المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مرحلة الأمجاد الأخيرة من العصر الآشوري الحديث: - الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق

[عبد العزيز صالح]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الشرق الأدنى القديم

- ‌الفصل الأول: التشابه والتنوع في الشرق الأدنى القديم وتأثيرات البيئة في حياة أهله

- ‌مدخل

- ‌في وادي النيل:

- ‌في بلاد النهرين:

- ‌في بلاد الشام:

- ‌في شبه الجزيرة العربية:

- ‌الفصل الثاني: الشرق الأدنى القديم ودهوره الحجرية فيما قبل التاريخ

- ‌مدخل

- ‌في الدهر الحجري القديم الأسفل:

- ‌في الدهر الحجري القديم الأوسط:

- ‌في الدهر الحجري القديم الأعلى:

- ‌قرائن العمران:

- ‌من السلالات البشرية:

- ‌بداية الزراعة في فجر التاريخ أو العصر النيوليثي:

- ‌تعدد الحرف وبدايات الفنون:

- ‌وضوح التجمعات:

- ‌تمهيد بتقسيمات عصور مصر القديمة ومصادرها:

- ‌الكتاب الأول: مصر منذ فجر التاريخ حتى نهاية العصور الفرعونية

- ‌الفصل الثالث: مصر في فجر تاريخها

- ‌مدخل

- ‌في الفترة النيوليثية الحجرية الحديثة

- ‌مدخل

- ‌في مرمدة بني سلامة:

- ‌في الفيوم:

- ‌في دير تاسا:

- ‌في الفترة الخالكوليثية النحاسية الحجرية:

- ‌في البداري:

- ‌في حضارة نقادة الأولى:

- ‌في حضارة نقادة الثانية:

- ‌بين الصعيد وبين الدلتا:

- ‌التطور السياسي:

- ‌من تطورات الفنون وتعبيراتها:

- ‌سكين جبل العركى:

- ‌من آثار العقرب:

- ‌صلاية الفحل:

- ‌آثار نعرمر:

- ‌الفصل الرابع: بداية العصور التاريخية

- ‌مدخل

- ‌الكتابة وتوابعها:

- ‌الحكام والإدارة

- ‌مدخل

- ‌أوضاع الحكم:

- ‌في العمران والفكر:

- ‌النشاط الحدودي والخارجي:

- ‌الفصل الخامس: عصور الأهرام في الدولة القديمة

- ‌أولا: الرشاقة والابتكار في عصر الأسرة الثالثة

- ‌مدخل

- ‌إيمحوتب وشواهد العمارة والفن:

- ‌قصة المجاعة:

- ‌التقويم:

- ‌ثانيا: الروعة والبنيان الراسخ في عصر الأسرة الرابعة

- ‌تجديدات عهد سنفرو

- ‌عهد خوفو:

- ‌تعبيرات الهرم الأكبر:

- ‌هزات مؤقتة في عهد جدف رع

- ‌آثار عهد خفرع:

- ‌أبو الهول:

- ‌عواقب الإسراف:

- ‌ثالثا: التقوى والرفاهية في عصر الأسرة الخامسة

- ‌مدخل

- ‌خصائص معابد الشمس:

- ‌أهرام العصر ومعابدها:

- ‌الاتصالات الخارجية:

- ‌التطور السياسي والاجتماعي:

- ‌رابعا: البيروقراطية والتحرر في عصر الأسرة السادسة

- ‌مدخل

- ‌نمو البيروقراطية:

- ‌أحداث الشمال الشرقي والتنظيمات العسكرية:

- ‌العمارة والفن والمجتمع:

- ‌رحلات الكشف في الجنوب:

- ‌الفصل السادس: عصر الانتقال الأول أو عصر اللامركزية الأولى

- ‌نهاية دورة

- ‌الثورة الطبقية:

- ‌الغموض:

- ‌انتفاضة اليقظة في العهود الأهناسية:

- ‌ازدهار الفردية:

- ‌عصر الانتقال الأول بين دورتين تاريخيتين

- ‌معالم الفن الإقليمي:

- ‌الفصل السابع: الدورة التاريخية الثانية في الدولة الوسطى

- ‌أولا: عودة الوحدة في عصر الأسرة الحادية عشرة

- ‌مدخل

- ‌استرجاع المركزية:

- ‌الاستثمار الحدودي والنشاط الخارجي:

- ‌صور من المجتمع:

- ‌في العمارة الدينية والفن:

- ‌ثانيا: الازدهار والكلاسيكية في عصر الأسرة الثانية عشرة

- ‌مدخل

- ‌في السياسة الداخلية:

- ‌في العمران:

- ‌في الأساليب الفنية:

- ‌في السياسة الخارجية:

- ‌الفصل الثامن: عصر الانتقال الثاني أو عصر اللامركزية الثانية

- ‌أولًا: عصر الأسرة الثالثة عشرة

- ‌في نصفه الأول:

- ‌مظاهر الأفول في النصف الثاني لعصر الأسرة الثالثة عشرة:

- ‌ثانيًا: محنة الهكسوس

- ‌ثالثًا: مراحل الجهاد والتحرير

- ‌الفصل التاسع: الدورة التاريخية الثالثة في الدولة الحديثة

- ‌تمهيد

- ‌أولا: الانطلاق في عصر الأسرة الثامنة عشرة

- ‌في السياسة الداخلية

- ‌في السياسة الخارجية:

- ‌ثانيا: عودة الكفاح ثم الرفاهية في عصر الرعامسة مع الأسرة التاسعة عشرة

- ‌ثالثا: آخر الشوط مع الرعامسة في عصر الأسرة العشرين

- ‌الدفعة الأولى

- ‌عواقب الإسراف:

- ‌رابعًا: الثيوقراطية والفتور في عصر الأسرة الحادية والعشرين

- ‌خامسًا: نماذج من الفن والعمارة في الدولة الحديثة

- ‌الفصل العاشر: الشيخوخة في العصور المتأخرة

- ‌أولًا: التخبط والتداخل في عهود الأسرات 22 - 24

- ‌ثانيًا: دفع النوبة لمصر في عصر الأسرة الخامسة والعشرين

- ‌ثالثًا: النهضة في العصر الصاوي مع الأسرة السادسة والعشرين

- ‌رابعًا: النكسة مع الغزو الفارسي والأسرة السابعة والعشرين

- ‌خامسا: ابتسامة مبتسرة في عصور الأسرات 28 - 30

- ‌مدخل

- ‌الوثائق الآرمية في أسوان:

- ‌الأسرتان الأخيرتان:

- ‌خاتمة المطاف القديم:

- ‌الفصل الحادي عشر: في عقائد الدين والآخرة

- ‌أولًا: عقائد التأليه

- ‌نشأتها:

- ‌خصائصها:

- ‌في سبيل الترابط:

- ‌في سبيل التوحيد:

- ‌ثانيا: عقائد البحث والخلود

- ‌الفصل الثاني عشر: من الأدب المصري القديم

- ‌أولا: في أدب الأسطورة والملحمة

- ‌أسطورة أوزير وتوابعها

- ‌الحق والبهتان

- ‌ثانيا: في أدب القصة

- ‌سنفرو والحكماء

- ‌قصة خوفو والحكيم جدي:

- ‌قصة العاشقين والتمساح:

- ‌قصة الأخوين:

- ‌من قصص المغامرات:

- ‌ثالثا: في أدب النصيحة

- ‌مدخل

- ‌بتاح حوتب:

- ‌آني:

- ‌أمنموبي:

- ‌نصائح المعلمين:

- ‌رابعا: في أدب النقد والتوجعات

- ‌إبوور والثور الطبقية

- ‌القروي الفصيح:

- ‌الكتاب الثاني: العراق، بلاد النهرين

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الثالث عشر: فجر التاريخ العراقي في العصر الحجري الحديث

- ‌أ- في الفترة النيوليثية "الحجرية الحديثة

- ‌ب- في الفترة الخالكوليثية "النحاسية الحجرية

- ‌مدخل

- ‌حضارة العبيد:

- ‌ج- قبيل العصر الكتابي

- ‌حضارة الوركاء:

- ‌الفصل الرابع عشر: أوائل العصور التاريخية في العراق

- ‌عصر بداية الأسرات السومرى

- ‌مدخل

- ‌الكتابة المسمارية:

- ‌العمارة الدينية "والزقورات

- ‌العقائد:

- ‌التطور السياسي:

- ‌الفنون:

- ‌المقابر:

- ‌الفصل الخامس عشر: العصر الأكدى 2340 - 2180 "أو 2371 - 2230" ق. م

- ‌مدخل

- ‌الفنون:

- ‌نهاية دولة:

- ‌الفصل السادس عشر عصر الإحياء السومري "منذ 2125ق. م

- ‌في لجش:

- ‌في أوروك:

- ‌في دولة أور:

- ‌الفنون:

- ‌من الأدب السومري:

- ‌نهاية أور:

- ‌في عصر إسين - لارسا:

- ‌تشريع إشنونا:

- ‌تشريع إسين:

- ‌في لارسا:

- ‌في الفن:

- ‌الفصل السابع عشر: دولة بابل الأولى "أو العصر البابلى القديم

- ‌بداية دولة بابل الأولي

- ‌حمورابي:

- ‌من الأدب البابلي:

- ‌الفصل الثامن عشر: العصر الكاسي "1580 - أواخر القرن 12 ق. م

- ‌الحياة الساسية

- ‌العلاقات الخارجية:

- ‌الأفول حتى نهاية الأسرة البابلية السابعة:

- ‌من الحياة الفكرية في العصر الكاسي:

- ‌الفصل التاسع عشر: آشور

- ‌أ- المراحل الأولى: العصر العتيق- العصر القديم

- ‌ب- في العصر الأشورى الوسيط

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولى:

- ‌المرحلة الثانية:

- ‌ج- في العصر الأشورى الحديث

- ‌مدخل

- ‌المرحلة الأولي:

- ‌مرحلة الأمجاد الأخيرة من العصر الآشوري الحديث:

- ‌الفصل العشرون: بابل الكلدانية أو العصر البابلي الأخير "626 - 539 _25 d9_2582._25d9_2585

- ‌تمهيد: عودة إلى الآراميين في بابل والعلاقات مع آشور

- ‌التطور السياسي:

- ‌العمران والفنون:

- ‌الأفول أمام نهضة الفرس:

- ‌خاتمة:

- ‌الخرائط واللوحات

- ‌قائمة بأهم المفردات:

- ‌الموضوعات:

الفصل: ‌مرحلة الأمجاد الأخيرة من العصر الآشوري الحديث:

ولكن ما لبثت الفتن الأهلية أن عادت بعد عهده، ومزقت وحدة آشور وأضعفت هيبتها، فأفلت منها ما كان قد هادنها أو والاها من بلاد الشام، وتراجعت الجيوش الآشورية مدحورة أمام تقدم نفوذ سارديوس وأرجستوس حاكمي أورارتو، وابتدأت أسباب التقارب بين البطائح الجبلية الشمالية والشمالية الشرقية وبين الماذبين، وانتهزت بابل المغلوبة على أمرها الفرصة فاستعادت انفصالها عن العجلة الآشورية، وإن ظلت على حالها من الضعف القديم.

وفي حمأة هذه المشكلات الداخلية والخارجية سجلت النصوص الآشورية حدوث كسوف كلي للشمس وافق عام 763ق. م، ورتبت عليه ما شاءت من تعليقات عقائدية وخرافية1. وفي هذه الظروف كذلك طويت صفحة المرحلة الأولى من العصر الآشوري الحديث.

1 انظر جون هامرتون: المرجع السابق.

ص: 511

‌مرحلة الأمجاد الأخيرة من العصر الآشوري الحديث:

بدأت المرحلة الثانية للتوسع الآشوري الحديث في عام 745ق. م بولاية تيجلات بيليسر الثالث، الذي ذكرته النصوص البابلية باسم "بولو". ويحتمل الاسمان أكثر من تفسر واحد، فقد يكون اسم بولو هو اسمه الشخصي ويدل بهذا على أنه لم يكن من صلب البيت الحاكم أصلًا، وإذا صح هذا أمكن افتراض أنه كان من قادة الجيش نظرًا لما تجلى من مهاراته الحربية فيما بعد، ولما اعتلى العرش تيمن باسم الفاتح القديم تيجلات بيليسر وتسمى باسمه، أو يكون اسم بولو مجرد مرادف بابلي اخترعه البابليون له لغرض ما في نفوسهم.

وأراد الحاكم الجديد تيجلات بيليسر أن يثبت قوة شخصيته وأن ينتشل آشور من وهدتها، فاتجه بفتوحه إلى حيث اعتاد الملوك العظام من قبله، وبدأ ببابل القريبة منه فهيمن عليها بعد مشقة وعهد بأمرها إلى صنيعة له يدعى نابو نصر، ثم اتجه بجيوشه إلى سوريا وبعد حروب عامين استعاد أغلبها للنفوذ الآشوري وأراد أن يعقب على ذلك بمواجهة سارديوس أمير أورارتو، ولكن دمشق التي خضعت له على مضض أعلنت ثورة عنيفة ضده عام 739ق. م، فأصبح يضرب بجيوشه في الجبهتين واستطاع أن يوهن أورارتو، ولكنه كان أكثر ضرابًا في الشام، وذكرت نصوصه من بلدانها إلى جانب الأسماء القديمة التي رددتها نصوص أسلافه، أسماء عسقلان ومؤاب وغزة التي لجأ حاكمها إلى مصر. ثم تدخل في مشكلات العبرانيين

عليهم هوشع ملكًا بعد أن خلعوا ملكهم، وجعله صنيعة له بينهم1.

والتفت الرجل إلى بابل مرة أخرى، وكانت قد شهدت تنافسًا مسلحًا على عرشها، بعد وفاة نابو نصر العميل الآشوري فيها. وظهر من أشد المتنافسين على حكمها مردوك أباب إدين الثاني الذي ذكرته التوارة باسم مرداك بالادان. فانحطت جيوش تيجلات على المتنافسين وأجبرت مردوك أباب إدين على الفرار،

1 Anet، 284

ص: 511

وخضعت بابل للحكم الآشوري المباشر، ثم تقلد تيجلات تاجها وخلع على نفسه ألقاب ملوكها ولا سيما لقب ملك سومر وأكد، في عام 729 أو 728ق. م.

