الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
واهتدى الإنسان في خواتيم هذا الدهر، وفي بقعة أو بقاع ما من العام القديم، إلى طريقة إيقاد النار اهتداء عفويًّا في الأغلب، وكان اهتداؤه إليها مبشرًا بأول انقلاب مادي فعال في تاريخ الحضارة البشرية، انقلاب تميز به طعام الإنسان بعد طهيه بالنار عن طعام الحيوان، وأصبح الإنسان بفضله أكثر اطمئنانًا على نفسه وعلى عياله حين يستعين بدفء النار على مقاومة البرد والصقيع، وحين يستعين بنورها على مخاوف ظلام الليل عدوه المخيف، وحين يستعين بأثرها في حفظ لحم الصيد وعدم فساده سريعا. وليس من المستبعد أنه حين لم يعد فكه وأسنانه يتطلبان المجهود الذي كان يبذله في أكل اللحم النيئ كان لذلك بعض الأثر في أن تهذبت خلقته وخفت وحشيته.
في الدهر الحجري القديم الأوسط:
أعقبت حضارتي الدهر الحجري القديم الأسفل، حضارة الدهر الحجري القديم الأوسط، وهذه نكتفي بأن نذكر عن خصائصها هي الأخرى أن مناطق الشرق الأدنى عاشت في أغلب دهرها في ظل حقب مطيرة طويلة، وإن تكن أقل أمدًا واتصالًا من الحقب المطيرة التي سبقتها خلال الدهر الحجر القديم الأسفل. وأن الاصطلاح العلمي جرى على تسمية الأدوات الشائعة في أجزاء العالم المعمور خلالها باسم الأدوات الموستيرية "نسبة إلى أدوات كهف موستييه في فرنسا". وقد ميزها توسع أصحابها في صناعة كان أهل الدهر السابق قد بدءوا بها، وقامت على أساس استخدام الشظايا التي تنفصل عن جوانب الفهر حين صناعته. وقد زادت مهارتهم في فصلها بعناية وسهولة وتشكيلها بأشكال مختلفة، بحيث إذا حددوا جانبي الشظية استخدموها استخدام المدية، وإذا حددوا أحد جانبيها استخدموها استخدام المبشر أو المكشط، وإذا دببوا أحد طرفيها استخدموها استخدام المثقاب أو المخراز. وعلى الرغم من شيوع الخصائص العامة لهذه الصناعات الحجرية في أغلب المناطق المعمورة من العالم القديم، دون تغيير كبير، إلا أن بعض جهات الشرق الأدنى استطاعت أن تنحو بصناعتها الحجرية المتواضعة نحو التخصص، ومنها مصر التي نهج بعض أهلها نهجًا إقليميًّا في صناعة النصال والأفهار "الليفلوازية" مم ميز بعض الشيء بين إنتاجهم المتواضع منها وبين إنتاج الأدوات والشظايا الموستيرية العامة الشائعة عند من سواهم من أهل العالم القديم1.
1 Sh. Beuil، L’afrique Prehistorique، 1931، 71،; S. Huzayyin، Bull. Soc. De Geogr. D’egypt، Xx، 210f.; E. Massoulard، Prehistoire Et Protohistoire D’egypt، 1949، 13.
في الدهر الحجري القديم الأعلى:
تغيرت بانتهاء الدهر الحجري القديم الأوسط صورة الشرق الأدنى القديم إلى حد كبير، فانتهت بانتهائه فترات الأمطار الكثيفة المتصلة في العروض المدارية والوسطى، وتضاءلت بانتهائه فرص نمو نباتات السفانا الوفيرة، وقلت بذلك فرص الحياة للحيوانات الضخمة التي تحب وفرة الماء ووفرة النباتات كالفيل، والخرتيت والثور البري، فانقرض بعضها، ولجأ بعضها الآخر إلى المناطق الاستوائية أو المناطق الشمالية الباردة. وأخذت ظروف الجفاف تسود الشرق الأدنى شيئًا فشيئًا، وظهرت معها حضارات بدائية جديدة هي حضارات الدهر الحجري القديم الأعلى، وفيها حاول الإنسان أن يتطور بوسائله المادية إلى ما يناسب ظروف حياته