الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دَفع دعوى المعارضِات الفكريَّةِ المعاصرةِ
عن حديثِ «احتجَّ آدمُ وموسَى»
قبل الإبانة عن تهافتِ ما استندَ إليه الطَّاعنون في هذا الحديثِ مِن المعاصرين وأُسوتِهم في ذلك بالمعتزلة؛ فإنَّه يجدر الإشارة إلى أنَّ تحرُّرَ القول في الحديث يكمُن في نَظرين:
النَّظَر الأوَّل: في صحَّة الحديث، وتلقِّي الأمَّة له بالقَبول.
النَّظر الثَّاني: في جَريان ظاهرِه على مقتضى الأصول، والفهم المغلوط لظاهره من قِبل المُعترضين.
وضبطُ القولِ في النَّظرِ الأوَّلِ أن يُقال:
اتَّفقَ أَهل السُّنة والجماعة على صحَّةِ الحديث، وأنَّه لا مَطعن فيه؛ لا مِن جهة إسناده، ولا مِن جهة متنِه، وبتلقِّي العلماء له بالقَبول يرتقي إلى إِفادةِ العلم، هذا إن لم يُقَل بتواترِه، لينحسِمَ بذا الخوض عند أهل الشَّأنِ في صِحَّتِه.
وفي تقريرِ صِحَّة هذا الخَبر، يقول أبو عبد الله ابن مَنْدَه فيه:« .. هذه أَحاديث صِحَاح ثابتةٌ لا مَدْفع لها، ولهذا الحديث طُرُقٌ عن أبي هريرة»
(1)
.
(1)
«الرَّد على الجهميَّة» لابن منده (ص/37).
ويقول ابن عبد البرِّ: «هذا حديث صحيح ثابت مِن جهة الإسناد، لا يختلفون في ثبوتِه، رواه عن أبي هريرة رضي الله عنه جماعة مِن التَّابعين، ورُوي مِن وجوه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن روايةِ الثِّقات الأئمَّة الأثبات»
(1)
.
(2)
.
ومِمَّن نصَّ على بلوغِه مبلغَ التَّواتر عن صَحابِيِّه ابنُ كثير الدِّمشقي (ت 774 هـ)، حيث قال:«مَن كذَّب بهذا الحديث فمُعانِد؛ لأنَّه متواتر عن أبي هريرة رضي الله عنه، وناهيك به عدالةً، وحفظًا، وإتقانًا؛ ثمَّ هو مَرويٌّ عن غيره مِن الصَّحابة .. »
(3)
.
وأمَّا النَّظر الثَّاني: فإنَّ الحديثَ جارٍ على مُقتضى الأُصُول الشرعيَّة، ليس مخالفًا لشيءٍ منها؛ حتى قال ابن عبد البرِّ:«هذا الحديث مِن أَوضح ما رُوِيَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في إثبات القَدَر ودفع قول القدريَّة»
(4)
.
ووَجه ذلك: أنَّ الحديثَ قد انتظمَ مَعاقد الإيمان بالقَدر، بدلالةِ المنطوقِ والمَفهوم.
فأمَّا دَلالَته على هذه المَعاقد بالمَنطوق:
فمِن جِهة أنَّه وَقع التَّنصيصُ في الحديث على كتابةِ الله السَّابقة لمعصية آدم عليه السلام، ولِمَا ترتَّب عليها مِن مصيبة الإخراج.
(1)
«التَّمهيد» (18/ 12).
(2)
«شفاء العليل» (ص/13).
(3)
«البداية والنهاية» (1/ 198)، وانظر «العواصم والقواصم» لابن الوزير (8/ 362).
(4)
«التمهيد» (18/ 17).
والمَدلول عليه مِن هذه الأصول بدلالة المَفهوم:
تحقُّق العلمِ السَّابِق للكتابة؛ وأيضًا فإنَّ في جوابِ آدم عليه السلام ما يُشعِر بدلالة المفهوم على الأمور التَّالية:
الأوَّل: خلْقُ الله لهذه المعصية، ولِما انْبَنى عليها بعد ذلك مِن الإخراج، ولازم هذا الخَلق، هو:
الثَّاني: سَبْق المشيئة له؛ إذْ المشيئة تَسْبق الخلقَ، ولا خلقَ بلا مشيئةٍ تستلزمها.
