الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّاني
دراسة ما أعلَّه مالك بن أنس (ت 179 هـ) وهو في «الصَّحيحين»
الحديث الأوَّل:
روى الشَّيخان من طريقِ مالكٍ نفسِه، عن أبي الزِّناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبعًا»
(1)
.
فقد نقلَ (الكرديُّ)
(2)
و (جمال البنَّا)
(3)
عن أبي إسحاق الشَّاطبي (ت 790 هـ) ردَّ مالكٍ لهذا الحديث
(4)
؛ وذلك أنَّ تلميذه ابنُ القاسم (ت 191 هـ) سُئِل عنه: «هل كان يَقول بغسلِ الإناءِ سبعَ مرَّاتٍ إذا وَلغ الكلبُ في الإناءِ في اللَّبن وفي الماء؟ فقال: قال مالك: قد جاء هذا الحديث، وما أدري ما حقيقتُه، قال: وكأنَّه كان يَرى أنَّ الكلبَ كأنَّه مِن أهلِ البيتِ، وليس كغيرِه من السِّباع.
وكان يقول: إن كان يُغسَل ففي الماء وحده، وكان يُضعِّفه .. »
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري في (ك: الوضوء، باب: الماء الذي يغسل به شعر الإنسان، برقم: 172)، ومسلم في (ك: الطهارة، باب: حكم ولوغ الكلب، برقم: 279).
(2)
«تفعيل نقد متن الحديث» (ص/57).
(3)
«تجريد البخاري وسلم» (ص/17).
(4)
«الموافقات» للشاطبي (3/ 196).
(5)
«المدونة» (1/ 115).
قلت: ليس في كلامِ ابنِ القاسم رَدُّ مَالكٍ للحديث، بل الثَّابت عنه كما في بعض الرِّواياتٍ تصحيحُه إيَّاه؛ إنَّما الخلاف عن مالكٍ في وجه تأويلِه، لِما في ظاهره من إشكال على بعض الأصول.
ومردُّ ذلك: إلى أنَّ الحديث دَلَّ على وجوبِ غسلِ الإناء مِن ولوغِ الكلبِ فيه، ومُقتضى هذا أنَّ لُعابَه نَجسٌ، والقرآن دَلَّ على حِلِّ صيدِ الكلبِ، بدون غسلِ موضعِ العَضِّ، مع أنَّ لُعابَه مُختلطٌ بالحيوان المَصِيد، ومُقتضى هذا أنَّ لُعابَ الكلب طاهرٌ.
وقد نَصَّ مالكٌ على هذا السَّببِ بقوله: «لا أدري ما حقيقته .. يُؤكل صيدُه، فكيف يُكرَه لعابُه؟»
(1)
.
من هنا جاءت رواية ابن القاسمِ عنه بطهارةِ سُؤرِ الكلبِ، ممَّا يعني أنَّ الحكم الَّذي لم يَأخُذ به مالكٌ مِن الحديث: هو نجاسة الكلب فقط -على المَشهورِ مِن قولِه- لا أنَّه ينكر الحديث؛ بل يأخذ بالغسلِ فيه على وجهِ الاستحبابِ، وأمَّا الأمرُ بعَددِ الغَسلاتِ فتَعَبدٌّ مَحضٌ عنده لا لعِلَّة
(2)
.
يقول ابن رُشد الجدُّ: «واختَلَف قول مالك في الحديثِ الواردِ في الكلب، فمرَّةً حملَه على عمومِه في جميعِ الكلابِ، ومرَّةً رآه في الكلبِ الَّذي لم يُؤذن في اتِّخاذه، وتفرقة ابن الماجشون بين البدَوِيِّ والحضريِّ قولٌ ثالث»
(3)
.
فيظهر جليًّا مِن أقوالِ مالكٍ وأصحابِه خُلوُّها مِن إنكارِ الحديثِ
(4)
، والاختلاف بينهم كامن في تحديدِ المسلكِ الأرجحِ لدَفعِ ما يبدو مِن تعارضٍ بينه وبين آية صيدِ الكلب، وهذا -لا شكَّ- فرعٌ عن قولِهم بصحَّتِه.
(1)
«المدونة» (1/ 116).
(2)
يقول ابن عبد البر في «الاستذكار» (1/ 206): «مذهب مالك عند أصحابه اليوم: أنَّ الكلب طاهر، وأنَّ الإناء يُغسل منه سبعًا عبادةً، ولا يُهرق شيء مما ولغ فيه غير الماء وحده، ليسارة مئونته» .
(3)
«المقدمات الممهدات» (1/ 89)، وانظر «الجامع» لابن يونس الصقلي (1/ 87).
(4)
وقد نقل الخلاف في هذه المسألة عن مالك أيضًا: القاسم بن سلام (ت 224 هـ) في كتابه «الطهور» (ص/270) ولم يذكر عنه قولًا بتضعيفِ الحديث فيها.
لكن يبقى الإشكالُ فيما نقله ابن القاسم عن مالكٍ قوله عنه: « .. وكان يُضعِّفه» ! وبها تَشبَّث مَن نَسبَ إلى مالكٍ طعنَه في الحديث؛ ومن يُقلِّب كُتَب مُحقِّقي المالكيَّة، يجدُ جمهورَهم يَدفعون هذا المعنى المُتبادَر إلى بعضِ الأذهانِ أن يكون مُرادًا لإمامِهم.
