الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث بيان رُجحان قول المُنكرين لحديثِ خلقِ التُّربةِ يومَ السَّبتِ
ونقدُ مُعارضاتِهم في ذلك
أمَّا عن المعارضة الأولى: فإنَّ ظاهرَ الحديثِ مُفيدٌ لاستغراقِ الخلقِ سبعةَ أيَّام، وهو بهذا الظَّاهر خلافُ ما قرَّره القرآن من استيعابِ خلقِ السَّمواتِ والأرضِ وما بينهما في ستَّةِ أيَّام.
وما أُجيبَ به على هذا مِن كونِ خلق آدم عليه السلام خارجٌ عن هذه الأيَّام السِّتة:
فالصَّواب في ذلك أنَّ خلقَ آدمَ داخلٌ في أيَّام التَّخليقِ هذه، وكان هو في آخرِ أيَّامها، في آخرِ ساعاتِ يومِها، ليكون بهذا خاتِمَ الخلقِ، كما هو مَنطوق الحديثِ نفسِه!
والفصلُ في هذه المَسألة مَرَدُّه إلى المُرادِ مِن لفظ «الخلقِ» في الحديث، والظَّاهر الجَليُّ مِن متنِه: أنَّه إنَّما سِيقَ لتفصيلِ الخلقِ الأوَّل، أو إن شئتَ قُلت لتفصيلِ بَدْءِ الخلقِ لهذا العالَم المُشاهَد أوَّلَ مرَّة! وليس المَقصودُ مُطلَق الخلقِ الإلهيِّ، ففي هذا الحديثِ نفسِه قد جُعِلَ لهذا الخلقِ ابتداءٌ -وهو السَّبت- وجُعِلَ لآخرِه انتهاءٌ -وهو الجمعة- كما تراه في قولِه فيه:« .. في آخِرِ الخَلقِ» ، والألف واللَّام هنا للعهد، وهذا يقتضي أنَّ هذا الخَلْقَ المَخصوصَ اكتملَ في سبعةِ أيَّام حسَبَ الحديث.
وبذا يظهرُ أنَّ الحديثَ حَمَلَ في طيَّاتِ متنِه ما ينقُضُه! -كما أشار إلى ذلك ابن تيميَّة- فإنَّه بَيَّن ما يُوافقُ سائرَ الأحاديث مِن أنَّ آدم خُلِق يوم الجمعة، وأنَّه خُلِق آخرَ هذا الخلق الَّذي نَتَكلَّم عنه؛ وبما أنَّ الخَلقَ كان في سِتَّةِ أيَّام، فالفَرضُ أن يكون ابتداءه يومَ الأحد لا السَّبت! وفي ذلك دلالةٌ على ما وَقَع في الحديثِ مِن الغلطِ بذكرِ الخلقِ يومَ السَّبت
(1)
، ويدلُّ على أنَّ آدم داخلٌ في هذا الخلقِ الأوَّل في آخرها.
والقول بأنَّ خلقَ آدمَ عليه السلام كان آخرَ الأيَّام السِّتة، هو المشهور أيضًا مِن مُعتَقَد أهلِ الكتاب، حتَّى كان عَديُّ بن زيد
(2)
في جاهليَّتِه يُنشد في ذلك شعرًا، يقول فيه:
قضَى لستَّةِ أيَّامٍ خلائِقَه *** وكان آخرَ شيءٍ صَوَّرَ الرَّجُلَا
وليس يعارض هذا التَّقريرَ قولُهم: إنَّ خلقَ آدم عليه السلام مُستَقِلٌّ عن خَلقِ الأرض، وأنَّه ليس منها، فلا يدخل بذلك في الأيَّام السِّتة؛ فإنَّا نقول:
إنَّ هذا الَّذي قدَّمتموه ليسَ مَحلًّا للنِّزاع! فلسنا نجادل في كونِ خَلْقِ آدمَ مِن جملةِ خلقِ السَّماوات والأرض أو لا، فإنَّا مُقِرُّون بعدمِ نسبتِه إلى ذلك، كيف لا والسَّماء والأرض إنَّما هُيِّئَتا لأجلِه؟! فهذا معلوم.
إنَّما مَحلُّ النَّزاع الَّذي ينبغي تحريره: هل خَلْقُ آدم داخل في أيَّامِ الخلقِ الأولى أو لا؛ فنحن نقول بدخولِه فيها، وأنَّه آخرُ الخلقِ منها، مع قولِنا بتَقَدُّمِ خلقِ السَّمواتِ والأرضِ على خلقِه.
فبان أنَّ ثمَّة فرقًا بين القولِ بدخولِ آدم عليه السلام في خلقِ السَّماوات والأرض -ولسنا نقول به- وبين دخولِ خَلقِه ضمنَ الأيَّام السِّتة في آخرِها، وهذا ما نَدَّعي رُجْحانَه.
(1)
انظر «بغية المرتاد» لابن تيمية (ص/305).
(2)
عدي بن زيد بن حمَّاد العَبادي التَّميمي: شاعر من دهاة الجاهليِّين، كان قرويًّا من أهل الحيرة، فصيحًا، يحسن العربية والفارسية، وهو أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى، ثمَّ وُجِّه رسولًا إلى ملك الرُّوم طيباريوس الثَّاني في القسطنطينية، مات (36 ق. هـ)، انظر «معجم الشُّعراء العرب» (ص/1688).
أمَّا ما تَوَسَّل به ابنُ الجوزيِّ لإخراجِ آدم عليه السلام مِن الأيَّام السِّتة، من كونِ أصولِ الأشياء هي الَّتي خُلِقَت في الأيَّام السِّتة، وليس مُطلق الأشياء، وأنَّ آدم ليس أصلًا، وإنَّما فرعٌ مِنها:
فعلى التَّسليم بصِحَّةِ مُقدِّمتِه تلك، فإنَّ آدمَ عليه السلام أصلٌ للجِنسِ البَشريِّ، لا فرعًا لجنسٍ آخر!
