الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثالث دَفعُ دعوى المعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ للأحاديثِ المتعلِّقة بالدَّجالِ
قبل التَّصدي لدحضِ مجموعِ المعارضاتِ للأحاديث المتعلِّقة بالدَّجال، يحسُن في هذا المقام التَّأكيد على جملةٍ مِن المسائل دَلَّت عليها هذه الأحاديث المَسوقةُ آنفًا
(1)
:
أوَّلًا: إثباتُ أنَّ للمسيح الدجَّال وُجودًا مَوضوعيًّا.
ثانيًا: أنَّ خروجه أعظم الفِتن الَّتي توارَد أنبياء الله تعالى على التَّحذير منها، وكان أشدَّهم تحذيرًا منه، وبيانًا لنعوته، وكشْفًا عن العِصَم الَّتي تَقي منه: نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: أنَّ خروجه مِن أعظم دلائلِ قُربِ السَّاعةِ وأشراطها الكبرى.
تلك الأحاديث المرويَّة في شأن الدَّجال فيما أفاد هذه المسائل قد تواترت تواترًا معنويًّا، ونظَمَها غيرُ واحدٍ من أهل العلم بمخارجِ الأحاديث في سلْكِ الأخبار المقطوع بثبوتِها
(2)
.
(1)
انظر «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/429).
(2)
انظر «نظم المتناثر من الحديث المتواتر» لمحمد بن جعفر الكتاني (ص/228).
قال أبو العبَّاس القرطبي: «الَّذي يجب الإيمانُ به: أنَّه لا بُدَّ مِن خروج الدجَّال يَدَّعي الإلهيَّة، وأنَّه كذَّاب أعور؛ كما جاء في الأحاديث الصَّحيحة الكثيرة، الَّتي قد حَصَّلت لِمن عاناها العلمَ القطعيَّ بذلك»
(1)
.
ومِمَّن حَكمَ بتواتُرِ أحاديث الدَّجال: أبو الحسن الأشعريُّ
(2)
، وابن قيِّم الجوزيَّة
(3)
، وابن كثير الدِّمشقي
(4)
.
ولثبوتِ أحاديثِ الدجَّال، والقطع بنسبتها إلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم، درجَ أهل العلم على عدِّ الإيمان بما تَضمَّنته تلك الأحاديث مِن جُمَل عقائدهم؛ سواءً كان ذلك في مَطاوي مَعْلماتهم الجامعةِ لأحرفِ الاعتقاد
(5)
، أو ضمن أسفارِهم الَّتي عقدوها على جِهة الإفرادِ لبيانِ أشراط السَّاعة والفِتنِ الحاصلةِ في آخر الزَّمان
(6)
.
يقول أحمد بن حنبل: «الإيمان أنَّ المسيح الدَّجال خارجٌ، مَكتوب بين عينيه كافر، والأحاديث الَّتي جاءت فيه، والإيمان بأنَّ ذلك كائن، وأنَّ عيسى بن مريم عليه السلام ينزل، فيقتله بباب لدٍّ»
(7)
.
ثمَّ إجماعُ أهلِ السُّنةِ مُنعقِدٌ على ما تضمَّنته هذه المتواترات من أخبار؛ كما حكاه ابن عبد البرِّ في تقريرِه لعَقدِ أهل السُّنة والجماعة، بعد أن أسند إلى سفيان بن عيينة قولَه: «الإيمان قولٌ وعملٌ ونيَّة، والإيمان يزيد وينقص، والإيمان
(1)
«المُفهِم» (7/ 265).
(2)
«رسالة إلى أهل الثغر» (ص/166).
(3)
«المنار المنيف» (ص/142).
(4)
انظر «النهاية في الفتن والملاحم» لابن كثير (19/ 113 وما بعدها).
(5)
انظر مثلًا «شرح أصول اعتقاد أهل السنة» اللالكائي (7/ 1292)، و «السّنة» لابن أبي عاصم (1/ 283)، و «أصول السنة» لابن أبي زمَنين الأندلسي (ص/188)، و «الشريعة» للآجرِّي (3/ 1301)، وغيرها من أسفار أهل السنة التي تضمّنت أخبار الدجَّال ووجوب الإيمان بها.
(6)
انظر على سبيل المثال «أشراط السَّاعة وذهاب الأخيار وبقاء الأشرار» لعبد الملك بن حبيب الأندلسي (ص/134) و «النهاية في الفتن والملاحم» لابن كثير (19/ 113 وما بعدها).
(7)
«أصول السنة» لأحمد بن حنبل (ص/33 - 34).
بالحوض، والشَّفاعة، والدَّجال»، قال:«على هذا جماعةُ المسلمين، إلَّا مَن ذكرنا فإنَّهم لا يُصدِّقون بالشَّفاعة، ولا بالحوض، ولا بالدَّجال»
(1)
.
يُشير ابن عبد البرِّ بِمَن ذكَر إلى طوائف مِن الخوارج، والجهميَّة، والمعتزلة
(2)
.
وهذا ما وافقه عليه أبو محمد ابن حزم، حيث أشار إلى المنكرين للدجَّال وأحاديثِه بقوله:«أمَّا ضِرار بن عمرو وسائر الخوارج: فإنَّهم يَنفون أن يكون الدَّجالُ جملةً، فكيف أن يكون له آية؟!»
(3)
.
(4)
.
وقال أبو العبَّاس القرطبي: «فائدة الإنذار -أي بالدجَّال-: الإيمانُ بوجوده، والعزم على معاداتِه، ومخالفته، وإظهار تكذيبه، وصدقِ الالتجاء إلى الله تعالى في التعوُّذ مِن فتنتِه؛ وهذا مذهب أهل السُّنة، وعامَّة أهل الفقه والحديث؛ خِلافًا لمِن أنكرَه»
(5)
.
فأمَّا جوابُ المعارضةِ الأولى لكلِّ هذا الَّذي قرَّرناه من دعوى المخالِف أنَّ أحاديث الدجَّال تُنافي الحكمة من إنذارِ القرآن بقُربِ السَّاعةِ، وإتيانها إلى النَّاس بغتةً:
فإنَّ مِن مَثارات الغَلط في هذه الدَّعوى نَصْبَ التَّلازم بين التَّصديق بهذه الأشراط، وبين انتفاءِ ما اختصَّت به السَّاعة من مجيئها بغتةً؛ والواقع أنَّ التَّلازمَ
(1)
«التمهيد» (2/ 291).