ترى مثالَ هذا الدَّفعِ في قولِ القاضي عِياض (ت 544 هـ): «الأشبهُ عندي أنْ يُريدَ به الوجوبَ، كما نَحا إليه القَابِسيُّ، ويدلُّ عليه: تخصيصُه (الماءَ) بذلك، وأنَّه أعْظَمَ إراقةَ الطَّعامِ؛ ولا حُجَّة لمِن قالَ: إنَّه ضَعَّف الحديثَ بقوله: «ولا أدري ما حَقيقتُه» ، فليسَ في هذا ما يَرُدُّه، ولعلَّ المُراد: ما حقيقةُ مَعناه، وحكمةُ الله في هذه العبادة»
(1)
.
وأبو عمران الفاسيَّ (ت 430 هـ)
(2)
وإن نَحى إلى احتمالِ قصدِ مالكٍ بتلك العبارة تضعيفَ الحديث حقيقةً
(3)
، فقد تَعقَّبَه ابنُ رشدٍ الجدُّ (ت 520 هـ) في هذا الاحتمالِ وأبطله
(4)
.
والصَّحيحُ أنَّ سَبَب تركِ مالكٍ للأخذِ بظاهرِ هذا الخبرِ راجعٌ لِما تَقرَّر عنده مِن طهارةِ لُعابِ الكلبِ في ظاهرِ القرآن
(5)
، لكن لم يُختلَف عنه أنَّه يقول بمَشروعيَّةِ غسلِ إناءِ الماءِ لهذا الحديثِ بالذَّاتِ
(6)
-كما أشرنا إليه- وهو عنده للنَّدبِ، لاعتبارِه مخالفةَ ظاهرِه للأصلِ القرآنيِّ، فكان بمثابةِ الصَّارِف للأمرِ مِن الوُجوب إلى الاستحبابِ.
(1)
«التنبيهات المستنبطة» للقاضي عياض السبتي (1/ 38 - 40).
(2)
ولعله أول من جعل احتمال تقصد تضعيف مالكٍ للحديث احتمالًا واردًا على كلامه فيما وقفتُ عليه، كما في «الجامع لمسائل المدونة (1/ 85) لابن يونس، وهو من أعلام فقهاء المالكية في المغرب، انظر ترجمته في «سير أعلام النبلاء» للذهبي (17/ 545)، و «الصِّلة» لابن بشكوال (1/ 577).
(3)
كما نقله عنه ابن يونس في «الجامع لمسائل المدونة» (1/ 86).
(4)
«المقدِّمات الممهِّدات» لابن رشد (1/ 91)، وقد ذكر احتمال تضعيف مالك الحديث غيره من أعلامِ المذهب، لكن أبطلوه، كخويز منداد في «الجامع» لابن يونس (1/ 85)، والباجي في «المنتقى» (1/ 73)، وأبي بكر ابن العربي في «أحكام القرآن» (3/ 443).
(5)
«الموافقات» (3/ 21).
(6)
انظر «المنتقى» للباجي (1/ 73).
وفي تقريرِ هذا الموقف من مالكٍ، يقول أبو العبَّاس اليَزْلِيتي -المشهور بِحْلُولو- (تبعد 895 هـ): «أمَّا مسألة الولوغ: فلم يُسقِط فيه العملَ بالخبرِ، بل حَمَل الأمرَ فيه على النَّدبِ، لمُعارضته للقياس
(1)
، فهو مِن بابِ الجمعِ بين الدَّليلين، لا مِن بابِ تقديمِ القِياس»
(2)
.
الحديث الثَّاني:
أخرج الشَّيخان مِن حديثِ ابن عمر رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«المُتبَايِعانِ كلُّ واحدٍ منهما بالخيار على صاحبِه، ما لم يَتفرَّقا، إلَّا بيع الخِيار»
(3)
.
فينقُل ابن القاسم عن شيخِه مَالك قوله: «البَيعُ كلامٌ، فإذا أَوْجَبا البيعَ بالكلامِ، وَجَبَ البيع، ولم يكُن لأحدِهما أن يَمتنعَ ممَّا قد لَزِمه»
(4)
.
وبيان المُخالفة عند مالكٍ في هذا: مَنعُ تَعليقِ البيعِ على الجهالةٍ، وهذا الحديث قد أثبتَ خيارَ المجلسِ، والمَجلسُ مَجهولُ المدَّةِ مِن وجهةِ نَظرِ مالكٍ، وعليه قال عَقِب الحديث:«ليسَ لهذا عندنا حَدٌّ مَعروف، ولا أمرٌ مَعمولٌ به فيه»
(5)
.
يقول الشَّاطبي في شرحِ هذا عن مالكٍ: « .. إشارةٌ إلى أنَّ المجلس مَجهول المدَّة، ولو شرَطَ أحدٌ الخيارَ مُدَّةً مجهولةً لبطَلَ إجماعًا؛ فكيف يَثبتُ
(1)
المقصود بالقياس هنا: القواعد والأصول المقررة شرعًا، لا القياس بمفهومه الأصوليِّ، وهو إطلاق مستعمل عند كثير من العلماء، انظر «أصول فقه الإمام مالك - أدلته النقلية» لعبد الرحمن الشعلان (2/ 793).
(2)
«التوضيح في شرح التنقيح» لحلولو (ص/333).
(3)
أخرجه البخاري في عدة مواضع من «صحيحه» ، منها في (ك: البيوع، باب: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، برقم: 2111)، ومسلم في (ك: البيوع، باب: ثبوت خيار المجلس للمتبايعين، برقم: 1531).
(4)
«المدونة» (3/ 222)، وانظر «الموطَّأ» (ك: البيوع، باب: بيع الخيار، 2/ 671).