ولا يُقال إنَّه فَرعٌ مِن الأرضِ، ليُخرَجَ مِن كونِه أصلًا؛ فإنَّ لازمَه -حسب قولِ ابن الجَوزيِّ- أن تَخرُج الجبالُ هي أيضًا مِن هذه الأيَّام السِّتة، لكونِها فرعًا عن الأرض! فهي أثَرٌ لتَداخلِ صفائِح قِشرتها! وكذا فلتَخْرُج كثيرٌ مِن أقواتِ الأرضِ من هذه الأيَّام السِّتة، فهي فرعٌ عن الأرضِ أيضًا!
فإذا عُلِم بطلان هذا اللَّازم، بطُل به المَلزوم الَّذي أراد ابن الجوزيِّ تقريرَه.
ولو أنَّ ابن الجوزيِّ قالَ مثلَ ما قالَ ابن أبي زمنين (ت 399 هـ): «خَلَقَ الله أصولَ الخَلْقِ في الأيَّام السِّتة، وخلَقَ آدمَ عليه السلام يومَ الجمعة آخرَ الأيَّام السِّتة»
(1)
: لمَا كان لقولِه دافع مِن جهة النَّظر؛ فإنَّ معنى كلام ابن أبي زَمنين هذا، أنَّ أصلَ «الأنواعِ» لا «الأشياء» هي المَخلوقة في الأيَّام السِّتة، والَّتي هي أصولُ المَوَاتِ: كالمعادن، والأتربة، والسَّوائل، والأقوات، وأصول الأحياء: كالدَّواب، والطُّيور، والحيتان، والجِنِّ، والإنس، وهذا ما تَقتضيه البَيْنِيَّة في قولِه تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [ق: 38].
وأمَّا دَفعُ المُعلِّميِّ دخولَ خلقِ آدم عليه السلام في الأيَّام السِّتة، بكونِ خالقيَّةِ الله تعالى لم تَتَوقَّف بعد الأيَّام السِّتة، فلا يُحصَر خلقُ آدم فيها:
فقد قرَّرنا آنفًا أن لا أحَدَ يُنكر خالقيَّةَ الله تعالى بعد الأيَّام السِّتة، فإنَّ خَلْقَ الخلَّاقِ سبحانه لا نهايةَ له، لكن الحديث نفسُه يُثبتُ لهذا الخلق نهايةً بخلقِ بآدم! فعلِمنا أنَّ المَعْنِيَّ به خلْقًا مَخصوصًا، وهو ابتداء خَلقِ هذا العالَم المَشهود في ستَّةِ أيَّام، وقد أشرنا إلى هذا في ما مَضى.
(1)
«تفسير القرآن العزيز» لابن أبي زمنين (5/ 69).
وأمَّا استدعاء المُعلِّمي لبعضِ الآثارِ الدَّالةِ على وجودِ عُمَّارٍ للأرضِ قبل آدم عاشوا فيها دَهرًا، في مقامِ الاحتجاج على أنَّ خلقَ آدم مُتأخِّر بمدَّةٍ طويلةٍ عن خلقِ السَّموات والأرضِ: فقد قَدَّمنا أنَّ تأخُّرَ خَلْقِ آدم عليه السلام عن خلقِ السَّماء والأرضِ لا يُنازَع فيه.
وأمَّا ما ذَكَره مِن وجودِ آثارٍ تفيد تعميرَ الجِنِّ في الأرضِ قبل آدم بدهر، ليخلُصَ إلى إخراجِ خلقِ آدم مِن جملةِ الأيَّامِ السِّتة: فهذا الَّذي يستَحِقُّ مناقشتَه بإسهابِ، لأنَّه مِن ركائزِ مَن يجادل عن صحَّةِ هذا الحديث، فنقول في ذلك:
إنَّ القولَ بَسبْقِ أقوامٍ مِن الِجنِّ إلى سُكْنى الأرضِ قبل آدمَ بدهورٍ، وإن كان هو قولًا شائعًا في كُتُب التَّفسير، خاصَّةً عند آياتِ الخلقِ أوائلَ البقرة؛ فإنَّه يبقى مِن جملةِ الغُيوبِ الَّتي لم يَثبُت فيها دليل صَحيح صَريح مِن كتابٍ أو سُنَّة، فليس في هذا الباب على هذا حُجَّة نقليَّة
(1)
.
وقد تَعَقَّب الطَّبريُّ مثلَ هذا القولَ بكلامٍ يحسُن أن يكون قاعدةً في قرائن التَّرجيح في التَّفسير، فقال: « .. إنَّما تركنا القولَ بالَّذي رواه الضَّحاك عن
(1)
أقوى ما ورد في هذا الباب أثر لابن عبَّاس يقول فيه: «لقد أخرجَ الله آدمَ مِن الجنَّة قبل أن يدخلها أحَد، .. وقد كان فيها قبلَ أن يُخلَق بألفَي عام الجِنُّ بنو الجانِّ، فأفسدوا في الأرض، وسَفكوا الدِّماء، .. فلمَّا أفسدوا في الأرضِ، بَعث عليهم جنودًا مِن الملائكة، فضَربوهم حتَّى ألحقوهم بجزائر البُحور .. » .
أخرجه الحاكم في «المستدرك» (رقم: 3035) من طريق: أبي بكر ابن أبي شيبة، عن أبي معاوية الضرير، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس، وقال الحاكم:«هذا إسناد صحيح الإسناد، ولم يخرجاه» .
