الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في عاصمتهم، والارتقاء بالكتابة وتوسيع استخدامها في شئون الإدارة والعقائد، وإرساء أسس مشاريع الري والزراعة وتنظيمات الضرائب وحكم الأقاليم.
وكان من صور استغلال الموارد الطبيعية في عصرهم استغلال المحاجر والمناجم، فاستخدموا الديوريت والجرانيت والأحجار الجيرية لرصف أرضيت المقابر الملكية وتسقيفها وعمل نصبها، واستخدموها في بناء بوابات بعض المعابد الكبيرة، وربما واجهاتها أيضًا، وإذا استشهدنا باستخدام الحجر في المقابر والمعابد دون غيرها، فمرجع ذلك إلى ما أسلفناه من أن المقابر والمعابد هي التي بقيت حتى الآن دون المساكن ومن المحتمل أن أنواع الأحجار نفسها استخدمت في بناء أكتاف أبواب القصور وأساطينها وأرضياتها كما أشرنا من قبل.
ونجح أهل العصر فيما أرادوه من صبغ الحضارة المادية المصرية بصبغة متجانسة، فتشابهت آثارهم التي تركوها عند رأس الدلتا، مع آثارهم التي تركوها في مصر الوسطى، وآثارهم التي تركوها في الصعيد، في خصائصها الرئيسية وإن تنوعت في أذواقها وتفاصيلها المحلية. وكان فنانو البلاط الملكي وتلاميذهم هم أدوات التجانس في هذه الآثار، فعملوا بأسماء ملوكهم في أنحاء الوادي كله، وعملوا بإذن ملوكهم في خدمة رجال بلاطهم حيثما استقر مقامهم وأقيمت مقابرهم.
النشاط الحدودي والخارجي:
لم تقتصر مصادر عصر بداية الأسرات على تصوير وجود النشاط الداخلي وحده، وإنما صورت نقوش العصر وآثاره وجوه نشاط أخرى حدودية وخارجية، سلمية وحربية.
فمن أدلة الامتدادات الجنوبية أنه عثر على اسم الملك جر ثاني ملوك الأسرة الأولى مسجلًا على صخور جبل الشيخ سليمان قرب وادي حلفا، وذلك ما يحتمل تفسيره باتساع التبادل التجاري لدولته مع منطقة النوبة التي لم تكن قد اكتمل تمصرها حضاريًّا بعد، أو ببلاد السودان التي تقع وراءها، واتساع نشاط حكومته في استغلال مناجم الذهب في وادي حلفا، وقيام جيشه بحماية هذا الاستغلال أو ذلك التبادل. وقد استمرت جهود العهود التالية له على نفس السبيل1.
وتعين على حكام العصر أن يتيقظوا للحدود الصحراوية الشرقية والغربية، وأن يكفلوا حماية المتاجر والقوافل وبعثات المناجم والمحاجر التي تجوس خلالها، عن طريق تعويد بدوها الرحل على الطاعة والتعاون والسلام. وأثرت لأغلب فترات العصر جهود في هذا السبيل منذ عهد الملك عحا الذي رمزت مناظر صلايته إلى كثرة من واردات الواحات الغربية دلت على أنها كانت حينذاك وفيرة المراعي والشجيرات والأنعام: ونقش اسم الملك "واجي" على صخرة قريبة من البحر الأحمر في نهاية واد يصل بينه وبين إدفو2، وذلك مما يعني استغلال أحجار ومعادن الوادي في عهده واستغلاله كطريق تجاري بين النيل والبحر الأحمر3.
