الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الثاني: العراق، بلاد النهرين
تمهيد
…
الكتاب الثاني: العراق، بلد النهرين.
تمهيد:
حضارة بلاد النهرين القديمة هي أقرب ما يقرن بحضارة النيل، من حيث القدم والثراء والطابع المتميز واستمرار التطور في مجالات الفكر والمادة. وكان فيما أتت بقصص التوراة عن أهلها من الآشوريين والبابليين وعلاقاتهم بفلسطين والعبرانيين، ثم ما سجله الرحالة والمؤرخون الكلاسيكيون عن أمجاد هؤلاء وهؤلاء، ما أثار تطلع عدد من الرحالة والباحثين بل والمغامرين الأوروبيين في العصر الحديث، إلى محاولة كشف النقاب عن آثار بلاد العراق وتاريخها. وبدأ اهتمامهم بكتسي بطابع الجدية منذ أواخر القرن الثامن عشر، حين استرعت النصوص المسمارية الغريبة أنظار الرحالة واللغويين، وعمل عدد منهم على تصويرها وعمل تخطيطات لها، الأمر الذي مهد لمحاولات أولية لقراءتها ومعرفة رموز كتابتها، منذ أوائل القرن التاسع عشر. وقد أثمر الاتجاهات معًا منذ نجح رولنسن H.C.Rawlinson في نقل نصوص بهستون نقلًا سليمًا وحاول قراءتها، وهي نصوص سجلت انتصارات الملك دارا الأول بكل من اللغات: الفارسية القديمة والإلامية أو العيلامية العتيقة، والبابلية السامية، مما يسر عقد المقارنات بين ألفاظ هذه اللغات والاستعانة بالواحدة منها في فهم مترادفاتها الأخرى، مع مقارنة الفارسية منها بنصوص أخرى في إصطخر "برسوبوليس" عاصمة الفرس القديمة. وبلغت هذه المحاولة ومحاولات أخرى تشبها بواكير النجاح منذ أواسط القرن التاسع عشر، وأدى هذا النجاح بدوره، مع نشاط الرحالة الأوروبيين في وصف الآثار القائمة وتصويرها إلى تشجيع المتاحف العالمية والجمعيات الثرية على تبني عمليات الكشف عن الآثار في العراق، وفتح الأبواب لتقبل ما يحصل الأفراد عليه من الآثار في نظير مكافآت سخية. وقد تركز الاهتمام في بداية أمره على شمال العراق على أمل البحث عن آثار مدن نينوى وأشور ونمرود ذوات الشهرة التاريخية الواسعة. وبدأ هذا العمل كالعاعدة نفر يوصفون بالمغامرين أكثر مما يوصفون بالباحثين، ومنهم Paul Emile Botta الذي تنقل بنشاطه السريع من تلال نينوى إلى تلال خورساباد. ثم A. H. Layard الذي تنقل بدوره بين نمرود وبين نينوى، وكان لما كشفه هذا وذاك، من قصور الملوك الآشوريين العظام ومقتنايتها دوي عالمي كبير وتشجيع لغيرهما على سلوك نفس السبيل. وقد عمل رعيلهم الأول هذا في أرض بكر وبوسائل بسيطة وبخبرات متواضعة، وكانوا يهدفون أساسًا إلى استخراج أكبر عدد من الآثار الفنية والثمينة في أقصر وقت مستطاع وبأقل كلفة ممكنة، حتى يشبعوا رغبتهم في الشهرة والمال، ويشبعوا نهم المتاحف الأوروبية وأصحاب المجموعات الخاصة. وكانوا بوسائلهم هذه أكثر جناية على أثار العراق من زملائهم الأجانب المغامرين الذين عملوا في مصر، فقد كفل للآثار المصرية نصيبها من المنعة تشييد مبانيها الرئيسية بالحجر، وتماسك موادها الأخرى نتيجة لصيانتها في رمال الصحراء وفي مناخ جاف، وذلك على العكس من آثار العراق التي شيدت غالبية مبانيها من اللبن والآجر، وقلت مناعة موادها الأخرى نتيجة لرطوبة أرضها، مما كان يتطلب من الباحثين عنها دراية كافية بوسائل التنقيب عن الآثار ووقايتها وحفظها، وهو ما لم يتوافر
لأوائلهم، الأمر الذ أفضى إلى تصدع وتفتت كثير من الآثار الصغيرة التي اكتشفوها بمجرد تعرضها للهواء والحرارة الخارجية1.