واختُلف عن أبي معاوية فيه، فرواه عنه علي الطنافسي عند ابن أبي حاتم في «التفسير» (1/ 77)، وسعدان بن نصر المخرمي عند قوام السُّنة في «الحُجَّة» (1/ 386)، بنفس الطَّريق الأوَّل لكن عن عبد الله ابن عمرو، والأشبه بالصَّواب عندي أن يكون عن ابن عمرو، لشهرتِه برواية الإسرائيليات.
نعم، روى الطَّبري هذا الأثر في «تفسيره» (1/ 477) عن ابن عبَّاس من طريق أبي رَوق، عن الضَّحاك عنه، لكن الضَّحاك لم يسمع من ابن عبَّاس، فهو منقطع، مع في الضَّحاك من كلام بعض أئمَّة التَّجريح، وانظر «تهذيب الكمال» (13/ 294).
ابن عبَّاس، ووافَقه عليه الرَّبيع بن أنس، وبالَّذي قاله ابنُ زيد في تأويلِ ذلك
(1)
؛ لأنَّه لا خَبَر عندنا بالَّذي قالوه مِن وجهٍ يَقطعُ مجيئُه العذرَ، ويُلزِم سامعَه به الحجَّة.
والخبرُ عمَّا مَضى وما قد سَلَف، لا يُدرَك علمُ صِحَّتِه إلَّا بمجيئِه مَجيئًا يمتنِع منه التَّشاغب والتَّواطؤ، ويستحيلُ منه الكذب والخطأ والسَّهو، وليس ذلك بموجودٍ كذلك فيما حكاه الضَّحاك عن ابن عبَّاس»
(2)
.
هذا؛ وقد استنبطَ بعض المُحقِّقين من نفسِ آياتِ الخلقِ الَّتي في أوائل البقرةِ، والَّتي سِيقَت لأجلها تلك الآثار، من قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 29 - 30]؛ استنبطَ منها ما يدلُّ على أوليَّةِ آدمَ في سُكنى الأرض بعد خلقِها!
ذلك أنَّ المُتأمِّل في هذه الآياتِ، يخلُص إلى أنَّ القولَ بإعمار قومٍ للأرضِ قبل آدم يُنافي هذا السِّياق القرآني، «لأنَّ تعقيبَ ذكرِ خلقِ الأرضِ ثمَّ السَّماوات بذكرِ إرادتِه تعالى جعْلَ الخليفةِ، دليلٌ على أنَّ جعلَ الخليفةِ كان أوَّلَ الأحوال على الأرض بعد خلقِها، فالخليفة هنا الَّذي يخلفُ صاحبَ الشَّيء في التَّصرُّف في مَملوكاتِه، ولا يلزم أن يكون المَخلوف مُستقِرًّا في المكان مِن قبل؛ فالخليفة آدم، وخَلَفِيَّتُه قيامُه بتنفيذِ مرادِ الله تعالى مِن تعميرِ الأرض .. ، وتلقينِ ذريَّتِه مرادَ الله تعالى»
(3)
.
قلت: وإنَّ تقديمَ الجار والمجرور {لَكُمُ} المُتعلِّق بالفعلِ {خَلَقَ} على المفعولِ به في الآية: فيه معنى الاختصاصِ أو السَّبَبيَّة، أي: أنَّ الله إنَّما خَلَق الأرضَ لأجلِكم ولانتفاعِكم أنتم
(4)
.
(1)
يعني تأويل قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} بأنَّ آدم خَلَف الجنِّ في تعمير الأرض.
(2)
«جامع البيان» (1/ 500).
(3)
«التَّحرير والتَّنوير» (1/ 399).
(4)
انظر «البحر المحيط» لأبي حيَّان الأندلسي (1/ 215).
فإذا كانت الأرض على هذا مَخلوقةً للإنس على وجه المِنَّة أصالةً، فكيف يُقال بسبقِ غيرهم إلى الاستمتاع بها؟! ففي هذا مناقضة لتلك المِنَّة والخصوصيَّة، والله أعلم.
نعم؛ لا نُنكِرُ بأنَّ الجِنَّ مخلوقةٌ قبل آدم، فهذا مُحكَم التَّنزيل؛ إنَّما الشَّأنُ في إثباتِ أنَّهم كانوا في الأرض على وجهٍ استحكموا فيها بما فيها، وعمَّروا فيها أزمنةً مُتطاولة، فهذا الَّذي يَعُوزه الدَّليل.
هذا مع صرفِ نظرنا عن طبيعة مُدَدِ تلك الأيَّام السِّتة! وطولِها الهائل، الَّذي لا يُمنَع معه القولُ بسبقِ بعض المَخلوقات على البعض الآخر بمُدَّةٍ هي في عرف البَشر دهورٌ مِن الزَّمن.
وما لنا نَذهبُ بعيدًا في الاستدلال؟ وفي ظاهرِ حديث خلق التُّربة نفسِه ما يدلُّ على أنَّ خلقَ آدم عليه السلام كان بعد خلقِ الأرض يومَ سابعةٍ!
وفي تقرير هذا المعنى من الحديث يقول البِقاعيُّ (ت 885 هـ): «ما يُقال مِن أنَّه كان قبل آدم عليه السلام في الأرض خَلقٌ يَعصون، قَاسَ عليهم الملائكة عليهم السلام حالَ آدم عليه السلام، كلامٌ لا أصل له، والَّذي يدلُّ عليه حديث مسلم هذا -يعني حديث التُّربة- كما ترى أنَّه أوَّل ساكني الأرض»
(1)
.
أقول: هنا قد ترى بعضَ مَن يُصحِّح الحديثَ يَفِرُّ من لازمِ هذا الظَّاهرِ المُشكِلِ على مَذهبِهم في تأخُّرِ آدمَ عليه السلام عن خلقِ الأرض بدُهور، بأنْ يقولَ: إنَّ الجمعةَ المذكورة في الحديث ليست عَقِب يوم الخميس الَّذي قبله في الحديث، بل هي جمعةٌ أخرى مستقلَّةٌ، جاءت بعد تلك الأيَّام بأزمانٍ مَديدة!