1 J. Capart، Les Debuts .....، Figs. 159-160.
2 Clere، Asae، XXXVIII، 85 F.
3 Zaes، XXXV، 7 F.
وسجلت بطاقة من عهد "دن" أخبار نصره على أهل الشرق لأول مرة، كما قال كاتبها1، كما سجلت بطاقات من عهد ولده عنجاب نشاطًا مماثلًا ضد قوم أطلقت عليهم اسم "الإنتيو"1 ربما بمعنى "أصحاب العمد". ويغلب على الظن أنهم كانوا من الأقوام الشرقيين الذين أشارت إليهم بطاقة أبيه، أي من بدو الصحراء الشرقية وبدو سيناء وربما ما وراءها أيضًا.
وتأكدت اتصالات مصر بأطراف غرب آسيا، فاستورد المصريون أخشاب الأرز والصنوبر من فينيقيا واستخدموها في تسقيف مقابر ملوكهم لا سيما في منطقة أبيدوس، وربما استخدموها كذلك في صناعة السفن الكبيرة منذ عهد عحا. واستوردوا الزيوت والخمور في أوانٍ فخارية فاخرة من جنوب سوريا، واعتبرت H. Kantoi هذه الواردات بمثابة جزى وردت إلى مصر من المناطق الخاضعة لها حينذاك في سوريا وفلسطين3. وذهب الباحثون De Rouge'، R. Weill، And Y. Yadin إلى أن مصر كانت لها حصون وعمليات دفاعية في المناطق الآسيوية منذ عهد نعرمر وخلال عهود خلفائه جر، ودن، وقاي عا. واستدلوا على نشاطها هناك من صورة حصن نقشت على صلاية نعرمر، ومن ذكر اسم حصن يدعى "باب عن" وآخر يدعى "ونة" في جنوب الشام، على آثار العصر نفسه، ووجود اسم نعرمر على أثر صغير في فلسطين. ويصعب تأكيد هذه الاستنتاجات بأدلة قاطعة، وإن وجدت قرائن لها في نقوش الملوك وفي حوليات حجر بالرمو4. وعثر في مقابل هذه الواردات على صادرات مصرية في ميناء جبيل بلبنان الحالية5، وكانت أكبر مركز للتبادل التجاري مع مصر في غرب آسيا، وأصبحت بعض السفن المصرية المتعاملة معها أو المصنوعة بأخشابها تُسمى أحيانًا "الكبنية" أي "الجبيلية". ويرى الأستاذان بترى وشارف6 أن هذه الميناء ظلت واسطة لاتصال التجار المصريين ببحر إيجه وبالتجار الكريتيين في نفس العصر. وعثر بترى في أبيدوس على أوانٍ تشبه زخارفها زخارف الأواني الإيجية. وإن كان يبدو أن تأكيد التبادل مع الكريتيين في ذلك العصر البعيد لا يخلو من الشك، لا سيما بالنسبة لأهل كريت الذي لم تكن حضارتهم ذات شأن حينذاك. "وقد زاد شارف فذكر أن المصريين قد وصلوا إلى كريت رأسًا بوسائلهم البحرية الخاصة".
ورتب عدد من الباحثين نشاط التأثير بين بلاد النهرين وبين مصر في أوائل هذا العصر على أساس وجود شيء من التشابه بين بعض الأساليب المعمارية والزخرفية والأسطورية في إنتاج كل من البلدين. مثل أسلوب
1 Plaermo، Rt.، III، 2.
2 Reyal Tombs، I، Pls. LXII، IXV، LXVII; Jea، XII، 83،; Kees، Das Alte Aegypten، 58.
3 H. Franfort، Studies In The Early Pottery ....، 108 F. ; M. W. Prausinitz، "Abydos And Combed Ware، Palestine Expl. Qart، London، 1954، 91 F. ; H. Kantor، Jnes، 1942، 174 T. ; 201 F.
4 See، Petrie، Royal Tombs، I، Pls. XV، 16-18، XVII، 30; Vol. II، Pl. XVII، 30; Abydos، I، Pl. XI، 8; Y. Yadin، Israel Exploreation Journal. 1955، 1-16; R. Weill، Recherches
…
I، 15 F.
