الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفع دعوى المعارضاتِ الفكريَّةِ المعاصرةِ
عن الأَحاديث الدَّالة على أنَّ شدَّة الحرِّ والبرد مِن جهنَّم
تمهيد:
تُدار المسائل الَّتي انطوى عليها هذان الحديثان في قضيَّتين:
القضيَّة الأولى: بيان معنى كون شدَّة البرد والحرِّ مِن جهنَّم؛ والقضيَّة الثَّانية: بيان معنى شكوى النَّار إلى ربِّها.
فإذا حُقِّق القول في هاتين القضيَّتين، انجلت تلك المعارضات على الحديث عن زيفِها.
فأمَّا القضيَّة الأولى:
فقد اختلف أهل العِلم في معنى كونِ شدَّة البرد والحَرِّ مِن جهنَّم على قوليْن مِن حيث حمل الحديث على الحقيقة أو المجاز:
القول الأوَّل: أنَّ شدَّة البرد والحرِّ الحاصلين في الأرض مِن جَهنَّم حقيقةً.
القول الثَّاني: أنَّ ذلك مِن مجازِ التَّشبيه؛ أي: كأنَّ الزَّمهرير وشدَّة الحرِّ مِن جَهَنَّم، فاحذروه واجتنبوا ضررَه، وكذا يُقال في شدَّة البرد.
فأمَّا القول الأوَّل: فذهب إليه جَمْهرةٌ مِن المُحقِّقين
(1)
، منهم القاضي عياض، حيث قال:«اختُلِف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «اشتكت النَّار إلى ربها .. » الحديث، وقولِهِ:« .. فإنَّ شدَّة الحرِّ من فيح جهنَّم» ، فحمَله بعضهم على ظاهره، وقال: شكواها حقيقة، [و]
(2)
أنَّ شدَّة الحرِّ من وهَج جهنَّم حقيقةً؛ على ما جاء ما في الحديث، وأنَّ الله أَذِن لها بنفَسَين: نَفَسٍ في الَّصيف، ونَفَسٍ في الشِّتاء
…
وقيل: إنَّه كلام خَرَج مخرج التَّشبيه والتَّقريب
…
وكِلا الوَجهين
(3)
ظاهر، والأوَّل أَظهر، وحمْلُه على الحقيقة أوْلى»
(4)
.
وقال النَّووي بعد نقلِه كلام القاضي عياض موافقًا له: «الصَّواب الأوَّل؛ لأنَّه ظاهر الحديث، ولا مانع مِن حملِه على حقيقتِه، فوَجب الحكم بأنَّه على ظاهره والله أعلم»
(5)
.
وأمَّا القول الثَّاني: فمِمَّن ذهب إليه: ابن الأثير
(6)
، واحتملَه الخَطَّابيُّ وجهًا في معنى الحديث
(7)
، وهو مَذهب القَرَضاوي مِن المعاصرين
(8)
.
والرَّاجح بادئ الرَّأي من القولين، ما ذهب إليه أَصحاب القول الأوَّل مِن حَمْلِ الحديث على الحقيقة، إذ المَصير إلى الأصل الظَّأهر هو الأقوى مِن جهة
(1)
انظر «التمهيد» لابن عبد البر (1/ 263)، و «إكمال المعلم» للقاضي عياض (2/ 582 - 583)، و «المسالك شرح موطأ مالك» لابن العربي (1/ 456)، و «شرح صحيح مسلم» للنووي (5/ 120)، و «المفهم» للقرطبي (2/ 244)، و «فتح الباري» لابن رجب (4/ 244)، و «فتح الباري» لابن حجر (2/ 17)، و «فيض القدير» للمناوي (7/ 10).
(2)
ما بين المعقوفتين زيادة ليستقيم بها الكلام.
(3)
يعني الحقيقة والمجاز.
(4)
«إكمال المعلم» (2/ 582 ـ 583).
(5)
«شرح صحيح مسلم» للنووي (5/ 120).
(6)
«النهاية في غريب الحديث» (3/ 484).
(7)
وليس كما نسبه إليه ابن الملِك الحنفي في «مبارق الأزهار» (1/ 302) أن المجاز مذهبه في الحديث، إنَّما جعَلَ الخطابيُّ هذا المجاز وجهًا في معنى الحديث، مع إيراده للوجه الآخر في كونه حقيقة، ولم يرجِّح بينهما، كما تراه في كتابه «معالم السُّنن» (1/ 129).