هذا التَّأويل المُتَكلَّف تجده في مثل قول ثناء الله المظهريِّ (ت 1225 هـ)
(2)
: «لا دليلَ في الحديثِ على أنَّ المُراد بالجمعة الَّتي خُلِق فيها آدم أوَّلَ جمعةٍ بعد
(1)
«نظم الدُّرر» (1/ 262).
(2)
محمد ثناء الله الهندي البَاني الحنفي العثماني المظهري، من تلاميذ ولي الله الدهلوي، كان يُسمى (بيهقي العصر) نظرًا إلى تبحُّره في الفقه والحديث، وله تفسير عظيم في أحاديث الأحكام، انظر ترجمته في «الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام» للطالبي (7/ 942).
خلق الأرض، لعلَّ ذلك الجمعة بعد مُضيِّ الدُّهور! ولولا هذا التَّأويل لزِم خلقُ السَّموات والأرض في سبعةِ أيَّام، والثَّابت بالقرآنِ خَلْقُ السَّمواتِ والأرضِ في ستَّة أيَّام»
(1)
.
ثمَّ قد يَستشهدون بقولِ ابنِ عطيَّة في أنَّ «الظَّاهرَ مِن القَصص في طينة آدم: أنَّ الجمعة الَّتي خُلِق فيها آدم قد تَقَدَّمتها أيَّامٌ وجُمَع كثيرة»
(2)
.
فنبدأ هنا بالجواب على كلامِ المظهريِّ، فنقول:
لا ريب أنَّ القول بما تأوَّل به الحديث بعيدٌ عن ظاهر الحديثِ، وسِياقُه يأباه.
نظير ذلك لو قُلتَ: أتيتُ بلدةَ كذا مُسافرًا، فتجوَّلتُ في أزقَّتها الاثنين، وأتيتُ مَتاحِفَها الثَّلاثاء، وفعلتُ كذا وكذا الأربعاء، وحَزمتُ حقيبتي ورَجعتُ الخميس»، فلن يُدركَ سليمُ البَديهة مِن كلامِك إلَّا تتابعَ هذه الأيَّام! إذ هو المُتبادَر إلى الفهم ابتداءً، والظَّاهر منه، وما كان خلاف الظَّاهر هو محتاجٌ إلى قرينةٍ واضحةٍ لحملِ معنى الكلام على خلافِه، وليس لِمن يَقول بمثل هذا في الحديث إلَّا الظَّن.
ثمَّ يلزمه على كلامه فوق هذا أن يكون التَّخليق الأوَّل ابتدأَ السَّبت، ولم ينتهِ إلَّا بعد أحقابٍ مِن الزَّمن حينَ ختَمه بآدم! ولا قائل بهذا فيما أعلمُ.
وأمَّا كلام ابن عطيَّة عن آثارِ مُدَّة تخليق الطِّينة:
فليس في هذا الباب إلَّا الأثر المَرويَّ عن سلمان الفارسيِّ رضي الله عنه قال: «إنَّ الله خمَّر طينةَ آدم عليه السلام أربعينَ ليلةً، أو أربعين يومًا، ثمَّ ضَرَب بيَدَيْه فيه .. »
(3)
.
(1)
«التَّفسير المظهري» (1/ 49).
وإلى مثل هذا التَّأويل نحى الكشميري في «فيض الباري» (4/ 340 - 341)، وأبو إسحاق الحُويني في تخريجه لـ «تفسير ابن كثير» (2/ 232 - 233 ط ابن الجوزي).
(2)
«المحرَّر الوجيز» (5/ 5).
(3)
رواه الفريابي في «القدر» (رقم:10)، والآجري في «الشريعة» (2/ 854، رقم: 431)، وأبو الشيخ في «العظمة» (5/ 1546)، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 263)، وإسناده صحيح.
وقد كُفينا ردَّ هذا بما أجابَ به البَيهقيُّ قال: «مَعلومٌ أنَّ سلمان رضي الله عنه كان قد أخَذَ أمثالَ هذا مِن أهلِ الكتاب حتَّى أسلَمَ بعدُ، ورُوي ذلك مِن وجهٍ آخر ضعيفٍ عن التَّيمي مرفوعًا، وليس بشيءٍ»
(1)
.
وأمَّا جَعْلُ الألبانيِّ الأيَّامَ المذكورة في الحديثِ أيَّامًا أخرى غير الأيَّام السِّتة للتَّخليقِ، بل جعلها بعدها:
فبِدعٌ من القولِ لا سَلَف له فيه! فإنَّ كلَّ مَن تَقدَّمه -سواء مِن مُصَحِّحي الحديث أو مُضعِّفيه- مُتَّفِقون على تنزيل الأيَّامِ السِّتةِ في القرآنِ على هذه الأيَّامِ الواردةِ في هذا الحديث، ودونك كُتُب المُفسِّرين وشُرَّاح الحديث لترى ذلك.
على أنَّ في الحديثِ نفسِه ما يَرُدُّ فهمَه ذاك! فقد ورَد في نصِّه خلقُ الجِبال، وهذه يَقينًا لم تُخلق إلَّا في الأيَّامِ السِّتةِ لبدءِ الخليقةِ بنصِّ القرآن:{وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10]
(2)
.
أمَّا ما استدَلَّ به مِن حديثِ الأخضر على فهمِه ذاك:
فغير سالمٍ له ولا مُسَلَّم، لأنَّ الأخضر بن عجلان خالفَ في سندِه ومتنِه الثِّقاتَ مِن رُواة هذا الحديث عن ابن جريج، وهم: حجَّاج بن محمَّد المَصيصي
(3)
، وهشام بن يوسف الصَّنعاني
(4)
، ومحمَّد بن ثور
(5)
، والصَّواب روايتُهم دونه.
