الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وكان في تعارض دعوة النبيين وتمسحهما في أوامر الرب ما دعا كلًّا منهما إلى إنكار نبوة الآخر1. وعاودت جيوش نبوخذ نصر مهاجمة أورشليم في عام 588 أو 587ق. م. وشددت الحصار عليها، ولكنها اضطرت إلى رفع هذا الحصار، بعد أن تحركت الجيوش المصرية لمساعدتها "في عهد واح إب رع"2، ثم عاودت حصارها مرة أخرى وضيقت عليها تضييقًا شديدًا نحو عام ونصف العام حتى دخلتها في عام 586 أو 585ق. م. ودمرتها، وأحرقت هيكل سليمان ونقلت خزائنه، ونفت أربعين ألفًا أو خمسين ألفًا من أهلها إلى بابل لينوحوا عند مياه الفرات على قول التوراة. وأسر البابليون صدقيا عند أريحا، وفعلوا معه ما اعتاد اليهود أن يفعلوه مع بعضهم البعض، بل ومع أنبيائهم أيضًا الذين كانوا يقتلونهم بغير حق، فقتلوا أولاده أمامه ثم فقئوا عينيه ليكون سفك دم أولاده آخر منظر يراه "في ربلة على نهر العاصي". واعتبرت التوراه ما حل باليهود حينذاك عقابًا لهم على "تماديهم في عصيان الرب حتى ثار غضبه على شعبه فأصعد عليهم الكلدانيين"3. وصدق الله تعالى حين قال في قرآنه الكريم: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا
…
} 4، والعلو هنا هو التمادي في الظلم. أما إرميا داعية الخضوع لبابل، فقد لجأ مضطرًا مع جماعة كبيرة ممن نجوا من القتل والتشريد إلى مصر، فوسعتهم رحابة صدرها5. وتابعت جيوش نبوخذ نصر مهاجمة المدن الفينيقية والسورية، وكانت أشد هذه المدن مقاومة لها مدينة صور التي ظلت على مقاومتها ثلاثة عشر عامًا "585 - 573ق. م" أبدت فيها من البسالة صورًا كثيرة وساعدها على المقاومة سهولة اتصالاتها بالبحر، ثم رضيت في نهاية الأمر بصلح اعترفت فيه بسيادة البابليين، واضطرت تحت ضغطهم إلى معاونتهم ضد مصر حين أرادوا أن يتخذوها قاعدة لمهاجمة السواحل المصرية عن طريق البحر6.
1 إرميا 28: 1، 12 - 14، 15 - 17، 37: 1 - 5.
2 حزقيال 27: 15، إرميا 27:5.
3 الأيام الثاني -الإصحاح 36.
4 سورة الإسراء -الآية 3 ومابعدها.
5 الملوك الثاني 25: 25 - 26، إرميا 44: 21، 30.
6 " Herodouts، Ii، 161."
العمران والفنون:
أرادت بابل الكلدانية أن تعوض أجيال التبعية الطويلة التي مرت عليها، وقد أسكرتها نشوة النصر على الآشوريين على الرغم من قرابة الجنس والديار بينهما. ووجدت فرصتها الذهبية في طول عهد ملكها نبوخذ نصر الثاني، الذي امتد ثلاثة وأربعين عامًا، وفيما مر بنا من تعدد انتصاراته وأمجاده. فنشطت حركة العمران فيها كما لم تنشط من قبل، وبلغ محيط عمرانها حينذاك نحو 18 كيلومترًا، وذكر المؤرخون الإغريق أن أسوارها كانت أسوارًا دائرية عظيمة وأنه أحاطت بها أربعة خطوط دفاعية. أولها هو السور
الداخلي للمدينة وقد بني من اللبن، وكان ذا أبراج، وبلغ سمكه 7.12 من الأمتار، وتلاه على مبعدة اثني عشر مترًا سور آخر خارجي ضخم بلغ محيطه أحد عشر ميلًا ونصف ميل، بني من الأجر وثبت بالقار وبلغ سمكه 7.81 من الأمتار، وأطل على خندق واسع، ودعم أصحابه أساسه بجدار ساند يرتفع بارتفاع الخندق ويبلغ سمكه 3.25 من الأمتار. أما خطا الدفاع الخارجيان، فسُمي أحدهما باسم السور الماذي، وامتد من الشمال إلى الجنوب من بلدة الحديثة على نهر دجلة حتى أبو حبة على نهر الفرات، وامتد الآخر من خان الناصرية على نهر الفرات حتى مدينة كيش على أحد فروعه.