(8)
«كيف نتعامل مع السنة النبوية» (ص/178).
النَّظر، خصوصًا مع شهادة الرِّوايات بعضها لبعض وتعاضدها في نسبةِ شدَّة الحرِّ والبرد إلى جهنَّم نفسِها؛ وسيأتي بسط القرائن المرجِّحة لهذا القول حين التَّعرُّض للقضية الثَّانية التَّالية.
وأمَّا القضيَّة الثَّانية: في بيان معنى إذن الرَّب تعالى لها بنَفَسين.
وهذه القضيَّة قد انسحب عليها خلاف أهل العلم -تَبعًا للقضيَّة الأولى- على قولين:
القول الأوَّل: حَمل اللَّفظ على حقيقته، وأنَّ النَّفَسَ المضاف إليها هو تنفُّس حقيقيٌّ يناسب خِلْقتها: والقائلون بهذا القول قد تقدَّم الإشارة إليهم، وسيأتي النَّقل عن بعضهم.
القول الثَّاني: أَنَّ تنفُّس النَّار -وكذا شكواها
(1)
- مجاز لا حقيقة؛ فنَفَسُها هو كناية عن الحرِّ والبرد في ابتدائِه، وامتِدادِه، وقوَّتِه، وضَعْفِهِ
(2)
: وممَّن ذهب إلى هذا القول: البَيضاوي
(3)
، وابن الجوزي، بل جعَلَ هذه الكنايةَ «مِن أَحسنِ التَّشبيه»
(4)
.
والَّذي يَظْهر رجحانُه -مِن جهةِ النَّظر- هو القول الأوَّل أيضًا؛ لأنَّ الأصل حمل الكلامِ على الحقيقةِ عندِ انتفاءِ القرائنِ النَّاقلة إلى المجاز؛ خصوصًا أنَّ الحديث خبَرٌ عن أَمر مُغيَّب لا يقع للحسِّ إدراكه ليصحَّ القول إنَّ قرينة المعايَنَة تَصرف الخطابَ مِن الحقيقة إلى المجاز.
فلا مانعَ يمنع مِن إجراءِ الحديثِ على ظاهرِه؛ لصلاحيةِ قُدرة الرَّب لذلك، فضلًا عن قصْر النَّفَسِ على نَفَسَين اثنين فقط: كلُّ ذلك حارسٌ مِن توهمِّ جَرَيان
(1)
أي أن الشكوى بلسان حالها لا مقالها، على جهة التوسُّع في الاستعمال، كما قال الشاعر:
شكا إليَّ جملي طول السُّرى *** صَبْرٌ جميل فكلانا مُبتلى
وكقول العرب: قالت السَّماء فهطلت، وانظر:«التمهيد» (1/ 273)، و «المفهم» (2/ 244).
(2)
انظر «كشف مشكل الصحيحين» لابن الجوزي (3/ 370).
(3)
كما في كتابه «تحفة الأبرار» (1/ 237).
(4)
«كشف مشكل الصحيحين» (3/ 370).
الخَبر على غيرِ ظاهرِه الحقيقيِّ؛ وذلك ممَّا يُضعِف جانبَ القولِ بالمجازِ؛ لخروجِه عن المألوفِ في استعمالِه
(1)
.
يقول الكوراني (ت 893)
(2)
في معرضِ استنكاره المجازَ في هذا الحديث: «قد تقرَّر في علم الكلام أنَّ قدرتَه تعالى نسبتُها إلى كلِّ الممكنات على السَّواء؛ فأيُّ وجهٍ لصرفٍ الكلامٍ عن الحقيقة والمعنى الجِزْل الدَّال على كمال القدرةِ إلى تلفيقِ التَّأويلات الرَّكيكة؟! وإنَّما يُصرف الكلام عن ظاهره إذا لم يستقم، أو كان في الصَّرف نكتةٌ»
(3)
.
فلِما سَبق ذكرُه مِن قرائنِ، يكون القول بإجراء الحديث على ظاهرِه أَسعد القولين بالصَّواب، وأعضدهما لعمومِ الخِطاب.
ولَئِن كان هذا الظَّاهر قد تَعسَّر على المعترض تقبُّله من الحديث، واحتجب عقله عن إدراك دلائله، أفلا كان الأَوْلى له ارتسام مسلكِ التَّأويل له، واتِّباعِ مَن قال بالمَجاز فيه مِن أولي العلمِ، ليتوافقَ الحديث مع ما يظنُّه بدَهيَّات بدل الطَّعنِ فيه؟!