(2)
انظر «إكمال المعلم» (8/ 475).
(3)
«الفِصل» لابن حزم (1/ 89).
(4)
«إكمال المعلم» (8/ 474 - 475).
(5)
«المُفهم» للقرطبي (7/ 267).
مُنْتَفٍ؛ فإنَّ هذه الأشراط الَّتي يَقطع علماءُ المسلمين بصحَّةِ الخبرِ بها، غايتُها أن تتَميَّز بها السَّاعة قدرًا مِن التَّمْيِيز، وأمَّا التَّحديد التَّام فهو مِن الغيب المُطلق الَّذي اختَصَّ الله به.
ولعلَّ ما أوقعَ (رشيد رضا) في هذه المُغالطة: ظنُّه أنَّ ترتيبَ حَدثٍ بعد وقوع حَدَثٍ قبله، يمنعُ حدوثَ الأخير منهما في التَّرتيب أن يكون بَغتةً؛ وهذا فَهم خاطئ، يُتبيَّن زغله إذا علمنا:
أنَّ معنى (البَغتة) في اللُّغة: المفاجأة بالشَّيء
(1)
، أي: نفي عِلمِك بمَجيء وقتِ ذاك الشَّيء بالتَّعيين، فأمَّا عِلمُك بقربِ وقتِه لعلامةٍ ما، لا يعني معرفتَك بوقتِه تحديدًا، فلا تَلازم.
هذا ما قرَّره ابن جرير الطَّبري بفصيح عبارةٍ في مَعرضِ حديثه عن السَّاعة وأشراطِها الكُبرى، فقال:
«إنَّ تلك أوقاتٌ لا يَعلم أحدٌ حدودَها، ولا يعرف أحدٌ مِن تأويلِها إلَّا الخبر بأشراطِها، لاستئثارِ الله بعلمِ ذلك .. وكان نبيُّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شيئًا من ذلك لم يدلَّ عليه إلَّا بأشراطه، دون تحديده بوقتٍ، كالَّذي رُوي عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال لأصحابه إذا ذكر الدَّجال: «إنْ يخرُج وأنا فيكم، فأنا حجيجُه، وإن يخرج بعدي، فالله خليفتي عليكم» ، وما أشبه ذلك مِن الأخبار .. الدَّالةِ على أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده عِلمُ أوقاتِ شيءٍ منه بمَقادير السِّنين والأيَّام، وأنَّ الله -جلَّ ثناؤه- إنَّما كان عرَّفه مجيئَه بأشراطه، ووقتَه بأدلَّته»
(2)
.
والَّذي أعجب منه، ليست غفلة (رشيد رضا) عن هذا الفرق اللُّغويَّ المهمِّ، ولكن عجبي من أنَّه -وهو المُعترض على هذه الأحاديث بدعوى أنَّ خروجَ الدَّجال وأشراط السَّاعة قاضيةٌ على الحكمةِ مِن إخفاء السَّاعة- هو نفسُه قبل مَوضعِ اعتراضِه هذا بصفحاتٍ يَسيرة، يقرِّر «أنَّ للسَّاعة أشراطًا ثَبَتت في الكتابِ
(1)
«المفردات» للراغب الأصفهاني (ص/135).
(2)
«جامع البيان» للطبري (1/ 68).
والسُّنة .. وأعظمها بعثةُ خاتم النَّبيَّين، بآخر هداية الوحي الإلهيِّ للنَّاس أجمعين؛ لأنَّ بعثتَه صلى الله عليه وسلم قد كَمُل بها الدِّين .. وبكماله تكمُل الحياة»!
(1)
ومهما يكن حَصرُ (رشيد رضا) لتلك الأشراطِ في بعضِها القليلِ -كبعثة النَّبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ ما أورَده مِن إشكالِ في الأشراط الأخرى واردٌ على ما أثبته من ذاك القليل، فما كان جوابه عنها فهو جوابنا عن سائرِها.
ثمَّ هذا الاعتراض وإن رَاشَه (رشيد رضا) على أحاديث أشراطِ السَّاعة، فقد فاته أنَّ ذلك يَسري إلى الآيات النَّاصة على أنَّ للسَّاعة أشراطًا -بإقراره هو أنَّها في القرآن- سواءً بسواء! مِن ذلك -مثلً- قوله تعالى:{فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18].
فلا مَحيص للمُعترضِ عن الوقوعِ في مخاضةِ هذا الإلزامِ إلَّا باتِّهام الرَّأي قبل التَّسارع في الطَّعن في الدَّلائل ببادي الرَّأي.
ومُحصَّل التَّحقيق في هذا الباب:
أنَّ هذه الأشراط -ومنها خروج الدَّجال الأكبر- إنَّما تَدلُّ على قُربِ السَّاعة، لا على تحقُّقِ العلمِ بوقوعِها، وعلَّة ذلك: انتفاءُ العلم بالمدَّة الزَّمنيَّة المحدَّدة بين تلك الأَشراط وبين وقوع السَّاعة، «وبهذا يكون الأمرُ نَقيضَ ما ذكره المُعترضون؛ بأن يكون العلم بهذه الأشراط: باعثًا على العملِ، موقِظًا من الغفلة، زاجرًا عن التَّمادي في المعاصي.
وهل قَطَّع قلوبَ الصَّالحين، وأذابَ أكبادَهم، كمثلِ تذَكُّر تلك الأهوالِ العِظام، وما فيها مِن فِتَنٍ تفزَع منها القلوب»
(2)
.
وأمَّا المعارضة الثَّانية: وهو دَعواهم أنَّ هذه الأحاديث نَسَبت جُملةً مِن الخوارقِ للدَّجَال تُضاهي أكبر الآيات التي أيَّد الله بها أولي العزم
…
إلخ؛ فالجواب عنها أن يُقال:
إنَّ منشأ الخطأ عند هؤلاء راجعٌ في حقيقتِه إلى إغفال أمرين مهِمَّين:
الأمر الأول: النَّظر في حقيقةِ دعوى الدَّجال التي يدَّعيها لنفسِه:
فإنَّ دعوى الدَّجَّال الَّتي تصحبُها تلك الخوارق هي دَعوى الرُّبوبية، لا النُّبوَّة والرِّسالة! وعلى هذا، فاقترانُ هذه الخوارق بدعواه، ومُضاهاتها لآياتِ الأنبياءِ ليست مَثار إشكال؛ لكونِه لم يَدَّع الرِّسالة أصلًا حتَّى يُقال: إنَّ هذه الخوارق مُعجزات وآيات قامت مَقام تصديقِ الله تعالى له.
