الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
انتفاضة اليقظة في العهود الأهناسية:
قامت أعنف أدوار التنافس التي سجلتها أخبار هذا العصر بين حكام طيبة وبين حكام أهناسيا. وكان حكام طيبة الذين يبدو أنهم انتقلوا إليها من مسقط رأسهم أرمنت، قد حاولوا أن يرثوا زعامة الصعيد بعد أن ولت عنه زعامة فقط، واشتهر أوائلهم باسم الأناتفة، نظرًا لتسمي أغلبهم باسم إنتف، أو إينتوف "راجع ص163". وكانوا على جانب من الحذر، فلم يدعوا لأنفسهم في بداية أمرهم ملكًا صريحًا ولم يتلقبوا بألقاب الملوك واكتفوا لأنفسهم بألقاب الإمارة. وبلغ من حيطتهم أن هادنوا تلك الأسرة القوية التي أسلفنا أنها ظهرت وحكمت في مدينة أهناسيا بمصر الوسطى، وربما اعترفوا اعترافًا ضمنيًّا بسيادتها أو على الأقل لم ينازعوها سيادتها بعد أن تبينوا أنها فاقتهم سلطانًا وقوة وأنها استطاعت أن تمد نفوذها إلى منطقة منف ذاتها.
وشجع هذا الوضع حكام أهناسيا على أن يتخذوا صفة الفراعنة، واعتبروا أنفسهم خلفاء لملوك منف، واستحبوا تعظيم الإله رع والإله أوزير. وتعاقبت فيهم على هذا الوضع أسرتان حاكمتان، تعرفان اصطلاحًا باسم الأسرتين التاسعة والعاشرة. وأسس أولاهما الفرعون خيتي "الأول"، ويبدو أنه بدأ حكمه بنوع من الشدة، قصد به تأييد ملكه والذود عنه، شأنه في ذلك شأن أغلب مؤسسي البيوت الحاكمة. وروى عنه أحد أحفاده أنه كان يبرر شدته بقوله:"إن الرب نفسه ينتقم ممن يعادي معبده"1. ورددت أجيال المناهضين له من المصريين أخبار قسوته وضخمت فيها، إلى حد أن وصفه المؤرخ المصري مانيتون بأنه كان أكثر الملوك المصريين ظلمًا وأنه كان متجبرًا، وأنه لقي جزاءه بأن جن في نهاية عمره وافترسه تمساح. ومهما يكن في هذه الرواية الأخيرة من خيال، فهي لا تخلو من دلالة على إيمان راويها بأن عواقب القسوة أو الظلم لا بد وأن تعود بالشر على رءوس أصحابها.
وظل حكام مصر الوسطى وما حولها على حالهم من الاستقلال الداخلي، في ظل ملوك أهناسيا، وظلوا على تفاخرهم بأعمالهم في الوقت نفسه، وأشبع فيهم أهل أقاليمهم حبهم للشهرة، فمدح أحد كتبة أسيوط خيتي بن تفيبي الذي كان يتفاخر بأنه سليل حاكم وابن بنت حاكم، وبقوله: "ما أجمل ما تم في عهدك، لقد رضيت المدينة بك، وما كان مستغلقًا على الناس جعلته مكشوفًا مباحًا من تلقاء نفسك، عن رغبة منك في إسعاد أسيوط، لقد جعلت كل موظف يستقر في منصبه، وما عاد أحد يقتتل أو يطلق سهمه، ولم يعد
1 Pap. Petersburg، 1116 A، Rt، 109-110.
الطفل يلقى حتفه بجوار أمه ولا مواطن بجوار زوجته، بعد أن هداك رب مدينتك الذي أحبك1. وقد حدث ذلك في أغلب الظن بعد فترة ما من الفوضى تكررت فيها المشكلات التي أعلن نجاحه في وقفها.