(5)
«المدونة» (3/ 222)، وانظر «الموطَّأ» (ك: البيوع، باب: بيع الخيار، 2/ 671).
بالشَّرعِ حكمٌ لا يجوز شرطًا بالشَّرع؟
(1)
فقد رَجَع إلى أصلٍ إجماعيٍّ؛ وأيضًا فإنَّ قاعدةَ الغَرَر والجهالةِ قطعيَّة، وهي تُعارض هذا الحديث الظَّنيَّ»
(2)
.
فتوهَّمَ (الكرديُّ) و (جمال البنَّا)
(3)
مِن هذا الكلامِ للشَّاطبيِّ، أنَّ مالكًا طَعَنَ في صِحَّةِ هذا الحديثِ! وليس في عبارة الشَّاطِبيِّ ما يُفيد ذلك، «إنَّما أرادَ به أنَّه لو كان هذا أمرًا مَعمولًا به، لتشاغل النَّاس بتحديدِ هذا المجلسِ، وتوقيتِ لزومِ البَيعِ»
(4)
.
والغلَط على مالكٍ في هذا الحديث قَديم، بَلَغ بابنِ أبي ذئبٍ (ت 158 هـ) أن قال في مالكٍ حين بلغه تركه له:«يُستَتَاب، وإلَّا ضُربِت عُنُقه!» ؛ فتصدَّى له أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) بقوله: «مَالكٌ لم يُرِد الحديثَ، ولكنْ تَأوَّلَه على غير ذلك»
(5)
.
هذا؛ وليس في أصحابِ مالكٍ مَن يطعنُ في ثبوتِ الحديث، ومُحصَّل مُدافعاتهم لظاهرِه لا يخرجُ عن مَسْلَكين: إمَّا القول بنسخِه
(6)
، أو تأويله على مَعنى الافتراقِ بالأقوالِ، وأنَّ المُتَبايِعين فيه بمَعنى المُتسَاوِمَين
(7)
.
(1)
هذا النص اقتبسه الشاطبي إلى هنا من كلام ابن العربي في كتابه «القبس» (ص/845).
(2)
«الموافقات» (3/ 197).
ومِن أظهرِ الأدلَّة الَّتي تحول دون العمل بالحديث عند المالكيَّة: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]، والعقد هو الإيجاب والقبول، والأمر على الوجوب، وخيار المجلسِ يوجب ترك الوفاءِ بالعقدِ، لأنَّ له عندهم أن يرجعَ في البيعِ بعد ما أنعمَ ما لم يفترَّقا.
وأمَّا القياس: فإنَّهم قالوا: عقدُ معاوضة، فلم يكن لخيارِ المجلسِ فيه أثرٌ، أصلُه سائرُ العقود، مثل النِّكاح، والكِتابة، والخلع، والرُّهون، والصُّلح على دم العَمد.
(3)
«تجريد البخاري وسلم» (ص/17).
(4)
«شرح التلقين» للمازري (2/ 522).
(5)
«المعرفة والتاريخ» للفسوي (1/ 686).
(6)
انظر «المقدمات الممهدات (2/ 96)، وأشار المازري في «شرح التَّلقين» (2/ 521) أنَّ مالكًا أشار إلى هذه الطريقة في «الموطَّأ» (ك: البيوع، باب: بيع الخيار، 2/ 671).
(7)
انظر «التنبيهات المستنبطة» للقاضي عياض (3/ 1263)، و «بداية المجتهد» (3/ 188).
يقول المَازَريُّ (ت 536 هـ): «وقد سَلكَ أصحابُنا هاتين الطَّريقتين .. »
(1)
، وكِلا المَسْلَكين فَرعٌ عن تَصحيحِهم للخَبر.
على أنَّ المَازريَّ اجترَأَ على مخالفةِ أساطينِ مَذهبِه في موقفِهم مِن العملِ بظاهرِ الحديث، فكان يقول:«الإنصافُ يَمنع مِن أن يكون تَركُ حكمِ مَسألةٍ مِن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِن كلامٍ أورَده مُختصًّا بها، مُعلَّقًا حُكمُها مِن كلامٍ آخرَ قصدُه بيانُ مَعانٍ أُخَرَ لا تدخل هذه المسألة فيها إلَاّ بحكمِ العَرض، أو الاتِّفاقِ، أو دعوى عمومٍ بَعُدَ ادِّعاؤُه، وجميعُ ما أوردناه عن أصحابِ هذه الطَّريقة هذا شأنُهم فيه»
(2)
.
وأَفْيَدُ منه موقف ابنِ رشدٍ الحفيد (ت 520 هـ) من تركِ أئمَّته للعمل بظاهر هذا الحديث، حيث قال:«أمَّا أصحابُ مالكٍ، فاعتمدوا في ذلك على ظواهر سَمعيَّة، وعلى القياس؛ فلمَّا قيل لهم: إنَّ الظَّواهر الَّتي تَحتجُّون بها يُخصِّصها الحديث المذكور، فلم يبقَ لكم في مقابلةِ الحديثِ إلَّا القياس، فيلزَمُكم على هذا أن تكونوا مِمَّن يَرى تغليبَ القياسِ على الأثَر، وذلك مَذهبٌ مَهجورٌ عند المَالكيَّة .. ؛ فأجابوا عن ذلك: بأنَّ هذا ليس مِن بابِ رَدِّ الحديثِ بالقياسِ ولا تَغليبٍ، وإنَّما هو مِن بابِ تأويلِه وصَرفِه عن ظاهرِه»
(3)
.
