الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفع دعاوي المُعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن حديث شفاعة النَبي صلى الله عليه وسلم الكبرى
قد دَلَّت أحاديثُ «الصَّحيحين» وغيرهما على إثباتِ أصلِ الشَّفاعةِ ومُتعلِّقاتها، ولا خلافَ بين أهلِ السُّنة في هذا الفصلِ العظيمِ من فصولِ الآخرةِ وما يَتعلَّق به، مع ما اقتضته الدَّلائل القرآنيَّة مِن ثبوتِ أصلِ الشَّفاعة، فإنَّه في سائرِ مَوارده الصَّريحةِ مِن القرآن، جاء مَشروطًا لا مُطلقًا.
فمِن تلك الدَّلائل: قول الله تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 69].
وقوله سبحانه: {يَوْمَئِذٍ لَاّ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109].
وقوله سبحانه: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].
وقوله تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28].
وبمُحصَّل هذه الدَّلائلِ القرآنيَّةِ والسُّنيَّة؛ انعقَدَ الإجماعُ على إثباتِ الشَّفَاعةِ، ومِمَّن نقله: أبو زكريَّا السَّلَمَاسي
(1)
، وابن القطَّان الفاسيُّ
(2)
.
(1)
أبو زكريا السَّلماسي: يحي بن أبي طاهر إبراهيم الأزدي السَّلَمَاسي، إمام واعظ، وفقيه شافعي، من مؤلفاته «باب المدينة» ، توفي (550 هـ)، انظر «تاريخ دمشق» (64/ 45).
والإجماع نقله في كتابه «منازل الأئمة الأربعة» (ص/123).
(2)
«الإقناع» لابن القطَّان (1/ 52).
وبالعَوْدِ إلى ما سِيق آنفًا مِن نصوصٍ شرعيَّةٍ في عَقْدِ الشَّفاعة، يَتَحصَّل بالنَّظر فيها شَرْطَا الشَّفاعةِ المُثبتَة، وهما:
إِذْنُ الله للشَّافِع أن يَشفَع: وانتفاءُ تحقُّقِ الشَّفاعة إلَّا بإذنه تعالى مُتفرِّعٌ عن أَصلِ أنَّ الشَّفاعة مُلْكٌ له تعالى، لا يشاركه فيها أَحد من الخلق؛ فإذا تقرَّر أصل التَّفرد، لزِمَ أن يطلبها المَخلوق مِن مالِكها وحدَه؛ لانتفاءِ المُشارِك، وامتناعِ المنازِع له سبحانه وتعالى، وهذا المَفهوم مِن الآياتِ الَّتي توهَّم منها المُعترض نفيَ الشَّفاعة، كما أنَّ المفهوم منها أيضًا ما حواه:
الشَّرطُ الثَّاني: رِضا الله تعالى عن المشفوع له: بأنْ يكون المَشفوع له ممَّن أَخلص في التَّوحيد، مِن الَّذين «ارتضَى الله لهم شهادةَ أن لا إله إلَّا الله»
(1)
، فمَن انتفى عنه هذا التَّوحيد، فإنَّ الله لا يَرضى عن القَومِ الكافرين.
ومِمَّا يعضد هذا الأصل: أنَّ الله تعالى لم يقبلْ بعضَ الشَّفاعاتِ مِن خير الخَلْقِ، وهم رُسل الله تعالى، فلم يأْذَن لإبراهيم عليه السلام أن يشفع لأبيه
(2)
، ولا للنَّبي صلى الله عليه وسلم في أن يشفع لأمِّه
(3)
، مع كون هؤلاء الشُّفعاءِ أعظم الخلق جاهًا عنده سبحانه، ومع ذلك لم يقبل شفاعتَهم، لعدمِ تحقُّق شَرْط الرِّضا عن المَشفوع له؛ ففي هذا دَلالةٌ على أنَّه لا شريك له في ملكِه، وأنَّه المانحُ مَن شاء مِن خلقه، الشَّفيعُ لمن ارتضاه لذلك.
(4)
.