والأخضر صَدوق نازلٌ عن مرتبتهم في الضَّبط، فروايتُه بهذا السِّياقِ الشَّاذِ عن المعروفِ مِن متن الحديث وسندِه مَردودة.
(1)
«الأسماء والصِّفات» للبيهقي (2/ 151).
(2)
وقد تدخل الأشجار المذكورة في الحديث في نصِّ الآية أيضًا إذا اعتبرناها من جملة الأقوات، وذلك كل ما يقوت الناس من الغذاء، ويصلحهم من المعاش.
(3)
وعنه رواه مسلم في «صحيحه» .
(4)
وعنه رواه ابن معين في «تاريخه - الدوري» (3/ 52، رقم: 210).
(5)
وعنه رواه الطبراني في «المعجم الأوسط» (3/ 303، رقم: 3232)، وأبو الشَّيخ في «العظمة» (4/ 1360).
وحاصل القول من مناقشةِ الأجوبةِ على المعارضة الأولى: يتبيَّن أنَّها لا تنهضُ لدفعِها، فتكون بذا معارضةً صحيحة.
وأمَّا عن المعارضة الثَّانية والثَّالثة للحديث؛ من دعوى خُلوِّه مِن ذكرِ خلقِ السَّموات، وجعلِه خلقَ الأرض وما فيها في سِتَّة أيَّام
(1)
:
فلا أُراها تَسلَمُ مِن دفعِ بعضِ أجوبةِ المُعلِّمي؛ وبيانُ ذلك في الآتي:
أنَّ قول المُعلِّمي عن الحديث: إنَّه «وإنْ لم يَنُصَّ على خلقِ السَّماء، فقد أشارَ إليه بذكرِه في اليوم الخامس: النُّور .. » مَقالٌ منه صَحيح، فإنَّ النُّورَ مَصدرُه الأجرام السَّماويَّة كما قال، وفيه أنَّ النُّور خُلِق في اليوم الخامس، وهو اليومُ المُوافق لبدءِ خلقِ السَّماء في القرآن أيضًا.
لكن قولُه بعدها مُشيرًا إلى خلقِ السَّموات: « .. وفي السَّادس: الدَّواب، وحياة الدَّواب مُحتاجة إلى الحرارة، والنُّور والحرارة مَصدرهما الأجرام السَّماوية» : فمِمَّا لا يصلح للاحتجاجِ به على ما ادَّعاه مِن تلك الإشارة، لأنَّ الدَّواب وإن كانت حياتُها لا تَستغني عن النُّور والحرارة، فإنَّ الشَّجر والنَّبات أحوجُ إلى ذلك مِنها، ومع ذلك قد ذُكِرت في اليوم الثَّالث يومَ الاثنين، أي قبلَ خلقِ السَّموات بيومٍ كاملٍ!
وأمَّا دعوى استغراقِ خلقِ الأرضِ في الحديث ستَّةَ أيَّام:
فتلك معارضة لا تَقوم على ساقٍ، وقد أجاد المُعلِّمي في ردِّها، حين بيَّن أنَّ خلقَ الأرضِ نفسِها في الحديثِ كان في أربعةِ أيَّام كما في القرآن، وأنَّ خلقَ النُّور والدَّواب خارجٌ عن جملةِ ذلك، وأنَّه لا مانعَ مِن أن يُحدِثَ الله في الأرضِ شيئًا أثناء خلقِ السَّماء.
وأمَّا عن المعارضةِ الخامسة؛ أعني مخالفةَ الحديثِ للآثار الدَّالةِ على أنَّ ابتداءِ الخلقِ يوم الأحد:
فصحيح قولُ المُعلِّمي أنَّ ما كان منها مَرفوعًا هو أضعف مِن هذا الحديث
(1)
انظر «فيض القدير» للمُناوي (3/ 447)، و «الأنوار الكاشفة» للمعلمي (ص/188).
من جِهة السَّند
(1)
؛ لكن العِبرة هنا ليست بآحادِ هذه الآثار! ولكن بمجموعِ هذه الآثار واستِفاضَتِها في عمومِ السَّلف
(2)
، ولأجلها نَقل الطَّبريُّ الإجماعَ عنهم في ذلك، وهو مَن في استقراءِ كلامِهم، وتَتبُّعِ مَقالاتِهم، حتَّى لم يُبالِ بخلافِ ابن إسحاقَ لهم، لمِا استقرَّ عنده من اتِّفاقِ سَوادِهم على أنَّ الأحدَ أوَّل الأيَّام السِّتة.
ولو سَلَّمنا فرضًا باحتمالِ خطأِ الطَّبري في هذا الاستقراء: فلا أقلَّ أن يكون قولَ جُملتِهم الغالبة؛ وها هو ابنُ الجوزيُّ: يعترف بنسبةِ القولِ بابتداء الخلق يوم الأحد إلى أكثرِ أهلِ التَّفسيرِ مِن السَّلف أيضًا
(3)
، مع كونِه مِمَّن يُصحِّح حديثَ خلق التُّربة!
فكان مُجرَّد هذا الاتِّفاق مِن السَّلف كافيًا للقُرشيِّ الحَنفيِّ (ت 775 هـ) كي يُعلِّل حديثَ مسلم، فقال موجزًا:« .. واتَّفقَ النَّاس على أنَّ يوم السَّبت لم يقع فيه خلقٌ، وأن ابْتِدَاء الْخلقِ يوم الأحد»
(4)
.
وبهذا نعلمُ أنَّ ما زَعَمَه أبو بكر الأنباريِّ (ت 328 هـ) مِن اتِّفاقِ أهلِ العلمِ على أنَّ ابتداءَ الخلقِ كان يوم السَّبت
(5)
مجرَّدُ دعوى غَلَّطَه فيها ابنُ تيميَّة
(6)
.
