الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويبدو أن انقطاع الاستغلال الواسع لمناطق المناجم والمحاجر، وانقطاع الاتصال ببلاد بوينة خلال عصر الانتقال الأول، جعل استعادة النشاط في هذه النواحي ضربًا من المخاطرة والبسالة وجعل أصحاب هذا النشاط يتلمسون طريقهم من جديد كما فعل كل من الوزير أمنمحات وزميله حنو. وصورت مخاطرات هذا العصر قصة جمع فيها مؤلفها بين الواقع وبين الخيال، وعرفت في الكتب العربية باسم قصة الملاح الغريق، وإن كان عكس هذه التسمية أي "نجاة الملاح" أولى بها. وروت القصة أن أحد رجالات البلاد كان في سبيل عودته على متن النيل من مهمة كلفه فرعونه بها فيما وراء أرض واوات بأقاصي النوبة، ولكن لم يقدر له النجاح فيها، ولما اقتربت سفينته من العاصمة أتاه أحد خاصته من الملاحين يهنئه بسلامة العودة دون نقص في ملاحيه، ويصف له فرح رجاله ومعانقة بعضهم لبعض. ولكن الرجل كان في واد آخر، وظل مهمومًا يتخوف عاقبة فشله، فانبرى الملاح يسري عنه ويهون عليه ويبعث الأمل في نفسه، وقص عليه قصة تداولت عليه فيها شدائد ظن أن لا نجاة له منها، ولكنه نجا وسلم وعاد إلى وطنه واستمتع باجتماع شمله بأهل بيته، مما سنعود إلى تفصيله في حديث الأدب.
وفي البعثات المسلحة سجل أحد قادة مونتوحوتب "نب حبة رع" على صخور أبيسكو قرب الشلال الأول أنه صاحب مولاه في حملة جنوبية، وأضاف حديثًا يفهم منه أن استقرار أمور فرعونه في مصر سمح له بأن يلتفت إلى ما وراء حدودها، وأن نشاطه العسكري هيأ له أن يبعث هيبته في نفوس أهل "جاتي"، أي أهل جنوب الشام1. وأضاف رئيس المال خيتي أنه خرج بسفن على واوات في النوبة، وأنه عاد من إحدى بعثاته الخارجية بمعادن وأحجار كريمة2. ثم ذكر ملك من الأسرة نفسها في نص له أنه قاوم الآسيويين في بواديهم. وزاد حنو أمرًا آخر في عهد مونتوحوتب "سعنخ كارع"، فذكر لنفسه دورًا في معاملة الحاونبو، أي أهل جزر البحر المتوسط لا سيما الكريتيين، وقد تكون هذه المعاملة ودية أو عدائية، وإن كان الاحتمال الأول هو الأرجح.
1 Weigall، Antiquities Of Lower Nubia، Pi. Xix ; Roeder، Debod
…
، 282 ; Save-Soderbergh، Aegypten Und Nubien، 1041، 58.
2 Breasted، Op. Cit.، ; I، 426 ; Gardiner، Jea، Iv، 28 F.
صور من المجتمع:
تميز من رجالات النصف الأخير من عصر الأسرة الحادية عشرة الذين عرفنا تاريخهم ثالث رجال: فنان مجتهد يدعى إرتيسن، وكاهن مزارع من أواسط الناس يدعى حقانخت، وموظف كبير يدعى مكت رع. وصورت مخلفات الرجال الثلاثة ثلاثة جوانب من جوانب الحياة الاجتماعية في العصر الذي عاشوا فيه.
كان إرتيسن أقدم الثلاثة وقد عاصر نب حبة رع، وترك نقوشًا يفهم منها أنه قسم معرفته ثلاثة أقسام: معرفة باللغة، ومعرفة بمراسيم الدين وطرق السحر وتنظيم المواكب الدينية، ثم معرفة فنية وآلية، وكان مما اعتز به أنه ابتدع موادَّ للتغشية لا تحرقها النار ولا يزيلها الماء، وأنه كان يتقن تصوير الجسم البشري
في كل أوضاعه، لا سيما حركات التقدم والتأخر، وحركة الشخص الجاري، وكيفية رفع الذراع عند صيد فرس النهر. وكان ينحت تماثيله من كل المواد الثمينة ابتداء من الفضة والذهب على حد قوله وانتهاء بالعاج والأبنوس، واعتز بأن ما وصل إليه لم يبلغه أحد سواه هو وولده سنوسرت1.