الحديث الثَّالث:
أخرج الشَّيخان مِن حديث عائشة رضي الله عنها، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَن ماتَ وعليه صيامٌ، صامَ عنه وَلِيُّه»
(4)
.
(1)
«شرح التَّلقين» للمازري (2/ 521)
(2)
«شرح التلقين» (2/ 524).
(3)
«بداية المجتهد» لابن رشد الحفيد (3/ 188).
(4)
أخرجه البخاري في (ك: الصوم، باب: من مات وعليه صوم، برقم: 1952)، ومسلم (ك: الصيام، باب: قضاء الصيام عن الميت، برقم: 1147).
وأخرج مسلم من حديث ابن عبَّاس رضي الله عنه، أنَّ رجلًا جاءَ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إنَّ أُمِّي ماتَت، وعليها صومُ شهرٍ، أفَأقضِيه عنها؟ فقال:«لو كانَ على أَمِّك دَيْنٌ، أكُنتَ قاضيه عنها؟» قال: نعم، قال:«فدَيْنُ الله أحَقُّ أن يُقضَى»
(1)
.
فهذان -كالحديثِ السَّابق- تَوَهَّم (الكرديُّ)
(2)
و (جمال البنَّا)
(3)
مِن كلامٍ للشَّاطبي
(4)
أنَّ مالكًا يُعِلُّهما، لمنافاتِهما للأصلِ القرآنيِّ الكُليِّ:{أَلَاّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38].
وبالرُّجوعِ إلى كلامِ مالكٍ نفسِه، نجده يذكر في هذا الباب بَلاغًا عن ابنِ عمر رضي الله عنه سُئِل فيه: هل يَصوم أحَدٌ عن أحَدٍ، أو يُصَلِّي أحَدٌ عن أحَدٍ؟ فقال:«لا يَصومُ أحَدٌ عن أحَدٍ، ولا يُصلِّي أحَدٌ عن أحدٍ»
(5)
؛ فقال مَالك: «وَهذا أمرٌ مُجتَمع عليه عندنا»
(6)
.
فأين ذِكرُ حديثِ عائشة أو ابن عبَّاسٍ في كلامِ مالكٍ؟! غايةُ ما في النَّص
(1)
رواه مسلم في (ك: الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، برقم: 1148).
(2)
«نحو تفعيل قواعد نقد متن الحديث» (ص/58).
(3)
«تجريد البخاري وسلم» (ص/18)، وزاد البنَّا أنَّ أحمد بن حنبل استنكره أيضًا، ونقل ذلك عن الذَّهبي في «أعلام النبلاء» (6/ 10) قال:« .. وقد قال أحمد بن حنبل مرَّة -يعني في عبيد الله بن أبي جعفر راوي حديث عائشة هذا-: ليس بالقوي، واستنكر له حديثًا ثابتًا في (الصَّحيحين) في مَن مات وعليه صوم، صام عنه وليه» اهـ.
قلت: عبيد الله بن أبي جعفر جمهور النُّقاد على توثيقه، وأحمد نفسُه ورد عنه توثيقه كما في «العلل ومعرفة الرجال» برواية المروذي (1/ 64).
أما عن نسبة استنكار الحديث إلى أحمد فهي غريبة! والمعروف عن أحمد تصحيحه إيَّاه كما في «التلخيص الحبير» لابن حجر (3/ 1463)، على أنه قد صرفه عن إطلاقه إلى صوم النذر كما نقله عنه أبو داود في «السنن» (2/ 315) وغيره.
(4)
«الموافقات» للشاطبي (3/ 198).
(5)
«الموطأ» برواية يحيى الليثي (ص/303).
(6)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (9/ 27).
مَنعُ الصِّيامِ عن الميِّت بدلالةِ الأصلِ القرآنيِّ العامِّ، مُستصحِبًا إجماعَ أهلِ المدينةِ على أنَّه لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ، ولا يَصوم أحَدٌ عن أحَدٍ
(1)
.
فأمَّا نقلُ مالكٍ لهذا الإجماعِ: فنقرُّ بكونه الأصلَ في هذا الباب؛ إنَّما مَحلُّ الخلاف في بعضِ الحالاتِ الَّتي ورَد استثناؤها بالنَّص!
(2)
.
ثمَّ قولُ مالكٍ بعد بلاغِه عن ابن عمر: «ولم أسمع أنَّ أحدًا من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا مِن التَّابعين بالمدينة أنَّ أحدًا منهم أمر أحدًا قطُّ يصوم عن أحدٍ، ولا يصلِّي أحدٌ عن أحدٍ، وإنَّما يفعل ذلك كلُّ إنسانٍ لنفسِه، ولا يَتأدَّى مِن أحدٍ»
(3)
.
فليس في هذا الكلامِ ما يدلُّ على أنَّ إجماعَ أهل المدينةِ واقعٌ على تركِ حديثِ عائشة بخصوصِه -كما فهِمَه بعضُ المالكيَّة
(4)
- إنَّما هذا من مالكٍ توكيدٌ لأصلِه السَّالف: «لا يُصلِّي أحدٌ عن أحدٍ .. » .
فمالكٌ نَفَى عِلمَه أنَّ أحَدًا مِن سَلَفِ المدينةِ قال بمَشروعيَّة الصِّيام عن المَيِّت، وعدمُ علمِ مالكٍ بذلك لا يَستلزم نفيَ القائل به في الواقع، فقد ورد عن سعيد بن المُسَيِّب، وهو أحد فقهاء المدينة السَّبعة
(5)
!