واتبع تيجلات بيليسر أربع وسائل لتثبيت قبضته على أطراف دولته وممتلكاتها، وهي: تعيين حكام آشوريين على مدنها الكبيرة دون الاكتفاء بحكامها المحليين، وإيفاد مندوبين فوق العادة لتفقدها وتنفيذ مطالب دولته منها، وربما كان من أولئك المندوبين من يلقبون بلقب رابشاق الذي ذكرته بعض قصص التوارة1، وفرض عبادة الرباب الشوريين على بعض أهل المدن العنيدة "مثل غزة" ثم تشريد أغلب أهل المناطق المفتوحة الخطرة، وتهجير أغلب الأيدي العاملة منهم إلى بلاد أخرى بعيدة عنها، حتى لا تقوم لبلادهم قائمة، مع إحلال غيرهم من مناطق بعيدة محلهم حتى يضغطوا على السكان الأصليين أو يظلوا بينهم أغرابًا مستضعفين، وتهجير بعض آخر إلى دولة آشور نفسها حتى يظلوا تحت إشراف حكامها وحتى يمكن استغلالهم في خدمتها استغلالها مباشرًا، فضلًا عمن يستعبدون منهم استعبادًا تامًّا عند خاصة أهلها.

وكان من هذا القبيل أن أمر في عامه الثالث بتهجير ثلاثين ألفصا وثلاثمائة شخص من سكان المنطقة السورية التي تمتد بين حماة وبين البحر إلى منطقة تسمى كو

، وتهجير 1223 آخرين إلى منطقة تدعى الأبا2 ويبدو أنه أحل محلهم سكانًا جلبهم رجاله من منطقة لولومو في جبال زاجوراس ومن ناييري قرب بحرية فان. وهجر بأمره في عام آخر عدد كبير من أهل "بيت خومريا"3 أي أرض عمري في منطقة العبرانيين، إلى آشور. بل وروت نصوصه أنه هجر بأمره أكثر من مائة ألف من أنصار

في بابل نفسها بعد أن أخضعها لحكمه المباشر.

ومن أهم ما يرتبط بعهد تيجلات بيليسر، من وجهة النظر العربية، هو صدام جيوشه مع قبائل عربية كثيرة انتشرت على الطريق التجاري القديم في شمال شبه الجزيرة العربية بين البحر الأحمر وبين العراق. وذكرت نصوصه أسماء فريدة نتناولها في بحثنا لتاريخ شبه الجزيرة العربية فيما بعد، ومنها اسمان لمملكتين أطلقت على كل منها لقب "ملكة أريبي" وهما: زبيبي "تحريفًا فيما يبدو عن زبيبة" وقد ذكرت أنها أدت الجزية لآشور واعترفت بالطاعة لملكها، ثم سمسي "تحريفًا عن شمس" وذكرتها النصوص الآشورية في مناسبتين: مناسبة أدت الجزية فيها للملك الآشوري في بداية عهدها، ومناسبة أخرى قلبت له فيها ظهر المجن ونقضت إيمانها بالمعبود شمش، على حد تعبير النصوص الآشورية، فساعدت الأراميين أعداءه، وتركت رجالها يتعرضون لقوافله، فحاربها الآشوريون حتى أجبروها على الفرارا وضيقوا على كثير من أعوانها حتى أهلكهم الجوع، فاضطرت إلى الإذعان وتأدية الجزية، ولكن الملك الآشوري

1 See For، "Rebshaq": W. Manitius، Za، Xxiv، 199 F; B.Meissner، Bobylonien And Assyrien I، 103.

2 D. Luckenbill، Ancient Records، I، 770

3 Ibid. 819.

ص: 512

لم يطمئن إلى إخلاصها فعين رقيبًا أو قيمًا على بلادها، ولقبه بلقب "قيبو" ليشرف على توجيه سياستها ويكتب إليه عن أمرها1. ولم يكتف الآشوريون بأن يسجلوا نصرهم على الملكة شمس بالكتابة وحدها وإنما سجلوه تصويرًا ورمزا أيضًا "راجع فيما بعد". وأدرك تيجلات بيليسر أن أعراب الصحراء لن يتمكن منهم غير واحد منهم، فاستمال إليه بعض شيوخهم، وعين الشيخ أيديبيئيل مشرفًا على منطقة تدعى مصرى2 يبدو أنها كانت قريبة من الحدود المصرية الشمالية الشرقية عند أطراف سيناء الشمالية الشرقية.

ولم يسلم أهل الشام للآشوريين وملكهم تيجلات بيليسر تسليمًا مطلقًا، وإنما انبعثت ثوراتهم من حين إلى آخر، وظلت مصر ملجأ للفارين من وجهه، مثل هانو أمير غزة "خانونو الخزاتي" وزادت هذه الثورات بعد وفاته، فثارت صور ضد ولده شلما نصر الخامس "727 - 722ق. م" واستعصمت بجزيرتها وأسوارها. وتطلع العبرانيون إلى عون مصر فأعانتهم، ولهذا امتد حصار جيشه لعاصمتهم السامرة "سامرينا" ثلاث سنين دون جدوى، في نفس الوقت الذي استنفذت فيه قوى بقية جيوشه في الشام في إخضاع صور. ولم تكن بابل أقل ضيقًا بالحكم الآشوري، فاستغل الأراميون الكلدانيون تذمرها وسعوا إلى استعادة عرشها.

وترتب على ذلك كله أن عرش آشور لم يستمر في أسرة تيجلات بيليسر الثالث غير جيلين، انتقل منها في عام 721ق. م إلى أسرة شروكين الثاني أو سرجون الثاني على حد شهرته في الكتب التاريخية، وهو رجل لم يكن أقل كفاية من سميه شروكين الأكدي القديم.

كان من المشكلات التي واجهت سرجون الثاني في بداية عهده أن انتهز مردوك أبال إدين كبير بيت باكين الكلداني فترة البلبلة التي صحبت تغير الآشورية المالكة، فاستعان بقوات عيلامية على استرداد سلطانه على بابل، وهزم الجيوش الآشورية بمعاونتهم وأعلن نفسه ملكًا في نفس العام الذي اعتلى فيه سرجون عرش آشور أو بعده بعام واحد. وتحالف روزاس ملك أورارتو "وخليفة سارديوس" مع الماذيين في إيران في جانب، ومع الفريجيين في آسيا الصغرى "أو الموشكيين على حد تعبير النصوص الآشورية" في جانب آخر، وبدأ الأحلاف يعملون لحسابهم ويحطمون من بقي على الولاء لآشور من جيرانهم. وانحل الحصار الآشوري من حول السامرة واندلعت نيران الثورة في بقية بلاد الشام ابتداء من غزة حتى حماة وأرواد، وعاوتها مصر هنا وهناك.

وأجل سرجون أمر بابل وأورارتو وآسيا الصغرى والماديين أيضًا، وبدأ بفلسطين فأخضعها بجيوشه وأتم فتح السامرة العاصمة الشمالية للعبرانيين وخربها وشرد أهلها وأنهى استقلال دولتها، مما سنعود إلى تفصيله والتعليق عليه بعد قليل. ثم أخذ يضرب بقواته شمالًا وشرقًا، ضد أهل أورارتو، وضد الماذيين،

1 Luckenbill، Op. Cit، I،777 F; Anet، 283، 284

2 Ibidem

ص: 513

الذين روى أنه أسر ملكهم دايوكو، وضد أهل إقليم كيليكيا "خيلاكو" الذين حرضهم ضده ميداس الفريجي "أو مينا ملك موشكى".

وفرغ سرجون أخيرًا لمشكلة بابل بعد هزيمة جيوشه فيها باثني عشر عامًا أمام الكلدانيين والعيلاميين "الإلاميين". فانفرد بالكلدانيين الذين تركهم حلفاؤهم العيلاميون لمصيرهم، واسترجع التاج، وفر مردوك أبال إدين أمامه إلى الجنوب وأخذ معه أشراف بابل رهائن ليساوم بهم حين الحاجة. أما بابل نفسها فقد سلكت سبيل المدن المغلوبة على أمرها، ففتحت أبوابها لسرجون المنتصر، واعتبرته محررها، واستبدلت السيادة الآشورية بالسيادة الآرامية في عام 710ق. م. ولم يطل الصراع بين الآشوريين وبين الآرميين بعدها، فاجتاحت جيوش سرجون جنوب العراق وشردت بعض أهل بيت باكين وأحلت محلهم أسرى من أهل الجبال الشماليين، ولكن سرجون عفا عن زعيمهم مردوك أبال إدين واعتبره حاكمًا محليًّا في أرض الجنوب، سواء لإرضاء الآراميين. أو لإظهار نفسه بمظهر المترفع عن ملاحقته بعد أن أفقده عزه وشهرته.

وكانت لجيوش آشور في عهد سرجون جولات مع قبائل عربية، ذكرت نصوصه منها قبائل تمودي والسبئيين ومملكة سمسي مما سنعود إلى مناقشته في تفصيل عند معالجتنا لتاريخ شبه الجزيرة العربية.

واتبع سرجون طريقة تيجلات بيليسر في معاملة المدن المغلوبة، وهي تهجير عتاة أهلها وإحلال غيرهم محلهم

هذا الإجراء الأخيرة في عهده أكثر مما وضح في عهد أسلافه، وكان يتخير "عن طريق أعوانه" المهجرين الجدد من مناطق متباعدة حتى لا تتحد كلمتهم عليه، ويتخير من صفوف المبعدين إلى آشور مشاة وفرسانًا يلحقهم بحرسه الخاص أحيانًا ليزيد ارتباطهم بشخصه بعد أن فقدوا ارتباطهم بوطنهم، ومن ذلك على سبيل المثال أن روت نصوصه أنه عمل على تهجير 27.290 من أهل السامرة العبرانيين إلى مناطق أخرى بعيدة مثل حران وضفاف الخابور وأطراف ماذي، وعمل على إسكان قوم آخرين مكانهم، بعد أن أمر بإعادة بناء السامرة إلى أفضل مما كانت عليه، وعين عليها حاكمًا جديدًا يؤدي الجزية إليه، وظل يرسل إلى أرضهم من شاء تهجيره من مشاغبي أهل البلاد الخاضعة، فأرسل إليها 715 من عرب البادية و709 من البابلين العصاة. وفعل بالمثل مع منطقة حماة، وتخير من أسراها 600 فارس من ذوي الدروع الجلدية والحرب وضمهم إلى حرسه الملكي، وهجر مكانهم إلى حماة 6300 آشوري. ويبدو أنه استن أوضاعًا خاصة للبلاد التابعة له عبرت عنها عبارات مختلة وردت على لسانه في سياق نصوصه، مثل قوله عن أهل أشدود "واعتبرتهم رعايا آشوريين وحملوا نيري" ومثل قوله عن مستوطنين آشوريين في قرقميش "وفرضت نير مولاي آشور فوق رقابهم"1

أكثرت نصوص سرجون من ترديد أخبار انتصاراته على عدد ممن أسلفنا ذكرهم من خصومه العتاة لا سيما حكام حماة وقرقميش وأشدود وغزة، وقائد مصري دعته باسم سيبئه"؟ " فضلًا عن أراميبي بابل

1 Luckenbill، A.R.، Ii، 8، 30; Anet، 284، 285، 286.

ص: 514

وأمراء أورارتو. ولن نناقش هنا مدى الصحة في أخبار هذه الانتصارات ما دمنا لا نملك دليلًا للأسف على نقضها، فيما خلا حديثه عن مصر من بينها، ولكن حسبنا مما سنذكره عنها ما تنم عنه من صور الغليان في عهده وما تدل عليه من أن اتساع رقعة الدول كان يقتضي عينًا ساهرة على الدوام، وأن شعوب المدن المتحضرة في الهلال الخصيب لم تتقبل التوسع الآشوري راضية، وأن النجاح في بسط النفوذ عن طريق القوة الباطشة شيء، واستقرار أمور الدولة بعد اتساعها شيء آخر. وإن كان مما يعترف به لسرجون بالذات أنه كان سريع التصرف في مواجهة المشاكل ومتاعب الحروب، وأنه كان حريصًا على بث عيونه في أنحاء دولته ليكتبوا له باستمرار عما يجري فيها وما يتوقعونه منها. وتضمنت النصوص الآشورية أخبارًا طريفة عن أولئك الخصوم لا بأس من الاستشهاد ببعضها. فقد بلغ من حقدها على حاكم حماة أن اعتبرته حيثيًّا سوقيًّا ملعونًا مغتصبًا للعرش، وما ذاك إلا أنه حرض مدن أرواد وسميرا ودمشق والسامرة ضد الآشوريين وكون حلفًا يشبه حلف قرقر القديم، بل واتخذ قرقر بالذات مركزًا لنشاطه العسكري. ويحتمل أن مصر أيدته وعاونته. وعندما انتصر الآشوريون عليه سلخوا جلده. ووصفت النصوص الآشورية حاكم قرقميش بالوصف نفسه، فاعتبرته حيثيًّا خائنًا للعهود، وما ذاك إلا لأنه تعاون مع ميداس الفريجي "مينا الموشكي" على تحرير بلديهما من تدخل النفوذ الآشوري. واعتبرت النصوص نفسها أهل أشدود في فلسطين حيثيين أيضًا، وما ذاك إلا لأنه ملكهم امتنع عن دفع الجزية وحرض جيرانه على أن يفعلوا فعلته، فعزله سرجون وولى أخاه الصغير على عرشه، ولكن أهل أشدود كالوا له الصاع صاعين، فعزلوا صنيعته وطردوه وأمعنوا في مضايقته، وعينوا رجلًا من غير الأسرة المالكة؛ اعتبرته المتون الآشورية "إيونيا"1 مغتصبًا للعرش وغير أهل له، ثم روت على لسان سرجون أنه جن جنونه عندما سمع بخبره، فلم ينتظر تجييش جيوشه وركب عربة مدنية وهرع بها هو وحرسه الخاص على حده قوله، واتجه فورًا إلى أشدود، ففزع الإيوني ولجأ إلى الحدود المصرية. وحاصر سرجون المدينة حتى سلمت له هي وجيرانها فغنم منهم ونهب وسبى وعين حاكمًا آشوريًّا على منطقتها ونقل إليها مهجرين من المناطق الشرقية واعتبرهم رعايا آشوريين2. ولم تبرأ رواية سرجون عن كل ذلك من ادعاء وتهويل، فقد ذكرت رواية آشورية أخرى أن أهل أشدود حصنوا مدينتهم ضده وأحاطوها بخندق عميق يزيد عمقه عن عشرة أمتار، وراسلوا مصر وأمراء جنوب فلسطين وبعض جزر البحر، فخرج سرجون إليهم بجيش كثيف عبر به الدجلة والفرات إبان اشتداد فيضانهما الربيعي3. وذلك مما يعني أنه لم يفلح في هجومه بحرسه الخاص الذي قص قصته في روايته السابقة، فارتد عن المدينة وعاد إلى بلده واستعان عليه ببقية جنده.

