الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جديدة. كما مثل فترة انتقال من حياة فنية نشطة خصبة شملت مصر كلها، إلى حياة فنية محدودة الوسائل، ثم إلى حياة فنية نشطة أخرى خصبة جديدة.
غير أن ذلك كله لا يعني بطبيعة الحال أن عصر الانتقال كان عصرًا عقيمًا كله أو عصرًا خامدًا كله كما اعتاد بعض الباحثين الحديثين على تصويره في تسميتهم له بعصر "الاضمحلال الأول". فالعصر وإن غابت عنه وحدة الحكم في البلاد وقلت إمكانياته المادية واتصالاته الخارجية وضعف شأن ملوكه، إلا أنه كان في حقيقة أمره أشبه بفترة من التراخي المؤقت اضطرت مصر إليها اضطرارًا بعد أن قطعت ممن عمرها السياسي دورة تاريخية طويلة استمرت نحو تسعة قرون متصلة، وبعد أن شاخ جهازها السياسي والحربي ولم تخل فترة التراخي هذه من انتفاضات سياسية كما رأينا، صدرت عن أهناسيا حينًا وعن طيبة حينًا آخر، ولم تخل كذلك من انتفاضات فكرية تطلع أصحابها إلى نظام من الحكم يفضل كل ما تقدمه من نظم، وتطلعوا إلى حقوق للفرد تفضل كل ما حصل الأفراد عليه قبل ذلك من حقوق، كما تطلعوا على مصير كريم للفرد في الآخرة يفضل كل ما كان الأفراد يتطلعون إليه من قبل عن مصائرهم بعد الموت. وكان لحرية الكلمة بينهم في إثراء الأدب القديم بخواطر وأبواب جديدة آتت ثمارها بعدهم خلال الدولة الوسطى، ولم يكن ذلك كله بالشيء القليل.
معالم الفن الإقليمي:
ذكرنا أن إمكانيات ومجالات العمارة والنحت والتصوير والنقش اختلفت في عهود اللامركزية عما كانت عليه في الدولة القديمة، بعد أن تفرقت موارد البلاد وإمكانيات الحكام، فضعفت وحدة الفن القديمة وأصبح الفن يخدم الأقاليم أكثر مما يخدم العاصمة، وظل رجاله تنقصهم المهارة وروح الإبداع فترات طويلة، واستمر أغلب إنتاجهم يتصف بالطابع الإقليمي تارة والطابع الريفي تارة أخرى، وتعتبر توابيت عصر الانتقال أول من خير ما يستشهد به من آثاره سواء من حيث النواحي الفنية التي تمثلت فيها وعبرت بها عن روح عصرها، أم من حيث النصوص التي تضمنتها وعبرت بها عن عقائد أصحابها. وكان فنانو العواصم وصناعها المهرة قد فضلوا صناعة توابيت كبار الأفراد من الخشب الفاخر منذ عصر الأسرة السادسة. وأصبحوا ينقشون عليها دعوات بأسماء أصحابها وألقابهم، ويصورون عينين كبيرتين على الجانب الأيمن الخارجي للتابوت في مقابل رأس المتوفى أملًا في أن يتطلع منهما على العالم الخارجي أو إلى مقدمي القرابين وإلى نور الشمس الذي كان يرجو ألا يحرم منه حتى بعد موته. وصوروا عليها بعض القرابين وبعض المتاع الذي كان المتوفى يتمناه لنفسه في أخراه. وزادت هذه الخصائص في توابيت عصر الانتقال الأول، وكانت صناعتها من الخشب تجعلها أصلح للرسم والنقش الغائر البسيط، وتجعلها أقرب إلى أن تتناسب مع إمكانيات أهل الطبقة الوسطى. وكان من الطبيعي أن تختلف أذواقها وبراعة نقوشها ووضوح نصوصها من إقليم إلى إقليم، وكان أفضلها ما تم خلال العصر الأهناسي، لا سيما منذ تطلع حكامه إلى العاصمة القديمة منف واتجه فنانوهم إليها وحاولوا أن يستوحوا فنها القديم ويقلدوه في حدود إمكانياتهم ومعتقداتهم
وظلت مسطحات الرسم والنقش الأخرى في عصر الانتقال مسطحات محدودة سواء على جدران المقابر الصغيرة أم على سطوح النصب واللوحات الصغيرة التي أقام أصحابها بعضها في مقابرهم وتركوا بعضها الآخر في أبيدوس حول ضريح معبودهم رب الآخرة "أوزير" تبركًا به وأملًا في أن يبعثوا من حوله ويطعموا من خيره. واتصفت صورهم المنقوشة على هذه اللوحات والنصب بنوع من خشونة التنفيذ، ولكنها تميزت بتحررها بعض الشيء من أوضاع التصوير التقليدية القديمة، وبتعبيرها عن الحياة العادية والأسرية في عصرها، بحيث لم يكن على الفنان من بأس في أن يصور المتوفى صاحب النصب واقفًا يمسك قوسه، أو يصوره جالسًا يضع ولده على حجره وقلما ظهر ذلك على اللوحات الدينية من قبل.
واقتصر جهل المثالين في العصر نفسه على نحت أغلب التماثيل من الخشب لرخصة وسهولة نحته. وبقي حتى الآن عدد من تماثيل أثرياء الأقاليم، وهي تماثيل صغيرة في مجملها تتصف بالخشونة في صناعتها وتميل إلى الاستطالة والنحافة، شأنها في ذلك شأن أسلوب النقش والتصوير في عصرها، ولكن ميزها أن فنانيها حاولوا أن يترسموا فيها مذهبًا واقعيًّا فأظهروا الملامح الشخصية لوجوه أصحابها في غير تجميل مقصود، واستطاعوا بذلك أن يعوضوا خشونتها بنوع من صدق التعبير في إظهار الملامح الريفية الطيبة على حالها الذي تحتفظ به حتى الآن.
وظهرت إلى جانب تماثيل الخاصة مجموعات خشبية لتماثيل الأتباع والخدم، ظهرت فيها خشونة الصناعة بشكل واضح، ولم يميزها هي الأخرى غير شيء واحد، وهو أن صناعها صنعوا منها مجموعات مترابطة، وعبروا بأوضاعها عن الأعمال الجماعية التي قوم بها أصحابها في مصانع النجارة والنسيج وفي الصوامع والمخابز والمطابخ، فأسبغوا عليها بذلك شيئًا غير قليل من الحيوية وطرافة التعبير، وجعلوها مصدرًا رئيسيًّا من مصادر الحياة العادية في البيوت وفي مجالات العمل في الأوساط الشعبية بخاصة.