الأمر الثَّاني: النَّظر في ما اقترنَ بالدَّجالِ مِن أحوال وصفات، تُبرهن على حقيقةِ أمرِه، وتكشِف عن زَيْفِ دَعواه:
وهو أنَّ الدَّجال مَوسوم بصفاتٍ وعلاماتٍ تقوم مَقام تكذيبِه فيما يدَّعيه؛ سواء مِن أمرِ الرُّبوبية أو الألوهيَّة، وهذه الأمور المُقترِنة معه تُبطِل أثرَ تلك الخوارق، وتَزيدُ اليقينَ عند المؤمنين بكذبه؛ وإلَاّ لمَا كان للنبَّي صلى الله عليه وسلم فَضلٌ ومَزيَّة على غيره مِن الرُّسل في الإبانةِ عن أمر الدَّجال، ولا في قولِه لهم:«ألا أحدِّثكم حديثًا عن الدَّجال ما حدَّث به نبيٌّ قومَه؟ .. » الحديث
(1)
، ولَمَا كان في قوله صلى الله عليه وسلم:«إنْ يخرجْ وأنا فيكم، فأنا حجيجُه دونكم، وإنْ يخرج ولستُ فيكم فأمرُؤٌ حجيجُ نفسه» فائدةٌ تُذكر.
فإنَّ المقصودَ من قولِه صلى الله عليه وسلم: « .. فامرؤٌ حَجيجُ نفسه» أنَّ الدَّجال إنْ خرجَ ولستُ فيكم «فليحتجَّ كلُّ امرئٍ عن نفسِه بما أعلمتُه مِن صِفته، وبما يدلُّ عليه العقلُ مِن كذبه في دعوى الإلهيَّة؛ وهو خَبرٌ بمعنى الأمر، مع ما فيه مِن التَّنبيه على النَّظر عند المُشكلات، والتَّمسُّك بالأدلَّة الواضحات»
(2)
.
والمؤمن ببصيرتِه يُسدِّده الله تعالى، فينكشِف له في أَزمانِ الفِتنِ ما لا ينكشفُ لغيره، ويَتبيَّن له صدق الصَّادق، وافتراء المفتري، والدَّجال أكذب الخلق، وكَذبه ظاهر، لا يُنفَق على أهلِ اليقين.
(1)
أخرجه البخاري في (ك: الأنبياء، باب: قول الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، رقم: 3338)، ومسلم في (ك: الفتن وأشراط السَّاعة، باب: ذكر الدجال وصفته وما معه، رقم: 2936).
(2)
«المفهم» للقرطبي (7/ 276 - 277) بتصرف يسير.
(1)
.
فإن قيل: لكن مع وجودِ هذه الصفات المُخبَر عنها في الأحاديث الدَّالة على كذب الدَّجال؛ فإنَّ وجود ما يُضادُّها مِن الخوارق الَّتي يُجريها الله على يديه، يَبعثُ إلى الافتتانِ به، والحيرة في أمره!
فيُقال: نعم هذا حقٌّ، فإنَّ ما يُجريه الله على يَديه فتنةٌ عظيمة، لا يخلُص منها إلَّا أهل الإيمان؛ كما قال ذلك الشَّاب المؤمن الَّذي قتَله الدجَّال ثمَّ أحياه:«ما كنتُ فيك أشدَّ بصيرةً مِن اليوم» ؛ وكما يحصل لمَن في قلوبِهم مَرض، وأهل النِّفاق والكَفرة من ازدياد الارتياب والفتنة به؛ فهذا الأمر -كما يقرِّره الخطَّابيُّ- «جائزٌ على سبيلِ الامتحانِ لعبادِه؛ إذْ كان منه ما يدلُّ على أنَّه مُبْطِل، غير محقٍّ في دعواه؛ وهو أنَّ الدَّجال أعور عَينِ اليمنى، مكتوب على جبهته كافر، يقرؤه كلُّ مسلم، فدعواه داحضة مع وسْم الكُفر، ونَقْص العور، الشَّاهدَيْن بأنَّه لو كان ربًّا لقَدِر على رفع العَور عن عينِه، ومَحْو السِّمةِ عن وجهِه، وآياتُ الأنبياء الَّتي أُعطوها بَريئةٌ عمَّا يُعارضها ونقائضها، فلا يشتبهان بحمد الله»
(2)
.
وأمَّا المعارضة الثَّالثة: وهي زعمهم أنَّ هذه الخوارق مخالفة لسُنن الله
…
إلخ:
فالجواب عنها: ما أبنتُ عنه في المبحثِ المنعقدِ لدفعِ المُعارضِ العقليِّ عن الآياتِ الحسيَّة للأنبياء؛ والَّذي يأتي في مبحث مستقلٍّ.
(1)
«مجموع الفتاوى» لابن تيمية (20/ 45).
(2)
«أعلام الحديث» للخطابي (4/ 2331).
وأمَّا المعارض الرَّابع: وهو قولهم أنَّ الكتابةَ لو حُمِلت على حقيقتها، لاستوى في إدراك ذلك المؤمن والكافر، وأنَّ مِن المؤمنين مَن هو أمِّيٌّ أو أعمى .. إلخ:
فالَّذي يتحقَّقه العقلاء الأسوياء في درء هذه الشُّبهة، أنَّ العقل لا يُحيل ذلك، فهم يعلمون أنَّ الربَّ تبارك وتعالى الَّذي قَدِر على أن يَصرِف الكافر عن إدراك هذه الكتابة، لا يُعجِزه سبحانه أن يُمكِّن المؤمنَ الأميَّ والأعمَى مِن إدراكها! وكِلا الفِعلين الإلهيِّين -مِن الصَّرف عن تلمُّحِ الكتابةِ والتَّمكين من إدراكها- أمران غَيْبيَّان نجهل كيفيَّتهما على التَّحقيق.