وكانت لسرجون قصة قصيرة مع مصر ذكرنا طرفًا منها في سياق التاريخ المصري "ص291، 293" حين استجابت مصر لنداء هانو حاكم غزة الذي لجأ إليها منذ عهد تيجلات بيليسر، وساعدته على تكوين حلف

1 For Jamani And Iodna As "Ionion" See، D.D Luckenbill. Za Xxviii "1913"، 92 F

2 Luckenbill، A. R. Ii، 30، 62، 79 F، Etc

3 Ibid، 193 F.

ص: 515

يناهض الآشوريون، وعهدت بمعاونته إلى قائدها ونائب ملكها، الذي أطلقت المصادر الآشورية عليه اسم "سيبئه"1 ولقب تورنان "أوتورتانو، أوتارتانو"، وهو لقب عسكري وإداري كبير2 ويبدو أنه كان يقيم في رفح. ولم تذكر المصادر المصرية شيئًا عن هذه الحادثة، ولكن الآشوريين رووا أنهم انتصروا على الحلف وأسروا حاكم غزة3 ثم زادوا على ذلك فرووا أن الملوك المصريين النوبيين الذين ولوا عرش مصر في ذلك الحين "أولئك الذين لم يتعودوا أن يسألوا عن صحة أجداد سرجون""اعتدادًا بأنفسهم واستهانة بالآشوريين" آثروا عدم الاصطدام به وتركوا الإيوني حاكم أشدود الهارب لمصيره4.

وأضافت المصادر الآشورية اسمين أثارًا مشكلة عويصة، فروت أن ملكها تلقى جزى برءو "بوعو" ملك مصرو5، كما روت أنه تلقى اثني عشر جوادًا كبيرًا لا مثيل له هدية من شيلخيني "أوشلكاني" ملك مصرى، وأشارت معها إلى ما سمته باسم مدينة نخل مصر6. ويبدو أن هذه الأسماء لم تكن لها صلة بمصر بمعناها المعروف حيث ذكرت النصوص الآشورية ذكرت اسم برءو "برعو" ملك مصر ومع رؤساء البادية مثل سمسي ملكة أريبي، وبثع أمر السبئي، وذلك مما قد يعني أن منطقة مصر كانت من مناطق البادية أيضًا، ويغلب على الظن أنها كانت قريبة من البحر الأحمر ومن الحدود المصرية وأنها نفس المنطقة التي روى شلما نصر من قبل أنه عين عليه الشيخ البدوي إديبيئيل. أما اسم برءو فقد يكون تحريفًا لاسم شيخها البدوي في عهده. أو تكون تبعيتها القديمة لمصر قد أغرت الكتبة الآشوريين على اعتبار جزاها من جزى الفرعون المصري نفسه، وكان لقب ينطق في اللغة المصرية برعو فعلًا "وذلك على نحو ما اعتبروا جزى أو هدايا"

العربية القريبة من حدودها والمتعاملة مع دولة سبأ من جزى الدولة السبئية الجنوبية البعيدة عنها تضخيمًا منهم لشأن ملكهم وامتداد سطوته ولو من قبيل المجاز". أما شيلخيني أو شلكاني ملك مصرى، فقد يكون اسمه تحريفًا لاسم عربي مثل سلحان، كما رأى الباحث ريكمان7، وليس اسًما لفرعون مصري كما ظن فيدنر8 لا سيما إذا أضفنا أن مصر لم تشتهر بتربية الخيول الكبيرة التي أشارت إليها نصوص سرجون، وإنما كانت جيادها صغيرة الحجم نسبيًّا على الرغم من تهجينها بسلالة ليبية في العصور المتأخرة.

1 ورد هذا الاسم في سياق قصص من التوراة أيضًا "الملوك الثاني 17: 1 - 6" انظر ص291، وعن تحسين أصله المصري المحتمل، يراجع:

H.Kees، G.G. A. 1926، 426; J. Ranke، Keilschriftliches Material Zur Altaegyptischen Vokalisierung، 38 ;Helene Von Zeissl، Aethiopen And Assyren In Aegypten

1944، 18 F; See Also، Vetus Testamentum، 1952، 164-168; 1970، 116-118.

2 Cf. A. Ungel، Zatw، 1932، 204 F.

3 Luckenbill. A. R. Ii، 55.80

4 Ibid 62.

5 Ibidk، 18.

6 See E.F. Weidner، A. F. O. Xiv "1941"، 40 F

7 Ryckmans، A.F.O. 1941، 54 F.

8 Cf. E.F. Weidner، Op. Cit.

ص: 516

ويبقى اسم محل مصر، وهذا قد يترجم بمعناه الآشوري بمعنى قناة مصر، أو سيل مصر، ويدل بذلك على جزء من وادي العريش، أو جزء من خليج السويس، كما رأى بعض الباحثين، أو يدل على وادٍ قريب من رفح كما نم عن ذلك نص آخر1، أو يكون له بعض الصلة باسم قرية تخل الخالية في شبه جزيرة سيناء.

وكان أشد سرور سرجون من أمجاد عهده، هو سروره بولاء بعض حكام جزيرة قبرص له ورضاهم بإقامة نصب نقشت عليه صورته في جزيرتهم2. وعبرت نصوصه عن هذه الحال بأسلوبها المبالغ، فروت أن ملكها أخضع سبعة ملوك من إقليم إيا في قبرص "إيادنانا" وسط البحر الغربي على مسافة سبعة أيام، وعلى مبعدة لم يسمع عنها أسلافه

3. ولم تكن آشور بالدولة البحرية التي تستطيع أن تمد نفوذها على قبرص بمجهود يمينها كما ادعت نصوص سرجون، وإنما يبدو أن حكام صور وصيدا الفينيقيين أرباب الملاحة والتجارة، كان لهم نفوذ كبير على جزء من الجزيرة، فلما دانت مدينتاهم صور وصيدا لنفوذ سرجون، سارعوا بالتالي إلى إعلان ولائهم في الجزيرة له حتى لا يتصدى أعوانه لعرقلة نشاطهم التجاري على سواحل الشام وفيما بينها وبين قبرص.

واحتفظ عهد سرجون برسائل إدارية تكشف عن مدى سيطرة دولته على أتباعها. وكان يبث عيونًا عليهم يكتبون إليه عن مدى تقاربهم وتباعدهم، ويحرص على أن يتلقى تقارير عيونه أينما ارتحل في أنحاء دولته الواسعة. فحدث أن زار بابل مرة "في عام 713ق. م" وعهد إلى ولي عهده سينا خريب بتدبير أمور عاصمته، فأرسل ولده إليه يطمئنه على استقرار أمور الدولة، وبدأ رسالته بما يبدأ به التابع العادي رسالته، قائلًا له:"إلى الملك سيدي، من سينا خريب خادمك، سلامًا لملك مولاي، الأمن سائد في آشور وفي المعابد وفي حصون الملك كلها، فليسعد قلب الملك مولاي تمامًا"4. وشفع سينا خريب رسالته بتقرير مندوبيه ورؤساء حاميات الحدود قرب دولة أورارتو، وتحدثت هذه التقارير عن اشتباكات بين الأراميين وبين السميريين، وانتصار الأخيرين فيها، كما تحدثت عن زيارات ملوك المنطقة "في الشمال والشمال الشرقي" وأمرائها بعضهم لبعض5. وكان سرجون لا يريد تقارب هؤلاء بعضهم من بعض، فنمى إلى قصره ذات مرة أن ملك أورارتو وأمراءه سيخرجون بعدد من قواتهم العسكرية بحجة زيارة مدينة موتساتسير المقدسة، فكتب ناظر القصر "نيابة عن مولاه" إلى أمير هذه المدينة يبلغه استياء مولاه من سماحه لأولئك الحكام بدخول مدينته بجنودهم دون استئذانه، ولكن رد عليه أمير متساتسير بأنه لن يمانع في زيارة ملك آشور لمدينة بعسكره، فكيف يمنع ملك أورارتو عنها؟ 6.

1 Op. Cit، 43 F.

2 Winckler، Die Keilschrifttexte Sargons، I، Pls. 4-47.

3 Luckenbill، Ancient Records، Ii، 99، 186.

4 Harper، Assyrian And Babylonian Letters، No 197.

5 Ibid، Nos 198، 492، 380.

6 Ibid، No. 409.

ص: 517

وفي نهاية عهد سرجون بدأت نذر هجرة شعوبية عنيفة تمثلت في هجرة قبائل السميريين التي تدفقت بقضها وقضيضها على مملكة أورارتو وهزمت قواتها في عام 607ق. م واستمرت في تقدمها حتى لاقاها سرجون بجيشه في عام 705ق. م، ويبدو أنه قتل في المعركة أو اغتيل بعدها، ولكن بعد أن نجح جيشه في دفع السميريين ناحية الغرب فاندفعوا إلى آسيا الصغرى وهزموا في طريقهم جيش ميداس ملك فريجيا، "ميتا صاحب موشكى"، أحد أعداء الآشوريين الألداء، مما أدى به إلى الانتحار، وشيئًا فشيئًا أتى السميريون وحلفاؤهم التريرويون على مملكة فريجيا من أساسها1.

تتابع من الملوك العظام من أسرة سرجون ثلاثة، وهم: سين أخي ريبا "705 - 681ق. م" الذي اعتادت بعض المؤلفات التاريخية على أن تذكره باسم سينا خريب أو سينا حريب، وآشور أخا دين "681 - 638ق. م" أو أسرحدون أو أسرهدون كما اعتادت بعض الكتب على تسميته، ثم آشور بانيبا "668 - 626ق. م" الذي ذكره الإغريق باسم ساردانا بالوس. وسوف نذكر أولهم باسمه الأكثر شيوعًا وهو سينا خريب لقربه من اسمه الأصيل.

واجهت أولئك الملوك العظام مشكلات ضخمة متعددة ظهرت بوادرها منذ عهد سرجون نفسه، وامتدت جذورها إلى ما قبل عهده. وتوفر لكل منهم أسلوبه الخاص في معالجتها بما يتفق مع إمكانيات دولته ومشاعره الخاصة واتجاهات السياسية في أيامه. وأهم هذه المشكلات هي:

1 -

دولة بابل التي ظلت تأنف من الخضوع للآشوريين وظلت في الوقت نفسه مطمعًا للآراميين الكلدانيين.

2 -

استمرار العداء بين الدولتين العنيفتين المتجاورتين، آشور وإلام "أو عيلام"، مع استخدام العيلاميين لكل من الكلدانيين والبابلين للقيام بدور مخلب القط في بعض مراحل هذا العداء2.

3 -

وقوف المصريين في وجه التوسع الآشوري في الشام، وتأييدهم للمناطق السورية والفلسطينية ضده، مع تذمر هذه المناطق تلقائيًّا مع طابع العنف والتعالي عند الآشورين.

4 -

رغبة آشور في إجبار أعراب الصحاري والبوادي على الطاعة، مع تمرد هؤلاء الأخارى عليها على الرغم من قلة إمكانياتهم.

5 -

اضطراب الأوضاع في الأطراف الشمالية لآشور وفي آسيا الصغرى نتيجة للنزعات الاستقلالية فيها وخشونة طباع سكان جبالها ونزول هجرات هندوآرية جديدة عليها.

1 Layard، Monuments Of Nineveh، I، Pl. 25

2 Harper، Op. Cit. 839.

ص: 518

مع بابل:

سوف نعود إلى تفاصيل العلاقات الآشورية البابلية في تقديمنا لبابل الكلدانية بعد قليل، وتكفي الإشارة هنا إلى أنه عز على بابل أن تنجب زعيمًا من أهلها الأصيليين يستعيد لها مجدها القديم، فتعاقب على حكمها في عهد سينا خريب الآشوري ما لا يقل عن ستة ولاة ليس فيهم بابلي أصيل، وأن هذا الملك لجأ في تعقب أحد حكامها الكلدانيين بعد فراره بأعوانه إلى الشاطئ العيلامي، إلى إنشاء أول أسطول حربي كبير في تاريخ الآشوريين، اشترك في إنشائه صناع من صيدا وصور وقبرص، وعملوا فيه عامًا كاملًا على ضفاف دجلة والفرت، ونقلوا جزءًا منه على طريق البر، وعبر الآشوريون وحلفاؤهم به الخليج العربي وهزموا خصومهم، ثم أتى دور بابل نفسها فخربها رجال سينا خريب تخريبًا عنيفًا وسلطوا مياه نهر الفرات على أنقاضها حتى أغرقوها في عام 689ق. م. وبمنطق المنتصرين المعوج، لم يتورع ابن سينا خريب عن تبرير هذا التخريب على حساب البابليين المغلوبين بقوله: "لقد كانوا من قبل يذلون الضعيف وشاع الطغيان في مدينتهم والرشا والنهب. وكان الولد يسب أباه في الطريق، والعبد يهين مولاه، والجارية تعصي سيدتها

، ولقد عطلوا القرابين، ووضعوا أيديهم على كنوز إساجيل معبد الأرباب، وباعوا الفضة والذهب والأحجار الكريمة منه إلى عيلام

، فغضب مردوك إنليل الآلهة، ودبر أمره على قهر هذا البلد وتشتيت أهله".

وكان قتال الآشوريين للكلدانيين في شط العرب بالجنوب موضوعًا للوحة حية صور فنانها منطقة المناقع بأسماكها وحيواناتها المائية الصغيرة، تتخللها أحراج القصب المرتفعة التي آوى الكلدانيون إليها وتجمعوا فيها في جماعات صغيرة يتداولون مصيرهم. وصور قتالًا عنيفًا في مراكب من البوص المجدول المكسو بالقار، وصور السبايا الكلدانيات بثياب طويلة كاسية وشعور مرسلة يستعطفن الغازين1 "وتشبهن للغرابة هيئة الإغريقيات في المناظر اليونانية القديمة".