وكما أنَّ الخلق يستلزم المشيئة، فإنَّ المشيئة تستلزم:
الثَّالث: سَبْق العلم بها؛ إذْ يستحيل إيجاده عز وجل للأشياءِ مع الجهل؛ لأنَّ إيجاد الأشياء بإرادة الرَّب تبارك وتعالى، وهذه الإرادة تستلزم تَصوُّرَ المُراد، فالإرادة مستلزمةٌ للعلم قطعًا.
الرَّابع: إثبات أنَّ للعبد فِعلًا اختياريًا يُنسَب إليه، ووجهُ هذا اللُّزوم: أنَّه لا معنى من لَوْمِ موسى لآدم عليهما السلام على عَمَلٍ لا اختيار له فيه، ولم يَجْرِ احتجاجه عليه السلام بالقدَر لينفي اختيارَه! إذْ لو كان كذلك، للَزِم أيضًا أن يكون احتجاجُه هو أيضًا لا اختيارَ له فيه! فلا تقوم الحجَّة إذَنْ، وسيأتي بيان فساد مَن فَهِم هذا الحديث على خلاف ظاهره.
والمقصود: أنَّ هذا الحديث -كما قال ابن عبد البرِّ- مُتضمِّنٌ لمراتبِ الإيمان بالقَدر الَّتي انعقد إجماع أهل السُّنة عليها:
المرتبة الأولى: إثباتُ عِلمِ الله تعالى المُحيطِ بكل شيء.
المرتبة الثَّانية: إثبات أنَّ الله كَتب كلَّ ما يكون مِن حين خلق الَقلم، حتَّى قيام السَّاعة وأحصاه؛ فلا يخرج شيءٌ عمَّا كَتبه.
المرتبة الثالثة: إِثبات المشيئة النَّافذة في خلقِه، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكُن، على أنَّ الإرادة الخَلْقيَّة الكونيَّة ليست كالشَّرعيَّة مستلزمةً لرضا الرَّب ومحبَّتِه.
المرتبة الرَّابعة: إثبات خلق الرَّب تبارك وتعالى، فهو الخالق وما سِواه مَخلوق.
وقد أسلفنا الإشارة إلى أنَّ للعبد مَشيئةً وقُدرةً وفِعلًا تُنسب إليه، وكلُّ ذلك ليس خارجًا عن إرادةِ الله عز وجل الكونيَّة ومشيئتِه، يتجلَّى هذا الأصل في أنواع الدَّلائل الَّتي تضمَّنها القرآن الكريم، مِن إسنادِ الفعلِ أو الصُّنعِ أو المشيئةِ ونحوِ ذلك إلى عبده
(1)
.
فبهذه الأصول نطَقَ أهل السُّنة والجماعة، وعليها انعقدَ إجماعُهم؛ كما تراه في مثل قول الأشعريِّ:«قد أجمعَ المسلمون قبل حدوثِ الجهميَّة والمعتزلة والحروريَّة على أنَّ لله عِلمًا لم يزَلْ .. وعِلْم الله سابق في الأشياء .. فمَن جَحَدَ أنَّ لله علمًا فقد خالف المسلمين، وخَرج عن اتِّفاقهم»
(2)
.
وكذا في ما نقله ابنُ القطَّان الفاسيُّ (ت 628 هـ) بقوله: «أجمعوا على أنَّ الإقرارَ بالقَدَر مع الإيمان به واجب .. وأجمع المسلمون على قول: لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله، وعلى قول: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن .. وأجمعوا على أنَّه تعالى قدَّر أفعال جميع الخلق، وآجالهم، وأرزاقهم قبل خلقِه لهم، وأثْبت في اللَّوح المحفوظ جميع ما هو كائن منهم، وأجمعوا على أنَّه الخالق لجميع أفعال العِباد، وأرزاقِهم، والمُنشئ لجميع الحوادث وحده؛ لا خالق لشيءٍ منها سِواه»
(3)
.
وبهذا يتبيَّن ما انطوَى عليه حديث المُحاجَّة مِن الأصولِ العظيمة في هذا الباب الَّتي قام الإجماع عليها.
إلَّا أَنَّ هناك قَدْرًا مِن الحديث جالت فيه فهوم أهلِ العِلم: وهو حقيقةُ ما وَقَع عليه لَوْمُ موسى عليه السلام، وحقيقةُ ما احتجَّ به آدَّم عليه السلام.
(1)
انظر في أدلَّة هذه المراتب «شفاء العليل» لابن القيم (ص/29)، وفي تقرير كونها ظاهر الحديث «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/616 - 620).
(2)
«الإبانة» (ص/145).
(3)
«الإقناع في مسائل الإجماع» (1/ 54 - 56).
