصفيف شعره.
1 Op. Cit.، 64.
2 Ibid.، Pl. 70 C. - وارتفاعها نحو 5 سم.
3 Ibid.، Pl. 70 B. - وارتفاعها نحو 7 سم.
العلاقات الخارجية:
وسارت العلاقات الخارجية السلمية للدولة الكاسية في نطاق عادي محدود. فسارت قوافلها التجارية في مسارتها التقليدية مع بلاد الشام ومصر، وكانت النصوص المصرية قد ذكرت اسم بابل مرتين خلال عصور دولتها الحديثة حتى عهد تحوتمس الثالث1، ثم أغفلته تمامًا، ربما بعد انتقال أزمة الحكم إلى الكاسيين، واستخدمت بلده كلمة سنجار لمدلول يتسع عن المدلول الإقليمي لكلمة بابل "كما ذكرت اسم جبل سنجار، وهو جبل يقع غربي الموصل"2. واكتست العلاقات المصرية البابلية بطابع الصداقة الشخصية خلال القرن الرابع عشر ق. م، وتمخضت هذه الصداقة عن مصاهرة البيتين الحاكمين أكثر من مرة، ومما يذكر في هذا زواج أمنحوتب الثالث بابنة الملك البابلي كاردونياش وطمعه فيما بعد في الزواج من بنت أخيها كادشمان خاربي "أو كادشمان إنليل"، مع ضنه في الوقت بتزويجه إحدى بناته أو إحدى أميرات بيته الفرعوني المالك. وعندما اضطرب حبل الأمن بين الأموريين والكنعانيين في الشام خلال عهد الفرعون المصري آخناتون، وتأثرت المتاجر البابلية بفوضى الطريق في أرض كنعان، لم يجد الملك الكاسي البابلي غير الفرعون المصري يستصرخه لتأمين تجارته ويقول له "كنعان أرضك
…
وأمراؤها مواليك" وأرسل له مع رسالته هدية ثلاث مينات من اللازورد وخمسة جياد وخمس عربات3.
وظل الكاسيون يؤلفون الطبقة الحاكمة في قلب العراق ما يقرب من خمسة قرون "من أوائل القرن 16 إلى أواخر القرن 12ق. م"، ولم يجد المؤرخون بأسًا في أن يعتبروا أسرتهم، فيما أسلفنا، الأسرة البابلية
1 وذكره أحد النصوص المصرية باسم ببر" ولم تكن الحروف الهجائية المصرية تتضمن حرف اللام وإنما تعبر عنه بالنون والراء أو بإحديهما".
See، Urk.، Iv، 668، 12.
2 H. Gauthier، Dict. Geog.، Ii، 20 F.; Ed. Meyer، Festschrift Fur Ebers، 63 F.; Muller، Egyptian Researches، Ii، 92.
3 ديلابورت: المرجع السابق - ص55.
الثالث، على الرغم من أنهم كانوا أغرابًا في أصلهم عن بابل وعن محيطها كله. ولكن لم يخلص لهم أمر بلاد النهرين تمامًا خلال قرونهم الخمسة، ففضلا عن دولة البحر التي نازعتهم السيادة على المناطق الجنوبية في بداية عصرهم حتى تغلبوا عليها، تحكم الآشوريون في المناطق الشرقية والشمالية الشرقية من نهر دجلة، وتحكم الحوريون في المناطق الغربية والشمالية الغربية من نهر الفرات، بغير حدود صريحة فاصلة بين امتداد هؤلاء أو هؤلاء. ثم ظهر بعدهم الميتانيون.
مع آشور:
لم كتن آشور ذات شأن كبير في بداية الأمر، وقد اقتطع الحوريون جزءًا من أرضها، وعاملها الكاسيون على حذر. وحدث أن تصاهر البيتان الحاكمان في آشور وبابل لبعض الوقت، فتزوج الملك البابلي "كارونداش" من ابنة الملك الآشوري "آشور أون بالليط"، وجعل ولدها ولي عهده، فعز على الأمراء الكاسيين أن يسري الدم الآشوري في عروق صاحب عرشهم ويصبح ذلك سببًا لتدخل الآشوريين في شئون دولتهم، فاغتالوا ولي العهد وولوا غيره مكانه. ولا تعنينا هذه المصاهرة وذالك الاغتيال من حيث هما حادثان فرديان، ولكن تعنينا دلالتهما على عدم توافر الثقة بين الدولتين. وحدث أن خرج الآشوريون عن نطاقهم الإقليمي، وأوفدوا سفارة إلى الفرعون المصري آخناتون، فاحتج الملك البابلي على هذه الجرأة وكتب إلى الفرعون المصري بأنه لم يكن يحق للآشوريين أن يتصلوا به اتصالًا مباشرًا وأنه لا يزال يعتبرهم من أتباعه1.