وانكمشت بابل العظيمة على نفسها، حتى ولي عرش آشور، آشور أخادين، وكان فيما يبدو من أم بابلية، وربما ولاه أبوه نائب ملك على بابل في حياته، فانصرفت عواطفه إليها وشجع على إحيائها وولى عليها ولده الأكبر شمش شوموكين، وتجاوز عن سلطان الكلدانيين في أرض البحر مع طاعتهم لولده2. وربما لم يفعل ذلك بدافع العاطفة وحدها، وإنما بدافع الرغبة أيضًا في التفرغ لتنفيذ حلمه الكبير بغزو مصر. واستقر الأمير الآشوري شمش شوموكين ببابل فترة طويلة ونهض بها خلال حياة أبيه وبعد وفاته، ثم استغل إمكانياته ونفوذه فيها في التضييق على أخيه الأصغر آشور بانيبال الذي نازعه عرش آشور بعد مقتل أبيه، وضم إليه حلفًا قويًّا من العيلاميين والأمراء الكلدانيين في أرض البخر، ولفيفًا من السوريين وأمراء البدو المتذمرين. ولكن ميزان القوى انقلب إلى جانب أخيه الصغير فشددت

1 Layard، Monuments Of Nineveh، I، Pl. 25

2 Harper، Op. Cit، No. 839

ص: 519

جيوشه الحصار على بابل عامين، حتى تفشت فيها الأوبئة والمجاعات واضطرت إلى التسليم وأشعل أميرها النار في قصره وهلك في لهيبها، ثم زادت جيوش آشور بانيبال بابل خرابًا على خراب ودمرتها "عام650ق. م" تدميرًا عنيفًا لم تفق منه إلا بعد جيل كامل يوم هبت هبتها الأخيرة للانتقام لنفسها وللقضاء على دولة آشور كلها. والغريب أن أنصار آشور بانيبال لم يتورعوا عن تمثيله على لوحة صغيرة باسمًا مستبشرًا يرفع بيده سلة من الخواص المجدول إلى ما فوق مستوى تاجه الطويل، وسجلوا حوله نصوصًا تشيد بفضله في إعادة بناء "إساجيل" مقر مردوك إله بابل1. واشتد هذا الملك على الكلدانيين الجنوبيين في أرض البحر في العام نفسه، فاضطر واليهم نابو بعل شوماني حليف أخيه إلى الفرار إلى عيلام. وعين آشور بانيبال "دوباشو" بلاطه واليًا عليهم، ووجه إليهم نداءه قال فيه: "أي خدمي

سلام لكم وهدأت قلوبكم

اذكروا فضلي عليكم قبل خطيئة نابو بعل شوماني

وهأنذا أرسل إليكم بعل ابني الدوباشو الخاص بي ليرأسكم

" ثم طلب منهم الطاعة وهددهم بإرسال جيوشه عليهم إن مالوا إلى العصيان2. وعاش نابو بعل شوماتي لاجئًا في عيلام لبضع سنوات، ثم حدث لسوء حظه أن اغتيل الملك العيلامي الذي آواه، وولي ملك آخر آثر مهادنة آشور بانيبال فأبدى استعداده لتسليمه إليه، ولما ضاقت السبل باللاجئ الكلداني نابو بعل شوماتي أمر تابعه بأن يقتله بسلاحه حتى لا يعاني تعذيب أعدائه، ولكن هذا لم يمنع الآشوريين من التمثيل بجثته حين سلمت إليهم فقطعوا رأسها وحرموا دفنها.

مع إلام "عيلام":

استمر العداء ضاربًا أطنابه بين الجارتين اللدودتين آشور وعيلام، وقد آثرنا التعبير عن هذه الأخيرة بنطق إلام وهو أقرب إلى لغة أهلها التي لا تتضمن العين السامية مع إلحاقه في كثير من الحالات أو إبداله باسم عيلام الشائع استخدامه في المؤلفات العربية. وظلت الانتصارات والهزائم الوقتية الخاطفة دولة بين الفريقين، حتى فت في عضد إلام اختلاف حكامها على أنفسهم بحيث انقسموا فريقين ووقفت جيوشهما بعضها لبعض بالمرصاد على ضفتي نهر الهدهد كما ذكر أحد التقارير الآشورية3. فتدخل الآشوريون في مشاكلهم لزيادة نارها وتأليب فريق على فريق، ثم أتت النهاية السياسية لعيلام على يد "جيش" آشور بانيبال فدمر عاصمتها سوسة تدميًرا شاملًا، وذكرت نصوصه أنه استولى على كل كنوزها ولم يدع في قصورها ملوكها شيئًا إطلاقًا إلا وأمر بحمله معه، حتى أواني الطعام والشراب والغسيل، ولم يدع معبدًا فيها إلا أمر بنهبه وتدميره وأسر معبوداته، ولم يدع مقبرة ملكية فيها إلا وأمر بفتح توابيتها وإخراج عظامها ثم نقلها إلى آشور، حتى يحرمها الخلود في أرضها على حد قوله. وزاد في نصوصه أنه ود لو حمل تراب سوسة معه إلى آشور4 "حتى يحرمها البقاء على وجه الأرض إلى أبد الآبدين. وبذلك أخذ بثأر البابليين

1 B. Pritchard، The Ancient Near East In Pictures، Fig 129.

2 Harper، Op. Cit No. 289.

3 Ibid No. 289.

4 ديلابورت: المرجع السابق - ص419 - 421.

ص: 520

القدماء عن غير قصد، مما فعله الإلاميون معهم في نهاية القرن الثاني ق. م حينما دمروا عاصمتهم وحرموها كنوزها وآثارها حتى الحجرية منها "كنصب تشريعات حمورابي وأمثاله"1.

وظلت انتصاراته على سوسه هذه مجالًا خصبًا لتصورات فنانيه، فأخرجوا لوحات كبيرة مبدعة صوروا فيها ساحة الحرب تموج بالهرج والمرج، يقتتل فيها المشاة والخيالة وفرسان العربات، يدقون الرءوس بالمقامع ويطعنون النحور والظهور بالحراب والسهام ويحزون الرقاب بالسيوف والخناجر. ويهرع بعضهم لنجدة بعض، وينحني بعضهم على جثة قتيل ليسلبه خوذته وسلاحه وجعبة سهامه، بينما يجثو بعض المغلوبين طلبًا للرحمة، ويلقي بعضهم بنفسه في النهر التماسًا للنجاة. وصوروا القلاع فوق قمم الجبال وعند ملتقى الأنهار يهدمها الغزاة ويشعلون النار فيها، فيغادرها أهلها ليلحقوا بأفراد جيشهم الذين ركبهم اليأس وساروا مشاة وفرسانًا يستحث بعضهم بعضًا، وقد تكدس شيوخهم وأطفالهم فوق عربات مرتفعة متسعة لكل منها عجلتان كبيرتان وجواد واحد يستحثه سائقه بصوت طويل. ثم صوروا العاصمة سوسه خاوية على عروشها إلا من أطلال البيوت والنخيل، بيضية يحيط بها خندق ومجرى ماء، ويقع على مبعدة منها نهر كرخا وقد امتلأ مجراه بجثث القتلى والخيول الشاردة والنافقة وبقايا العربات المحطمة. وخرج من المدينة المستضعفون من أهلها رجالًا ونساءً شيوخًا وصغارًا، يصفق بعضهم وينشدون نشيدًا مغتصبًا على أنغام الأوتار ليداروا به بطش الفاتحين، ويمشي بعضهم رافعين أكفهم في ضراعة رتيبة ذليلة، بحيث تحافظ الأم على رفع يدها والتمتمة بفمها بينما تمسك طفلها بيدها الأخرى وتنظر إليه حسيرة كسيرة الفؤاد، أو تنظر إلى من يسير خلفها تسأله عما سيئول إليه مصيرها

أما رأس تيومان ملك إلام فكانت أداة رصع الفنانون بها صورهم الغريبة، فصوروا ملكهم يقطعها بيده في ساحة القتال، وصورها معلقة في رقبة حليفة دونانو الجمبولي الذي اقتيد إلى العاصمة بعد أن قطع لسانه وسلخ جلده، ثم ذبح كما تذبح الخراف، وصورها مرة ثالثة تتدلى من شجرة في مجلس شراب مولاهم.

غير أن انتصار آشور على إلام لم يكن خيرًا كله، فقد تحملت إلام حتى ذلك الحين كبح جماح بقية العشائر الإيرانية من ورائها، ولا سيما الجبلية منها، فلما انزاح هذا الحاجز بزوالها، وقع العبء على آشور وحدها فأحست بأن زيادة التوسع أصبحت تؤدي إلى زيادة المشاكل أمامها.

مع مصر والشام:

رأينا في سياق بحثنا للتاريخ المصري في صفحة 294 وما تلاها، كيف ادعت نصوص الآشوريين أنهم انتصروا على جيوش مصر وحلفائها في الشام انتصارًا مستمرًا، بينما خالفتها قصص التوراة ونصوص المصريين في بعض ما ادعته لأهلها. وأن القصة بدأت بعد أن هاجمت جيوش سينا خريب مملكة العبرانيين

1 Frankfort، The Art And Architecture

، Pls. 103-107.

ص: 521

الجنوبية "يهوذا" التي استنجدت بالمصريين، فأعانوها، ليس حبًّا فيها، ولكن رغبة في اتخاذها موقعًا من مواقع دفع الغزو الآشوري. وروت نصوص سينا خريب أنه استولى على 46 مدينة من مدنها الكبرى فضلًا عن أعداد كثيرة من قراها، وقسمها بين أنصاره من حكام عقرون وأشدود وغزة، وأسر أكثر من مائتي ألف من أهلها، وحاصر عاصمتها أورشليم "أورشاليمو"، في عهد ملكها حزقيا ونبيها إشعيا.

وصور فنانه في نينوى حصنها ذا خرجات رباعية وصور رماة الآشوريين حولها يعتمدون على ركبة ونصف يسددون السهام عليها وأمام كل منهم ترس كبير. ويبدو أن ملكهم نجح في أسر عدد من المصريين، ومن ثم أرسل عامله "الرابشاق" إلى أورشليم ليدعو حزقيا إلى التسليم بعد أسر بعض حلفائه أو يؤلب قومه عليه ثم روت النصوص أن حزقيا اضطر تحت وطأة الحصار وإزاء ما أصاب النجدة المصرية وانفضاض أتباعه عنه إلى أداء الجزية مضاعفة إلى نينوى ومعها بناته وحظاياه وموسيقييه1.

وأسلفنا أنه على العكس من الرواية الآشورية روت أسفار التوارة أن الجيش الآشوري حل به الموت الإلهي وحام ملك الله فوقه ليلًا، وفي بكرة الصباح أصبحوا جثثًا هامدة2، فارتد الملك الآشوري مدحورا بخزي الوجه إلى أرضه3، بعد أن أصبح جيشه كالعاصفة في مهب الريح4. وروى هيرودوت أن المصريين أطلقوا بوحي ربهم جرذانًا على معسكرات الآشوريين فقطعت أوتار قسيهم وأتلفت جعاب سهامهم وأفسدت سبور دروعهم مما سهل تمزيقهم إربًا. وربط بعض الباحثين بين قصة الجرذان هذه وبين الهلاك الإلهي الذي تحدثت عنه التوارة، بأن الجرذان أفشت وباء الطاعون الدملي بين الآشوريين فأهلكت منهم خلقًا كثيرًا مما أجبر بقيتهم على الانسحاب5. وعقبنا كذلك بأن توقيت هذه القصة لا زال يتأرجح بين تعيينه بعام حصار أورشليم حوالي عام 701ق. م، وبين تعيينه بعام تخريب سينا خريب لمدينة لاشيش "لخيش" ومحاولته الوصول إلى الحدود المصرية حوالي عام 690ق. م، وكان انتصاره في لاشيش هذه موضوعًا للوحة حرة نقشها فنانه في قصر كالح، وتخلى فيها عن الحدود التخطيطية، وملأها ببيئة جبلية تنمو الكروم فوقها، وصور سينا خريب في مركز قيادته في حضن الجبل فوق عرش مرتفع "يشبه كراسي الأرابيسك الشرقية المرتفعة" يتقدم إليه كبير أتباعه ومجموعة من القادة يصعدون من أدنى الجبل واحدًا بعد الآخر، ويتفرق على السفح مجموعة أخرى بين صاعد وهابط وواقف، بينما ارتمى في حضرة الملك جماعة من يهود لاشيش يقبل بعضهم الأرض، ويجثو بعضهم الآخر يستعطفه، وقد تعمد الفنان تحقير شأنهم فصورهم قصار القامة يبدون في جثيهم وسجودهم على هيئة الأطفال6.

1 Luckenbill، The Annals Of Sennacherib، 1924; Ancient Records، Ii، 233 F; Anet، 287-288.

2 الملوك الثاني: 19: 35.

3 أخبار الأيام الثاني: الإصحاح 32.

4 إشعيا 17: 13

5 Herdotus، Ii 141; Cf، L.L. Honor، Sennacherib's Invasion Of Palestine، 1926; J. Lewy، Olz. 1928، 150 F; U. Ungand، Zaw. Lix 199 F.

6C.T Gadd، Stones Of Assyria. London، 1936، Pl. 13.

ص: 522

ولم تخل روايات الآشوريين عن بقية ثورات فلسطين من طرافة، حين تحدثت عن صدقيا ملك عسقلان الذي أبى أن ينحني للملك الآشوري على حد قولها، وألب عليه جيرانه، فأسره هو وأهله وأعقابه الذكور. وتحدثت عن أهل عقرون الذين خلعوا ملكهم بادي صنيعة الآشوريين وسلموه إلى حزقيا اليهودي فسجنه، وعندما استرد سينا خريب سيطرته على عقرون أراد أن يكون عادلًا من وجهة نظره، فأمر بقتل الموظفين والنبلاء الذين اشتركوا في خلع ملكهم وتعليق جثتهم على الأعمدة حول مدينتهم، واكتفى باعتبار المواطنين العاديين المتهمين بمشايعة الثوار الكبار، أسرى حرب، ثم غض الطرف عن بقية الجماهير التي لم يثبت عليها سوء السلوك1، على حد تعبير نصوصه.