وتمثلت أهم عمائر ومعالم بابل الكلدانية في قصر نبوخذ نصر؛ وفي زقورة "إ. تمن. آنكي" أو برج بابل كما سماها العبرانيون والإغريق والمسلمون؛ وحدائق المدرجات التي اشتهرت خطأ باسم الحدائق المعلقة، ثم بوابة إشتار "عشتار" فضلًا عن الأسوار الضخمة التي ذكرناها. وتعصب البابليون لتقاليدهم القديمة في تنفيذ أمثال هذه العمائر والمشروعات، وودوا لو اعتبروا تجديدات خصومهم الآشوريين كأنها لم تكن، ولو أن ذلك لم يكن متيسرًا دائمًا. فرجعوا من ناحيتهم بتخطيطات المعابد إلى أصولها البابلية القديمة، وأزادوا استخدام الآجر المحروق والمزجج، وأحلوا محل الرسوم المسطحة التي استحبها الآشوريون نقوشًا غائرة.
توسط قصر نبوخذ نصر الجدار الشمالي للمدينة، وبُني داخل حصن كبير على عادة القصور الملكية في بلده، وتألف من وحدات معمارية كثيرة، وتضمن عدة أفنية، وأحاطت به ملحقاته التي يحتمل أنه كان منها بعض إدارات الدولة، وتميزت فيه قاعة عرشه "التي بلغت مساحتها 52×17 مترًا" عن قاعات العروش الآشورية ببساطة طابعها، واحتل عرشها مشكاة كبيرة "أو حنية أو محرابًا ضخمًا" توسطت الجدار المواجه للمدخل. وكسيت جدران بهو القصر الكبير بقوالب الآجر ذات السطوح الخزفيه الزرقاء الداكنة، وزخرفت في أسافلها بإفريز من الأسود الحارسة صورت تصويرًا جانبيًّا "على العكس من أسود خور سباد الآشورية التي تواجه الداخل"، كما زخرفت في أعلاها بما يمثل أساطين ذات تيجان مركبة، تصل بين تيجانها وتعولها زخارف تكوينية تتألف من زهيرات محورة ومعينات صغيرة. وتعاقبت في كل هذه الوحدات الزخرفية ألوان بيضاء وصفراء فوق الأرضية الزرقاء الداكنة فخلعت طابعًا من البهجة على زخارفها الرقيقة1.
بدأ تجديد زقورة "إ. تمن. آنكي" في عهد نابو بولاسر مؤسس الأسرة. وأكدت نصوص الرجل ومناظره أنه استفتى وحي الأرباب في تخطيطها القديم واشترك مع ولديه في وضع أساسها، فحمل أدوات البناء فوق رأسه، وحمل ولي العهد طين اللبنة الأولى، ورفع ولده الآخر "نابوشوم ليشو" معولًا ومجرفة.
