الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانفسح السبيل أمام الآشوريين بعد انهيار دولة الميتان تحت ضغط الحيثيين في عام 1365ق. م فبرزت بينهم أسماء ضخمة لم يحتفظ التاريخ منها للأسف بغير أسماء الملوك كعادته1، ومن أوائلهم آشور أو بالليط الأول "1363 - 1328ق. م".
وشهدت آشور تحت زعامتهم مرحلتين للتوسع:
1 See Also Lucenbill، Anc. Records، 1، 73.
المرحلة الأولى:
وهذه استمرت خلال القرن الثالث عشر ق. م، وقدرت آشور فيها بأس جيرانها الخاتيين الأشداء ونفوذهم في أعالي الشام، فاكتفت بالتوسع في منطقة الجزيرة وتدعيم حدودها القريبة. وكشفت عن وجه العداء لبابل فهاجمتها جيوشها وخربتها أكثر من مرة، واحتلتها في إحدى المرات. وذهبت آمال بعض ملوكها إلى حد العمل على توحيد بلاد النهرين تحت سلطانهم، فتلقبوا بلقب "ملك سومر وأكد"، وكان أشهرهم شلمانصر الأول "1266 - 1243ق. م". وولده توكلتي نينورتا الأول "1243 - 1210ق. م".
فقد شهدت بوادي الشام والعراق تحركات سامية جديدة منذ أواسط الألف الثاني قبل ميلاد المسيح، واتجهت هذه التحركات بأطماعها ناحية الهلال الخصيب منذ القرن الرابع عشر، ووضحت تجمعاتها القبلية حينذاك في ناحية الفرات الأوسط شرقًا وفي أواسط سوريا وشرقها غربًا. وأشارت النصوص الآشورية "والمصرية" إلى قبائلها في مجموعها باسم الأخلامو واسم السوتو. وذكرت نصوص الملك الآشوري أريك دين إيلو انتصاره على الفريقين في أواخر القرن الرابع عشر أو أوائل القرن الثالث عشر ق. م1. وكانت قبائلهم قد تعدت الفرات حينذاك، ويبدو أنها حملت معها إلى العراق بعض العبرانيين المستضعفين؛ إذ ظهرت في لوحات نوزي القريبة من آشور أسماء عبرية الصبغة مثل هامانا وإيليا2، وتضمن بعضها عقود استرقاق عبرت عن الطريقة التي تسلل العبرانيون بها إلى أرض العراق واستقروا فيها، فقالت إحداها: "برغبته دخل مار إديجلات العبري من أرض آشور، "دار" تهب تيلا، باعتبار، عبدا"، وشهد على هذه اللوحة كاتبها وأحد عشر شاهدًا4. وقالت أخرى: "برغبتها دخلت سين بالطي العبرية دار تهب تيلا باعتبارها أمة، فإذا نقضت عهدها ودخلت بيت سيد آخر، فقأ سيدها عينها وباعها"3.
ولم يقنع المهاجرون الساميون طويلًا بالحياة القبلية ولم يكتفوا بالتسلل إلى مواطن الحضارة والخصب والعمران، وإنما أخذوا يتجمعون شيئًا فشيئًا في إمارات، وعرفتهم النصوص الآشورية حينذاك باسم الأراميين إلى جانب اسمي الأخلامو والسوتو القديمين. ولعلهم طمعوا في شغل ما شغله الميتان من قبل في شمال شرق سوريا وغرب الفرات، لولا أن نازعهم فيها كل من الآشوريين وبقايا الحيثيين. ومثل الآشوريين في هذا النزاع شلمانصر الأول الذي روت نصوصه عن قتال جيوشه للأخلامو والأراميين
1 E.A. Speiser، Asor، X “1930”، No. 56.
2 E. Chiern، Joint Epedition With The Iraq Museum At Nuzi، 1934، N. 459.
3 Ibid.، No. 452; E. Ebeling، Maog، Vii “1933”، 88.
وبقايا الحيثيين أيضًا، ثم ولده توكلتي نينورتا الذي روت نصوصه أنه هاجم ماري وأرض خانا "عنات" وأرض راكيبوا وجبال الأخلامو. وتكررت الحروب في عهد آشور رش إيشي ضد أذخلامو، ولكن استمرت هجرات الأراميين تترى ولم تنقطع1.