ودافعت صيدا وصور عن كيانهما التجاري المستقل ضد سينا خريب، ولم يكتف لولي ملك صيدا بمحاولة تحقيق استقلال دولته، وإنما حاول أن يعيد إلى حوزتها تلك المنطقة القبرصية التي أعلن حكامها الولاء لسرجون، ولكن محاولته لم تجد أمام قوة آشور، ففر إلى قبرص حيث مات بها. وعين الملك الآشوري خلفًا له على صيدا يدعى إيثت بعل2. أما صور فقد استعصت أسوارها عليه حتى وفاته.

ولم تيأس المدينتان، فاستمر فضالهما، في عهد آشور أخادين "681 - 668ق. م". ولكن فشل مسعاهما نتيجة لعدم تكافؤ القوى بينهما وبين خصومهما، فدك الآشوريون أسوار صيدا ومبانيها، وتعقبوا ملكها عبدى ميلكرته في البحر حتى أسروه، وكلفوا أعدادًا كبيرة من سكان السواحل الفينيقيين وبقايا الحيثيين ببناء مدينة جديدة حلت محلها ونسبوها إلى ملكهم فسموها "كار آشور أخادين"، ثم زودوا هذه المدينة الجديدة بمهاجرين من أهل الجبال وساحل الخليج العربي. وادخروا نهاية قاسية لملك صيدا وأحد حلفائه الأشداء في جنوب آسيا الصغرى "سامواري ملك كوندي وسيزو في كيليكيا" فقطعوا رأسيهما وعلقوهما في عنقي أميرين من أهل صيدا وساقوهما في موكب النصر بنينوى وسط أصوات المزامير3، وظلت نصوص الملك الآشوري تؤكد سلطانه على ملوك جزر البحر4.

ووجد آشور أخادين متعة كبيرة في تكليف اثنين وعشرين حاكمًا من حكام بلاد الشام وآسيا الصغرى وقبرص، بتوريد كل ما يتطلبه بناء قصره في نينوى ابتداء من الأحجار، وتعمد كتبته أن يسجلوا هذا التكليف في نصوصهم بصورة توحي بأن الحكام كانوا يشاركون في عملية نقل المواد المطلوبة بأنفسهم "مع ما في ذلك من مشقة بالغة"5. ولم تكن الجيوش الآشورية أقل شدة، أو أقل نشاطًا من وجهة نظرها، في معاملة القبائل العربية مما سنتعرض له بالتفصيل في بحث تاريخ شبه الجزيرة العربية.

1 Luckenbill. Op. Cit.

2 Ibid. Ii، 574; Annales Of Senacherib 76 F.

3 Luckenbill، A. R. Ii 527; R. Campell Thompson، The Prisme Of Esadrhaddon And Of Ashur Bmupal، 1931، 16.

4 J. Bury، History Of Greace، 1959، 219، N 1.

5 R. Campell Thompson، Op. Cit.

ص: 523

وأدى آشور أخادين ما تردد فيه أبوه، فاستعرض عضلاته مع مصر، وكانت مصر تمر حينذاك بفترة من فترت الشيخوخة السياسية والحربية بعد أن أدت دورها الحضاري المجيد قرونًا طويلة، وكانت تسيطر عليها فيما مر بنا "ص288" أسرة جمعت دماؤها بين الدم المصري والدم النوبي، وولي عرشها حينذاك تهارقه الذي رددت قصص التوارة اسمه. وكانت الخلافات الداخلية قد فعلت فعلها فيها كما روى العبرانيون عن نبيهم إشعيا حين ينقل عن ربه:"أهيج مصريين على مصريين فيحارب رجل أخاه ورجل صاحبه، مدينة مدينة ومملكة مملكة"1.

نجح الآشوريون فيما رأينا في إضعاف حلفاء مصر بالشام ليفتوا في عضدها، وكانت أشد أولئك الأحلاف إخلاصًا مدينة صور التي روت النصوص أن حاكمها "بعلو""بعل إيلي" أجاب على رسائل الملك الآشوري إجابة جافة، فشدد الآشوريون الحصار حولها، وحاولوا أن يمنعوا اتصالاتها البرية والبحرية2 إلى أن يفرغوا من حليفته الكبرى، فنجحوا بالنسبة للأولى وطال أمرهم في الثانية. وقد ابتغى آشور أخادين أن يغزو مصر غزوًا مباشرًا؛ أملًا في تحطيم قوتها العسكرية، وطمعًا في ثرائها، وليقطع معونتها عن حلفائها السوريين الذين ما فتئوا يتطلعون إليها على الرغم من تجاوز الحظ عن مشاريعها الحربية أكثر من مرة. ولقد أسلفنا في بحثنا للتاريخ المصري ص296 أن غزوه لمصر مر في مرحلتين، مرحلة بدأها عام 674ق. م بلغ فيها الحدود المصرية الفلسطينية، وهنا روت المصادر البابلية أن جيشه هزم في معركة دموية بمصر3، ثم ارتد عنها ليواجه حلفًا من السيكثيين والماذيين الذين هددوا الحدود الآشورية الشمالية الشرقية4. ثم مرحلة ثانية بدأها عام 671ق. م واستعان فيها ببعض أعراب الصحراء على تذليل مشقة الطريق عبر سيناء والصحراء الشرقية، وكانت له معارك ضارية في الطرق وإزاء منف، كما كانت له سياسته في ترك الأمراء المحليين في مناصبهم بعد أن ظن رضاهم بسلطانه، ثم خرج من مصر بكنوز طائلة وأعداد كبيرة من الفنيين والمهنيين ليحرم بلدهم منهم وتستفيد بهم دولته، ولكنه لم يهنأ طويلًا بنصره، فثارت مصر ضده وعاونت ملكها تاهرقه على استرجاع سلطانه، فجن جنون آشور أخادين، واعتزم الخروج لمقاومة الثورة بنفسه لولا أن مشكلات وراثة عرشه شغلته عامًا كاملًا أعدم فيه عددًا كبيرًا من كبار دولته، ثم خرج بجيشه قاصدًا مصر ولكنه مات في الطريق وأفل جيشه عائدًا إلى وطنه. وتكفل بمواجهة المقاومة المصرية خلف آشور بانيبال، واستعان على مشروعه ضدها بقوات من الشام ونواحي الفرات خرجت تحت راية اثنين وعشرين ملكًا، على حد رواية نصوصه، واستعان بخبرتهم الملاحية وهاجم مصر من البر والبحر، وانتصر بهم على جيش تاهرقه، ولكن هذا لم يقض على المقاومة، فما لبثت حتى اشتدت كرة أخرى، وعاد آشور بانيبال إليها بجيشه للمرة الثانية وبلغ انتقامه في هذه المرة مداه ودمر طيبة كبرى عواصم العالم القديم، حوالي عام 659ق. م "أما عن ظروف إجلاء الآشوريين عن مصر فتراجع عنها ص297+، ص300+"

1 إشعيا 19: 20.

2 Luckenbill. Op. Cit، Ii، 554 F.

3 See، Anet 302.

4 ديلابورت: المرجع السابق -ص316.

ص: 524

وبقيت أمام الملك الآشوري صور الحصينة، ويبدو أنه فت في عضدها سوء حظ حلفائها المصريين وقسوة الحصار عليها من البر والبحر، فاستسلمت للملك الآشوري حين خرج إليها بجيشه الكبير في غزوته الثالثة وتبعتها أرواد. وتبجحت النصوص الآشورية فروت أن ملك صور استرضاه بتقديم ولي عهده وبنته وبنات أخواته إليه بالهدايا، فأعاد إليه ولي عهده واستبقى البنات1، وهكذا فعل مع ملك أرواد الذي لم يخضع لأحد من ملوك أسرته على حد قوله، فقبل ابنته هدية منه. وفعل آشور بانيبال بعرب البادية ما فعله بغيرهم مما سنعود إليه في حينه، وكانت أشد نقمته عليهم لانضمام بعض زعمائهم إلى أخيه ضده، وتقلب عواطفهم معه، وبلغ من شدته معهم أن لجأ إليه أحد زعمائهم "يويطع بن حزائيل" معتذرًا خاضعًا فقبل عذره، ولكنه أمر بوضع مقود في عنقه وقرنه مع كلب ودب لحراسة إحدى بوابات عاصمته نينوى، كما أمر بقرن زعيم آخر من زعمائهم بأمراء عيلام وشدهم جميعًا كالخيول إلى عربته في بعض مواكبه2.

وعلى نحو ما بلغت جيوش آشور بانيبال مداها في بلاد المشرق، استطاعت أن تدق أبوبا مملكة ذات صبغة شرقية غربية في آسيا الصغرى، وهي مملكة ليديا التي اعتمدت في كثير من نشاطها المدني والحربي على الإغريق المستوطنين فيها، وتحالفت مع الآشوريين في عهد ملكها جيجيس ضد قبائل السميريين، ثم تحالفت مع مصر ضدهم، فبادلها الآشوريون عداء بعداء وفتكوا بجيشها، وعندما قتل ملكها جيجيس، عام 653ق. م في كفاحه مع السميريين، اضطر ولده أرديس إلى مهادنتهم3.

بداية النهاية:

أحاطت بالملوك السرجونيين هالات من المجد شجعتهم على أن يستبدوا بكل من وقعوا تحت طائلتهم، ولكن بنيانهم الداخلي لم يكن سليمًا تمامًا، ونخرت فيه عوامل التنازع الأسري في القصر الملكي منذ عهد سرجون نفسه الذي اغتيل في ميدان القتال أو بعده في عام 705ق. م، واغتيل بعده سينا خريب في المعبد بيد أحد أبنائه ومعونة صاحب الليمو عام 681ق. م، واستمرت الفتنة قائمة في آشور منذ يوم وفاته في 20 تيبتو إلى الثاني من أذارو "آذار"، ثم هدأت وأعلن آشور أخادين نفسه ملكًا في اليوم 18. وفرق آشور أخادين بين أولاده، فأوصى لأكبرهم شمشي شوموكين بحكم بابل، وأهمل الثاني، وأوصى للثالث آشور بانيبال بولاية عهد آشور. وعقد إتفاقيات متعددة مع أمراء الولايات والمدن في دولته أخذ عليهم فيها المواثيق بأسماء أربابه وأربابهم أن يظلوا مخلصين لولده هذا قلبًا وقالبًا وإلا حاق الشر بهم في الحياة وبعد الممات هم وكل أهلهم4. وليس ما يعرف إن كان قد فعل ذلك إيثارًا منه لابن زوجة على ابن زوجة أخرى،

1 Luckenbill. Op. Cit. Ii، 547.

2 See، Anet، 298، 300.

3 J.B Bury، Op. Cit، 111-112.

4 D.J.Wiseman "The Vassal-Treaties Of Esarhaddon'، Iraq، 1958; R. Borger، Za، 1961. 173-69; Anet، 1968، 534-41.

ص: 525

أم فعله تقديرًا منه لاتساع دولته وصعوبة إشراف شخص واحد عليها. على أنه مهما يكن قصده فقد تنمو كل من الأخين المحظوظين للآخر، وانحاز إلى جانب كل منهما فريق من الأمراء والقادة، وتذبذبت عواطف الأب نفسه بين الفريقين، فبدأ باضطهاد أنصار الابن الأكبر الذين احتجوا على مضمون وصيته وأمر بسفك دماء عدد كبير منهم، ثم

لتحريض من بقي منهم فعاد واضطهد أعوان الابن الأصغر وتغير قلبه عليه ومات وهو على هذا الإحساس نحوه، بينما ظلت أمه "زاكوتو" صاحبة الحظوة في عهد أبيه، والتي حملت في عهده لقب الملكة الوالدة، وفيه عطوفة لحفيدها الأصغر، وعندما خرج يقاتل إخوته وأعوانهم قامت على رعاية شئونه في العاصمة وأصبح كبار حكام الأقاليم يراسلونها باعتبارها الملكة الوالدة والوصية على العرش ويطمئنوها على ولدها "ويعنون حفيدها"، وينهون إليها أخبار أقاليمهم1، وعندما استتب الأمر لحفيدها ظل يتلقى نصائحها2.

ولم يكن للدولة بعد أن أضاع التنافس على السلطان صواب ملوكها، وبعد أن جرأ الابن منهم على أن يغتال أباه، وجرأ الأخ منهم على الفتك بأخيه، إلا أن تتوقع نازلة قريبة تحل بها وتهد بنيانها. ولكن وقبل أن نصل بالدولة إلى هذه النهاية، نستعرض في الصفحات التالية طرفًا مما اتصفت فبه الحياة الآشورية في فترات مجدها إبان عصرها التوسعي الحديث، من مظاهر الحضارة المادية الفنية والفكرية، إلى جانب ما استدعى السياق التاريخي تصويره متفرقًا في الصفحات السابقة من منظر المعارك وفخامة المواكب وصور استمتاع الملوك، ويلحظ القارئ أننا قد نسهب في شرح نماذج فنية عرقية بأكثر مما أسهبنا في شرح النماذج الفنية المصرية على الرغم من كثرتها، وذلك على أساس ما أصدرناه عن هذه الأخيرة من دراسات مستقلة بها.

صور من الحضارة:

ترك الآشوريون آثارًا عدة في عواصمهم الكبرى آشور ونينوى: وكالح ودورشروكين. وقامت نينوى بالقرب من الموصل الحالية، ووجدت بقايا آثارها في ربوتين رئيسيتين: ربوة قويونجيق في طرفها الشمالي الغربي وهي الأكبر، وربوة النبي يونس في طرفها الجنوبي الشرقي وهي الأصغر. وتوفرت محاجر الألباستر حولها فاستغلها المعماريون فيها في بناء وتزيين قصور ملوكهم. ولعبت المدينة دور العاصمة منذ القرن الثامن عشر ق. م وفيما يعاصر عهد حمورابي، وتجدد حظها في العصر الآشوري الحديث خلال القرن السابع ق. م وفي عهدي سينا خريب وآشور بانيبال بخاصة، حيث بلغ محيط سورها نحو عشرة أميال، وتضمن ما لا يقل عن خمس عشرة بوابة3. ولا تزال أطلال معالم مشروعات القنوات والحدائق باقية فيها من عهد سينا خريب، وقد ذكرت نصوصه أن رجاله زوعوا له فيه شجيرات

التي سموها شجيرات الصوف.

ولم تكتشف كل ربوة قوبونجيق لاتساعها، ولكن الصورة العامة للمنطقة التي تشغلها هي قيام قصر سينا خريب في جنوبها الغربي، وقصر آشور بانيبال في شمالها، وقد اكتشف كلاهما في أوساط القرن الماضي.