وخدمت الزقورة معبد الإله مردوك أساسًا، وهو ذلك الإله البابلي القديم الذي اعتبر أتباعه بقية الأرباب الكبار مجرد صور لنواحي قدرته، وقالوا يمجدونه: "سين قدسيتك، وآنو نصيحتك،
1 Koldewey، Das Weiderstehende Babylon، Abb. 64.
وداجان قيادتك، وإنليل ملكيتك، وأداد قدرتك، وإيا حكمتك" "وكان الآشوريون قد نسبوا مثل هذه الصفات أيضًا إلى ربهم نينورتا في عصرهم الوسيط، وإلى معبودهم الأكبر آشور في عصرهم الحديث". وخدمت زقورة بابل في أربعة معابد أخرى كبيرة أو نحوها، كان منها معبد "نين ماخ" "إي. ماه" ربة الخصب. وهي معابد أخذت في تخطيطها وتنظيم قاعاتها وقواعد تماثيلها بالأسلوب الأكدي القديم دون الأسلوب الآشوري الخصيم1.
ووصف المؤرخ هيرودوت هذه الزقورة إبان اكتمالها وصفًا شائقًا2، ثم وصفت لوحة من القرن الثالث ق. م. ما بقي منها على أيامها، كما احتفظت لها أجيال الرواة العبرانيين والمسلمين بصورة أسطورية غالية. أما من حيث الواقع فلم يتبق منها ما ينم عنها حتى الآن غير خطوطها الأرضية وأطلال ثلاث درجات تؤدي إلى مسطحها الأول من ناحية الجنوب، وترتب على ذلك أن تعددت النظريات المعمارية في تصوير هيئتها الأولى2، دون أن تسلم إحداها من شك ونقد. ويحتمل مما أتى به هؤلاء جميعًا أنها بنيت من اللبن وكسيت بالآجر. وأن واجهاتها كلها شكلت فيها مشكاوات رأسية متعاقبة، وأنها توسطت فناء مسورًا عظيم الاتساع "667×365 مترًا" يقع المدخل الرئيسي لسوره ناحية الشرق، وأن طول ضلع مسطحها الأول بلغ حوالي 183 مترًا، وربما تعاقبت على جوانبه أعمدة مربعة، بينما بلغ طول ضلع مسطحها الثاني نحو 106 من الأمتار وتضمن عدة مقاصير لكبار أرباب بابل والمدن المجاروة لها مثل الأرباب: مردوك ونابو وإيا وآنو وسين وتاشمتوم ونوسكو
…
، وعدة مقاصير لكنوز الزقورة. ثم قام في وسط المسطح، وهذا هو الأهم، بناء مدرج تألف من خمسة مسطحات تصغر مساحة كل مسطح منها عما تحته ويصل بينها درج جانبي صاعد يدور حولها حتى يؤدي إلى أعلاها حيث يتوسط المسطح العلوي منها ويتوجه قدس الأقداس الكبير. ويرى المعماريون الآثاريون الأخذ بما رواه هيرودوت وغيره من أن كل مسطح من المسطحات المتعاقبة للزقورة قد لون بلون مختلف عن لون الآخر، ومن الألوان التي يقترحونها لها على التتابع ألوان: الأبيض فالأسود فالبنفسجي فالأزرق فالبرتقالي فالقرمزي فالفضي فالذهبي، ولكن كل هذه الألوان والأصباغ ذهبت معه زقورتها حينما دمر الفرس أغلبها في عهد الملك أخشويرش، وبعد أن استخدم أهل المنطقة معظم لبناتها في مبانيهم المتعاقبة3.
ووصل بين زقورة بابل وبين "إساجيل"" E-Sag-Il" معبد مردوك الأرضي، طريق للمواكب ارتفعت أرضيته عن مستوى أرض المدينة ورصفت باللبن المكسو بالقار ثم غطيت ببلاطات متسعة من الحجر الجيري وحفت بها مربعات صغيرة من قطع الرخام الزاوي الأحمر "البرشيا"4. وكان يحف
1 Op. Cit.، Abb. 32 ; Antiquaries Journal، X، Pi. Xxxv، 374 F.
2 Herodotus. I، 181 ; O.E. Ravn، Herodotus's Description Of Babylon، 1932.
3 Memoires De L'academie Des Inscriptions، Xxxix.، 1913.
4 See، Parrot، Ziggurats Et Tour De Babel، 1949.
وعن طرقات أخرى مرصوفة باللبن والقار -انظر سومر 1961 - ص3.