وعلى هذا؛ فحملُهم الخاطئ للوارد في هذا الحديث مِن أمرِ الكتابةِ على معنى ما ثَبت من شواهدِ عجْزِه وظهور نقصِه: هو «عُدولٌ وتحريفٌ عن حقيقةِ الحديث من غير مُوجبٍ لذلك، وما ذكره المعترض مِن لزوم المُساواةِ بين المؤمن والكافر في قراءةِ ذلك، لا يلزم من وجهين:
أحدهما: أنَّ الله يَمنع الكافرَ مِن إدراكِه؛ ولا سيما وذلك الزَّمان قد انخرقت فيه عوائد؛ فليكن هذا منها! وقد فُهِم ذلك ممَّا جاء في بعضِ طُرقه: «يقرؤه كلُّ مؤمنٍ؛ كاتبٍ وغير كاتبٍ .. » ، وقراءة غيرِ الكاتبِ خارقةٌ للعادة.
وثانيهما: أنَّ المؤمن إنَّما يُدركه لتثبُّتِه ويقظتِه، ولسوءِ ظنِّه بالدَّجال، وتخوُّفه من فتنتِه، فهو في كلِّ حالٍ يستعيد النَّظر في أمرِه، ويَسْتزيد بصيرةً في كذبه؛ فينظر في تفاصيل أحواله، فيقرأ سطورَ كفرِه وضلاله، ويتبيَّن عينَ محالِّه.
وأمَّا الكافر: فَمَصروفٌ عن ذلك كلِّه؛ بغفلتِه وجهلِه، وكما انصرف عن إدراك نقص عَوَرِه، وشواهد عجزِه؛ كذلك يُصرَف عن فهم قراءة سطورِ كفره ورَمْزِه»
(1)
.
(1)
«المفهم» (7/ 268 - 269).
فالَّصحيح الَّذي عليه المحقِّقون من أهل العلم: أنَّ الكتابة المذكورة حقيقة، جعَلَها الله علامةً قاطعةً يُكذَّب بها الدَّجال، فيُظهِر الله المؤمنين عليها، ويخفيها على مَن أراد شقاوَتَه
(1)
.
والقاضي عياض وإن حكى في ذلك خلافًا، أنَّ بعضهم قال: هي مَجازٌ عن سِمة الحدوث عليه
(2)
؛ فهذا مذْهب ضعيف.
يقول فيه ابن حجر: «ولا يَلزم مِن قولِه: «يقرؤُه كلُّ مؤمنٍ، كاتبٍ وغير كاتب .. » أن لا تكون الكتابةُ حقيقةً، بل يُقدِّر الله على غيرِ الكاتب عِلمَ الإدراك، فيقرأ ذلك، وإنْ لم يكن سَبق له معرفةٌ بالكتابة؛ وكأنَّ السِّرَّ اللَّطيفَ في أنَّ الكاتب وغير الكاتب يقرأ ذلك: لمناسبةِ أنَّ كونَه أعور يُدركه كلُّ مَن رآه»
(3)
.
فبهذا يَتبيَّن أنَّ مَن ذهب إلى تأويلِ الأحاديث الدالَّةِ على الوجودِ العَينيِّ للدَّجَّال، بحملِها على الرَّمزِ والإشارةِ؛ وأنَّها ترمز إلى الخرافةِ والدَّجل، الَّتي تزول بتقريرِ الشَّريعة على وجههِا -كما ذَهب إلى ذلك (محمَّد عبده)
(4)
-، أو أنَّها ترمزُ على الشرِّ واستعلائه -كما تأوَّلها (محمَّد أَسد)، وارتضاه (مصطفى محمود)
(5)
-: كلُّ هذه التَّأويلات لا تثبُت على قَدَمٍ، وبطلانُها بيِّنٌ مِن وجوه:
الوجه الأوَّل: أنَّ هذه التَّأويلات مُؤسَّسة فيما يظهر على الإحالةِ العقليَّة، ولا إحالة تمنع مِن قبول أحاديثِ الدجَّال والتَّسليمِ بها؛ بل هي جاريةٌ على سَنَن العَقل، والشَّرعُ مُثْبِت لها، وما أثبته الشَّرعُ فهو يَقينًا مُوافقٌ للعقل، ومَن تأمَّل هذا في جميع ما أخبر به الرَّسول صلى الله عليه وسلم، فمُحالٌ أن تَزِلَّ قدمُه عند ورودِ بعضِ ما يُشكِل على هذا الأصل.
(1)
«شرح النَّووي على مسلم» (18/ 60).
(2)
«إكمال المعلم» (8/ 476).
(3)
انظر «فتح الباري» لابن حجر (13/ 100).
(4)
نقله عنه تلميذه رشيد رضا في «تفسيره» (3/ 317).
(5)
انظر كتابه «رحلتي من الشك إلى الإيمان» (ص/104 - 105)، ورأي (محمد أسد) منقول في هذا الموضع نفسه من الكتاب.
الوجه الثَّاني: أنَّ هذه التَّأويلات قَدْحٌ في تبليغِ النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه مِن المُتقرَّر شرعًا وعقلًا أنَّ مَن أراد النُّصحَ والبيانَ لأحدٍ مِن الخلق، فإنَّه لابدَّ أن يَعمَد إلى أقربِ الطُّرقِ للإفهام، ويَتخيَّر مِن الألفاظِ ما تحصل به الإبانة، وتقع به النَّصيحة، فإنْ تَحاشى مُريد النَّصيحةِ هذا السَّبيل بأنْ عَمد إلى الإبهام، مع الحاجة إلى البيان: استدلَّ النَّاظر في حال هذا المتنكِّب عن هذا السَّبيل على أنَّه: جاهلٌ عاجزٌ عن الإبانة، أو قاصدٌ لتضليل المُخاطَب، وإيقاعِه في الحِيرة!
ولا ريب أنَّ المُتأوِّلين لأحاديثِ الدَّجالِ ونحوها على خلاف الظَّاهر المُتبادر منها، وإن لم يَتَقصَّدوا أحدَ هذين الاحتمالين: فإنَّهم واقعون في وصفِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم بأحدِهما لزومًا.
الوجه الثَّالث: أنَّ حملَ هذه الأحاديث الدَّالة على تشخُّصِ الدَّجال، وخروجِه على الرَّمز والتَّخييل، بلا قرينة توجب ذلك: هو عدولٌ عن الظَّاهرِ المُتبادَر بلا ضرورة عقليَّة ولا شرعيَّة تستدعيه.