(1)
قول ابن عباس رضي الله عنه، أخرجه عنه ابن جرير في تفسيره (16/ 252) من طريق علي بن أبي طلحة به.
(2)
أخرجه البخاري في (ك: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً}، رقم: 3350).
(3)
أخرجه مسلم في (ك: الجنائز، باب: استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة أمه، رقم: 976).
(4)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/174).
وهذا ما كان يَعتقِده مُشركو العَرب فيمن اتَّخذوهم شفعاء في صورةِ أصنامٍ، حتَّى اعتقدوا استحقاقَها بعدُ لصُروفٍ مِن العبادات، وتَصوُّر هذا المعنى كافٍ في رَدِّه؛ لذا حَسَم الله مادة التَّعلق بغيره بإبانتِه عن تمامِ مُلكِه لها.
غير أنَّ مصطفى محمود (ت 1430 هـ) لمَّا تَصوَّر أنَّ الشَّفاعة الشَّرعية تُماثل هذا النَّمَطَ الدُّنيويَّ في شفاعاتِ النَّاس حيث يَتعلَّق المَشفوع له بالشَّافع، ومنه يَطلُب الشَّفاعة، ويقوم الشَّافع بالشَّفاعة دون إذْنٍ مِن المَشفوع عنده، ولا نَظرٍ إلى رِضاه عن الشَّفاعةِ له: انبعثَ الغَلط في اعتراضِه على إثباتها، كما قد رأيتَ من عبارته في المعارضة الأولى.
وهذا منه قياسٌ فاسدٌ الاعتبار، لأنَّ الشَّفاعة الشَّرعية مَشروطة بقيودٍ -قد ذكرناها- لا تكون معتبَرةً إلا بتحقُّقها، فينتفي نفاذها إلَّا بعد توفُّر شروطها.
وأمَّا جواب المعارضة الثَّانية: وهي دعوى أنَّ في إثباتِ حديث الشَّفاعة نقضًا لمِا أثبته الشَّرع مِن عصمةِ الأنبياء مِن الذُّنوب مطلقًا:
فإنَّ القائل بهذا قد أنبأَ عن وجهٍ قبيحٍ من أوجه غُلوِّ الرَّافضة في أئمَّتِهم، تَفرَّعت عنه هذه الشُّبهة، وذلك أنَّهم «لمَّا ادَّعَوا في عَليٍّ رضي الله عنه وغيرِه أنَّهم مَعصومون حتَّى مِن الخطأ، احتاجوا أن يُثبِتوا ذلك للأنبياء بطريقِ الأولى والأحْرى، ولما نزَّهُوا عليًّا ومَن هو دون عليٍّ مِن أن يكون له ذنبٌ يُسْتَغفَر منه، كان تنزيهُهم للرُّسلِ أولى وأَحْرى!»
(1)
أمَّا جموع الأمَّة فمتَّفقةٌ على عِصمة الأنبياء في تحمُّلِ الرِّسالة وتبليغِها، كما اتَّفقَت على تنزُّهِهم مِن كبائر الذُّنوبِ وقَبائح العُيوبِ المُنفِّرة؛ إنَّما الخُلف بينهم مُنحصر في عصمتِهم مِن صغائِر الذُّنوب:
فالجمهور منهم على أنَّ الأنبياء على غير عصمةٍ من الصِّغارِ غير الخسيئةِ، وهذا قول أكثر أهلِ الكَلام، بل لم يُنقَل عن أئمَّةِ السَّلَف إلَّا ما يُوافق هذا القول
(2)
، وهو الَّذي يَشهد لصحَّةِ جوازِه ووقوعِه ظواهرُ الكتاب العزيز، مِن مثل
(1)
«جامع المسائل» لابن تيمية (4/ 31).
(2)
انظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (4/ 319)، و «الرُّسل والرسالات» لعمر الأشقر (ص/107).
قوله تعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]، وقولِه تعالى:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، وقولِه سبحانه:{وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي} [ص: 34 - 35]، وقال عن يونس عليه السلام:{فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَاّ إِلَهَ إِلَاّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87].