1 Harper، Op. Cit، No. 303.

2 Ibid. No. 324.

3 R.C. Thompson، Iraq، Vii، 1940، 91 F.

ص: 526

وقدر لايارد مساحة الجدران المنقوشة المكتشفة من قصر سينا خريب حتى عام 1853 بنحو عشرة آلاف قدم وإن كان أغلبها قد تهدم في العصور القديمة، ونقل بعض ما بقي منها إلى حوزة المتحف البريطاني. وتناولت نقوشها ما يصور رحلات الصيد الملكية وحياة البلاط وتقارير تفصيلية للمنشآت المعمارية والدفاعية التي تمت في عهده وعمل فيها أسراه.

ومثل قصر آشور بانيبال في نينوى مصدرًا آخر للفن الآشوري، ولو أن ما عرف عنه على الرغم من روعته، لا يزال أقل مما عرف عن القصر الأول، ليس فقط لما أصابه من تدميرت متعاقبة، بل ولضياع كثير من نقوش جدرانه وصورها خلال عمليات نقلها في العصر الحديث؛ ولا تزال بقايا مناظر الصيد فيه تمثل ذروة ما بلغه الفن الآشوري في ميدانها.

وتخلفت فيما بين القصرين الكبيرين بنينوى بقايا معبدين للإلهين نابو وإشتار. وتحد مدخل المعبد الثاني منهما تماثيل ونقوش تصور الملك منشئ المعبد في طريقه إليه على عرش محمول فوق عجلات ويصحبه أهل بلاطه وحراسه وعدد من الموسيقيين.

وأدت كالحو، أو كالح التوراة، أو نمرود الحالية، دور العاصمة الآشورية الثانية. وهي مدينة قامت على الضفة اليسرى لدجلة، إلى الشمال الشرقي من مدينة آشور التي تقع على ضفته اليمنى، وامتد عمراتها فوق لسان خصب بين الدجلة والزاب الأكبر، ونشأت كمركز عسكري، ثم احتلت مكانتها المدنية بتشييد بعض قصور الملوك الآشوريين فيها منذ القرن الثالث عشر ق. م في عهد شلما نصر الأول، ثم زادت أهميتها في العصر الآشوري الحديث، وكشف فيها حتى الآن عن بقايا قصور الملوك الثلاثة الكبار آشور ناصر بال الثاني وشلما نصر الثالث وآشور أخادين. وهي قصور دلت على ما دلت عليه قصور نينوى، من حيث فخامة واجهاتها، وحراسة التماثيل الحيوانية البشرية الحجرية الضخمة لمداخلها "حراسة رمزية"، ومن حيث تعدد الأجنحة والقاعات فيها، وتميز القاعات الرئيسية منها وقاعات العرش بخاصة بمناظر منقوشة تسجل لقطات مختارة من حياة الملوك في الحرب والسلم مع كثير من المبالغات المعتادة، ولوحات منقوشة تنطق بمثل ذلك، كلوحة تصور خضوع ياهو الإسرائيلي أمام شلما نصر الثالث "عام 841ق. م"، وأخريات تتحدث عن حفل افتتاح قصر آشور ناصر بال في عام 879ق. م، بعد جهود طويلة ونفقات طائلة بذلت في تشييده، وأقيم بعدها حفل بلغ عدد المدعويين فيه 69574 شخصًا استضافهم الملك لعشرة أيام1، ثم من حيث قرب المعابد والمزارات والزقورات من الأحياء الملكية، وأخيرًا من حيث ما أدت المصادفات إليه من بقاء بعض التحف والطرف فيها مثل قطع العاج الثمينة المشكلة، والأواني المعدنية الفاخرة، واللوحات المسمارية ذات الصبغات الأدبية والإدارية والتنجيمية والتعليمية.

وتخير سرجون لنفسه عاصمة جديدة تقع إلى الشمال الشرقي من نينوى بنحو 16 كيلومتر، ونسبت إليه في تسميتها "دور شروكين" أي داره أو مدينته، وافتتحها قبل وفاته بنحو خمس سنين.

1 Anet، 1968، 558-60.

2See، G. Loud، Khorsabad، I-Ii; Encyclopedie Photographique De I' Art، Ii، 1 F.

ص: 527

ثم هجرها العمران بعده بفترة قليلة فغطاها الرديم وحمى لحسن الحظ جزءًا كبيرًا من أطلالها، واحتفظت المصادر العربية بجزء من التسمية القديمة لهذه المدينة مع قليل من التحريف حيث ذكرتها باسم "سرغون" بينما احتفظ اسمها الحالي بنطق آخر أطلقه الساسانيون عليها وهو "خسرو أباد""أي مدينة خسرو"، مع تحريفه إلى "خور سباد" و"خور صباد" في اللغة الدارجة الحالية.

قامت هذه المدينة على خطه شبه مربعة بلغت مساحتها نحو ميل مربع، وأحاطت بها أسوار ضخمة تنفتح في واجهاتها الأربع سبعة مداخل متباعدة، وقيل إنه كان لها 150 برجًا. وشيد لسرجون فيها قصران من طابق واحد أحدهما كبير في الضلع الشمالي للمدينة والآخر صغير في ضلعها الغربي. وقام الكبير منهما فوق مسطح مرتفع يؤدي إليه طريق صاعد، وتضمن نحو مائتي قاعة بلغت أبعاد القاعات الرئيسية منها نحن 32×8 أمتار، وبلغت مساحة بهوها الكبير نحو 976 مترًا. وخدمت القاعات الصغرى منها أغراض الملحقات وأماكن الإدارية. ويذهب الظن إلى أن عددًا من حجراتها المستطيلة سقفت بعقود وأن عددًا من حجراتها المربعة سقفت بقباب. واتصلت بقصر سرجون عن طريق فنائه الواسع ستة معابد، ثلاثة كبيرة وثلاثة صغيرة، وجاورتها زقورة مشتركة بلغ طول ضلع قاعدتها 143 قدمًا، وتخلف منها ما يدل على ثلاث طبقات أو أربع، لونت كل طبقة منها بلون مختلف عن لون الأخرى، وبلغ ارتفاع كل واحدة منها ثمانية عشر قدمًا. ويحتمل أن الزقورة بنيت في أصلها مع سبع طبقات وتوجها قدس الأقداس على ارتفاع 143 قدمًا، أي بما يساوي طول ضلع القاعدة. وكان يدور حولها طريق صاعد مسور يبدأ من القاعدة حتى القمة. وأقيم أكبر المعابد الستة، وهو معبد نابو، فوق مسطح مرتفع يؤدي إليه طريق صاعد، وتقدمت بوابته الداخلية صوار مصفحة بالبرونز تعلوها رموز مقدسة، وكسيت جوانبها بقراميد من القاشاني الملون "أو الطوب المزجج" المزخرف، تصور حيوانات وطيور وأشجار، وقامت في واجهة المعبد أساطين نصفية.

واستخدم المعماريون في عمائر سرجون الأحجار بكثرة في الأساسات وقواعد الأساطين وتيجانها وأعتاب الأبواب الرئيسية، وفي رصف الأرضيات وحشو شرفات القصر، وتكسيه أسافل الجدران الكبيرة. بينما استخدموا قوالب اللبن في بناء بقية الجدران، واستخدموا الآجر في بناء الأقبية والعقود المدببة وما يشبهها، واستفادوا في تنفيذ مبانيهم وزخارفها من أساليب المباني الحيثية القديمة والمباني السورية المجاورة لأرضهم. وهكذا كسيت الجوانب الداخلية لمداخل الحصن والقصر الرئيسية بالجص حتى ارتفاع يصل إلى ما بين الخمسة والستة أقادم، وكسيت أكتافها بلوحات حجرية امتدت نحو 14 قدمًا طولًا وارتفعت نحو 13 قدمًا، ونقشت بصور مجسمة شديدة البروز لكائنات حارسة. وكسيت جوانب فناء القصر الرئيسي وجدران قاعاته الرئيسية بلوحات حجرية أيضًا نقشت بحوليات سرجون وصوره متبوعًا برجال حاشيته، في أحجام كبيرة يزيد بعضها عن الحجم الطبيعي لقامة الإنسان، بينما نقشت لوحات الممر المؤدي إلى قاعة العرش بصور كائنات حارسة. ولعل الآشوريون قد اقتبسوا أسلوب الكساء الحجري في أول الأمر من مباني الحيثيين في بوغازكوي من مباني شمال سوريا في مثل ألالاخ وتل العطشانة الحالية.

ص: 528

وتميزت عمارة القصر الصغير ببناء صفة ذات أساطين تعقب المدخل وتقوم أساطينها الخشبية المرتفعة فوق قواعد حجرية شكلت بعض وجوهها على هيئات الأسود، وشكل بعضها الآخر بما يشبه هيئة الآنية "المصمتة" المزخرفة المنبعجة الجوانب. وكان الآشوريون قد استعاروا أسلوب الصفة وأساطينها ذات القواعد المشكلة من مباني جيرانهم الغربيين واحتفظوا لها باسمها الشائع في شمال سوريا، وهو "بيت خيلاني" ويبدو أن الصفة السورية كانت مجرد تقليد لأصل حيثي، بحيث رأى بعض الآثاريين أن الصفة الآشورية كانت أقرب إلى الأصل الحيثي منها إلى التقليد السوري، وأنها استخدمت كالصفة الحيثية جزءًا من بهو المدخل، بينما كانت تعتبر في سوريا بناية مستقلة بذاتها1.

عبر الفن التسجيلي الآشوري عن وجوه عدة من الحياة الحربية والاجتماعية والدينية في عصره، فضلًا عن دلالته الذاتية عن تطور الأساليب والمهارات الفنية عند أصحابه. ووجد هذا الفن مجالاته الرحبة على السطوح المعتادة القديمة مثل سطوح النصب، والجدران المكسورة بالخزف، والأخشاب المصفحة برقائق معدنية، وعلى الأختام وقواعد التماثيل والعروش، فضلًا عن سطوح جديدة على أعمدة تشبه هيئة المسلات وعلى الأفاريز الحجرية لجدران القصور والمعابد وكانت ترتفع إلى نحو سبعة أقدام. وظل هدف الفن على هذه السطوح كلها أكثر احتفالًا بإشباع شهوة الغلبة وحب الزهو والتعاظم عند الملوك، فصورهم يقودون الجيوش ويتقبلون خضوع زعماء خصومهم ويفتكون ببعضهم أو يشهدون التمثيل بهم. وصور ربهم آشور يشاركهم القتال ويصوب سهامه من قرصه المجنح. وصور المشاة والخيالة وفرسان العربات ذات العجلات الغليظة التي يستقلها اثنان أو ثلاثة "ويصحب الملك فيه عادة سائق وتابع مسلح" وصور تحركات الجيوش في ساعات الكر والفر وعمليات مهاجمة الأسوار بالمدببات والسهام والفئوس والعمد الطويلة. وصور هدم المدن وتحريقها، وراحة الجنود في معسكراتهم. كما صور ذلة الأسارة وتهجير المدنيين. وحرص على أن يجعل النصر من نصيب الآشوريون دائمًا، شأنه في ذلك شن كل فن تسجيلي قديم بالنسبة لأهله، وترتب على ذلك أن أصبحت أغلب لوحاته لا تخلو من رتابة ومناظر معادة، زادها افتعالًا مبالغة أغلب الفنانيين في تنميق زخارف السطوح والثياب والشعور واللحى، والمبالغة في إظهار عضلات الشخصيات الرئيسية وهم الملوك في أغلب الأحوال، ثم إخضاع بعض الكائنات الطبيعية لعناصر زخرفية مفتعلة، وعدم مراعاة التناسب أحيانًا بين المكان وشاغليه، سواء في الارتفاع أم في المساحة. ولم يخفف من ثقل هذه الظواهر غير نجاح بعض أولئك الفنانين في إظهار حيوية تحركات الأفراد ولفتاتهم، والتمييز بين ملابس طبقة وأخرى، والتمييز بين ملابس الآشوريين وبين ملابس أعدائهم، والتعبير عن البيئة الطبيعية

1 عن احتمال اشتقاق كلمة خيلاني "أو هيلاني" من أصل حيثي بمعنى المدخل أو البوابة:

See، Frankfort. Op. Cit، 167 And Notes.

ص: 529

بما يناسبها، كمنحدرات الجبال وحدود الجزر وأحراج البوص عند مصبات الأنهار، ثم إظهار طابع الطراوة في صور الولدان الخواص من خدم القصر بحيث تراهم في هيئات تشبه الإناث أو الأغوات وقد يرجع ذلك إلى كثرة الولدان الأجانب والمولدين من جواري أرمينيا وإيران وآسيا الصغرى في بلاطات الملوك وقصور السراة.

وعلى نحو ما سجل الفنانون لحظات انتصار ملوكهم، صوروا لحظات صيدهم للأسود والثيران الوحشية. وكان الجنود يحيطون عادة بساحة الصيد الملكية ويؤلفون سورًا حولها بتروسهم الكبيرة، وربما صادوا الأسود من أجماتها، واحتجزوها في أقفاص كبيرة استعدادًا لإطلاقها حين يحين وقت الصيد الملكي وحينئذ كان يعلو قفص الأسد قفص آخر يحتمي فيه حارسه حين يرفع الباب إلى أعلى لإطلاق الأسد من أسره1. وكان الملك يصيد راجلًا وعلى عربته وفوق صهوة جواده، ويكسو ذراعيه وساقيه بجلد سميك ذي شرائط ليتقي به تأثير مخالب الوحوش، أو يصحبه حراسه ليشاركوه الصيد ويناولوه السهام ويجهزوا على الوحوش الجريحة ويدافعوا عنه حين المفاجأة. وقد يسرف الفنان فيصور ملكه يرفع أسدًا صحراويًّا من ذيله، أو يصوره وقد تجمعت أمامه جثث عدد كبير من السباع وهو يطؤها بقدمه ويسكب عليها ماء مقدسًا ليقدمها قربانًا لإشتار ربة الحرب وسط تراتيل الكهان والحراس وأنغام الموسيقى الوترية. ولم يخفف من غلواء الفنانين في تصوير شجاعة ملوكهم إلا البراعة الفائقة من كبارهم في تصوير خصائص الحيوان ومظاهر اندفاعه وغضبه، وتهالكه وألمه، وبلغوا من ذلك حدًّا لم يبلغوه في تصوير الإنسان. وقد وفق فنان عهد آشور بانيبال التوفيق كله في تصوير الحيوانات الجريحة كتصوير لبوءة أدمتها السهام فانطلقت تزأر في ألم ممض وتجر مؤخرتها العاجزة وهي تقاوم نزعها الأخير2، وتصوير أسد هائل تقوقع على نفسه رافعًا كتفيه متحاملًا بأربعته على الأرض بكل قوته ليقاوم السقوط وهو ينزف دماءه بغزارة من فمه3، وآخر تدلى لسانه وبرزت أنيابه وتحجرت مآقيه بعد أن لقي حتفه4.