مع الحوريين:
كان الحوريون فرعًا من الفروع الهندوآرية اتخذوا طريقهم إلى الشرق بنفس السبيل الذي اتخذه غيرهم من فروع الهجرات الكبيرة، أي عن طريق التسلل البطيء ثم عن طريق الهجرة العنيفة في ظل ظروف مناسبة2. واعتبر بعض الباحثين أقدم أمرائهم المعروفين في الشرق أميرًا يُدعى نيزادا حكم منطقة أوركيس في القرن الثالث والعشرين ق. م، غير أن هذا التقدير لا يخلو من شك كبير، وأقرب منه إلى الصحة ما يعرف عن ظهور أعمالهم وأخيلتهم الدينية في نصوص ماري منذ أوائل القرن السابع عشر ق. م، وظهور تأثيرهم في الدولة الحالية "الحيثية" منذ عهد ملكها نتيليس الأول، وذلك مما يحتمل معه إرجاع وصولهم إلى المشرق إلى القرن الثامن عشر ق. م أو ما هو قريب منه3. ثم امتد نشاطهم في قلب بلاد النهرين حتى
1 ويضيف ديلاورت أن الملك الآشوري كان قد غار من إهداء الفرعون إلى توسراتا الميتاني عشرين وزنة من الذهب، وتساءل عن سبب عدم حظوته بمثل هذه المعاملة.
2 Cf. E.A. Speiser، Introduction To Hurrian، New Haven، 1940، 1941; I. J. Gelb، Hurrians And Subarians، Chicago، 1944.
3 See، S. Moscati، Op. Cit.، 189; A. Pohl، Khurriti، Encyclopaedia Cattolica، Vi، Citta Del Vaticano، 1951، Coll. 1511-12.
منطقة أرانجا "كركوك" ونوزي "يورجان تبة الحالية" جنوب شرق نينوى1. كما امتدوا غربًا في المناطق السورية، ولو أن هذا الامتداد كان فيما يغلب على الظن امتدادًا تجاريًّا وتسربًا سلميًّا يرتبط بالنفوذ الاقتصادي والنفوذ الحضاري أكثر مما يرتبط بالنفوذ الحربي أو السياسي. وقد أخذوا بالحضارة البابلية في العراق وكتبوا لغتهم الحورية بخطها المسماري، ولم يكونوا بغير أثر في حياتها العامة، لا سيما فيما شغلته فيما بعد دولة آشور "كما سنرى فيما بعد".
وعرف المصريون القدماء أقرب مناطق الحوريين إليهم بمترادفات: نهري، ونهرن، ونهرينا2، وعرف البابليون المنطقة نفسها باسم "ماتونخريما""وماتوناريما". وليس ما يعرف إن كان الاسم المصري "نهرينا" ومرادفه البابلي "نخريما"، يدل على معنى "أرض النهر"، ويدل ذلك على "بعض" أراضي الفرات، أم يدل على صيغة التثنية ويعني نهرين معينين ويدل بذلك على ما يمتد بين نهر الفرات وبين فرعه نهير الخابور. وعلى أية حال فقد عنت النصوص المصرية بكلمة نهرن ومترادفاتها أراضي تمتد حول ضفتي الفرات.
مع الميتان:
وفدت على الحوريين وافدة جديدة من بني عمومتهم الهندوآريين حوالي القرن السادس عشر ق. م، واشتهر هؤلاء الوافدون باسم مثن والميتان والميتانيين، وذكرت النصوص المصرية بلادهم باسم "تاومثن" واسم "خاسوت متن"، أي أراضي مثن، وبراري "أو أقطار" متن. وقد أخذوا بالنظام الفيدرالي الذي اعتاده أغلب الهندوآريين ذوي الأصول الرعوية، وهو نظام كان يجعل السادية في أيدي طبقة من النبلاء المحاربين يسمون "ماريانو" ويعتبرون أنفسهم أقرانًا بعضهم لبعض ويعتبرون ملكهم رأس أقرانه. وذكرت النصوص المصرية أقدم ملوكهم المعروفين لها باسم سوشاتار.
واتخذ المتيانيون عاصمتهم في مدينة تسمى واسوكاني "أو أشوكاني"، وهي مدينة صعب تحديد مكان أطلالها وإن ذهب الظن إلى تقريبها إلى الفخارية على نهير الخابور شرق تل حلف وحران. وحاولوا أن يسودوا الحوريين، وربما نجحوا في ذلك وجعلوا أغلبهم من رعاياهم، كما شتتوا فريقًا منهم إلى أطراف الشام حيث تضمنت الرسائل المسمارية لأمراء جنوب الشام المرسلة إلى البلاط المصري أسماء قريبة من الأسماء الحورية.
واحتفظ الحوريون والميتانيون من أربابهم الهندو آريين بالأرباب إندرا، وفارونا، وميثرا، وربما تيشوب رب الزوابع، وهبة ربة الشمس أيضًا، ولكنهم جمعوا إلى أولئك الأرباب بعض أرباب بلاد النهرين الساميين وقدسوهم، لا سيما إشتار التي صوروها في أساطيرهم تناصر الخير وتقف في وجه مارد شرير يُدعى خيدامو.