وكان مخالفات حقاخنت، عبارة عن بضع رسائل كتبها إلى ولده الأكبر مرسو2، يمكن أن تستنتج منها مجريات الأمور في الأسر المصرية الوسطى في عهده، ثم مدى السلطة التي افترضها الآباء لأنفسهم على أولادهم وإن بلغوا سن العمل، ومدى الفوارق الطبيعية في معاملة الوالد لأبنائه وفق أعمارهم.
كان حقانخت مشرفًا على شئون مقبرة أحد الوزراء وأوقافها الموزعة في الصعيد والدلتا، كما كانت له أملاكه الخاصة. وقد ترك أولاده الخمسة في طيبة وارتحل عنهم إلى نواحي منف ليباشر أعماله فيها لفترة أوفت على العام. وعهد إلى ولده الأكبر مرسو بأرضه ومخازن غلاله ومدخرات داره، كما عهد إلى ولد آخر يصغره بخمسة وثلاثين رأسًا من الماشية شارك جاره فيها. وكتب حقانخت إلى ولده الأكبر بضع رسائل من منف تتبدى شدته فيها عليه وتحميله مسئولية الأسرة كاملة. فكتب إليه في بعض أموره يقول:"إذا طغى الفيضان على أرض فالويل لرجالي ولك، ولن ألق المسئولية إلا عليك". ويقول: "عليك أن تبذل الجهد في أرضي واجتهد بأقصى ما تستطيع، اعزق الأرض، وتدخل في كل عمل". وكان لا يفتأ يردد عليه قوله: أنت سعيد لأني أعولك، ولماذا أعولك؟. وإذا اجتهدت دعا الناس لك، وإذا لزمت الهدوء فإنه نعم العمل. ولكنه تخلى تمامًا عن هذه الشدة بالنسبة لولده الأصغر سنفرو، فكتب عنه إلى أخيه يقول:"إذا لم يكن لسنفرو ما يكفيه معك في البيت فلا تتوان عن إخباري، فقد بلغني أنه غير راضٍ. اعتن به كثيرًا وأعطه مئونته، وبلغه سلامي ألف سلام، بل مليون مرة. اعتن به وأرسله إليَّ بعد أن تحرث الأرض مباشرة"، ثم كتب عنه ثانية قائلًا:"إذا كان سنفرو يريد أن يعتني بالماشية فدعه يفعل؛ إذ يبدو أنه لا يحب أن يجري معك هنا وهناك في حرث الأرض، كما أنه لا يريد أن يأتي إلى هنا، وعليك أن تمتعه بكل ما يحب".
وكان للرجل ولد صغيرة شقي يدعى ساحتحور اشترك في مشاكسة جارية أبيه مع خادمة تدعى سنن، فلم يزد حقانخت على أن صب جام غضبه على الابن الأكبر والخادمة معًا، وتغاضى عن شقاوة الولد الصغير، وقال لمرسو:"اطرد الخادمة سنن من داري على التو، ولكن احرص على أن يتردد ساحتحور عليك يوميًّا، وإذا بقيت سنن في الدر يومًا واحدًا وأساءت إلى جاريتي فأنت الملوم. وإلا فما الذي تستطيع أن تفعله جاريتي إزاءكم وأنتم خمسة أولاد؟ سلم لي على أمي إيبي ألف سلام، بل مليون مرة". وعاود الحديث عن الجارية في خطاب آخر فقال: "لاحظ أنها جاريتي، وأنه ينبغي إحسان معاملة جارية الإنسان
…
، وإلا فكيف أعيش معكم في دار واحدة، إن لم تحترموا جارية من أجل خاطري؟ ".
1 Louvre، C 14 ; Marcelle Baud، "Le Metier D'iritiser""، Chr. D'egypte، 1938، 21 F. ; H.E. Winlock، The Rise And Fall Of The Middle Kingdom، 32.