وشهد الربع الأخير من القرن التاسع عشر بداية اهتمام الدراسات الأثرية بالنصف الجنوبي من بلاد النهرين، وكان ذلك إيذانًا بالكشف عن حضارات السومريين والأكديين، في مدن كيش وأور والوركاء ونفر ولجش ونيبور. ثم اتسعت البحوث الأثرية في جنوب العراق وشماله معًا في القرن العشرين واتسم بعضها بالطابع العلمي الدقيق في الكشف عن الآثار وقراءة النصوص وتحليلها، وصحبتها اهتمام مماثل بآثار فجر التاريخ في العراق الجنوبي، في مثل العبيد وجمدة نصر، وفي العراق الشمالي في مثل تل حلف وجسونة
…
الأمر الذي جعل كل فترة من فترات الحضارات العراقية الطويلة الممتدة من الدهر الحجري القديم الأسفل حتى نهاية العصر الكلداني الأخير، جديرة بدراسة مستقلة مستفيضة.
وإذا كان ثمة ما يضاف إلى هذا التمهيد، فهي ملاحظة عابرة تعترض كل من يكتب باللغة العربية عن حضارة العراق القديم وما سواه من أقطار الشرق القديم، وتتمثل في التقيد أحيانًا بكلمات ومسميات ذات جرس أجنبي، واستخدامها بلفظها أو بمعناها، اعتمادًا على شيوعها ونظرًا لسبق الباحثين الأجانب في دراسة حضارة هذا الشرق وكثرة مؤلفاتهم عنه. وذلك مثل لفظ ميزوبوتاميا Mesopotamia الإغريقي الأصل الذي تترجمه كثير من الكتب العربية بمعنى "بلاد ما بين النهرين"، وهي ترجمة أمينة، لولا أنه ينبغي أن يقدر إلى جانبها أن مواطن الحضارة العراقية القديمة لم تقتصر على ما بين النهرين، وإنما امتدت إلى ما حول النهرين أيضًا. بل إن طائفة من أقدم المواطن الأثرية مثل العبيد وإريدو وأور، قامت غرب الفرات وليس فيما بينه وبين دجلة، كما قامت إشنونا وتل أسمر ونوزي شرق دجلة وليس فيما بينه وبين الفرات.
وفطن الإغريق أنفسهم إلى قصور لفظ ميزوبوتاميا، فأضاف بعضهم إليه لفظ بارابوتاميا Parapotamia أي ما وراء النهرين أو ما حولهما. وهكذا يحسن فيما نرى أن نقول "بلاد النهرين" وهي التسمية التي استخدمناها في هذا الكتاب، وليس تسمية "بلاد ما بين النهرين" الشائعة. وقد استخدمت كتب عربية أخرى تعبير "بلاد الرافدين""وحضارة الرافدين"، وهو تعبير لطيف، لولا أن روافد النهر تختلف عن النهر ذاته فيما هو معروف.
وما يجري على هذا اللفظ يجري على ألفاظ أخرى سامية قديمة نكتبها مضطرين عادة بمنطوقها الذي حرفه كتبة التوراة وحرفه المؤرخون الكلاسيكيون، مثل سرجون وسينا حريب وإسرهدون ونبوخذ نصر
…
، والعلة في هذا هي نفس العلة في الملاحظة السابقة، أي سبق الأجانب عنا في دراسة تاريخ العراق القديم، واستخدامهم لهذه الألفاظ في مؤلفاتهم الكثيرة، مما أكسبها شهرة وشيوعًا، وجعل التخلي عنها أمرًا غير مألوف، وإن أمكن التخفف منها عن طريق استخدام الأصول القديمة الصحيحة معها جنبًا إلى جنب.
1 G.E. Daaiel، A Hundred Years Of Archgeologly، 1949.