وأكد الفن الآشوري في هذه المرحلة الأولى من العصر الوسيط أسلوبه الخاص في التعبير عن عقائد قومه، وعن طابع النقش والعمارة بعد أن هضم عدة عناصر استعارها من جيرانه، لا سيما الميتان الذين كانوا واسطة حضارية لنقل فنون الشام ومصر إلى العراق. فمن التعبيرات الخاصة بهذه المرحلة أن قللت النقوش الآشورية تصوير أرباب قومها بصورهم البشرية واكتفت بالرمز إليهم برموزهم المادية والمعنوية، ومن هذا القبيل تصوير الملك توكلتي نينورتا ساعيًا محييًا، وجاثيًا داعيًا، أمام مائدة يعلوها شكل مستطيل يشبه الشراع العريض يرمز إلى المعبود "نوسكو"2. وتصوير ملك آخر يتقبل خضوع أتباعه على حين تطل عليه من عل عدة رموز مقدسة يتميز منها كفا المعبود آشور تبرزان من بين السحب وتمسك إحداهما قوسًا دلالة على طابع الحرب فيه، وتمتد الأخرى مبسوطة ناحية الملك كأنهما تباركه وتعبر عن رعاية صاحبها له3. ثم ملك ثالث صور هو وجنوده في ساحة القتال يطل عليه وقرص يشرع قوسًا، يرمز غلى المعبود آشور المحارب، ومن حوله ذرات مطر تتساقط من السحب وتمثل الجانب الخير للمعبود نفسه4. وليس ما يعرف عما إذا كان صدوف الآشوريين في مثل هذه المناظر عن تجسيد أربابهم بصور محسوسة يدل على إمعانهم في تعظيمهم، أم كان نتيجة لنزعة طوطمية طرأت عليهم5.
وجرى الفنانون على الاتجاه نفسه في نقوش مناظر التعبد على الأختام، فقللوا من تصوير الأرباب فيها، بما كتفوا في أغلب الأحيان بتصوير التعبد أمام واجهات المعباد ومقاصيرها وزقوراتها، أو على الأكثر أمام تماثيل الرموز الحيوانية وغير الحيوانية لمعبوداتها6. وذلك في نفس الوقت الذي أزادوا فيه تصوير قتال الكائنات الخرافية ومناظر الصيد والحيوانات والأشجار، مع شيء من العناية بتفاصيل عضلات الإنسان والحيوانات، وتفاصيل الشعور والأجنحة. ونجحوا في التعبير عن مظهر الغضب وقوة الافتراس في هذه الكائنات فخلعوا عليها حيوية مقبولة. وأحاطوا بعض صورها بأطر زخرفية، وأرفقوا القليل منها بنصوص أفقية7.
1 A. Dupont-Sommer، Les Arameens، Paris، 1949، 17.
2 Frankfort، The Art And Architecture
…
، Pl. 73 B.
3 Ibid.، Pl. 73 A.
4 W. Andrae، Coloured Ceramics From Assur، Pl.8.
5 See، Frankfort، Op. Cit.، 66.
6 Zeitschrift Fur Assyriologie، Xiv، 36 F.، 43، Abb.، 35-38، 46; A.Moortgant، Vorderasiatische Rollsiegel، Nr. 591، 592;Frankfort، Op. Cit.، 24 A-B.
7 Frank، Op. Cit.، 72، Pis. 75-76.
ومارس الفنانون بضعة عناصر فنية جديدة انتقلت إليهم عن طريق الميتان كذلك ثم طوروها، وتمثلت فيما يرى هنري فرانكفورت في أربعة عناصر عقائدية وزخرفية ومعمارية، كان منها أن جروا على الرمز إلى بعض أربابهم، أرباب الحرب وحماة الملكية، بهيئة قرص مجنح1. انتقل إليهم فيما يغلب على الظن من مصر القديمة عن طريق الميتان أو السوريين. وأكثروا من تصوير شجرة الحياة المقدسة، وتصوير الكائنات الخرافية ذات الشوشة على رأسها. ويرى فرانكفورت أنهما عنصران دخلا الفن الآشوري خلال سيطرة الميتان على "جزء من" آشور، ويتمثل مجهود الآشوريين في تطوير العنصر الأول منهما في اعتبار شجرة الحياة عنصرًا زخرفيًّا خالصًا في رسومهم ونقوشهم2 "على الرغم من وضوح دور الشجر في عقائدهم الدينية بحيث كانوا يقيمون في عيد رأس السنة ساق شجرة عاريًا ويثبتون فيه أوراقًا وثمارًا معدنية"3.
ومارس الآشوريون مهارتهم في صناعة الخزف وزخارفه، وهذه يحتمل أنها خرجت من مصر بعد أن بلغت ذروتها في أيام الدولة الوسطى وانتشرت منها إلى كريت ورودس وسوريا ثم العراق، منذ عصر الهكسوس والهجرات الآرية، وهو عصر تخلخلت فيه الحواجز الدولية التقليدية، ويرى فرانكفورت أن تجديد الآشوريين في هذه الصناعة يتمثل في استخدام الخزف لتكسية الجدران4. ولكننا نضيف أن المصريين القدماء استخدموه لنفس الغرض في تكسية جدران بعض حجرات ودهاليز الجزء الأسفل من الهرم المدرج في سقارة قبل ذلك بأكثر من ألف وخمسمائة عام.
أما العنصر الرابع المعماري المستجد في هذه العصر الآشوري فيتمثل في تأزير الأجزاء السفلى من بعض جدران القصور بلوحات حجرية، سمح لهم بها توفر الأحجار في هضابهم وفي المرتفعات القريبة منهم، أكثر من توفرها فيما دون أرضهم من بلاد العراق.