وربط ملوك أهناسيا حكام الأقاليم بهم عن طريق مرونة السياسة، واتبعوا في ذلك وسيلة بعض ملوك الدولة القديمة في تربية أبناء الحكام الكبار في قصورهم بغية أن يشربوهم ولاءهم وأن يشبوا أوفياء لهم. وكانوا يجاملون أولئك الحكام في الملمات ويشاركونهم المسرات؛ بغية أن يردوا الجميل مضاعفًا. فأشار أحد نصوص أسيوط إلى أنه عندما توفي حاكمها "بكى الملك "في أهناسيا"، وبكى أهل مصر الوسطى والدلتا، واجتمع الملك والنبلاء حين دفنه". بل وسمح الملك لابنة المتوفى بأن تتولى شئون أسيوط في طفولة ولدها وحفيده، ثم ربى هذا الحفيد في قصره. وقال الحفيد وكان يدعى خيتي2:"سمح الملك لي بأن أتولى الحكم ولم أكن قد تعديت الذراع طولًا، ورفع منزلتي في شبابي، وسمح بأن أتعلم السباحة مع الأمراء، ولهذا أصبحت رجلًا صادق الرأي براء مما يسيء إلى مولاه الذي رباه طفلًا. ونعمت أسيوط بحكمي وأثنت على أهناسيا "نفسها"، وقال عني أهل مصر الوسطى والدلتا: تربية ملك
…
"، ثم وصف نتيجة تربية الملوك هذه بنشاطه الاقتصادي في حفر الترع وزيادة أنصبة المزارع من المياه مع إشرافه على تنظيمها، وتعيين سقاءين لتوزيع المياه على البيوت في المدينة، وتموين أهلها في أوقات العسر وتخفيف الضرائب عنهم.
أعقب خيتي الأول ملك أهناسيا، عدة ملوك يصعب تعيين عددهم عن يقين. ثم أعقبهم فرع آخر من أسرتهم عرف اصطلاحًا باسم الأسرة العاشرة، وعندما تبلورت آمال هذه الأسرة ومضت تبغي الاتساع وازدادت أطماعها، كان حكام طيبة بدورهم قد أحسوا البأس والقوة من أنفسهم، فتخلوا عن حذرهم القديم وتطلعوا إلى اتخاذ ألقاب الملوك عوضًا عن ألقاب الإمارة القديمة. وهنا انتقل التنافس بين طيبة وبين أهناسيا من طوره السلبي إلى طوره الإيجابي، واستمر نحو ثمانين عامًا. وكانت سياسة أهناسيا إزاء حكام الأقاليم الموالين لها قد آتت ثمارها، فنفعوها في تنافسها، واعتادوا على أن يؤكدوا في نصوصهم ولاءهم للقصر الملكي وإن لم يذكروا اسم الملك غير مرات نادرة. وكان من أكبر أولئك الحكام: حكام أسيوط، وبني حسن، وأخميم، والأشمونين، وحتنوب، وحاول هؤلاء الحكام بدورهم أن يحببوا فيهم أهل أقاليمهم بغية اتخاذهم عونًا حين الشدائد، فقال حاكم أسيوط تفيبي في نصوص مقبرته: "استمعوا إلى أهل الغد، لقد كنت سخيًّا مع الناس جميعهم
…
سديد الرأي، نافعًا لبلده، سمحًا مع الشاكي، إذا جن الليل "اطمأن" النائم في الطريق ودعا لي وأصبح شأنه شأن من نام في داره تحرسه هيبة عسكري
…
" وأعلن الرجل مبدأ أهم من هذا، فأعلن إيمانه بأن الشخص النبيل هو الذي يستطيع أن يتفوق بمآثره على مآثر أبيه،
1 A.R.، I، 404.
2 Ibid.، 407-413 ; Bruner، Die Texte Aus Den Graben Der Hierakleopoliten Zeit Von Siut، V، 20 F.
وأن جزاءه على ذلك سوف يكون الرحمة في الآخرة، وتمكين الحكم في أسرته بحيث يرثه ولده في قصره، فضلًا عن حسن سمعته في بلده، وتعظيم الناس لتمثاله بعد موته "حين يحمل في المواكب العامة"1.