2 Op. Cit. ; Bull. Metr، Mus.، 1921، 12 F. ; Jame، The Hekanakhte Papers
…
1961.
وعثر في مقبرة مكت رع بمنطقة الدير البحري في طيبة1 على نماذج كثيرة لأدوات زينته وأناقته، ونماذج أخرى طريفة لداره أو دواره وما كان يلحق بها من مكاتب ومصانع وحظائر ومخازن، فضلًا عمن كانوا يعملون فيها من موظفين وأتباع وصناع. وتبقى من نموذج لمسكنه الخاص جانب أمامي من طابق أول لا يختلف كثيرًا عن الطوابق الأولى في الفيلات الحديثة، يتألف من فناء متسع يتوسطه حوض ماء مستطيل كبير، تشرف الأشجار على جانبيه، وتلا الفناء صفة مرتفعة أو فراندة متسعة يعتمد سقفها على ثمانية أساطين خشبية دقيقة ملونة، شكلت سيقانها وتيجانها على هيئة اللوتس والبردي.
وتخلف من ملحقات الدار أو الدوار نموذج لمصنع غزل ونسيج تعمل فيه طائفة من النساء، وكان صاحبه يؤدي ضرائبه العينية إلى الدولة، وربما اشتغل لحسابها أيضًا، ونموذج مصنع للنجارة يعمل فيه صناعة ويستخدمون أدوات يدوية لا تزال تستعمل حتى الآن، وأخصها المناشير والأزاميل والدقاميق. ونموذج كرار لتخمير الجعة وتصفيتها، وآخر لمعجن ومخبز يعمل فيه رجال ونساء، وغيره لحظيرة متسعة جاورتها ظلة مرتفعة فسيحة جلس فيها رب الدار ومن حوله حراسه حاملو الحراب، وكتبته الذين جلس كل منهم أما منضدة حجرية صغيرة وضع فوقها أدوات كتابته. وهكذا احتفظت نماذج مكت رع بصورة لثراء المترفين في عصره، عصر الأسرة الحادية عشرة، ونمت عن أنه كان من أصحاب الأملاك من حققت لهم أملاكهم الواسعة حظًّا من الكفاية الذاتية في إنتاج مطالبهم ومطالب أسرهم وأتباعهم المحيطين بهم.
ولم تتضمن مقبرة مكت رع صورة من حياة النعيم وحدها، وإنما تضمنت في الوقت نفسه مئات من أسلحة الحرب ونماذجها، لا سيما الحراب والأقواس وجعاب السهام، وذلك مما يعني أحد فروض ثلاثة، وهي: أن الرجل كان من هواة جمع الأسلحة وكان يحتفظ بها في قاعة بداره، أو أن تقاليد عصره كانت تفرض على الأثرياء أن يحتفظوا بأسلحة كثيرة ليزودوا بها رجال أقاليمهم حين تطلب الدولة منهم تسليحهم. أو أن أيام مكت رع بالذات كانت أيامًا مضطربة وكان عليه أن يترقب مفاجآتها بأسلحته. وكل فرض من هذه الفروض الثلاثة محتمل.
لم تقتصر مخلفات عصر الأسرة الحادية عشرة على نماذج المساكن الثرية وحدها، وإنما احتفظت معها بنماذج صغيرة من الطين قلدت التخطيط العام لبيوت أهل الطبقات الفقيرة والطبقات الوسطى، وظهرت هذه النماذج منذ نهاية الدولة القديمة، واستمرت خلال عصر الانتقال الأول، ثم اكتملت عناصرها لي بداية الدولة الوسطى، واقترح فلندرز بترى تسميتها باسم بيوت "الكا"، إيماء إلى تخصيصها لنفع النفس "أو الروح" في أخراها2.
وظلت نماذج البيوت الفقيرة منها لا تعدو فناء مسورًا بسور طيني خفيض، يقوم في مؤخرته من الداخل كوخ "خص" مقبى السقف مبني بجواليص الطين، أو تحل محله صفة "تسقيفة" متواضعة مسطحة أو
1 H.E. Winlock، Excavations At Deir El-Bahari، 1942، 58 F.
2 Petrie. Gizah And Rifeh، I، Xiv F. ; Egyptian Architechure، Pl. Xxiv. Etc.