وأمَّا دعوى المُعلِّمي أنَّ غير المرفوع مِن تلك الآثارِ عامَّتُه مِن قولِ عبد الله بن سَلام، وكعب، ووَهب، ومَن يأخذ من الإسرائيليَّات:
فقد قرَّرنا آنفًا أنَّ معنى هذه الآثار قول عامَّة السَّلف مِن المُفسِّرين وغيرهم.
(1)
«الأنوار الكاشفة» (ص/191).
(2)
قلت: يُنقل الدِّين بطريقين: إمَّا بالإسناد، أو بالشُّيوع والانتشار بين طبقات الأمَّة، ولو لم يأتِ في ذلك إسناد قائم، ومنشأ ذلك: عدم الحاجة إلى النَّقل بالطَّريق الأوَّل لشيوعِه، فاستغنُي عنه، ومَن لم يُدرك هذا المسلك عند العلماء أدَّاه إلى ردِّ بعض مسائل الشَّريعة ولا بدَّ.
(3)
«زاد المسير» لابن الجوزي (4/ 46).
(4)
«الجواهر المضيَّة» (2/ 429).
(5)
«الزَّاهر في معاني كلمات النَّاس» لابن الأنباري (2/ 138).
(6)
«مجموع الفتاوى» (17/ 237).
وعبد الله بن سلام رضي الله عنه قد صَحَّ عنه بابتداءِ الخلقِ يوم الأحد، وختامِه يوم الجمعة
(1)
، وهو وإن كان مِمَّن أخذَ عن أهلِ الكتاب قبلَ إسلامِه، فما كان لمثلِه -وهو صَحابيٌّ كريم- أن يَبقى على ذاك القولِ لو جاء عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم ما يُناقِضه! فضلًا عن أن يُقَرَّ بروايةِ ذلك للتَّابعين وهو مِن البَواطل!
فنفهم أنَّ ما دعاه إلى البقاءِ على هذا القول في بدءِ الخلق: ما فهِمه مِن إقرارِ الشَّرع لذلك! وهذه نُكتة لم أرَ مَن انتبَه إليها، والله أعلم.
وكذا نقول في كعب الأحبار وروايتِه الَّتي خالف بها ما نُسِبَ إلى أبي هريرة رضي الله عنه مِن حديثِ خلقِ التُّرب: لو عَلِم كعبٌ مِن صاحِبه أبي هريرة رضي الله عنه روايةَ ما يُناقض ما يعتقده ويرويه مِن بدءِ الخلقِ يوم الأحد
(2)
، ما بَقيَ كعبٌ على اعتقادِه ذاك، ولمَا انشغلَ بروايتِه تلك بعد روايةِ أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومِن لَطيف ما رأيتُه يدلُّ على أنَّ ما يَرويه أهلُ الكتاب في يومِ ابتداءِ الخلقِ صحيحٌ يُصَدِّقه الشَّرع: أنَّ الله تعالى حين أبطلَ قولَهم في السَّبت، إنَّما أنكرَ دعواهم أنَّه استراح فيه مِن الخلقِ، في حينِ لم يُنكِر قولَهم معه أنَّ الخلقَ انقطعَ فيه! فيُعَدُّ منه إقرارًا لهم
(3)
، والله أعلم.
يقول قتادة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38]: «قالت اليهود: إنَّ الله خلق السَّموات والأرض في ستَّة أيَّام، ففرَغ مِن الخلقِ يوم الجمعة، واستراحَ يوم السبت، فأكذَبَهم الله تعالى، وقال: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ}»
(4)
، أي: مِن إعياءٍ
(1)
أخرجه الطبري في «تاريخ الدول والملوك» (1/ 37)، والبيهقي في «الأسماء والصفات» (2/ 249 - 250) مِن طريقين عن عبد الله بن سلام، وهو صحيح.
(2)
ومعروف أنَّهما كانا يَتَذاكران هذه السَّوالِف من الأخبار، ومسألتنا هذه مِن أُمَّهاتِها!
(3)
تمامًا كما أنكر الله على الجاهليِّين نسبةَ ما هم عليه من الفواحش إلى أمر الله، ولم ينكر عليهم نسبتها إلى إرثِ آبائهم، وذلك في قوله تعالى:{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} ، فأقرَّهم على الأولى بالسُّكوتِ عليها، وأنكرَ عليهم الثَّانية وشنَّع عليهم بسببها.
(4)
أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» (3/ 233)، والطَّبري في «تفسيره» (21/ 466).
ونَصَب؛ ومثله قال الضَّحاك
(1)
، وأبو مجلز
(2)
.
ومِن عجيب قدَرِ الله تعالى فينا وفي أهلِ الكِتابين: أنَّ اليهودَ استصحَبوا نعتَ المغضوبِ عليهم في تعظيمِهم للسَّبتِ، إذْ جعلوه مُستَراحَ الرَّبِ من الخلقِ -تعالى عن ذلك سبحانه-؛ واستصحَبَ النَّصارى نعتَ الضَّلالِ في تعظيم الأحدِ، إذْ كان عندهم بدايةَ الخلق، وهل يُحتفَل بشيءٍ لِتوِّه بَدَأ ولم يَسْتَتِمَّ بعد؟!
وهَدى الله المسلمين لاتِّخاذِ الجمعة عِيدًا، إذ كان آخرَ يومٍ خَلَق الله فيه العالَم، وكان فيه خلقُ أصلِهم آدم عليه السلام
(3)
!
وأمَّا تتِمَّة هذه المعارضة؛ في دعوى دلالةِ أسماءِ الأيَّامِ على أوَّليَّةِ الأحد في أيَّام الخلق:
فكلام المُعلِّمي فيما تَعقَّبها به سَليم.