1 A.H. Gardiner Ancient Egyptian Onomastica، I، 185.
2 Urk. Iv، 697، 3-4، Wb. Ii، 286، 11; Zaes، Lxix، 24 F.; Davies، Tombe Of Two Officials، Pl. 28; Urk. Iv، 891، 8; 710، 4، 15; 711، 5; Papyrus Anastasi، Iv، 15، 4.
واتسعت دولة الميتان فيما جارها من أرض العراق وأرض الشام وضغطت لفترة ما على نشاط جيرانها الآشوريين والخاتيين، وحاولت أن يكون لها ضلع في زعامة الشرق فتنازعت مصر في زعامتها التي حققتها لنفسها منذ أوائل دولتها الحديثة حين امتد نفوذها فيما بين الشلال الرابع جنوبًا وبين ضفاف الفرات شمالًا بشرق. ومر في ص216 وما بعدها كيف بدأ الميتان تنفيذ أطماعهم بطريق غير مباشر، فألبوا بعض أمراء الشام على المصريين منذ أواخر عهد الملكة المصرية حاتشبسوت وخلال أوئل عهد الفرعون تحوتمس الثالث، كيف تصدت لهم جيوش هذا الفرعون وأفسدت مشاريعهم ومشاريع حلفائهم، وكيف استمرت العلاقات بين الدولتين، مصر والميتان، علاقات عدائية حتى نهاية عهد الفرعون أمنحوتب الثاني، ثم مالت الدولتان إلى سياسة التقارب. وليس من المستبعد أن يكون التقارب قد بدأ من ناحية الميتان بعد أن أحسوا ببداية استيقاظ الآشوريين في شرقهم وبداية استعداد الخاتيين "الحيثيين" في شمالهم الغربي، وتمخض التقارب بين الدولتين عن مصاهرة بيتيهما الحاكمين منذ عهد الفرعون المصر تحوتمش الرابع وفي عهد ولده أمنحوتب الثالث، وعهد حفيده آخناتون. واستقرت حينذاك صداقة الدولتين، وراسل حكامهما بعضهم بعضًا بلفظ الأخوة، واعتاد كل منهم على أن يسأل الآخر في رسائله عن أهله وداره وخيوله وأتباعه. وتسامح المصريون مع ديانة أصدقائهم، ولم ير أمنحوتب الثالث بأسًا في أن يتقبل في قصره تمثالين صغيرين للمعبودين العراقيين شمش وإشتار أرسلهما الملك الميتاني مع ابنته عروس أمنحوتب لتستعين ببركتهما على إقرار حبها في قلبه، ولم يجد بأسًا في أن يتقبل تمثالًا آخر لإشتار أتاه هدية من صديقه الميتاني ليتبرك به في مرضه. ويبدو أنه كانت لبلاد النهرين في جملتها شهرة خاصة في الطب والسحر تعادل شهرة مصر فيهما؛ إذ تكررت نفس الظاهرة مع الحيثيين في عصر لاحق لهذا العصر، وطلب الملك الحيثي موتاللو من معاصره البابلي أن يوفد إليه طبيبًا وساحرًا، وإن كان قد طلب نفس الطلب من مصر أيضًا فأرسلت إليه تمثالًا لمعبودها رب الشفاء خنسو ومعه كاهن ملازم له. وليس من المستبعد حين يتم الكشف عن عاصمة الميتان القديمة أن يتضح مدى تأثر إنتاجهم الفني بالفن المصري القديم، وتتميز من آثارهم المعروفة أوانٍ فخارية لطيفة ذات صبغة صفراء وخطوط سوداء غليظة ورسوم تخطيطية بيضاء1.
وعلى أية حال، فقد ظلت دول العراق تتطلع إلى مصر خلال هذه العهود على أنها أكبر دول الشرق كله، بحكم ضخامة إمكانياتها المادية والبشرية والفكرية، وأسلفنا في بحثنا للتاريخ المصري "ص221" كيف ظل ملوك الشرق وأمراؤه يرجون فرعون مصر أن يفيض عليهم من ذهبها نظير هداياهم من الأرقاء والجواري والمركبات والجياد والأحجار الكريمة، تساوي في ذلك ملوك الميتان وملوك بابل وملوك آشور، فضلًا عن أمراء الشام وحكام قبرص. وكيف أنه على الرغم من ترحيب ملوك الشرق وأمرائه بمصاهرة أمنحوتب المصري، ظل ضنينًا عليهم بأميرات بيته، بحجة أنه لم يسبق أن تزوجت أميرة مصرية بشخص أجنبي.
1 عثر على نماذج هذه الأواني في مناطق عدة مثل: نوزي وآشور ونينوى وتل حلف وتل العطشانة.
Cf. A. Parrot، Archeologie Mesopotamienne، I، Paris، 1946.