وطَرْقُ بابِ التَّأويل لأدنى إشكالٍ يَنقدح في عقل النَّاظر في مثل هذه الأحاديث، يَبعثُ على فتحِ البابِ على مصراعَيْه لتأويلِ أحرفِ الشَّريعة كلِّها، فلا يُوثَق بعدُ بخَبرٍ، ولا ينعقد القلب على دينٍ؛ وهذا هو الانحلال بعينِه، وهَدْم الشَّريعة وتَقْويضها
(1)
.
وأمَّا المعارض الخامس: في دعوى المخالفِ تناقضَ أحاديث الدَّجال في تحديدِ شخصِه، أو في زمانِ خروجِه ومكانِه، أو في خوارِقه الَّتي تكون معه؛ فإنَّا نبيِّن زيفَ دعاوي التَّناقض هذه كلًّا على حِدة:
فأمَّا دعواه أنَّه صلى الله عليه وسلم كان يشكُّ في ابن صيَّاد هل هو الدَّجال أم لا، مع أنَّه وَصَف الدَّجال بصفاتٍ لا تنطبق على ابن صيَّاد: فالحقُّ أنَّ الاختلافَ في ابنِ الصَّياد
(2)
لا يُنكَر وقوعه بين العلماء، «وأشكلَ أمرُه، حتَّى قيل فيه كلُّ مَقيل»
(3)
.
(1)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/450 - 452).
(2)
اسمه: صاف، وقيل: عبد الله، ويكنى أبا يوسف، وهو شاب من يهود المدينة، انظر «التذكرة» للقرطبي (ص/1317).
(3)
«معالم السنن» للخطابي (4/ 348).
والَّذي يَقتضيه المنهج العلميُّ الصَّحيح هنا: الرُّجوع بهذا الاختلاف وأدلَّته إلى قواعد الجمع، ثمَّ التَّرجيح بضوابطه إن تَعذَّرت الأولى، أمَّا أن يُقدم المخالف على قفزِ تلكم المراحلِ المنهجيَّة، والرِّضا بعدُ بإسقاطِ الأدلَّة كلِّها بدعوى الاضطراب: فنَأيٌ عن الجادَّة الَّتي تَوَالى الأصوليُّون على التَّوصيةِ بسلوكِها في مثل هذه القضايا النَّقليَّة.
فمن ذلك: ذهاب بعضِ أهلِ العلمِ إلى كونِ ابن الصَّياد هو المسيح الدَّجال
(1)
، وأنَّه هو الخارج آخر الزَّمان، واستشهدوا بما مَرَّ عن محمَّد بن المنكدر قال:«رأيتُ جابر بن عبد الله رضي الله عنه يحلف بالله أنَّ ابن الصَّائد الدَّجال، قلت: تحلف بالله؟! قال: إنِّي سمعت عمرَ يحلف على ذلك عند النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلم ينكره النَّبي صلى الله عليه وسلم»
(2)
، وبقول جابر رضي الله عنه أيضًا:«فقَدْنا ابنَ الصيَّاد يوم الحَرَّة»
(3)
، وتأوَّلوا فقدَه هذا برجوعِه إلى جزيرتِه الَّتي رآه فيها تَميم الدَّاري مُوثَّقًا!
(4)
.
(1)
كابن بطَّال في «شرحه للبخاري» (10/ 386)، وأبي العبَّاس القرطبي في «التذكرة» (ص/1340)، وهو ظاهر كلامِ النَّووي في «شرحه لمسلم» (18/ 46 - 47)، والشَّوكانيِّ في «نيل الأوطار» (7/ 237 - 242).
(2)
أخرجه البخاري في (ك: الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة، لا من غير الرسول، رقم: 7355)، ومسلم (ك: الفتن واشراط الساعة، باب: ذكر ابن الصياد، رقم: 2929).
(3)
أخرجه أبو داود في «سننه» (ك: الملاحم، باب: في خبر ابن الصياد، رقم: 4332)، وصحح إسناده الألباني في «صحيح وضعيف سنن أبي داود» (4332).
(4)
«شرح النووي على مسلم» (18/ 46).
وذهب غير هؤلاء إلى أنَّ المسيح الدَّجال الخارجَ آخر الزَّمان غير ابن الصَّياد الَّذي عاش في المدينة زمنَ النُّبوة
(1)
، فإنَّ هذا «كان دجَّالًا مِن الدَّجاجلة، ثمَّ تِيب عليه بعد ذلك، فأظهرَ الإسلام، والله أعلمُ بَضميرِه وسَريرتِه»
(2)
.
ودليلهم على ذلك: حديثُ تميم الدَّاري رضي الله عنه الطَّويل المشهور في «صحيح مسلم»
(3)
، وقد مرَّ أنَّه أخبرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بلُقياه المسيحَ الدَّجالَ -بتقديرٍ مِن الله تعالى- مُوثقًا في دِيرٍ بإحدى الجُزر النَّائية في البحر، فذكره له بأوصافٍ تخالف ما عليه ابنَ الصَّياد.
وحملَ بعضُ هؤلاءِ جزمَ عمر رضي الله عنه على أنَّ ابن الصَّياد هو المسيحُ الدَّجال على عدم اطِّلاعِه على حديث تميمٍ وقتَ حلِفِه، وحملوا جزمَ جابر رضي الله عنه لمَّا رأى سكوتَ النَّبي صلى الله عليه وسلم عند حلف عمر رضي الله عنه بأنَّه اجتهادٌ منه مَنقوض، وذلك أنَّ «الظَّاهر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يكُن قد أُوحِيَ إليه وقتئذٍ في أمره بشيءٍ، وإنَّما أوحي إليه بصفاتِ الدَّجال، وكان في ابن صيَّاد قرائن محتملة، فلذلك كان صلى الله عليه وسلم لا يقطع في أمره بشيء»
(4)
.
فكان سِرُّ سكوتِه صلى الله عليه وسلم على حَلفِ عمرَ: عَدمُ تحقُّقِه مِن بطلانِ ما حَلف عليه، فلا يُعَدُّ هذا السُّكوت في هذه الحالة تقريرًا، خصوصًا إذا عُلِم أنَّ مِن شرط العَمل بالتَّقرير: ألَّا يعارضَه تَصريحٌ يخالفه
(5)
.