غير أنَّ دعوى السُّهيليِّ بأنَّ تلك الأسامي طارئةٌ على أيَّامِ الأسبوع، وتعدادُه لأسمائها القديمة عند العَرب: وإن كان قولًا صَحيحًا مِن حيث التَّاريخ، لكن يُشكِل عليه أنَّ العَرَب كانوا أيضًا يُسَمُّون الأحدَ (أوَّل)
(4)
كما ذَكره السُّهيليُّ نفسُه عنهم! ويَجعلونه أوَّلَ أيَّام الأسبوع! فإمَّا أنَّهم تَبعوا فيه أهلَ الكتاب بخصوصِه لأسبابٍ غير مَعروفة
(5)
، أو تكون التَّسمية انْبَنت على ما بَقي فيهم مِن أثارةِ أخبارِ الأنبياء.
ثمَّ قول السُّهيلي في أسماء الأيَّام: «لو كان الله تعالى ذَكَرها في القرآن بهذه الأسماء المُشتقَّة مِن العدد، لقُلنا: هي تسميةٌ صادقةٌ على المُسَمَّى بها، ولكنَّه لم يذكر منها إلَّا الجمعة والسَّبت، وليسا مِن المشتقَّة مِن العدد» :
(1)
ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (7/ 609) منسوبًا لتفسير ابن المنذر.
(2)
أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (8/ 511).
وأبو مجلز: هو لاحق بن حميد بن سعيد البصري، ويقال: شعبة السَّدوسى، إمام ثقة من أواسط التابعين، توفي (106 هـ أو نحوها)، انظر «تهذيب الكمال» (34/ 255).
(3)
انظر «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (17/ 237)، و «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (8/ 119).
(4)
انظر «النُّكت والعيون» للماوردي (6/ 9).
(5)
انظر «التَّحرير والتنوير» (28/ 221).
يُشكِلُ عليه أنَّ السَّبتَ وإن لم يُشتَقَّ مِن العَدد، فهو مُشتَقٌ مِن معنى القَطع والسُّكون
(1)
! يُقال: سَبَتَ الشَّيءَ، إذا قطَعَه
(2)
، ويُقال: أسْبَتَت الحَيَّةُ: إذا أطْرَقَت لا تَتحرَّك
(3)
، وعليه سُمِيَّ يومُ السَّبت سَبْتًا: لأنَّ الله قَطَع خَلْقَ العَالَم وفَرَغ منه فيه
(4)
.
فلو أنزلنا على أصلِ تَسمية السَّبت دعوى السُّهيليِّ أنَّ أسماء الأيَّام المُشتقَّة مِن العدد لو ذُكرت في القرآن لكانت «التَّسميةَ صادقةً على المُسَمَّى بها» ، فإنَّ يوم السَّبت قد ذُكِر في القرآن، فتسميتُه على هذا صادقة على المُسمَّى به! إذ يتضمَّن قطع الرَّب للتَّخليقِ فيه، ومن لازم ذلك بدء التَّخليق في الأحد.
ومُحصَّل القول مِن مجموعِ هذه المناقشاتِ أن نقول ختامًا:
إنَّ حديثَ «خلق التُّربة يوم السَّبت» قد وُجِّهَت له في القديمِ والحديثِ أربعُ مُعارضاتٍ تطعن في متنِه ذكرتها تباعًا: صَحَّت منها المعارضة الأولى، فلم تُزحزَح بجوابٍ مَكين، واندفعت عنه المعارضة الثَّالثة، لوَهائِها البيِّن للنَّاظر فيها، أمَّا المعارضتان الثَّانية والأخيرة: ففيهما ما يَسلم، وفيها ما فيه نَظر.
وإن كانت المعارضة الأولى كافيةً في إسقاطِ الحديث وردِّه بالنَّكارة، والله تعالى أعلم.
(1)
انظر «تهذيب اللُّغة» للأزهري (12/ 268)، و «الزَّاهر» للأنباري (2/ 137).
(2)
«تاج العروس» للزبيدي (4/ 534).
(3)
«المعجم الاشتقاقي المؤصَّل» لـ د. محمد حسن جبل (2/ 946).
(4)
انظر «جامع البيان» للطبري (2/ 66)، و «مقاييس اللغة» لابن فارس (3/ 125)، و «النكت والعيون» للماوَردي (1/ 135).
قلت: ولا يختلف هذا المعنى المقصود إن قيل بالقول الآخر في أصلِ التَّسميَّة: أنَّ اليَهود يَسْبِتُون فيه، أي يَقطعون فيه الأعمالَ ـ كما تراه في «النُّكت والعيون» (1/ 135) ـ لأنَّهم لم يفعلوا ذلك أصلًا إلَّا بعد اعتقادِ تعظيمِه أنْ قَطَع الله فيه الخلقَ! وجَعَلَه مُستراحًا له، وأمَرَهم باتِّخاذِه كذلك، فمَرَدُّ هذا إلى المعنى الأوَّل للتَّسمية.
لكن يبقى إشكال مهمٌّ يَعتري تعليلَ هذا الحديث؛ وهو:
هل يكون حديث خلق التُّربة بهذا مِن قَبيل الإِسرائيليَّات، مع أنَّه في «صحيح مسلم» ؟
والجواب: كلَّا!
بل مُجرَّد غَلَطٍ مِن أحدِ رُواتِه، بدليل أنَّ الإسرائيليِّين أنفسُهم مُتَّفِقون على أنَّ الخلقَ ابتدأَ الأحد، وانتهى الجمعة، «وعليه بَنَوا قولَهم في السَّبت»
(1)
، وليس في شيءٍ من صُحُفِهم أنَّ ابتداءَ الخلق كان يوم السَّبت، كما في متنِ هذا الحديث.