وجرى الملوك الآشوريون على عادة مواطنيهم ملوك بلاد النهرين في تعمير المعابد والزقورات وبناء الجديد منها، وكان عهد توكلتي نينورتا من أنشط العهود في هذا السبيل، فجددت في عهده معابد كثيرة للمعبودات آشور وشمش وسين وآنو وأداد وإشتار وغيرهم5، وتهدمت هذه المعباد ولم يتبق منها غير رسوم قليلة تعرف الأثريون منها على تجديدات طفيفة في فنون عمارتها، ومنها بناء الزقورة على مساحة مربعة، وبداية الطرق المفتوحة ذات الدرجات المؤدية إليها بمدخل معقد، ثم الاتجاه شيئًا فشيئًا إلى الاستغناء عن استخدام هذه الطرق والاستعاضة عنها بالوصول إلى مسطح الزقورة عن طريق معبر يؤدي إليه من
1 Frankfort، Cylinder Seals، 1939، Fig. 59; The Art And Architecture
…
، 66، 67، 71; O. Weber، Altorientalische Siegel Bilder، Nr. 316 A.
2 Frankfort، Op. Cit.، 67-68 “After Helene J. Kantor”.
3 Sidney Smith، Early History Of Assyria، 123.
4 Frankfort، Op. Cit.، 67.
5 W. Andrae، Das Wiedererstehende Assur، 1938، Abb. 24، 42، 47، 48، Etc.
سطح المعبد الأراضي المجاور لها أو من سطح بناية تقوم مقامه، وأخيرًا وضع تمثال المعبود داخل مقصورته فوق صفة عالية يؤدي إليها درج، رمزًا إلى ارتفاع شأنه واتساع ما بينه وبين خلقه، ثم احتمال وجود مشكاوات فرعية ملحقة بمعبد رب الدولة آشور، لأرباب آخرين مثل مردوك البابلي الذي خرب توكلتي نينورتا عاصمته بابل ونقل تمثاله منها إلى آشور1. وليس ما يعرف عن ارتفاع الزقورات في هذه المرحلة، ولكن يحتمل من مناظرها في نقوش الأختام أنها كانت تتألف من أربع أو خمس طبقات2.
وصورت واجهات المعابد تحف بها صروح أبو أبراج عالية3، وتحلي سطوحها حليات معمارية بسيطة مدرجة ذات زوايا قائمة شاعت أمثالها في الحليات العلوية المسننة لعمائر الشرق الأدنى فيما تلا ذلك من عصور، لا سيما في الحصون، ولا تزال أشباهها تتمثل إلى حد ما في الحليات المسننة التي تعلو المساجد حتى الآن، وكانت تحف بمداخل المعابد الآشورية أحيانًا تماثيل حيوانية ترمز إلى معبوداتها الكبرى4، وتؤدي غرض الحراسة الرمزية لها فضلًا على ما تضفيه على المدخل من عنصر الزينة.
وشهدت آشور مقرين ملكيين جديدين في هذه المرحلة: مدينة كالح على الضفة اليسرى لنهر دجلة "في مقابل آشور ولكن على مبعدة منها على ضفته اليمنى" في عهد شلمانصر الأول، وامتد عمرانها فوق لسان خصب بين الدجلة وبين الزاب الأكبر، ثم مدينة أخرى شيدت في عهد ولده ونسبت إليه فسميت "كارتوكلتي نينورتا"، وقامت على مبعدة ميلين من آشور. وشاد له رجاله فيها قصرًا بقيت منه أطلال طفيفة يفهم منها أنهم زخرفوا بعض جدرانه بقطع من القاشاني المزخرف ولوحات مرسومة اقتبسوا موضوعاتها من عالم الإنسان والحيوان والنبات ومن الخطوط الهندسية5، ونجحوا في تحقيق التناسب والحيوية فيها إلى حد مقبول، وصوروا فيها الملك يقاتل بعربته الحربية منفردًا حينًا، ويشترك معه جنوده في الحرب الفعلية حينًا آخر6.
وأعقبت النهضة الآشورية الأولى في عصرها الوسيط فترة انتكاس، غاضت فيها أحداث التاريخ الآشوري وضعف فيها أن الملوك واضطرب أمن دولتهم، على الرغم من أن ظروف التوسع الخارجي كانت مهيأة لهم بعد أن انهارت دولة الخاتيين "الحيثيين" تحت ضربات الهجرات الآرية الكاسحة التي عرفت اصطلاحًا باسم شعوب البحر، في أواخر القرن الثالث عشر ق. م. ويبدو أنه وقف في سبيل استمرار النهضة الآشورية عدة عوامل داخلية وخارجية، كان منها تكرار النزاع على عرشها، والتمزق الداخلي في أرضها، بعد أن اغتيل توكلتي نينورتا في مؤامرة دبرها ولده وكان اغتياله بداية لتحلل كيان حكم أسرته.
1 Frankfort، Op. Cit.، 68-71.
2 Anton Moortgat، Op. Cit.، Nr. 591، 592.
3 W. Andrae، Op. Cit.، Abb. 49-50.
4 Ibid، Abb.، 49.
5 Ibid.، Taf. 2-3.
6 Ibid، Taf. 51 A; Coloured Ceramics، Pls. 6-8.