الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أنها استثارت نوعًا من الوعي القومي لدى المفكرين الذين عز عليهم عجزهم عن دفع البلاء عن وطنهم قبل وقوعه، وعز عليهم أنهم لم ينشطوا للتصرف عند ظهور بوادر الخطر ولم يتلافوها، وصعب عليهم أن تنتهك حرمات البلاد وتبتذل مقدساتها الدينية والتقليدية تحت أبصارهم وأسماعهم، سواء بأيدي المهاجرين أم بأيدي المواطنين الموتورين. وعبر إيبوور عن هذا الوعي في صحوة ضميره فقال:"وما أشق ذلك على نفسي، بل وعلى كلي، وليتني رفعت صوتي في ذلك الحين، وإذن لأنقذني ذلك من عذاب لا زلت أعانيه". وحين قابل إيبوور ملكه صور له جهله وحيرة شعبه قائلًا له: "كان من الممكن أن يرتاح قلب الملك لو بلغته الحقيقة، فهذه كل بدل أجنبية "تجرأت علينا"، وهذا ماؤنا "أمامنا"، وهذه سعادتنا "في أرضنا"، ولكن ما الذي نستطيع أن نفعله من أجلها والكل آيل إلى الدمار؟ "، بل وقال له: "
…
إن ما يروي لك هو الباطل، فالبلاد تشتعل والناس قد أهلكوا
…
" ثم تجرأ الرجل عن الملك وحاسبه قائلًا: "لديك الوحي والبصيرة و"أسباب" العدالة، ولكنك بعثت الفوضى في البلاد مع أهل الفتن". وقص عليه بلاء الناس ثانية، ثم عنف عليه قائلًا له: "وليتك تذوقت بعض هذه المصائب وإذن لرويت "خبرها بنفسك".
ونتيجة أخرى ترتبت على الثورة، وهي أنها دفعت المفكرين إلى تخيل صورة واضحة للحاكم الصالح الذي يتمناه وطنهم بعد أن جرب الحكم المطلق طوال العصور السابقة، وجرب بعدها سيطرة العوام. وعبر إيبوور عن هذه الصرة المرجوة وهو يخاطب أهل الحاشية، فوصف لهم الحاكم المنتظر بأنه: من يعمل للبناء، ولا يفرق بين جريء وهياب، وصوره "رجلًا يستطيع أن يحيل اللهب بردًا وسلامًا، ويمكن أن يعتبره قومه راعيًا للناس أجمعين، ليس في قلبه ضغينة، وإذا تفرقت رعيته قضى يومه يجمعها"1.
أما النتيجة الثالثة التي ترتبت على الثورة بعد أن هدأت وقر قرارها، فهي نشأة طبقات جديدة لم تعد تعتز بالحسب والنسب بقدر ما تمجد العصامية، ويعتز الفرد منها في نصوصه بأنه مواطن قادر يتكلم بفمه "أي يتكلم بوحي نفسه وليس بايعاز من غيره"، ويفخر بأنه يعمل بساعده ويحرث بمواشيه ويتنقل بقاربه "أي يعتمد في عمله وحله وترحاله على ما تمتلكه يداه وليس على ما يمتلكه سواه"2.
1 راجع عن أرقام سطور العبارات المقتبسة من بردية إييوور ومراجعها مؤلفنا عن: حضارة مصر القديمة وآثارها – ج1 ص394 - 399.
2 Cf، J. Clere، J. Vandier، Textes De La Premier Periode Intermediaire،
…
1948.