وعملت طيبة من ناحيتها على أن تجمع الأحلاف حولها، وربما نجحت في ذلك بعض الشيء، ولكنها اعتمدت أكثر ما عتمدت على حصانتها الطبيعية وعلى صلابة رجالها الصعايدة وعلى إذكاء روح الأمل والطمع فيهم، إلى جانب وفائهم لإله الحرب مونتو وعملهم على إعلاء شأن الإله أمون.
وبدأ النزاع بين البيتين الطيبي والأهناسي على صورة مستترة، ثم اتخذ صورة عدائية مكشوفة، وتخللته معارك متقطعة على البر وعلى متن النيل. وظلت الحدود بين الطرفين خلافه بين مد وجذر. ولا زالت خطوات هذه المعارك غامضة إلى حد كبير2. ولكن يبدو أن مراحلها الأولى انتهت بانتصار خيتي الثالثة "أو الرابع" ملك أهناسيا على معاصره ملك طيبة مونتوحوتب "الأول" بعد أن دارت بين جيشيهما معارك عدة في منطقة ثني أدت إلى تخريب جبانتها القديمة أبيدوس وبعض أماكنها المقدسة وانتهت بسيطرة أهناسيا عليها حوالي عام 2065ق. م.
وشجع هذا النصر خيتي على نشاط حربي آخر أوسع أثرًا وأكثر أهمية، حاول أن يطهر به أراضي الدلتا من البدو والأموريين الذين تسربوا إليها منذ أواخر الدولة القديمة وحاولوا أن يتخذوا مصر دار إقامة، وتطبعوا بالعادات المصرية، وجمعوا بين أسمائهم وبين الأسماء المحلية، وربما انتحل كبارهم لأنفسهم ألقاب الفراعنة وقد عبر عن هذه الوضع اسمان لحاكمين لا يخلوان من لكنة أمورية، وهما "خندي" الذي تلقب باللقب المصري نفر كارع و"ترورو" أو تلولو الذي تلقب باللقب نفسه3. واستخدم أولئك المهاجرون المتمصرون أختامًا خشنة الصناعة والنقش هرمية الشك تشبه الأزرار، وجد لها ما يماثلها في الشام والحوض الشرقي للبحر المتوسط4. ولكن ظل المصريون خارج الدلتا وربما في الدلتا نفسها، ينكرون على البدو المتمصرين سيادتهم، فاستغل خيتي هذه الروح، ونجح مع جيشه في إبعاد الأموريين وكسر شوكة بعضهم الآخر.
ولما أحس الرجل دنو أجله استجمع تجاربه في الحرب مع الطيبيين وتجاربه في الحرب مع البدو الأموريين وتجاربه في الحكم والسياسة، وآراءه في الدين، وجعلها على هيئة التعاليم ونصح ولده وولي عهده مريكارع بأن يأخذ بأفصلها ويتجنب مواطن الزلل فيها5.
1 A.R.، I، 395.
2 See. Winlock، The Ries And Fall Of The Middle Kingdom In Thebes، 10 F. ;Baly، Jea، Xviii، 173 F.
3 وانظر للمؤلف: حضارة مصر القديمة وآثارها – ج1 ص407 - 408.
3 Abydos List، 45، 49 ; Jea، Xii، 92، Fig. 6 ;Petrie، Scarabs And Cylinders، Pl. X، 7، 10.
4 H. Frankfort، 'Egypt And Syria In The First Intermediate Period'، Jea، Xii، 88.
5 Pap. Perersburg 1116 A، Rt ; Gardiner، Jea، I، 20 F. ; A. Scharff، Der Historische Abschniff Der Lehre Fur Kanig Merlkare، 1938; A. Volten، Zwel Alteg. Politische Schriften، 1945 ; Chr، D'egypt. 1947، 89 F. ; Zaes، 1967، 117 F.