(1)
ذكر الطاهر ابن عاشور في «كشف المغطى» (ص/168) أنه نُقل عن مالك قال: «ما سمعت أحدًا من الصحابة والتابعين بالمدينة أفتى بما روته عائشة وابن عباس» ، ولم أجد هذا القول في المصادر الأصلية لأقول مالك وأصحابه بعد بحثي فيها.
(2)
«الاستذكار» (3/ 340).
(3)
«الموطأ» لمالك برواية أبي مصعب الزهري (1/ 323)، ورواية القعنبي (برقم: 524).
(4)
انظر «المفهم» لأبي العباس القرطبي (3/ 209).
(5)
نقله عنه ابن حزم في «المحلى» (4/ 426)، وانظر «عمدة القاري» للعيني (11/ 59).
ومثلُ هذا قد وقَع لمالكٍ في مَسائلٍ أخرى، حَكَم فيها بمُقتضى عدمِ بلوغِه مَن عَمِل بخبرِ ما؛ ويتَّضِح بعدُ بأنَّه قد قال بمُوجبه عَددٌ مِن الصَّحابةِ ومَن بعدهم، فيُتعَقَّب مالكٌ في ذلك
(1)
.
الشَّاهد عندي مِن هذا: أنَّ هذا التَّصرُّف الأصوليَّ مِن مالكٍ لا يَقتضي بلوغَ حَدِيثَا عائشة وابن عبَّاس إليه مِن وجهٍ تقوم به الحُجَّة
(2)
؛ وهو ما مَال إليه الدَّاودي (ت 307 هـ) في قوله: «لعلَّ مالكًا لم يبلُغه هذا الحديث، أو ضَعَّفه لما في سَنَدِه مِن الخلاف»
(3)
.
هذا الاحتمال إذن وارِدٌ عليه، لا يوجد ما يَقطع بخلافِه، وماَلكٌ على إمامتِه في السُّنَن لم يُحِط بكلِّ السُّنة، فكم مِن مَسألةٍ أفتى فيها بخلافِ حديثٍ لم يبلُغه، قد عُلِمت صِحَّتُه عند غيره
(4)
.
ثمَّ على فَرضِ عِلمِ مالكٍ بهذين الحَديثين: فليس يَعني تكذيبَه لهما بحالٍ! فهؤلاء مِن بعده أصحابُه وأتباعُ مَذهبِه لم يَذهَب أحَدٌ منهم إلى مخالفةِ أهلِ
(1)
من أمثلة ذلك -ممَّا هو قريبٌ جدًّا من مسألتِنا- ما تراه من تعقُّبِ بعضِ العلماء مالكًا في قوله: «لا يحجُّ أحدٌ عن أحدٍ» ، قال ابن حجر في «فتح الباري» (11/ 585):« .. وفيها تُعقِّب على ما نُقل عن مالكٍ .. واحتجَّ بأنَّه لم يبلغه عن أحدٍ من أهلِ دارِ الهجرة منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه حجَّ عن أحدٍ، ولا أَمر به، ولا أذِن فيه، فيُقال لِمن قلَّد: قد بلَغ ذلك غيره، وهذا الزُّهري معدودٌ في فقهاءِ أهلِ المدينة .. » .
وكذا مثال رجوعه عن فتواه بعدم المسح على الخفين للمُقيم بدعوى عدم علمه بمن فعل ذلك من أهل العلم بالمدينة، ثم رجوعه عن تلك الفتوى بعد ثبوت من فعل ذلك منهم، انظر «البيان والتحصيل» (1/ 84)، و «أصول فقه الإمام مالك - أدلته النقلية» (2/ 877 - 879).
(2)
ويغلب على الظَّن أن لو بلغه ذلك من وجهٍ صحيح لكان ذكره ولم يقتصر في هذا الباب على بلاغ ابن عمر من قوله، كما ذكر حديث الخثعميَّة في جواز الحجِّ عن الوالدِ العاجز، ثم تركِه العملَ بظاهرِه، مع إخراجه له في «الموطأ» (1/ 359)، وكذا حديث «البيِّعان بالخيار» ، ليُنبِّه على أنَّ تركَه له كان عن علمٍ به، وأنَّه ترك العمل بظاهره لِما هو أرجح دلالةً منه.
(3)
«التوضيح» لابن الملقن (13/ 388).
(4)
انظر بعض أمثلة ذلك في «المسالك» لابن العربي (3/ 537)، و «شرح صحيح البخاري» لابن بطال (4/ 398)، وشرح الزرقاني على «مختصر خليل» (2/ 502).
الحديثِ في تَصحيحِه
(1)
، بل أقوالُهم دائرةٌ فيه بين القولِ بنَسْخِه
(2)
، أو القولِ بتَأويلِه على ما يُوافق الأصول
(3)
؛ والله أعلم.
الحديث الرَّابع:
روى الشَّيخان من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه قال: «كُنَّا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، فأصاب النَّاس جوعٌ، وأصَبْنا إِبِلًا وغَنمًا، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم في أُخْرَيات النَّاس، فعَجَّلوا فنَصبوا القدور، فأمَرَ بالقدورِ فأُكفِئت»
(4)
.
فقد ذكَرَ (الكُرديُّ)
(5)
و (جمال البنَّا)
(6)
هذا الحديث في جملةِ ما ردَّه مالكٌ وهو في «الصَّحِيحين» ، مُعتَمدين على قولِ الشَّاطبي:«أنكرَ مالكٌ حديثَ إكفاءِ القُدور الَّتي طُبِخت مِن الإبلِ والغَنم قبل القسمِ، تَعويلًا على أصلِ رَفعِ الحَرجِ، الَّذي يُعبَّر عنه بالمصالحِ المُرسلَة، فأجازَ أكلَ الطَّعام قبل القَسم لمِن احتاجَ إليه، قاله ابن العَربيُّ»
(7)
.