الغموض:
طال تطلع المصريين في أواخر الدولة القديمة إلى ملك صالح يرعى البلاد جميعها ويسوس الحكام والمحكومين ويلزمهم جادة الصواب. وتوالى على عرش الأسرة السادسة في خواتيم أيامها فراعنة ضعاف، ظهر من أسمائهم في بردية اسم لشخصية تدعى "نيت إقرتي"، اختلف المؤرخون في شأنها اختلافًا كبيرًا، فاعتبرها بعضهم أم ببي الثاني أو زوجته أو أخته، واعتبرها بعضهم رجلًا أتى بعده، واعتبرها
بعضهم امرأة انتهت إليها وراثة العرش في آخر أيام الأسرة السادسة1. ويعتقد أصحاب هذا الرأي الأخير أن هذه السيدة هي التي اشتهرت لدى المؤرخين المتأخرين باسم نيو كريس، وأنها استطاعت أن تنفرد بالحكم عامين، غير أن أيامها انتهت أثر يذكر لها إلا انهيار العرش الفرعوني بعدها. ثم دخلت ذمة الأساطير. ويبدو أنها تلقبت بلقب منكارع، فخلط المؤرخون المتأخرون بينها وبين منكاروع ونسبوا إليها إكمال هرمه. وعرفت أميرة أخرى بنفس اسم نيت إقرت في الأسرة السادسة والعشرين، وكانت ابنة بسماتيك الأول. ويحتمل أن سمعتها اختلطت في أذهان الناس والمؤرخين الأواخر بسمعة نيت إقرتي القديمة. وروى مانيتون أنها كانت أنبل وأجمل أهل زمانها. وروى هيرودوت أنه سمع من المصريين عنها أنها كانت ذات جمال طاغ، وأنها وليت العرش بعد مقتل زوجها، فاتجهت بكليتها إلى محاولة التعرف على قاتليه والفتك بهم، وكادت لهم طويلًا ولجأت في خطتها الأخيرة إلى أن أعدت بهوًا فخمًا ضخمًا في باطن قصرها، وأمرت بحفر سراديب خفية حوله تصله بنهر النيل، واستبقت أمر هذه السراديب سرًّا لا يعلمه إلا خاصة المقربين إليها، ثم دعت من حامت الشبهات حولهم في مقتل زوجها إلى افتتاح البهو الجديد، فلما اكتملت أعدادهم فيه وانصرفوا إلى اللهو والشراب، أمرت بفتح السراديب عليهم وأغرقتهم أجمعين. وحين ثابت الملكة إلى رشدها وهدأت الحمية فيها، تخوفت نقمة شعبها وثورته على فعلتها، فرمت نفسها في أتون متأجج من النار وقضت على نفسها بنفسها.
قد تكون قصة "نيت إقرتي" هذه، أو نيتوكريس، أسطورة مختلفة في معظمها، ولكنها على الرغم من ذلك لا تخلو من مغزى، فترديد الرواة المصريين لها أمام الإغريق ينم في أغلب الظن عن اعتزازهم بعصر قديم كان الملوك يخشون فيه انتقام رعاياهم ويفضلون أن يلاقوا حتفهم بأيديهم عن ملاقاة ثورتهم وبطشهم.
لم يكتنف الغموض أواخر الأسرة السادسة وحدها، وإنما اكتنف عصرًا طويلًا تلاها استمر نحو قرن ونصف قرن وامتد من أعقاب الأسرة السادسة حتى نهاية الأسرة العاشرة وهو ما يعرف اصطلاحًا باسم عصر الانتقال الأول أو عصر اللامركزية الأولى، وبدا فيما يظن في أواخر القرن الثالث والعشرين ق. م2. وظل النزاع على العرش بين أدعياء الحكم والطامعين فيه مستمرًا في أوائله وذلك بحيث روى مانيتون أنه تولى الحكم في عصر الأسرة السابعة سبعون ملكًا لمدة سبعين يومًا. ومع وضوح الغرابة في هذه الرواية، حاول بعض الباحثين المحدثين أن يستشفوا شيئًا منها" فافترضوا أن السبعين ملكًا كانوا مجموعة من كبار الموظفين كونوا من أنفسهم حكومة بيروقراطية ترأسها كل منهم يومًا واحدًا، أو جماعة من الأشراف وكبار حكام الأقاليم كونوا فيما بينهم حكومة أرستقراطية وأرادوا إقامة حكم مشترك يتعاقبون في رئاسته على التناوب ولكنهم فشلوا. ولكن ليس ما يمنع من أن نفترض من ناحيتنا أن السبعين يومًا
1 Turin Pap Iv، 7 "Or Iv، 8" ; Herodotus، Ii، 100 ; P.E. Newberry، Jea، 1942، 51 F; Gaidner، Egypt Of The Pharaohs، 102.
2 For Further Discussions، Jnes، 1952، 113 F.
كانت فترة اضطراب شامل خلا العرش فيها من صاحبه فانتحل كل حاكم من حكام الأقاليم الكبار السلطان المطلق لنفسه، مع اعتبار عدد السبعين ملكًا مجرد مبالغة عديدة لتصوير كثرتهم وحيرة الناس بينهم.