فبهذا يرجُح عندي أنَّ قول مَن نفى أن يكون المسيح الدَّجال هو ابن الصَّياد هو الأصوب.
(1)
منهم البيهقيُّ في «البعث والنشور» (ص/31، استدراكات عامر حيدر)، وابن تيمية في «الفرقان» (ص/166)، وابن كثير في «البداية والنهاية» (19/ 204).
(2)
«البداية والنهاية» لابن كثير (19/ 204).
(3)
ستأتي دراسة هذا الحديث ودفع المعارضات المعاصرة عنه بتفصيل في مبحث مستقل.
(4)
«شرح صحيح الإمام مسلم» للنووي (18/ 46).
(5)
وسيأتي تفصيلُ الكلام في حقيقة ابن صيَّاد في تضاعيف الكلام على حديث الجسَّاسة.
ومهما يكُن أحدُ القَولين هو الصَّواب، فكِلا قائلَيْه من أهل العلم قد أصابَ المنهجَ الصَّحيح، بسلوكهم لسبيل الجمعِ والتَّرجيح بين أدلَّة الباب، بدلَ الإقدامِ على خطيئة الطَّعنِ في البابِ جملةً.
وأمَّا عن التَّعارض الثَّاني: في دعوى (رشيد رضا) أنَّ بعضَ الرِّوايات تُصرِّح بأنَّه يكون مع الدَّجال جبالٌ من خبزٍ ونهر أو أنهار من ماء وعسل .. إلخ، في حين أنَّ ما رواه الشَّيخان من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ينفي ذلك عنه، حيث قال للنَّبي صلى الله عليه وسلم: لأنَّهم يقولون إنَّ معه جبل خبزٍ ونهر ماء، فقال صلى الله عليه وسلم: هو أهون على الله مِن ذلك.
فجوابه: سائرٌ على منوالِ ما سبق تقريره مِن الجواب على دعوى التَّعارض قبله، ذلك أنَّ «إعمالَ الدَّليلين أَوْلَى مِن إهمالِها»
(1)
، ثمَّ التَّرجيح إن استحكَم العجز عن الجمع، وقد سبق تقريره.
فنقول: إنَّ قولَه صلى الله عليه وسلم: «هو أَهْوَن على الله مِن ذلك» مُحتمل مَعنَيْين:
المعنى الأوَّل: أَنَّ الدَّجالَ أهونُ مِن أن يُجرِيَ الله على يديه هذه الخوارق؛ وإنَّما هو تخيِيل، وسِحرٌ يَسحر به أعينَ النَّاس.
وهذا المعنى اختاره الطَّحاويُّ في تفسيرِ الحديث
(2)
، فقَرَّر أنَّ ما يُظهِره الدَّجال ليس إلَّا تخييلًا ومَخْرَقةً لا حقيقةَ تحتها، واستدلَّ تأييدًا لذلك بحديثِ أبي الزُّبير عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا:« .. ثمَّ يأمرُ السَّماءَ فتُمطر فيما يَرى النَّاس، ويقتلُ نفسًا ثمَّ يحييها فيما يَرى النَّاس»
(3)
.
وعلى الطَّريقة نفسِها في الجمعِ سارَ ابن حبَّان البُستي، فقرَّر أنَّ «إنكارَ المصطفى صلى الله عليه وسلم على المغيرة بأنَّ مع الدَّجال أنهار الماء، ليس يُضادُّ خبرَ
(1)
انظر «تشنيف المسامع» للزركشي (3/ 492)، و «شرح المحلي على جمع الجوامع ـ مع حاشية العطار» (2/ 66).
(2)
انظر «شرح مشكل الآثار» (2/ 424).
(3)
أخرجه الطَّحاوي في «شرح مشكل الآثار» (14/ 381، رقم:5694)، وأحمد في «المسند» (23/ 211، رقم: 14954)، والحاكم في «المستدرك» (3/ 423) وصَّححه.
أبي مسعود رضي الله عنه الَّذي ذكرناه، لأنَّه أَهْوَن على الله مِن أن يكون معه نهرٌ الماء يجري، والَّذي معه يرى أنَّه ماءٌ ولا ماءٌ، من غير أن يكون بينهما تَضادٌّ»
(1)
.
والمعنى الثَّاني: أنَّه أَهْون مِن أن يجعلَ ما يخلقه الله تعالى على يَديه مُضِلًّا للمؤمنين، ومشكِّكًا لقلوبِ الموقنين.
يقول القاضي عياض: «قوله في هذا الحديث: « .. هو أهْوَن على الله مِن ذلك» ، أي: مِن أن يجعلَ ما يخلقُه على يدِه مُضِلًّا للمؤمنين، ومُشكِّكًا لقلوبِ المُوقنين؛ بل يزيد الَّذين آمنوا إيمانًا، وليرتاب الَّذين في قلوبهم مَرض والكافرون»
(2)
.
وقال ابن حجر: « .. فدلَّ ما ثَبت مِن ذلك على أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: « .. هو أهون على الله من ذلك» ليس المراد به ظاهره، وأنَّه لا يجعل على يديه شيئًا مِن ذلك؛ بل هو على التَّأويل المَذكور»
(3)
، يعني: تفسيرَ القاضي عياض السَّالف الذِّكر.
فلمَّا أن كان هذا اللَّفظ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم محتملًا لكِلا هذين المعنيين؛ كان المُتعيَّن البحث عمَّا يزيح أحد الاحتمالين؛ فوجدنا أنَّ الأحاديث الأخرى قد أبانت عن أنَّ ما مع الدَّجال من الخوارق على بابها وظاهرها، فلم يسعنا حينئذٍ إلَّا المصير إليها، واتِّخاذها أصلًا مُحكما يُردُّ إليها ما تشابه من الألفاظ
(4)
.
فأمَّا استدلالُ الطَّحاوي بحديثِ جابر رضي الله عنه: فلا يستقيم له إلَّا بعد التَّسليم بصحَّة ثبوتِه؛ وهذا ما لا يتمُّ له؛ لتفرُّد أبي الزُّبير عن جابر صلى الله عليه وسلم بتلك الزِّيادة الَّتي لم تقع في الأحاديث الأخرى، أعني قولَه:«فيما يرى النَّاس» ، فهي زيادةٌ تخالف رواياتِ الثِّقاتِ للحديث، لا أعلمها إلَّا مِن رواية أبي الزُّبير عن جابر
(5)
.