على أنَّ الأنبياء وإن وَقعوا في شيءٍ مِن هذا الَّلَمِ فإنَّهم لا يُقَرُّون عليه، بل يُسارعون إلى التَّوبةِ والإنابةِ على الفَورِ، وفي هذا ما يَكفي لدحضِ شُبهةِ مَن جعل القولَ بجواز وقوعهم في الصَّغائر مُستلزمًا لمحبَّةِ الله لها، بدعوى أمرِه باتِّباعهم.
أمَّا ما زعمه المُنكرِ في دعوى المُعارضة الثَّالثة: من أنَّ في اقتصارِ النَّبي صلى الله عليه وسلم على الشَّفاعةِ لأمَّته -كما هو ظاهر الحديث- تخييبًا لباقي الأُمم الَّتي ترَّجت منه ذلك، فيُقال في جوابه:
إنَّ الشَّفاعة الَّتي وَرَدت في أحاديثِ المَقام المَحمودِ نوعان:
أ- الشَّفاعة النَّبويَّة العامَّة لفصلِ القَضاء.
ب- والشَّفاعة الخاصَّة للمذنبين مِن أمَّته صلى الله عليه وسلم
(1)
.
فالَّذي طَلَبته الأُمَم من نبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم هو النَّوعُ الأوَّل بخاصَّةٍ، وهو ما سيلبِّيه لهم.
وسَبب اللَّبس عند المُعترض: أنَّ حديث أبي هريرة الطَّويل في الشَّفاعة الكبرى -ومثله حديث أنس رضي الله عنه
(2)
- قد اختصَرَ فيه الرُّواة لفظَ الشَّفاعة العَّامة، وانتقلوا إلى ذكرِ لفظِ شفاعتِه الخاصَّة في عُصاة المسلمين، ولا رَيْب أنَّ حصول هذه الشَّفاعة الخاصَّة لا يكون إلَّا بعد حصول الشَّفاعة العامَّة، «وكان مَقصود السَّلَف في الاقتصارِ على هذا المِقدار من الحديث: هو الرَّد على الخوارج ومَن
(1)
انظر «فتح الباري» لابن حجر (11/ 427).
(2)
الذي أخرجه البخاري في (ك: التفسير، باب: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، رقم: 4476)، ومسلم في (ك: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلا، رقم: 325).
تابعهم مِن المعتزلة، الَّذين أنكروا خروجَ أحدٍ مِن النَّار بعد دخولها، فيذكرون هذا القَدْر مِن الحديث الَّذي فيه النَّص الصَّريح في الرَّد عليهم فيما ذهبوا إليه مِن البدعةِ المخالفةِ للأحاديث»
(1)
.
على أنَّه قد جاء في روايةٍ لحديثِ أنس رضي الله عنه نفسِه تصريحُ النَّبي صلى الله عليه وسلم بإجابته لاستشفاعهم به، في قوله:« .. فيأتوني -يعني النَّاسَ في المَحشر بعد ما أَتَوا عيسى عليه السلام فأقول: أنا لها، فأستأذن على ربَّي .. »
(2)
.
وكذا في حديث حذيفة رضي الله عنه بيان المُضمَر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم:« .. فيَأتون محمَّدا صلى الله عليه وسلم، فيقوم، فيُؤذَن له، وتُرسل الأمانة والرَّحم، فتقومان جَنْبتي الصِّراط يمينًا وشمالًا، فيمرُّ أوَّلُكم كالبرق .. »
(3)
.
(4)
.
وبهذا تنمحي شُبهات العقول عن هذه الأخبارِ في شفاعتِه صلى الله عليه وسلم، والحمد لله.
(1)
«شرح الطحاوية» لابن أبي العز الحنفي (1/ 286).
(2)
أخرجه البخاري في (ك: التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم، رقم: 7510)، ومسلم في (ك: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، رقم: 326).
(3)
أخرجه مسلم الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، رقم: 329). في (ك: الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها، رقم: 329).
(4)
«إكمال المعلم» (1/ 578).