5 P. Montet، Byblos Et I' Egypte، 271; Dunand، In Syria، 1928، 18، Fig 1.
6 Petrie، Royal Tombe، II، 46، Pl. LVI - ألكسندر شارف: تاريخ مصر من فجر التاريخ – معرب بالقاهرة – ص48.
المشكاوات "أي الدخلات الرأسية العميقة المتعاقبة على مسافات متساوية" في واجهات المباني اللبنية، وفكرة تصوير أبطال أسطوريين يفصلون بين حيوانات مفترسة ويخضعونها، وفكرة استخدام أختام أسطوانية صغيرة منقوشة للختم بها على سدادات الأواني الفاخرة وربما على الوثائق أيضًا، وفكرة نقش وتصوير حيوانات خرافية ذات أعناق طويلة مقوسة لغرض الزخرف أو للتعبير عن الأساطير. واستنتج بعض أولئك الباحثين من صور هذا التشابه استنتاجات شتى لا يخلو بعضها من إسراف، وقد ناقشناها بتفصيل في كتابنا الأول عن حضارة مصر القديمة وآثارها "ص262 - 267"، وانتهينا من مناقشتها إلى أن الأساليب والأفكار السابقة وإن تشابهت من حيث دواعي نشأتها في كل من البلدين، إلا أنها تمايزت في كل منهما في طريقة تنفيذها وفي أغراضها وفي مجالات استعمالها، مما يوحي بأن كلًّا منهما قد نمت وتطورت في أحضان حضارة أهلها المحلية وسايرت تقاليدهم الخاصة في الصناعة والزخرف والتعبير، بغير ضرورة إلى الظن بتأثير لازم من أحد البلدين فيها على البلد الآخر، وإن لم يحل هذا إطلاقًا دون افتراض استمرار الصلات الحضارية العادية بين الطرفين بطرق مباشرة أو عن طريق وسطاء، أو افتراض تقليد بعض الصناع والفنانين في كل من البلدين زخارف البعض الآخر تقليدًا شخصيًّا حرًّا.
وانقضى عصر بداية الأسرات بمظاهره الحضارية حوالي عام 2780ق. م. بعد انتقال أزمة الحكم من أسرته الثانية إلى فرع حاكم جديد يتصل بها برابطة الدم والنسب، وانقضت بعده قرون طويلة ظل المصريون خلالها يردون إليه بعض معارفهم وعلومهم القديمة، فتضمنت بردية طبية من الدولة الحديثة فصلًا طبيًّا فيها لردته إلى عهد الملك دن "الذي ذكرته باسم سمتى"1. وذكرت كتب الموتى أن فصلًا منها وجد في زمن قديم في البهو الكبير لقصر الملك نفسه2. وذكر المؤرخ المصري مانيتون أن الملك جر "الذي ذكره باسم أثوثيس" ألف كتابًا في التشريح وكان بارعًا في الطب3. وذكر المؤرخ ديودور الصقلي أن الكهان أخبروه بأن منى كان أول من علم الناس أسلوب الحياة المهذبة وطقوس العبادة وأرشدهم إلى فوائد البشنين وكيف يصنعون الخبز منه4.
وليس من ضرورة بطبيعة الحال إلى الأخذ بحرفية هذه الأخبار، فقد يكون الغرض منها هو رغبة أصحابها المصريين في صبغ معارفهم بصبغة القداسة عن طريق ردها إلى أصول قديمة عريقة. ولكن حسبنا منها أن ذكريات عصر بداية الأسرات ظلت ماثلة في أذهان المصريين، يعتزون بها وينسجون القصص والأساطير حولها.
1 Der Grose Medizinisch Papyrus Des Berlin Museums، XVI، 1 F.
2 B. D.، Ch.، Cxxx، "Zaes، 1857، 54".
3 Maneto، In Cory، Ancient Fragments ....، 894.
4 Diosorus، I، 45.