(1)
«صحيح ابن حبان» (15/ 211).
(2)
«إكمال المعلم» (8/ 492).
(3)
«فتح الباري» (13/ 116).
(4)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/446).
(5)
ولست أنزع إلى التعليل بعنعنة أبي الزبير عن جابر بكونِه مدلسًا.
فكيف تثبت هذه الزِّيادة أنَّ الإمطارَ مجرَّد تخيُّلٍ لا حقيقة له، وقد أنبتت الأرض منه حقيقةً، وأكل النَّاس مِمَّا أخرجت؟!
وإن كان الدَّجال قد خيَّل للنَّاسِ شَقَّ الشَّاب المؤمن فِلْقَتين، ثمَّ أرجعَه كما كان حيًّا، فهل يُعقل أنَّ الشَّابَ المفعول به ذاك قد شملَه ذاك التَّخييل وقد صرخ بوقوعه؟! وإلَّا فما منعه أن يجهر في النَّاس أنَّ ما أجراه الدَّجال عليه مجرَّد تخييلٍ وتدليسٍ لا حقيقة له لم يُمَسَّ فيه بسوء؟! في حين أنَّ الرِّوايات الصَّحيحة تُثبت أنَّ الشَّابَ قد تَيقَّن أنَّه قد أُحْيِيَ بعد مَقتلِه، فزاد بذلك يَقينُه بما كان أخبرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن كونِ ذلك على الحقيقة!
مِن هنا نتبيَّن: أنَّ ما ذهب إليه الطَّحاوي وابن حبَّان مِن تأويلٍ لمِا مع الدَّجال من الخوارق على معنى التَّمويه والتَّخييل تردُّه تلك الأحاديث البيِّنة الدالَّة على أنَّ ما يُظهِره الله على يَديه مِن أمرِ السَّماء بالإمطار فتُمطر، والأرضِ فتُنبت، واتِّباع كنوز الأرض له كيعاسيب النَّحل، وقتْله ذلك الشَّاب ثمَّ إحيائه له: كلُّه حقيقةٌ لا مَخْرقة، وليس هناك ما يَمنع من جريانِ تلك الخوارق على يَديه، والزَّمن زَمن انخراق السُّنَن.
ولذا قال أبو العبَّاس القرطبي: «أمَّا مَن قال: إنَّ ما يأتي به الدجَّال حِيَلٌ ومخارق فهو مَعزول عن الحقائق؛ لأنَّ ما أخبر به النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن تلك الأمور حقائق لا يحيل العقل شيئًا منها، فوَجَب إبقاؤها على حقائِقها»
(1)
.
ولا ريب أنَّ مثل الطَّحاوي وابن حبَّان لا يشملهما كلام القرطبيِّ هذا، لأنَّ مَردَّ تأويل هذين الإمامين ليس عن شبهةٍ عقليَّة -كما دأبُ المُحْدَثين- بل كان عن شبهةٍ نقليَّة؛ كما مَرَّ معنا مِن استدلالهم بروايةِ:« .. فيما يَرى النَّاس» ، مع ما يعلمانه مِن الأحاديث الَّتي فيها ذِكرٌ لتلك الخوارق.
هذا كي لا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ تأويلهم نابعٌ عن استشكالٍ عَقليٍّ مَحْضٍ فيُتَّخَذ ذلك وليجةً للاعتضادِ به، وبيان مَآخذ أهلِ العلم، ونفيُ مَوارد الظُّنون عنهم، مِمَّا
(1)
«المفهم» (23/ 107)، وانظر «البداية والنهاية» (19/ 193 - 194).
يَتغيَّاه هذا البحث؛ لقطعِ علائقِ المتأوِّلين المُتعلِّقين بأذيالِهم؛ فضلًا عن كونِ ذلك مِن لوازمِ الدِّيانة.
وأمَّا عن التَّعارض الثَّالث: في دعوى اختلافِ الرِّواياتِ في المكانِ الَّذي يخرج منه المسيح الدَّجال:
فإنَّ الدَّجال خارجٌ مِن المشرقِ قولًا واحدًا، وهو ما أشارت إليه أكثر الأحاديثِ في هذا الباب، «ثمَّ جاء في روايةٍ أنَّه يخرج مِن خُراسان، أخرج ذلك أحمد والحاكم مِن حديث أبي بكر رضي الله عنه، وفي أخرى أنَّه يخرج مِن أصبهان، أخرجها مسلم»
(1)
.
ولا تعارض بين هذه الجهات الثَّلاثة، لأنَّ أصبهان جزءٌ من بلاد خراسان، وخراسان واقعة شرق الجزيرة العربيَّة.
والَّذي يظهر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث الجسَّاسة خروجَ الدَّجال مِن بحر الشَّام أو بحر اليَمن قد رجعَ عنه النَّبي صلى الله عليه وسلم في آخر الرِّواية نفسها، حيث قال صلى الله عليه وسلم:«ألَا إنَّه في بحر الشَّام، أو بحر اليَمن، .. لا بل من قِبل المشرق ما هو! مِن قِبل المشرق ما هو! مِن قِبل المشرق ما هو!» ، وأوْمأَ بيده إلى المشرقِ
(2)
.
يقول أبو العبَّاس القرطبي في هذه الجُمَل النَّبويَّة: «كلُّه كلامٌ ابتُدِئ على الظَّن، ثمَّ عَرض الشَّك أو قصد الإبهام، ثمَّ نَفى ذلك كلَّه، وأضربَ عنه بالتَّحقيق، فقال: لا، بل مِن قبل المشرق؛ ثمَّ أكَّد ذلك بـ (ما) الزَّائدة، وبالتَّكرار اللَّفظي، وهذا لا بُعدَ فيه؛ لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بَشرُّ يظنُّ ويشكُّ، كما يَسهو ويَنسى، إلَّا أنَّه لا يَتمادى، ولا يُقَرُّ على شيءٍ من ذلك، بل يُرشَد إلى التَّحقيقِ، ويُسلك به سواء الطَّريق»
(3)
.
(1)
«فتح الباري» (13/ 91).
(2)
أخرجه مسلم في (ك: الفتن وأشراط الساعة، باب: في خروج الدجال ومكثه في الأرض، ونزول عيسى وقتله إياه، وذهاب أهل الخير والإيمان، وبقاء شرار الناس وعبادتهم الأوثان، والنفخ في الصور، وبعث من في القبور، رقم: 2262).