بالطريق جداران وتطل على جانبيه أبراج متباعدة. ويبدو أن بعض واجهات جدارية كسيت بأفاريز من الخزف الملون نقشت نقشًا بارزًا بما يمثل الكائنات الحارسة وبخاصة الأسود.
ويخترق طريق المواكب بوابة إشتار "قاهرة أعدائها" وكان لها أصل قديم ثم جددت في العصر الكلداني وزيد ارتفاعها حتى بلغ أربعين قدمًا، فأصبحت من معالمه الرئيسية. وتقع في الركن الشمالي الشرقي من الحصن الجنوبي لبابل وتؤدي في الوقت نفسه إلى صرحين كبيرين يرتبط بهما جسر معلق يصلهما بالقصر الملكي. وتألفت البوابة من صرحين رئيسين علتهما زخرفة معمارية مسننة. وكسيت مساحة كبيرة من جوانبها الكلدانية المستحدثة بقوالب الآجر ذات السطوح الخزفية الزرقاء، وتعاقبت على سطوحها هذه تسعة صفوف نقشت بالنقش الغائر، مثل بعضها ثيرانًا ذات أشكال محورة، ومثل بعضها صور حيوانات خرافية متباعدة، وجمع بعضها الآخر في صوره بين أجزاء التنين والنسر والأسد والأفعوان ووحيد القرن. وعبرت هذه الصور في مجموعها عن رموز حيوانية للمعبودين أداد ومردوك، وسمي بعضها باسم سيروش، وتعاقبت في جسومها وشعورها وقرونها وأقدامها ومخالبها ألوان صفراء وخضراء وزرقاء بدرجات متفاوتة، وتعاقبت ظلالها فوق أرضية زرقاء، وبهذا أكسبت بوابتها طابع الجمال وخدمت غرض الدين وغرض الزخرف معًا، وزادها جمالًا أنه أحاطت بها أطر منقوشة تتألف من مربعات زخرفية وزهيرات كبيرة رقيقة. وكانت جدران البوابة القديمة قد تضمنت قبل العصر الكلداني صور الحيوانات نفسها، ولكن بعضها كان منقوشًا فوق الآجر العادي. وعندما رفع رجال نبوخذ نصر مستوى طريق المواكب غطت هذه التعلية على جزء كبير من صور البوابة القديمة، وكان ذلك لحسن حظها إذ بقي عدد منها كاملًا حتى الآن، بينما لم يبق من مناظر الآجر الخزفي التي شكلت في عهد نبوخذ نصر نفسه غير أسافلها التي حالت ألوانها. ويبدو أن الصور القديمة والحديثة قد بلغ عددها حين اكتماله نحو 575 صورة.
وصاحب الاهتمام بمعابد العاصمة بابل اهتمام مماثل بمعابد المدن الأخرى ذات الشهرة الدينية، فجددت في مدينة بورسيا "برص نمرود الحالية"، إلى الجنوب الغربي من بابل بنحو سبعة أميال، زقورة تشبه زقورة بابل، كانت بعض مداميك الآجرر فيها مزججة، وكانت مسطحاتها ملونة بألوان مختلفة، وتحدثت نصوص العصر نفسه عن عربة "صغيرة" للربة إنانا "أو إشتار" ربة الوركاء، شدت إليها سبعة أسود. أعادها نبوخذ نصر إلى معبدها "إيانا" بعد أن أبعدها عن أهل المدينة في عهد الملك إربا مردوك أحد ملوك الأسرة البابلية الثامنة وأقاموا لها تمثالًا مزيفًا، وترتب على فعلتهم هذه أن هجرت المعبودة معبدهم واعتكفت في مكان قصي كما روى نص الملك1.
1 See، Anet، 399.