وعند الرُّجوعِ إلى كلامِ مالكٍ في المسألة، لا نجد له إنكارًا للحديث!
(1)
يقول البيهقي كما في مختصر «الخلافيات» (3/ 70): «لا أعلم خلافًا بين أهل الحديث في صحتها» ا. هـ، ولذا فإني أرى أن ما جزمَ به د. الحسين ألحيَّان في كتابه «منهج الاستدلال بالسنة في المذهب المالكي» (2/ 861) -تبعا للشاطبي في «الموافقات» (3/ 22) - من أن مالكًا ضعَّف حديث عائشة بالأصل القرآني الكلي غير دقيق.
(2)
«شرح صحيح البخاري» لابن بطال (4/ 100).
(3)
بحمله على أن يُفعل ما ينوب منابَ الصَّوم مِن الصَّدقة والدُّعاء، انظر «الذخيرة» للقرافي (2/ 524) و «المُفهم» للقرطبي (3/ 209)، وانظر «الإشراف على نكت مسائل الخلاف» لعبد الوهاب البغدادي (1/ 446)، و «إكمال المعلم» للقاضي عياض (4/ 104).
(4)
أخرجه البخاري (ك: الجهاد والسير، باب: ما يكره من ذبح الإبل والغنم في المغانم، برقم: 2910)، ومسلم (ك: الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر وسائر العظام، برقم:1968).
(5)
«نحو تفعيل نقد متن الحديث» (ص/58).
(6)
«تجريد البخاري وسلم» (ص/18).
(7)
«الموافقات» (3/ 198).
ولا نَقل عنه تلاميذه شيئًا من ذلك، غايةُ ما في «الموَّطإ» تجويزُ الأكلِ مِن الغنيمةِ قبل القِسمة للجيشِ في دار الحرب، بقيْدِ الحاجةِ وبقدرِها.
ونصُّ كلامِ مالك قوله:
(1)
.
فأين ردُّ مالكٍ لحديثِ رافعٍ؟!
والَّذي يشهد لقولِ مالك في هذه التَّفصيل قولُ ابنِ عمر رضي الله عنه: «كُنَّا نُصِيبُ في مَغازِينا العسلَ والعنبَ، فنأكله ولا نَرفعُه»
(2)
(3)
.
فهذا قولُ مالكٍ له وجهه القويُّ مِن جِهة النَّقلِ والتَّعليل، وليس في حديثِ رافعٍ ما يُناقضه، ولا ما يَدلُّ على النَّهيِ عن الأكلِ مِن الغنيمةِ قبل القسم مُطلقًا، ولا صُرِّح فيه بالعِلَّة من إهراقِ القدورِ أصلًا حتَّى يعارَضَ به فتوى مالك.
ومِن ثمَّ اختلفَ المالكيَّة في تحديدِ العِلَّة في الحديثِ على أقوال:
منها: أنَّهم كانوا قد انتَهوا إلى دارِ الإسلامِ، وهو المَحلُّ الَّذي لا يجوز فيه الأكلُ مِن مالِ الغَنيمة المُشتركة، وإنَّما مُباحٌ الأكلُ منها قبل القِسمة في دارِ الحرب
(4)
.
(1)
«الموطأ» برواية يحيى الليثي (2/ 451).
(2)
أخرجه البخاري (ك: الجهاد، باب: ما يصيب من الطعام في أرض الحرب، برقم: 2984).
(3)
«فتح الباري» (6/ 256).
(4)
ذكره القاضي عياض في «إكمال المعلم» (6/ 421)، ورجَّحه النَّووي في «شرحه على مسلم» (13/ 126).
وقيل: أنَّ الصَّحابة أرادوا الأكلَ ممَّا نَهبوه مِن أُناسٍ في أرضِ العَدوِّ مُتأوِّلين لضرورةِ الجوع، فزَجَرهم النَّبي صلى الله عليه وسلم عن هذا التَّأويل، وليس لأنَّهم أكلوه قبل القِسمة
(1)
.
وقيل في تعليلِ إهراقِ النَّبي صلى الله عليه وسلم غيرُ ذلك
(2)
، وليس فيها ما يُعارض كلامَ مالكٍ بفضلِ الله.
فعندي أنَّ الشَّاطبيَّ وَهِم في دعواه إنكارَ مَالكٍ للحديث، وتعليل ذلك بمُعارضةِ المصلحةِ اجتهادٌ منه.
وقد لاحظنا أنَّ إسنادَ الشَّاطبيِّ لِما ادَّعاه على مالكٍ كان إلى ابنِ العَربيِّ (ت 543 هـ)، فلمَّا رَجعتُ إلى كلامِ الأخير في شرحِه لـ «المُوطَّأ» ، وجدته ينقُل تجويزَ مالكٍ للأكلِ مِن الغنيمةِ قبل القِسمة بقيْدِ الحاجةِ دون ادِّخارٍ! وهو عَينُ ما قرَّرناه آنفًا مِن كلامِ مالكٍ!
يؤيِّد ذلك: المقصدَ الَّذي لأجله نقل ابنِ العَربيِّ هذه الفتوى مِن مالكٍ، حيث استعملها للرَّد على مَن يُجوِّزُ الأكلَ مِن الغنيمة قبل القِسمة مُطلقًا مِن غير قَيْدٍ، وقرَّر أنَّ ما أفتى به مالك في هذه المسألةِ، هو مِن دلائلِ المَصلحةِ الَّتي تميَّز بها
(3)
؛ والله تعالى أعلم.