وحاصل هذه الأنظار تتمحور في ثلاثة
(1)
:
النَّظر الأوَّل: أنَّ موسى لَامَ آدم عليهما السلام على الذَّنْبِ نفسِه، فكان الاحتجاج بالقَدَر عليها، على اختلافِ أرباب هذا النَّظر في وجهِ غَلَبة آدم عليه السلام بالحُجَّةِ، ذَهب إلى هذا النَّظر بعضُ أهلِ لعلم، منهم: القَنازعي
(2)
، وتلميذه ابن عبد البرَّ
(3)
.
وهذا نَظر مَرْجوحٌ؛ ذلك أنَّ موسى عليه السلام لم يَنُطْ لَوْمَه بالذَّنب، ولم يَنطق به أصلًا، فإناطة اللَّوم بذلك مع سكوتِ النَّص عنه دعوى لا دليل عليها؛ على أنَّ موسى عليه السلام أعلم بالله وبدينِه أن يلومَ آدم عليه السلام على ذنبٍ قد أخبره الله تعالى أن فاعله تابَ منه، وأنَّه اجتباه بعدُ وهَداه
(4)
.
والنَّظَرُ الثَّاني: أنَّ لَوْمَ موسى لأبيه آدم كان على مصيبة الإخراجِ لا على الذَّنب، وهذا القول نَصَرَه ابن حزم
(5)
، واختاره ابن تيمية
(6)
، وابن كثير
(7)
.
أمَّا النَّظَر الثَّالث: فهو تصحيح للنَّظَرَين، أي: جواز أن يكون لَوْمُ موسى عليه السلام على المصيبة، وأن يكون اللَّوم متوجِّهًا على الذَّنب لكونِه سبَبَ المصيبة، فلَوم موسى عليه السلام على الذَّنبِ لكونِه سَببًا لإخراج آدم والذُّرية مِن الجنَّة؛ لا أنَّه لَوْمٌ على الذَّنب لِذاتِه كما ذَهب إليه أصحاب النَّظرِ الأوَّل.
وهذا الثَّالث مَذهب ابن قيم الجوزيَّة، فقد قال بعد سوقه لكلام ابن تيميَّة في الحديث بما يوافق النَّظر الثَّاني:
«قد يَتوجَّه جوابٌ آخر؛ وهو: أنَّ الاحتجاجَ بالقَدر على الذَّنب يَنفع في موضعٍ، ويضرُّ في موضعٍ؛ فينفع إذا احتجَّ به بعد وقوعِه والتَّوبة منه، وتركِ
(1)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/621).
(2)
«تفسير الموطأ» للقنازعي (2/ 740).
(3)
«التمهيد» لابن عبد البر (18/ 15).
(4)
انظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (8/ 319،321)، و «شفاء العليل» (1/ 14).
(5)
انظر «الإحكام في أصول الأحكام» له (1/ 26).
(6)
«مجموع الفتاوى» (8/ 319).
(7)
انظر «البداية والنهاية» (1/ 198).
معاودتِه -كما فعل آدم عليه السلام فيكون في ذِكْر القَدَر إذْ ذاك مِن التَّوحيد ومعرفةِ أسماءِ الرَّب وصفاتِه وذكرِها ما ينتفعُ به الذَّاكرُ والسَّامِعُ؛ لأنَّه لا يدفع بالقدَر أمرًا ونهيًا، ولا يُبطل به شريعة؛ بل يخبر بالحقِّ المحض على وجه التَّوحيد والبراءةِ مِن الحول والقُوَّةِ ..
وأمَّا الموضعُ الَّذي يَضرُّ الاحتجاج به: ففي الحالِ أو المستقبل؛ بأن يرتكبَ فِعْلًا مُحرَّمًا، أو يترك واجبًا، فيلومه عليه لائم، فيحتجَّ بالقَدر على إقامتِه وإصرارِه، فَيبْطل بالاحتجاج به حقًّا، ويرتكب باطلًا.
ونكتةُ المسألة: أنَّ اللَّومَ إذا ارتفع صَحَّ الاحتجاج بالقَدَر، وإذا كان اللَّوم واقعًا، فالاحتجاجُ بالقَدَرِ باطلٌ»
(1)
.
واختار هذا الجمعَ ابنُ الوزير اليَمانيُّ
(2)
؛ فهو متضمِّن للنَّظرِ الثَّاني وزيادة، وكلاهما له ما يدلُّ عليه
(3)
.