وبعد؛ فقد آن الشُّروع في دفع ما سَبق سَوقه مِن دعاوي المعارضاتِ عن هذا الحديث، فنقول في الجواب عن:
الشُّبهة الأولى: وهي دعواهم أنَّ هذه الأَحاديث تخالف الحقيقة العلميَّة الَّتي تقضي أنَّ سبب الحرِّ وشدَّته وكذا البرد: متعلَّق باقترابِ أو ابتعادِ الأرض مِن الشَّمس، وبنحوِ ذلك مِن الظَّواهر الطبيعيَّة، فيُقال:
إنَّ هذه الأَحاديث خَبَرٌ مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم المُوحَى إليه مِن مالِك الحقيقةِ وخالِقِ الكونِ ونظامه، سبحانه وتعالى، وما ساقه الطَّاعنون ممَّا تقرَّر في علوم الأحوالِ الجويَّة
(1)
انظر «الاستذكار» لابن عبد البر (1/ 102)، و «فتح الباري» لابن رجب (4/ 244)، و «فتح الباري» لابن حجر (2/ 17).
(2)
أحمد بن إسماعيل بن عثمان الكوراني: مُفسر ومحدث حنفي، كردي الأصل، من أهل شهرزور، تعلم بمصر رحل إلى بلاد الترك فعهد إليه السلطان مراد بن عثمان بتعليم وليّ عهده (محمد الفاتح)، وولي القضاء في أيام الفاتح، وتوفي بالقسطنطينية، وصلى عليه السلطان بايزيد، له كتب منها «غاية الأماني في تفسير السبع المثاني» ، انظر «الطبقات السنية» للغزي (ص/82).
(3)
«الكوثر الجاري» للكوراني (2/ 212).
والفَلَك وغيرها: هو خَبَرٌ عمَّن يبحث عن الحقيقة؛ وقد يصيبها، وقد يخطِئها، ومنهَج العقل يَقضي بتقديم خبر مالِك الحقيقة وخالقها على خبرِ مَن يبحث عنها ولا يملكها.
فالعقل المَهْديُّ يَعْلمُ يقينًا -بعد تحقُّقه مِن صحَّة ثبوتِ الخبرِ إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه لا يمكن أن يقع ما نطق به الوحي معارضًا للحقيقة الحِسيَّة؛ فإن الحقَّ لا يتناقض، وإن كان في الحقِّ ما قد يُحار فيه! لِضَعْفِ مُدْركاتِنا عن الإحاطةِ بكلِّ حقيقة
(1)
؛ فهذا ابتداءً مِن جِهة التَّأصيل.
ومع ما قد سلَف التَّنبيه عليه في مبحث «إشكالية الاستشكال المعاصر» مِن «التمهيد» : من أنَّ المعارف البشريَّة عن الطَّبيعة بإطلاقها لا تُمثِّل المَرجعيَّة النِّهائية عن الكون وما فيه؛ فالتَّراكميَّة والنِّسبيَّة تكتنفان كثيرًا مِن معارفِ البَشر، الَّتي ترتكز على وسائل تخضع للتَّجدد والتَّطور، حتَّى يُحيلا ما ظُنَّ قَبلُ حقائقَ إلى كونِها لا تعدو أن تكون نظريَّاتٍ، فضلًا عن أن تكون فرضيَّات.
وعلى فرضِ التَّسليم بصحَّة التَّعليلِ الفلَكي الَّذي يطرحه أرباب الاختصاص تفسيرًا منهم لظاهِرَتي الحرارة والبرودة المُفرِطَتين على وجه الأرض: فإنَّ غايةَ ما يُقال هنا: إثباتُ أنَّ الشَّمس سببٌ ظاهرٌ لحصولِ مطلقِ الحرارةِ والبرودةِ على سطحِ الأرضِ، ولا يلزم مِن إثبات ذلك نَفْيُ أن تُعلَّل ظاهرة شدَّة البردِ والحرِّ بالسَّبب الغيبيِّ الَّذي أَخبر به الصَّادق المصدوق صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ خبره قد جاء في خصوصِ شدَّةِ الحرِّ والبرد، لا عن مطلق الحرِّ والبرد! ولا تعارض بين السَّبَبَين الخاصِّ والعامِّ.