الحديث الخامس:
أخرجَ مسلمٌ عن أبي أيُّوب الأنصاري رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«مَن صامَ رمضانَ، ثمَّ أتبعَه سِتًّا مِن شوَّال، كان كصيامِ الدَّهرِ»
(4)
.
(1)
ذكره القاضي عياض في «إكمال المعلم» (6/ 421)، وعنه ابن حجر في «فتح الباري» (9/ 626)، ويقوِّي هذا المعنى مُرادًا للحديث: ما ذكره رجلٌ من الأنصارِ قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ، فأصاب النَّاس حاجةٌ شديدةٌ وجهد، وأصابوا غنمًا فانتهبوها، فإنَّ قدورنا لتغلي إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي على قوسِه، فأكفأَ قدورَنا بقوسِه، ثمَّ جعلَ يرمل اللَّحم بالتُّراب، ثمَّ قال:«إنَّ النُّهبة ليست بأحلَّ من الميتة» ؛ أخرجه أبو داود في «السُّنن» (رقم: 2405)، وجوَّد إسناده ابن حجر في «الفتح» (9/ 626).
(2)
انظر «شرح النووي على صحيح مسلم» (13/ 126).
(3)
«القبس» لابن العربي (2/ 605 - 606).
(4)
أخرجه مسلم (ك: الصيام، باب: استحباب صوم ستة أيام من شوال اتباعا لرمضان، برقم: 1164).
فقد ذكر (الكرديُّ)
(1)
، و (جمال البنَّا)
(2)
أنَّ مالكًا لم يَعمل بهذا الحديث، وعَدُّوا ذلك مَطعنًا منه فيه، بل غَلا بعضُ مُتعجِّلةِ الصُّحفِيِّين حتَّى ادَّعوا بِدعيَّةَ العملِ ما فيه، لترْكِ مالكٍ له
(3)
.
وليست نسبةُ التَّركِ إلى مالكٍ بصحيحةٍ بهذا الإطلاقِ المُتَوهَّم، ولم يَثبُت عنه طَعنٌ صريحٌ في هذا الحديث، والَّذي في «مُوطَّئِه» فيما نَقَله عنه يحيَى اللَّيثي قال:«سمعتُ مالكًا يقول في صيام ستَّة أيامٍ بعدَ الفطر من رمضان: إنَّه لم يرَ أحدًا مِن أهلِ العلمِ والفقه يَصومُها، ولم يَبلُغني ذلك عن أحَدٍ من السَّلَف، وإنَّ أهلَ العلمِ يَكرهون ذلك، ويَخافون بِدعتَه، وأن يُلحِقَ برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالةِ والجفاءِ لو رَأوا في ذلك رُخصةً عند أهلِ العِلمِ، ورَأَوهم يَعملون ذلك»
(4)
.
وهؤلاء أعلمُ النَّاسِ بمذهبِ مالكٍ، قد حملوا كلامَه هذا على ثلاثِ مَحاملٍ، تخلو ثلاثتُها مِن تعليلٍ للحديث:
المَحمل الأوَّل: أنَّ مالكًا قاله لأنَّه لم يبلغه الحديث:
وهذا ما نقله المازريُّ عن بعضِ الشُّيوخ، قالوا:«لعلَّ الحديث لم يبلغ مالكًا»
(5)
.
وهو احتمال تَردَّد ابن عبدِ البَرِّ في الرُّكونِ إليه، فقال:«لم يبلغ مالكًا حديثُ أبي أيوب، على أنَّه حديث مدنيٌّ، والإحاطة بعلم الخاصَّة لا سبيل إليه .. » ؛ ثمَّ رَجَع عن هذا الظنِّ، فقال: «وما أظنُّ مالكًا جَهِل الحديثَ والله أعلم، لأنَّه حديثٌ مَدنيٌّ، انفرَدَ به عمر بن ثابت، وقد قيل إنَّه رَوى عنه مالك، ولولا عِلمُه به ما أنكَرَه، وأظنُّ الشَّيخ عمر بن ثابت لم يكُن عنده مِمَّن يُعتَمَد عليه، وقد تَرَك
(1)
«نحو تفعيل نقد متن الحديث» (ص/59).
(2)
«تجريد البخاري وسلم» (ص/18).
(3)
منهم (جميل خيَّاط) في جريدة الوطن الكويتية عدد 2567 بتاريخ 28/ 9/1428 هـ، وقلَّده في ذلك كاتب آخر يسمى (نجيب عصام يماني)، في جريدة عكاظ السعودية عدد 3033 بتاريخ 17/ 10/1430 هـ.
(4)
«الموطأ» (ص/311).
(5)
«التاج والإكليل» للمواق الغرناطي (3/ 329).
مالكٌ الاحتجاجَ ببعضِ ما رَوَاه عن بعضِ شيوخِه، إذا لم يثِق بحفظِه ببعضِ ما رواه».
ثمَّ عاد مرَّةً أخرى لاحتمالِه الأوَّل فقال: «وقد يُمكن أن يكون جهلِ الحديثَ، ولو علمه لقال به، والله أعلم»
(1)
.
والَّذي نخلُص إليه من كلامِ ابن عبد البرِّ: أنَّ مالكًا إمَّا أنَّه لم يبلُغه حديث أبي أيُّوب، وإمَّا:
المحمل الثَّاني: أن الحديثَ بَلَغ مالكًا، لكن مِن طريقٍ ضعيفٍ:
(2)
.