وقصدي مِن سَوْقِي لهذه الأنظار في القَدْرِ المختلف فيه مِن الحديث:
إثباتُ كونِ ورثةِ الأنبياءِ مع اختلافِهم في هذا القَدْر، مُتَّفقون على أنَّ حقيقةَ ظاهرِه لا تَدلُّ على تسويغِ الاحتجاجِ بالقَدَر على المَعايب، وإسقاط المَلامة عمَّن أذنبَ، قد حكى الإجماعَ على ذلك غَيرُ واحدٍ.
يقول أبو بكر ابن العَربي: «أجمع العلماء على أنَّه غير جائزٍ لأَحدٍ إذا أتَى ما نَهى الله عنه أو حَرَّمه عليه أنْ يحتجَّ بمثل هذا، فيقول: أفتلومني على أنِّي قتلتُ، وقد سَبق في علم الله أن أَقْتُل؟! وتَلومني على أن أسرق وأزني، وقد سَبق في علمِ الله وقدره؟! هذا ما لا يسوغ لأحدٍ أن يجعله حُجَّةً لنفسه.
والأمَّةُ مُجتمعةٌ على أنَّه جائز لَوْمُ مَن أتى ما يُلام عليه مِن معاصي الله، وذمُّه على ذلك، كما أنَّهم مُجْمِعون على حَمْدِ مَن أَطاع، وأتى مِن الأمور المحمودة ما يُحمَدُ عليه»
(4)
.
(1)
«شفاء العليل» (ص/18).
(2)
انظر «الرَّوض الباسم» (2/ 465).
(3)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/621).
(4)
«المسالك في شرح موطأ مالك» (7/ 220 - 221).
ويقول ابن بطَّال الأندلسيُّ (ت 449 هـ): «أمَّا مَن عَمِلَ الخطايا ولم تَأْتِهِ المغفرةُ؛ فإنَّ العلماء مُجمِعون أنَّه لا يجوز له أن يحتجَّ بمثل حجَّة آدم، فيقول: أتلومني على أن قتلت، أو زنيت، أو سرقت؛ وقد قدَّر الله عليَّ ذلك؟! والأمَّة مجمعة على جواز حمْد المحسن على إحسانه، ولَوْم المسيء على إساءته، وتعديد ذنوبه عليه»
(1)
.
وفي مقابل هؤلاء؛ نرى مخالفيهم مِن القَدريَّة يفهمون مِن الحديث خلاف هذا الظَّاهرِ، فتقاطعت فهومُهم على أنَّه يدلُّ على صحَّةِ الاحتجاجِ بالقَدَر على المَعايب! وعلى هذا الاعتبار يسقط اعتبارُ التَّكليف والمؤاخذةِ على الجُرْم؛ وبهذا الفهمِ المغلوطِ للخَبر، والتَّأسيس لظاهرٍ ليسَ هو في الحقيقةِ الظَّاهر الحقيقيَّ الَّذي قَصد المتكلِّم بالنِّص الإفصاحَ عنه، أسَّسوا لردِّ الحديث والطَّعن في دلالتِه.
وقد بيَّنا انَّ الظَّاهرِ الحقيقيِّ للحديث مفارقٌ للظَّاهرِ الَّذي ادَّعوه؛ فإنَّ نصَّه بسياقِه يدلُّ على أَحدِ أمرين:
إمَّا أنَّ اللَّومَ لا يتوجَّه في المصائب، لجَرَيان القَدر السَّابقِ بها؛ فيرتفع حينئذٍ اللَّوم.
ب- أو أَنَّ اللَّوم لا وجهَ له بعد التَّوبة مِن الذَّنب، لا قبله.
وفي كِلتا الدَّلالتين ما يَنفي دلالة النَّصِ على تسويغِ الاحتجاج بالقَدَر على غِشيان الذُّنوب، وركوبِ المَحارم؛ لمُجرَّدِ جَرَيان القَدَر بها؛ والبَوْن فسيح بين الظَّاهر الحقِّ المَدلول عليه بهذا الحديث، وبين الظَّاهر المتوَهَّم الَّذي استبطنَه الطَّاعنون به.
فإذا تحرَّر لنا مَثَار الغَلط في فهم المسألة؛ تبيَّن أنَّ ما أثاره الطَّاعنون حول الحديثِ قضايا ليست موضوعيَّة، وما ساقوه في حقيقته طعنٌ في الظَّاهر الَّذي تَوهَّموه، لا الظَّاهر الَّذي دَلَّ عليه الخَبر وأراده مُخبِرُه؛ والحمد لله ربِّ العالمين.
(1)
«شرح صحيح البخاري» لابن بطَّال (10/ 315 - 316).