وبدأت أيام الأسرة الثامنة واستمرت على نفس الضعف الذي انتهت إليه أيام الأسرة السادسة وقامت عليه الأسرة السابعة، ولا يكاد يعرف من آثارها المكتوبة غير عدة نصب عثر عليها في منطقة قفط لأسرة حاكمة سيطرت فيها على سبعة أقاليم من جنوب الصعيد لمدى أربعين عامًا فيما يعتقد الأستاذ كورت وزيته1. ثم ما لبثت أن تسربت زعامة الصعيد منها إلى أيدي حكام إقليم طيبة في نفس الوقت تقريبًا الذي انتقلت فيه زعامة مصر الوسطى من أيدي من بقي من ملوك منف الضعاف إلى أيدي حكام أهناسيا غربي بني سويف الحالية.
وهكذا استمر تطلع أهل العواصم المصرية إلى حاكم أعلى يجمع شمل البلاد ويحقق الأمل الذي نادى بمثله إيبوور، عهودًا طويلة، وإن ظهر عدد من حكام الأقاليم حاول كل منهم أن يقوم بدور الحاكم الصالح في إقليمه، في إقليمه، واعتبر نفسه شبه ملك في حدود منطقته، وأرخ بعضهم نصوصه باسمه وبفترة ولايته. وافتخر أغلبهم في نصوصهم بمحاولة حل ثلاث مشكلات كانت تقلق بال الناس في عهودهم، وهي: مشكلة اضطراب الأمن، ومشكلة تطهير الترع القديمة وحفر ترع جديدة وإصلاح الأراضي البور التي هجرها أصحابها، ثم مشكلة المجاعات التي تسببت فيها المشكلتان الأوليتان. وافتخر أغلبهم في نقوش مقابرهم بأنه اعتبر نفسه زوجًا للأرمل وأبًا لليتيم، وأنه آوى من لا عائل له ودفن من لا أهل له. وقد لا تخلو هذه العبارات من مبالغات، ولكنها لا تخلو في الوقت ذاته من دلالة على محاولة الحكام اكتساب السمعة الطيبة لأنفسهم واكتساب محبة الرعية لحكمهم عن طريق الظهور بمظهر الآخذين بتعاليم الدين والعاملين بدعوات المصلحين.
وحين استأثر أولئك الحكام الكبار بالسلطة الواسعة في أقاليمهم، من النواحي الإدارية والقضائية والدينية، جعل بعضهم وراثة الحكم في أعقابهم قضية مسلمًا بها، وترتب على ذلك ما يترتب على نظام الحكم الوراثي عادة من احتمال ولاية وريث الحاكم منصبه في سن الطفولة، فكان من رواية تفيبي حاكم أسيوط عن إيكاله الحكم إلى ولده قوله: "
…
خلفني ولدي، وخضع له الموظفون، وحكم منذ أن كان طفلًا في طول الذراع ورحبت به المدينة التي تحفظ الجميل
…
"2. وكون كل حاكم من أولئك الحكام جيشًا محليًّا وأسطولًا محليًّا بما يناسب إمكانيات إقليمه، وصورت مناظر مقابرهم كثيرًا من مناظر الحرب والاستعداد لها3، وعثر على مجموعتين من تماثيل صغيرة أو نماذج خشبية تمثل بعض الجيش الإقليمي لحاكم من أسيوط يدعى مسحتى. وتألفتا من مجموعة تسلح أفرادها بالحراب والتروس الكبيرة، ومجموعة أخرى تسلح أفرادها بالأقواس والسهام. وكان أفراد هذه الحاميات يلقون معاملة طيبة من حكامهم، ويدربون تدريبًا مناسبًا، ويضمون أحيانًا مرتزقة من النوبيين لحراسة الحواف الصحراوية غير أن وجودهم تحت إمرة حكام الإقليم مباشرة كان يشجع هؤلاء الحكام على التنافس المسلح فيما بينهم ويدفع أقوياءهم إلى محاولة السيطرة على أصحاب الإمكانيات المحدودة من جيرانهم.
1 K. Sethe. In Gottingen Gelehrte Anzeigen، 1912. 705 F.
2 Siut، Iii ;A. R.، I، 395، See Alseo 413.
3 Ibid.، I، 410-11 ; Winlock، Bull. Metr. Mus.، 1928، Ii، 11 F.