وعبرت المناظر عن الحياة المدنية للملوك، ولكنها صبغتها بصبغة رسمية غالبة، ومن أشهر صورها مناظر آشور ناصربال في كالح في مجالس قصره وفي أعقاب حفلات صيده، يستمتع بالشراب والموسيقى، أو يصب الماء من كأسه على صيده ليقدمه قربانًا لربه5. ثم مناظر سرجون مع رجال حاشيته عند استقبال مقدمي الهدايا إليه6، على جوانب أفنية قصره والردهة المؤدية إلى قاعة عرشه. وزيارة

1 Frankfort، Op. Cit، Pl. 108' B.

2 Ibid.. Pl. 111 A.

3 Ibid. Pl. 111 B.

4 Ibid. Pl. 110.

5 W. Budge، Assyrian Sculputures In The British Muscum، Pls. Xix A-B، Xxxi; Compare Aslo B. Prithard، The Ancient Near East، Fig 156.

6 Frankfort، Op. Cit، Pls. 96، 97.

ص: 530

شلما نصر الثالث لمنابع دجلة ودعواته أمام ربها1، وخروج سينا خريب في موكب النصر في عربة مدنية تعلوها مظلة مرتفعة تشبهها مظلات العربات الهندية2.

أما عن الحياة الداخلية الخاصة للملوك، فلعل أشهر مناظرها القليلة الباقية هي صور آشور ناصربال في مناسبات شرابه. وصورة آشور بانيبال وقد تخفف من ثيابه التقليدية واستلقى على سرير مرتفع تحت كرمة أو خميلة، ودلى قلادته من طرف سريره، ووضع سيفه على منضدة تجاوره، وجلست أمامه زوجة بدينة ثقيلة تشاركه الشراب، وأحاط بهما الأتباع والعازفون وخدم المائدة، وتدلت في الوقت نفسه رأس عدوه الألد ملك عيلام من شجرة مرتفعة غير مثمرة3.

وليس من نقوش متميزة يستشهد بها في تصوير حياة الأفراد، وقد يرجع ذلك إلى طغيان شخصيات الملوك وتغطيتها على من سواها، أو يرجع إلى قلة احتفال الأفراد أنفسهم بمقابرهم ومناظرها كما حفل المصريون. غير أن المناظر الملكية تجاوزت في بعض المرات حدود الحياة الملكية إلى تصوير حياة الأتباع، فصورت على سبيل المثال فترات الراحة للجنود، ومن هذا القبيل لقطات من معسكر آشور ناصربال صورت مطابخ الجيش ورجاله، وحظائر الخيول وسياسها، وعمليات إقامة السرادقات وإعدادها لسكنى الضباط4، ومنظر لركن من أركان معسكر آشور بانيبال بعد انتصاره على مدينة هامان، وقد وقف على باب المعسكر جندي مسلح جلست أمامه امرأة تمازحه، وجلس الجنود في الداخل يعبون من الكاسات ويصطلون5. وصورت بعض المناظر جوانب من حياة الطبقة الكادحة -عرضًا- كتصوير عمال يشدون خلفهم عربات كبيرة محملة بجذوع أشجار ضخمة، بحبال تنساق فوق أكتافهم كالدواب6.

وظل النقش المسطح المنخفض قليل الروز، أكثر شيوعًا مما سواه. وظل التصوير يؤثر طابع الضخامة والامتلاء بالنسبة للشخصيات الكبيرة، وطابع الرهبة بالنسبة للشخصيات الخرافية. وتقيدت أغلب المناظر بالتقاليد القديمة المألوفة، مثل تقسيم المسطحات إلى صفين أو ثلاثة صفوف، وانتهاء كل موضوع بنهاية صفه، واستقرار الأشخاص فوق خطوط الوقف، وشغل الفراغات بمفردات مناظر ليس من الضروري أن يتوافر الترابط بينهما دائمًا. ولكن شذت عن هذه التقاليد بضع لوحات كبيرة وصغيرة، تجاوز الفنانون في بعضها حدود الخطوط، ورابطوا بين مناظر الصفوف المتعاقبة، ثم تخلوا في بعض آخر عن فكرة الصفوف تمامًا ونجحوا في استخدام المسطح كله لتصوير مراحل متتابعة مترابطة من موضوع واحد، وهو موضوع الحرب في أغلب الأحوال، ويذكر من النماذج الناجحة لهذه الاتجاهات اتصال المناظر لكل صف على الوجوه الأربعة لمسلة آشور ناصربال بحيث ظهرت خلفية الخيول التي تجر العربة الملكية

1 L. W. King. The Bronze Reliefs From The Gates Of Shalmaneser Iii، Pl. 59.

2 Frankfort، Op. Cit Pl. 89.

3 Ibid، Pl. 114 B; Pritchard، Op. Cit،Fig. 122.

4 جون هامرتون: تاريخ العالم – معرب بالقاهرة- ج2 – شكل بصفحة 255

5 Frankfort. Op. Cit.، I، 107.

6 جون هامرتون: المرجع السابق: - شكل بصفحة 243.

ص: 531

على وجه وظهرت بقية العربة وتوابعها في موازاة السطر نفسه على وجه آخر1. ثم تصوير قطعان الظباء والحمر الوحشية والخيول البرية وكلاب الصيد، تصوير من شاهدها ودرس خصائصها في أحوال أمنها وساعات فزعها، طليقة لا تتقيد صورها بخطوط الوقف ولا بالأرضية المستقيمة، مما سمح بإظهار العمق في مناظرها2. واتصال موضوع واحد على ثلاثة صفوف في مناظر الحرب الآشورية العربية، وهي مناظر تموج بالحركة والكر والفر والسرعة، يقاتل الآشوريون فيها بالحراب والسهام، مشاة وفي العربات وعلى صهوات الخيول، ويقاتل الأعراب فيها مشاة وعلى ظهور النجائب، يمتطي كل اثنين بعيرًا، أحدهما يسوقه بعصاه والآخر يرمي عن سوقه أمامًا وخلفًا، وتجري النجائب بسرعة عجيبة لتنقذ راكبها وتنجو بنفسها، حتى لتكاد تقفز أو تطير

3. ثم حرية المناظر في لوحات الحروب الآشورية العيلامية مما بسطناه في سياق حديثنا عن الحرب ذاتها. ويماثلها إلى حد ما منظر مهاجمة لاشيش في عهد سينا خريب ص532.

وتهيأت المواد الأولية لفن النحت في آشور أكثر مما تهيأت في بابل؛ لقربها من مناطق الجبال وقرب محاجر الألباستر من عاصمتها نينوى، ولاتساع أملاكها الخارجية الغنية بالأحجار والمعادن الصالحة للنحت والتشكيل، لولا أنه لم يبق من التماثيل الآشورية غير قلة لا تتفق مع إمكانيات عصرها. انحصرت نماذجها الناجحة في تماثيل الملوك والأرباب أكثر من تماثيل الأفراد، ولسنا ندري مرة أخرى إن كانت هذه الظاهرة قد ترتبت على محض المصادفة، أم ترتبت على انعدام شخصية الفرد أمام جبروت الملوك. ويستشهد من التماثيل الناجحة للملوك بتمثال حجري صغير لآشور ناصربال يبلغ ارتفاع نحو المتر ولا يخلو من التأثر بالسلوب البابلي، يمثله واقفًا في هيئة رسمية في سن الرجولة بشارب متدلٍ وشعر مرسل طويل ولحية ضخمة مزجلة مستعارة. ولا تخلو جزئيات هذا التمثال من عيوب، كضيق الجبهة، وتحديق العينين، ورقة الشفتين، وفرطحة القدمين، والافتعال في تمثيل اللحية المرجلة، وخشونة الظهر، ولكنه على الرغم ذلك مقبول في مجمله لا سيما ببدنه الملفوف، وانحدار كتفيه، وامتلاء ذراعه العارية، مع نحافة خصره تحت من تأثير ربطة الزنار، والحزور الزخرفية التي تزين ثوبه، وقد شكلت الشارتان اللتان يمسكهما في يدين بالنقش البارز في جسم تمثاله4 ونقشت بضعة سطور على صدره تشيد باتباع ملكه. وعثر عليه في مشكاة بمعبد نينورتا بعاصمته كالح، باعتباره باني المعبد ليستفيد عن طريق تمثاله بما يقدم إلى أرباب المعبد من صلوات ودعوات وقرابين. وتمثال صغير من الكهرمان كان جزءًا من حلية كبيرة، لملك آشوري

ــ

1 E. Unger،،، Der Obelisk Des Konigs Assurnasirpal Aus Nineveh'، Mitt. Der Altorientalishen Gesell، Vi، 1932; And See، Landsberger، Sam'aal، Ankara، 1948، 24.

ويردها الأول إلى القرن الحادي عشر ق. م بينما يردها الثاني إلى القرن التاسع ق. م

2 Frankfort Op. Cit. Pls. 112-113، 194 B.

3 Ibid، Pl. 102 B.

4 W. Budge، Assyrian Sculptures In The British Museum. Pl. 1.

ص: 532

غير معروف، تضمن مزايا التمثال السابق دون عيوبه، وزاد عليها سماحة مظهره، وسلامة تكوين العينين، وصدق تمثيل الشفتين، وطرافة تشكيل الشارب مبروم الطرفين، وانعقاد يديه على صدره، وتحلية صديريته الطويلة بزخارف نباتية لطيفة1. ثم تمثال صغير للمعبود نابو، من أواخر القرن التاسع ق. م، يمثله بجسد ملفوف ذي خطوط بسيطة، وشعر كث مرسل ولحية طويلة وشارب بسيط متدل، وتاج ذي قرون، ووجه لا يخلو من سماحة يزكيها عقد يديه أسفل صدره وتشابك كفيه في ليونة لطيفة2.

وجمعت بين النقش والنحت نقوش شديدة البروز أجيد تفريغ خلفياتها فبدت على هيئة التماثيل الناتئة من جدرانها، وتجلت نماذجها الكبيرة على أفاريز حجرية رجصية كست جوانب مداخل قصر آشور ناصربال، ومعبد نينورتا في كالح، وجوانب مداخل قصر سرجون ومدخل قاعة عرشه في خور سباد. وتراوحت ارتفاعاتها بين الثلاثة وبين الأربعة أمتار، وتجسمت مفرداتها على هيئة كائنات حارسة ذات هيئات بشرية مجنحة، وأخرى ذات هيئات بشرية خالصة، وثيران وأسود مجنحة برءوس بشرية ضخمة متوجة لم ينس الفنانون تفاصيلها الصغيرة حتى الأقراط المتدلية من الآذان. ولعب الخيال الفني والأسطوري دوره في تمثيل بعض هذه الكائنات الضخمة ذات الأجسام الحيوانية والرءوس البشرية بخمس سيقان، اثنتين أماميتين ضخمتين متجاورتين توحيان بطابع الثبات والاستقرار لمن يشاهدهما من الجانب، وتنسجمان مع امتلاء صدر حيوانهما وفخامة رأسه البشرية، ثم ثلاث سيقان أخريات ذوات حجم طبيعي تنسجم مع جسم الحيوان، وتتقدم إحداها الأخرى بحيث توحي في مجموعها بهيئة المشي لمن يشاهدها من الجانب.

وامتازت رءوس الكائنات عند مدخل قاعة عرش سرجون بتصويرها من الأمام والتفاتها ناحية الداخلين لتملأهم روعة ورهبة. وسمحت سطوحها المجسمة المتسعة بإظهار تفاصيل تكوين الجسم البشري لا سيما صفحات الوجوه وعضلات الذراعين والساقين، وتفاصيل الثياب والأجنحة، في أناة مستحبة غطت على عيوب طابع المبالغة في تمثيل اللحى الكثة والشعور الطويلة. واستغلت أرضياتها لنقش نصوص تمجد ملك عصرها3، وهكذا جمعت بين أغراض النقش والنحت والزخرف والتسجيل والرمز بالحماية المقدسة، كما جمعت بين الأسلوب الواقعي والتخيل الأسطوري، وجمعت بين الجمود وبين مظاهر الحركة والحيل الفنية.

وأدى فن الرسم الملون دوره، وبقيت منه نماذج قليلة ولكنها متقنة تشهد بتجارب طويلة سابقة، وأشهرها هي رسوم قاعة عرش سرجون والبهو المؤدي إليها؛ وتتألف من شرائط أفقية عريضة، تتكرر في كل شريط منها وحدتان زخرفيتان، إحداهما لحيوان أو كائن خرافي مقدس، والأخرى لزهرة كبيرة أو تخطيط هندسي لطيف، وتفصل بين كل شريط وآخر خطوط متجانسة، ويعلوها كلها ويتوسط اتساعها محراب مزخرف تظهر صورة الملك فيه وهو يحيي تمثال معبوده4.

1 Frankfort، Op. Cit. Pls. 80-81. - وارتفاعه 24 سم ويوجد في متحف بوستن.

2 ديلابورت: بلاد ما بين النهرين - شكل 46

3 W.Budge، Op.Cit.، Pls. Iv-Vi; G. Loud، Khorsabad، I، Fig 56; Ii، Pl. 46 A.

4 Ibid، Ii، Pls، 88-89; See Also، Layard، Monuments Of Nineveh، I، Pls. 86-87; Iraq Xii، 1950 Pl. Xxx; F. Thureau-Dangin،..Tell Barsip.54.

ص: 533

وواصلت الفنون الصغرى، أو الفنون التطبيقية، طريقها في زخارف النسيج ونقوش الأختام ونقوش الأواني والكئوس وزخارف، فضلًا عن تشكيل القوائم المعدنية للمشاعل وموائد القربان، وتطعيم وتكفيت اللوحات الخشبية والمرمرية وقطع الأثاث الفاخر. وعبرت وحدات هذه الفنون عن الأذواق الآشورية المعاصرة لها وانتفعت في ذلك بتراث عصرها الوسيط، ولكنها استفادت في الوقت نفسه من محصول الإمبراطورية الواسعة، فظهرت فيها تأثيرات بابلية وحيثية وسورية ومصرية، بل وتأثيرات من أرمينيا، وما حولها أيضًا1.