(3)
«المُفهم» (23/ 132).
والحاصل مِن هذا: أنَّه صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أنَّ الدجَّال المذكورَ في بَحرِ الشَّام؛ لأنَّ الظَّن أنَّ تميمًا رَكِب في بحر الشَّام، ثمَّ عرَض له احتمالُ أنَّه في بحرِ اليَمن؛ لقربه مِن أرض الشَّام، ثمَّ أطلعه العليمُ الخبير على تحقيقِ ذلك فحَقَّق.
أمَّا ما جاء في حديث النَّواس بن سمعان رضي الله عنه مِن أنَّ الدَّجال سيخرج من خلَّة بين العراقِ والشَّام: فيُحمَل على تعدُّدِ خروجه، فيكون «مُبتدأ خروجِ الدَّجال مِن خراسان، ثمَّ يخرج إلى الحجازِ فيما بين العراق والشَّام»
(1)
خروجَه الأكبرَ، قصدَ استئصالِ جذرِ من جذور الإسلامِ مِن أصلِه.
أمَّا جواب المعارضِ السَّادس: في دعوى المعترضِ أنَّ الدَّجال لو كان حقيقةً، لوَرَد ذكره في القرآن الكريم، تحذيرًا للنَّاس مِن فتنِه:
فلقد جاء في القرآنِ الكريم الإخبار عن أشراط السَّاعة بإجمال، كما في قوله تعالى:{فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد: 18]، ولا شكَّ أنَّ مهمَّة الرَّسول تفصيلُ هذا الإجمالِ وبيانُه، وقد تواترَ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم إدراجُ الدَّجال في جملةِ هذه الأشراطِ الَّتي ذكرتها الآية الكريمة، فوَجَب التَّسليم له به.
وخفاءُ حكمةِ عدمِ التَّصريحِ بأمرِ الدجَّال في القرآنِ لا يُعكِّر على ما دَلَّت عليه الأحاديث القطعيَّة مِن ثبوتِ أمرِه؛ وإلَّا لاقتضى ذلك التَّجارِي في إنكارِ كلِّ ما يثبُت في السُّنَن مِن مَعاقِد الدِّين، بدعوى سكوتِ القرآن عنه!
وأمَّا جواب المعارض السَّابع: من دعوى تضمُّنِ الأحاديث الواردةِ في وصفِ الدَّجال تجسيمًا لله تعالى وتشبيهًا بخلقه، حيث لازمها إثبات العَيْن له سبحانه:
فقد تَقدَّم الكلام على أنَّ إثباتِ الصِّفاتِ لله تعالى الواردة في الكتاب والسُّنة، مِن غير تَكيِيفٍ لها ولا تمثيل، لا يُعَدُّ ذلك تجسيمًا للبَاري سبحانه، ولا تشبيهًا له بخلقِه.
(1)
«المُفهم» (23/ 116).
وقد جَرى مَذهبُ أهل السُّنة والجماعة على حملِ ما جاء في الحديث الوارد في عور الدَّجال على إثباتِ صِفة العَينِ لله تبارك وتعالى على ما يَليق بجلالِ ذاتِه وعظمتِه، حيث ذَكَر النَّبي صلى الله عليه وسلم الدَّجال بـ «أنَّه أَعْور، وأنَّ ربَّكم ليس بأَعْور» ، و «الأعور عندهم ضدُّ البَصير بالعَينين»
(1)
.
يقول البيهقيُّ تعليقًا على هذا الحديث:
(2)
.
وعلى هذا مَشى الأشاعِرَة المتقدِّمون في إثباتِ تلكم الصِّفات الذَّاتية الخبريَّة، ولم يزيدوا على ذلك، اقتفاءً لمذهبِ مَن سَلف مِن علماء الأمَّة، مع تنزيههِم له تعالى عن المثيل والشَّبيه؛ يكفي في هذا ما نقله عنهم أبو الحسن الأشعريِّ وهو يُقرِّر عقائد أهل السُّنة، حيث قال:«قال أهل السُّنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم، ولا يُشبه الأشياء، وأنَّه على العرش .. وأنَّ له عَيْنين»
(3)
.
وقال في موضعٍ آخر مِن كُتبِه: « .. وأنَّ له -سبحانه- عَينين بلا كيف»
(4)
.
أمَّا مَن تأوَّل هذا الخَبر النَّبويَّ مِن مُنتسِبي هذا الإمامِ، بأنَّ المُرادَ منه مجرَّد نفي النَّقصِ والعَيبِ عنه سبحانه، أو كناية عن صِفة البَصرِ لا العَين
(5)
؛ فعلى قول هذا الفريقِ أيضًا يسلمُ الحديث من تُهمة التَّجسيمِ أو التَّشبيه؛ إذ أنَّه كما كانت
(1)
«نقض الدارمي على بشر المريسي» (ص/305).
(2)
«الاعتقاد» للبيهقي (ص/89).
(3)
«مقالات الإسلاميين» (1/ 168 - تحقيق: عدنان زرزور).
(4)
«الإبانة عن أصول الديانة» (ص/22).
(5)
تراه -مثلًا- في قولِ ابن فورَك في «مشكل الحديث وبيانه» (ص/253) عند ذكرِه حديثَ عورِ الدَّجال: «معنى هذا الخبر أيضًا: تحقيقُ وصفِ الله تعالى بأنَّه بصير، وأنَّه لا يصحُّ عليه النَّقص والعَمى، ولم يُرد بذلك إثبات الجارحة، وإنَّما أراد نفي النَّقص، لأنَّ العور نقص» .
ظواهر كثيرٍ من آياتِ الصِّفات أوَّلوها بكونِها غير مرادةٍ لظاهرها، فكذلك الشَّأن عندهم مع ما صحَّ من أحاديث الصِّفاتِ الخبريَّة.
فالمُثبتون لصفةِ العَيْنِ يَجعلون الحديث دليلًا لهم يَنضاف إلى أدلَّةِ صحَّة مَذهبهم في ذلك، ومَن تأوَّل الحديث على غير ظاهرِه، فإنَّ تأويله فرعٌ عن تصحيحِه له.
وبهذا تنتفي كلُّ دعاوي الاعتراضاتِ عن أخبار الدَّجال، ولله الحمد.