وهذا الَّذي رَجَّحه ابن رشد الحفيد
(3)
.
المحمل الثَّالث:
أنَّ الأمر لا يتعلَّق بثبوت الحديث من عدمه عند مالك، بل هو صحيح عند مالك، وإنَّما كرِه صيامِ هذه السِّت بعد الفطر من رمضان خشيةَ إلحاقها به، وأن لا يُميِّزوا بينها وبينه، ويعتقدوا مع طولِ العهدِ فَرضِيَّتَها، سدًّا منه للذَّريعة إلى ذلك
(4)
، وإبقاءً للعبادةِ المُقدَّرة على حَالهِا غير مُختلِطةٍ بغيرها
(5)
؛ أمَّا للرَّجُلِ في خاصَّةِ نفسِه يصوم صومًا، فلا يكره مالكٌ له صِيامَها لهذا الحديث.
(1)
«الاستذكار» (3/ 380).
(2)
«المنتقى شرح الموطأ» (2/ 76) باختصار.
(3)
«بداية المجتهد» (2/ 71).
(4)
تأصيل هذه المنزع الأصولي عند مالك تجده في «الموافقات» (4/ 401 - 402)، و «مجالس التذكير» لابن باديس (ص/54).
(5)
وهذا مَسلك قويٌّ معتبر عند الأصوليِّين، وابن قيم الجوزية مع استماتتِه في تصحيح هذا الحديث، والرَّدِّ على مَن لم يأخُذ بمُقتصاه: اعترفَ بقوَّةِ هذا المحمل من مالكٍ، وحِدَّته في النَّظر الفقهي، كما في كتابه «تهذيب سُنن أبي داود» (7/ 68).
(1)
.
ومِن ثمَّ يحتمل الأمر أنَّ مالكًا حَمَل حرف (مِن) في قوله صلى الله عليه وسلم: «مِن شوَّال» على الابتداء لا التَّبعيض، أي أنَّها تُصام في أي أيَّام من أيَّام الشُّهور ابتداءً من شوَّال، وذلك أنَّ مالكًا لم يجد من أهل المدينة ولا بلغه عن أحدٍ من السَّلف مَن كان يتحرَّى صيامها في شوَّال؛ فضلًا عمَّا رأى في ذلك من مفسدة الابتداع.
وهذا ما انتصر له ابن العربي في قوله: «كره علماء الدِّين أن تُصام الأيَّام السِّتة الَّتي قال النَّبي صلى الله عليه وسلم فيها: «مَن صام رمضان وستًّا من شوال، فكأنمَّا صام الدَّهر كلَّه» متَّصلةً برمضان، مخافةَ أن يَعتقد أهل الجهالة أنَّها من رمضان.
ورأوا أنَّ صومَها من ذي القعدة إلى شعبان أفضل؛ لأنَّ المقصود منها حاصلٌ بتضعيف الحسنة بعشرة أمثالها متى فُعلت؛ بل صومها في الأشهر الحُرم وفي شعبان أفضل؛ ومن اعتقد أن صومها مخصوص بثاني يوم العيد فهو مبتدع سالكٌ سَنن أهل الكتاب في الزِّيادات»
(2)
.
وعلى هذا المحملِ مَشى مشهور مذهب المالكيَّة في فهمِ مَوقفِ إمامنا مِن صيامِ السِّت مِن شوَّال
(3)
: أنَّها مكروهة من غير أن يُرَدَّ الحديث فيها؛ يَشهدُ لهم بذلك تَصريحُ مُطَرِّف بنِ عبد الله
(4)
عن مالكٍ، قال: «إنمَّا كرِه صومَها لِئلَّا يُلحِقَ
(1)
«إكمال المعلم بفوائد مسلم» (4/ 140).
(2)
«أحكام القرآن» لابن العربي (1/ 109).
(3)
كما تراه في «الاستذكار» لابن عبد البر (3/ 380)، و «المنتقى شرح الموطأ» للباجي (2/ 76)، و «النوادر والزيادات» لابن أبي زيد القيرواني (1/ 78)، و «المقدمات الممهدات» لابن رشد (1/ 243)، و «المفهم» لأبي العباس القرطبي (3/ 237 - 238)، وغيرهم.
وهو قول الحنفيَّة أيضًا، انظر «فتح القدير» للكمال ابن الهمام (2/ 349).
(4)
مطرف بن عبد الله بن مطرف بن سليمان ابن يسار اليساري الهلالي، ابن أخت مالكٍ، تفقه عليه عشرين سنة! وهو ثقة في الحديث، توفي سنة (220 هـ)، انظر «ترتيب المدارك» للقاضي عياض (3/ 133)، و «شجرة النور الزكية» لمخلوف المالكي (1/ 86).
أهلُ الجاهليَّة ذلك برمضان، فأمَّا مَن يَرغبُ في ذلك لمِا جاء فيه [يعني حديثَ أبي أيُّوب] فلَم يَنْهَه»
(1)
.
وحاصل هذا المبحث: أنَّ مالكًا لم يصحَّ أنَّه ردَّ حديثًا صحيحًا أخرجه الشَّيخان بعده في «الصَّحيحين» ، ولكن بصرف معناه عن ظاهره على سبيل التَّأويل.
(1)
«النوادر والزيادات» للقيرواني (1/ 78)، و «المنتقى» للباجي (2/ 76)، والقرطبي في «تفسيره» (2/ 332).