ثمَّ لا مانع أمامَنا مِن القول بأن تكون الشَّمس مِن النَّار وطاقتها مُستمدَّة منها، فتكون حرارة الصَّيف مِن الشَّمس، وحرارة الشَّمس مكتسبة مِن النَّار وآتية لها منها
(2)
.
(1)
.
وأمَّا الجواب عن الشُّبهة الثَّانية: من دعواهم أنَّ الحديث يُصوِّر الأرضَ أنَّها ذات جوٍّ واحدٍ إمَّا صيف أو شتاء .. إلخ، فيُقال فيه:
ليس ذلك ظاهر الحديث كما تَوهم المُدَّعي، فالحديث دَلَّ على أنَّ لجهنَّم نَفَسَيْن في العام؛ وهذا ثابتٌ في نفسِه، وبالنِّسبة للمُخاطب بالحديث يكون أحد هذين النَّفَسَين في الصَّيف، والآخر في الشِّتاء، وما يحصل مِن الاختلافِ والتَّعاقب بين هذين الفَصْلين بالنِّسبة للكرة الأرضيَّة عند النَّاس لا يقدح في دلالة الحديث؛ لأنَّ تنوُّع النِّسب والإضافات لا يقدح فيما هو ثابت في نفسه
(2)
.
وللكشميريِّ زيادة مفيدة في جواب هذا الإشكالِ يقول فيها:
«إن قُلتَ: إنَّ الصَّيف والشِّتاء إذا دارا على النَّفَسَين، فينبغي ألَّا يكون شتاءٌ عند نَفَس الصَّيف، وبالعكس، مع أنَّهما يجتمعان في زمن واحدٍ باعتبار اختلاف البلاد.
قلتُ: ولعلَّ تنفُّسها بحرِّها مِن جانب وإرسالها إلى الآخر، فإذا تنفَّسَ من جانبٍ صار شتاءً، وإلى جانب صار صيفًا؛ ولعلَّ الحرَّ والبرد كيفيَّتان لا تتلاشيان أصلًا، بل إذا غلب الحرُّ دَفَعَ القَرَّ إلى باطن الأرض، وإذا غلَب القَرُّ دَفَع الحرَّ
إلى باطنِها، لا أنَّ إحدى الكَفَّتَين تنعدم عند ظهور الأخرى، وهذا كما في الفلسفة الجديدة: أنَّ الحركات كلَّها لا تفنى، بل تنتقل إلى الحرارة .. »
(1)
.
وأمَّا الجواب عن الشُّبهة الثَّالثة: وهي دعواهم باستحالةِ صدور شدَّة البردِ مِن جهنَّم؛ لكون ذلك مخالفًا لطبيعتِها؛ وإلَّا للزم الوقوع في التَّناقض، فيُقال فيه:
إنَّ ذلكَ يَصحُّ لو كانت النَّار الأخرويَّة نَمَطًا وشكلًا واحدًا كنار الدُّنيا، أَما مع اختلافهما فلَا، فنار الآخرة نار تتكلَّم وتغضب، دار أَعدَّها الله تعالى للعقاب، وهي دَرَكات وطبقات، قد حَوَت صنوفًا مِن العذاب الأليم، فلا يبعُد أن تكون شدَّة البرد مُنبعثةً مِن طبقةٍ زَمهريريَّةٍ مِن طبقات جهنَّم
(2)
، فلا تناقض حينئذٍ.
وفيما سَبَق قريبًا من نصِّ الكشميريِّ نوعُ جوابٍ عن هذا الإشكال لِمن تأمَّله! فإنَّ شدَّة الحرِّ الَّتي يسبِّبها نَفَس جهنَّم في شطرِ الأرض، هو المُتسبِّب في شدَّة بردِها في شطرها الآخر، من جِهة دفعِ هذا لهذا، والله تعالى أعلم.
والَّذي ينبغي أن يُعلم على كلِّ حال، أنَّ مثار الغَلَط في هذه الدَّعوى يكمن في القياس الفاسد، الَّذي جعل من الواقع المشاهد معيارًا للحكم على الغائب وأَصلًا يُردُّ إليه، ولو مع تحقُّق الاختلاف بين الأصل والفرع! والله الهادي.
(1)
«فيض الباري» (2/ 142).
(2)
انظر «فتح الباري» لابن حجر (2/ 19).