وبلغت زخارف النسيج الآشورية مبلغًا كبيرًا من الرقة والتنوع في ملابس الملوك الخاصة، واعتمد أغلبها على زخارف نباتية اصطلاحية شاعت فيها صورة الشجرة المقدسة أو شجرة الحياة؛ ومناظر أسطورية لكائنات مجنحة خيرة وعاتية، وحيوانات أليفة وضارية2؛ وتخطيطات هندسية لطيفة تكاد تعتبر الأصل البعيد لتعاشيق الأرابيسك الإسلامية3. ومن أمتع ما يقرن بزخارف الملابس، تنوع هيئات أغطية الرءوس في المناظر الآشورية، فمنها قلانس تشبه الطاقية، وأخرى تشبه القاووق والطرطور والأسطوانة المرتفعة؛ وغيرها تشبه طربوشًا بلون واحد أو لونين قد يكون مرتفعًا يعلوه ما يشبه القمع المقلوب؛ وقد تتدلى منه عدبة طويلة تصل إلى ما تحت الكتفين، وذلك فضلًا عن التيجان المقدسة ذات الزوجين أو الثلاثة أزواج من القرون. وتنوعت طرز النعال أيضًا؛ فمنها ما يشبه الخف الصوفي؛ ومنها الطويل الذي يشبه ما يسمى الآن التوزلك أو البوت؛ ومنها الصندل العادي ذو الأشرطة؛ ومنها أشكال أخرى لا تحضرنا مرادفات أسمائها في اللغة العربية.

وشكلت زخارف بعض اللوحات المرمرية، في قصر سرجون بخورسباد وقصر سينا خريب في قويونجيق بنينوى، بوحدات تشبه وحدات زخارف السجاد الشرقي المألوفة4، وقد تكون أصلًا لها أو تكون مشتقة من زخارف بسط فرشت بها أرضيات القصور الآشورية فعلًا.

وانتفعت نقوش الأختام الأسطوانية والمسطحة من تراث العصر الآشوري الوسيط؛ وأحيت معه عناصر بابلية قديمة؛ واستعارت كذلك بعض الأساليب الحيثية القديمة؛ وامتازت النقوش الجيدة منها بوضوح مناظرها واستقلال مفرداتها وحيوية تفاصيلها النباتية والحيوانية، مثل حراشيف النخيل وسعفه وريش الأجنحة وزخارف الملابس؛ واستطاعت أن تعبر بوضوح عن مضمون بعض الأساطير وبعض مناظر الصيد والتعبد وتقديم القرابين.

ونهل الفنانون الآشوريون من فنون سوريا الخاضعة لهم، واتخذوها معبرًا لهم إلى اقتباس فنون الترف المصرية الخالصة، والمحورة منها بالطابع السوري. وكان أمتع هذه الفنون بالنسبة لهم هو تطعيم لوحات

1 See، Frankfort، Op. Cit.، 101f. An Eferences..

2 W. Budge، Op. Cit.، Pis. Xlix-Liii..

3 Ibid.، Pl. Liii، 36..

4 Perrot Et Chipiez، Histoire De L'art، Ii، Fig. 96..

ص: 534

العاج وجوانب الصناديق الفاخرة وتكفيت الصحاف والأواني المعدنية وزخارف المقابض العاجية للمراوح الفاخرة والمرايا المعدنية. واحتفظت أطلال قصورهم بقطع عاجية مطعمة بهيئات كائنات حيوانية زخرفية مجنحة لها رءوس الكباش، ولها أمثالها في الفن الشامي، ومنها مقبض عاجي شكل على هيئة شيخ كنعاني1، ورءوس نسوية جمعت بين الطابع السوري الشمالي والطابع الحيثي المستحدث2. واحتفظت أطلال قصور الولاة الآشوريين في أرسلان تاش بتحف بارعة أخرى عبرت بزخارفها وموضوعات نقوشها عن بضعة أساليب وأساطير مصرية خليطة مقتبسة3.

وتضمنت قصور كالح وخورسباد نماذج رائعة للفن المصري السوري المقتبس، منها قطعة عاجية تمثل أنثى ذات وجه مصري نحيف طيب سمح تطل من نافذة أو كوة، هي فيما يغلب على الظن حتحور المصرية التي شبهها السوريون بعشتار، وسمتها كتب الفن الحديث "عشتار في النافذة" و"موناليزا العالم القديم"4.

ثم عدد من تماثيل أبو الهول الصغيرة ذات الوجوه المصرية الصميمة. وقطعة عاجية زخرفت بورقيات البردي المصرية وزهور اللوتس وبراعمه المحورة، وتداخلت فيها صور حيوانات سورية مجنحة. وقطعة عاجية أيضًا لصندوق ظهرت عليها صور عازفات ذوات ملامح مصرية وثياب سورية يعزفن على الناي والدف والوتر في حيوية دافقة. ومقبض مروحة شكلت وجوهه الأربعة على هيئة نوبيين بملابس مصرية تعلوهم زهور اللوتس المحورة. ومقبض مرآة على هيئة أنثى تجمع بين الهيئة المصرية والملامح السورية. وصحاف نقشت حوافها العريضة بمناظر صيد مصرية رقيقة قليلة الحشو قليلة التكلف في صور الحيوان والطير والإنسان. وأخرى زخرفت من داخلها بدوائر لولبية متعاقبة حول محور نباتي صغير أحاطت بها زخرفة إنشائية كبيرة تألفت من تكرار صور حيوانين خرافيين متقابلين ذوي طابع مصري يتوج رأس كل منهما التاج المصري المزدوج، وحددت قعري الدائرة أعمدة مصرية شكلت تيجانها على هيئة الجعل المصري المجنح. وتكررت الأعمدة بأحجام صغيرة بين كل حيوانين متقابلين وحف بهما شخصان يتعبدان5.

في الأدب:

كان حظ الآشوريين من الخلق الأدبي نصيبًا يسيرًا نسبيًّا، فعاشوا في آداب العصور التي سبقتهم، ولكن قامت لهم مأثرة عليها، وهي تجديدهم لأغلب لوحاتها وحفظهم إياها ونشرهم لها مع بعض التحوير والإضافة أحيانًا، لا سيما منذ أن أنشأ ملكهم سرجون مكتبته في نينوى، وزاد هذه المكتبة وأسس أمثالها أولاده وحفدته، وكان أكثرهم احتفاء بالثقافات القديمة وجمعها في مكتباته هو أشور بانيبال الذي أرسل

1 Thureau-Dangin، Arsian-Tash، 1931، Pls. 19، 29، 33: Frankfort، Op. Cit.، Ol. 168 C-D..

2 Ibid.، Pl. 167 D-F..

3 Ibid.، Pls. 168 A-B، 169 A-B; Thureau-Dangin، Op. Cit..

4 G. Loud، Op. Cit.، Pl. 51..

5 Ibid.، Pls. 166 B، 167 A-C، 170 A-C، 171، 172 B، 173 B..

ص: 535

رقاعًا إلى ولاته على الأقاليم يأمرهم فيها بالتحري عن الألواح المسمارية القديمة حيثما وجدوها ويقول لكل منهم فيها "لا يجوز لأي إنسان أن يمنع شيئًا من الألواح عنك، وإذا عثرت على أيه لوحة أو رقية لم أعينها لم وتجد فيها صلاحية لقصرنا استول عليها وأرسلها إليَّ". وعثر في أطلال قصره بنينوى على لوحات كثيرة زادت من معرفة الباحثين المحدثين بالآداب القديمة. ولم تكن كل هذه الألواح أدبًا خالصًا ولا علمًا خالصًا وإنما تعلق أغلبها بالعبادات والتمائم والتعاويذ. ووجدت رسالة من هذا الملك إلى واليه في بابل يأمره فيها بأن يبحث جادًا عن لوحات تعاويذ الأنهار والشهور ورقي الوسائد الملكية وتقاويم الأيام ومراسيم رفع الأيدي ومجموعة الكروب ومجموعة سمع أنها معنونة بعنوان "لا تدع السوء يمس الذاهب إلى المزارع أو الداخل إلى القصر"، ثم أمره إلى جانب ذلك بأن يضم أشخاصًا معينين إلى معيته بعد أن سمع عن حيازتهم للوحات ثمينة قديمة1. واتخذت ألواح أخرى صبغة عملية وعلمية، فكان منها ما تحدث عن مركبات الزجاج وأطلية الخزف. ووجدت منها جداول تتضمن بضع مئات من أسماء النباتات تداخل بعضها في بعض، وعبر بعضها عن خصائص نباته وثماره واستعماله، مثل نبات القتب الذي أسموه نبات الغزل ونبات الهموم نظرًا لمفعوله المخدر الذي ينسي الهموم. وتضمنت الألواح تفاصيل عقاقير نباتية رتب كل منها باسم النبات ونوع المرض الذي يعالجه ثم طريقة تعاطيه، فكان منها ما يقول:"العرقسوس لعلاج السعال، يدق ويشرب مختمرًا". "والصبر، دواء للصفراء، يدق ويشرب"2. وكان في اطلاع بعض الملوك الآشوريين، لا سيما الملكيين آشور أخادين وآشور بانيبال على أشباه هذه العقاقير والوصفات ما جعلهم يبدون اهتمامًا كبيرًا بنشاط أطبائهم ويرسلونهم خصيصًا لعلاج أصدقائهم ثم يتلقون منهم تقارير عنهم وعن علاج ذوي قرباهم بخاصة3. وكثيرًا ما اختتمت نصوص الألواح بتحذير القارئ من سرقتها أو كسر طابع مكتبتها الخاصة أو العامة، وإلا تعرض لنقمة الآلهة.

وانتفع الكتبة الآشوريون بأساليب المعاجم القديمة في بابل، وزادوا مفرداتها ومترادفاتها الأجنبية نتيجة لاتساع صلات دولتهم بجيرانها، وضمنوها مفردات خاتية وكاسية ومصرية

، وبعد أن كانوا يؤرخون نصوصهم في عصرهم الآشوري الوسيط بأسماء الشهور: كيناته، وسين، وألاناتو، وشاساراته، وما يشبهها من أسماء غريبة، أصبحوا يذكرون شهورهم في عصرهم الحديث بأسماء: آبو، وتشرين، وتموز، ونيسانو، وأدارو، وأولولو، وهي نفس الأسماء المعروفة للشهور الأرامية الباقية حتى الآن، مع تغييرات طفيفة.

1 Ee، G. Contenau، Op. Cit.، 315 F.

2 See. R. Campell Thompson، The Assyrian Herbal، 1924; On The Chemistry Of The Ancient Assyrians، 1925.

3 R.H. Pfeiffer. State Letters Of Assyriaa، 1935، Nos. 285، 288، 294، 295، Etc..; G Contenau، Op. Cit.، 187 F.

ص: 536

ولم يخل الأدب الآشوري الخالص من مزايا خفيفة في تقاريره وأقاصيصه الحربية بخاصة، فوصف كاتب مدينة السامرة في حوليات العام الثامن لفاتحها سرجون الآشوري، قائلًا على لسانه:"لقد كانت قمة عظيمة ترتفع مثل سن الرمح وتسمو فوق الجبال حتى لكأنها رأس تعتمد السماء عليه، ولها جذور تمتد حتى تصل إلى قلب الجحيم. وكانت من خارجها كالسلسلة الفقرية للسمكة لا تسمح لأحد بالنفاذ منها". ولم يقصد كاتب سرجون بذلك أن يشيد بالمدينة، ولكنه ابتغى أن يشيد بمجهوده في تحطيمها على الرغم من حصانتها؛ إذ أتبع ذلك بوصف مسالكها الوعرة ثم عقب بخططه الحربية في تذليلها بفضل سعة أفقه وما أوحى أربابه به إليه. وعلى الرغم مما حفل به هذا الأدب الحربي من مبالغات وادعاءات ظل ذا قيمة لا تنكر في احتفاظه بأخبار شعوب قديمة لم تترك وثائق مكتوبة تنم عن تاريخها، مثل القبائل العربية الشمالية والقبائل الجبلية الشمالية، وإن كان قد صور أخبارها من وجهة نظره الخاصة.

ولعبت العرافة دورها في حياة الآشوريين، وتقبلها ملوكهم قبول حسن، وتكفل بها كهنة وكاهنات كان من أنشطهم كهنة المعبود آشور وكاهنات المعبودة إشتار

، ويبدو أنهم كانوا ينطقون بتنبوءاتهم وهم في غيبوبة أو حالة انجذاب فتؤخذ على أنها صادرة من روح المعبود عن طريق وساطتهم، ثم يدونها كتبتهم ويرسلونها إلى القصر إذا كانت تتعلق بشخص الملك ومشروعاته. ومن طريف ما تلقاه آشور أخادين من كاهنة إشتار أنها بعد أن وعدته النصر على أعدائه توقعت

في تصديق نبوءتها، فقالت له "ماذا في قولي الذي تحدثت به إليك لا تستطيع أن تعتمد عليه

؟ وقالت له كاهنة أخرى من أبلا تدعى "بعلة أبيشا" على لسان ربتها إشتار: " .... لِمَ لَمْ تصدق النبوءة السابقة التي تحدثت بها إليك؟ صدق هذه، وادعني يوم اشتداد العاصفة

، واشكرني

" .... حروب آشور بانيبال مع إخوته وفي أنحاء مملكته مجالًا خصبًا لتنبوءات العرافين وأمنيات المتزلفين، فأرسل إليه رجل يذكره برؤيا رآها جده ووعده آشور النصر خلالها،

ثم دعا له بأن يفتح أقطارًا لم يفتحها أبوه

، وأرسل إليه يخبره بأنه رآه في منامه ورأى معه الربة إشتار ودار بينه وبينهما حديث انتهى بطبيعة الحال بتأكيد رعاية الربة له وتأييدها إياه1.

هذا عن أدوار المجد الآشوري، أما عن مرحلة انهياره، فهذه نتناولها في صفحات تالية مع مسبباتها المباشرة.

1 See، R. H. Pfeiffer، “Akkadian Oracles And Prophstes”، Anet، 449-451; A. Goetze، Old Babylonian Omen Texts، 1947.

ص: 537