وكعبُ الأحبار الَّذي يَنسِبُ إليه البعضُ هذه الرِّواية -بتخريجِ أنَّ الرَّاوي أخطَأ بروايتِها عن أبي هريرة رضي الله عنه مَرفوعةً، وكان الفرض أن تكون عن كعب- المعروفُ مِن قولِه هو: أنَّ مُبتدَأ الخلق كان الأحَد لا السَّبت
(2)
!
فيكون بهذا بريئًا مِن نسبةِ الحديث إلى مَقولِه، ونسبةُ بعض العلماء المتأخِّرين ذلك إليه غَلَطٌ، كابن تيميَّة
(3)
، القيِّم
(4)
، وابن كثير
(5)
، والمُناويُّ
(6)
، وتَبعهم بعض مُخرِّجي السُّنَن مِن المعاصرين
(7)
.
(1)
«الأنوار الكاشفة» للمعلمي (ص/189).
(2)
انظر «زاد المسير» لابن الجوزي (2/ 127).
وما رُوي عنه في ذلك أخرجه وكيع في «نسختِه عن الأعمش» (رقم: 39)، ومن طريقه الطَّبري في «تفسيره» (7/ 5) وابن أبي شيبة في «المصنف» (7/ 269): عن الأعمش، عن أبي صالح، عن كعب قال:«بدأ الله بخلق السَّموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، ثمَّ جعل مع كل يوم سنة» ، وهذا سَند منقطع بين الأعمش وأبي صالح، إذ لم يسمع منه شيئًا، وانظر «تهذيب التَّهذيب» (4/ 224).
(3)
«مجموع الفتاوى» (18/ 18).
(4)
«المنار المنيف» (ص/84 - 85).
(5)
«تفسير القرآن العظيم» (1/ 215).
(6)
«فيض القدير» (3/ 447).
(7)
كشعيب الأرنؤوط في تخريج «مسند أحمد» (14/ 82)، ومُحقِّقا «الطُّيوريات» لأبي طاهر السِّلفي (2/ 347).
وكان مِن اشهر عُمَدِ هؤلاء في نسبةِ هذا الخبر إلى كعب: قولُ البخاريِّ في ترجمتِه لأيُّوب بن خالد الأنصاريِّ: «ورَوَى إسماعيل بن أميَّة، عن أيُّوب بن خالد الأنصاري، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: خَلق الله التُّربة يوم السَّبت.
وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب، وهو أصحُّ»
(1)
.
ففَهِم البعضُ مِن هذا الكلامِ: وُرودَ حديثِ خلقِ التُّربة يوم السَّبت بإسنادٍ آخرَ وَقَف عليه البخاريُّ، يَنْميه أبو هريرة إلى كعبِ الأحبارِ ولا يرفعُه، فرَّجحوه على إسنادِ مسلمٍ المرفوع! مع جهلِهم بحقيقتِه، تقليدًا للبخاريِّ.
لكن يُشكِل على مَسلكِهم هذا في التَّعليلِ: كونُه ترجيحًا للمَجهولِ مِن الإسناد على مَعلومٍ منه! فإنَّ ما ذَكَره البخاريُّ مِن روايةِ الحديث عن أبي هريرة عن كعب، لا نعلم إسنادَه لنتَحقَّقَ مِن صحَّتِه، والأصل اعتمادُ ما ظَهر مِن الأسانيد حتَّى يُكشف ما خَفِي منها
(2)
.
وما يزيد فهمَهم لكلامَ البخاريَّ إشكالًا: ما سَبَق تقريرُه مِن أنَّ المَحفوظ عن كعبٍ خلافُ ما في حديث خلق التُّربة، أي أنَّه يقول بأنَّ ابتداءَ الخلق كان يوم الأحد، وهو قول أهل الكتاب قاطبةً!
فمِن أين سيأتي البخاريُّ بروايةٍ عن كعبٍ تناقض هذه الحقيقة؟!
لقد حاوَل المُعلِّمي التماسَ عُذرٍ للبخاريِّ في هذا المَسلك الغريب من التَّرجيح، حين قال: «مُؤدَّى صنيعِه أن يحدُسَ أنَّ أيُّوب أخطأ، وهذا الحَدس مَبني على ثلاثةِ أمور:
الأوَّل: استنكارُ الخَبر لمِا مَرَّ.
الثَّاني: أنَّ أيَّوب ليس بالقَويِّ، وهو مُقِلٌّ، لم يُخرِج له مسلم إلَّا هذا الحديث؛ .. وتَكلَّم فيه الأزديُّ، ولم يُنقَل توثيقُه عن أحدٍ مِن الأئمَّة، إلَّا أنَّ ابن حبَّان ذكره في «ثقاته» ، وشرط ابن حبَّان في التَّوثيق فيه تسامح معروف.
(1)
«التَّاريخ الكبير» للبخاري (1/ 413).
(2)
ولذا قال الألبانيُّ مُتعقِّبًا كلامَ البخاريِّ في «السِّلسلة الصَّحيحة» (4/ 449): «وهذا كسابقه ـ يعني أنَّه مَردود-، فمَن هذا البَعض؟! وما مَحلُّه في الضَّبط والحِفظ حتَّى يُرجَّح على روايةِ عبد الله بن رافع؟!» .
الثَّالث: الرِّواية الَّتي أشار إليها بقوله: «وقال بعضهم» ، وليته ذَكَر سندَها ومتنَها، فقد تكون ضعيفةً في نفسِها، وإنَّما قوِيَت عنده للأَمرين الآخَرين، ويَدلُّ على ضعفِها أنَّ المحفوظ عن كعب، وعبد الله بن سلام، ووهب بن منبِّه، ومَن يأخذ عنهم: أنَّ ابتداءَ الخلق كان يوم الأحد، وهو قول أهل الكتاب المذكور في كتبِهم، .. فهذا يدفع أن يكون ما في الحديث مِن قولِ كعب»
(1)
.
غير أنَّ هذا الكلام لا يُزيلُ الإشكالَ الثَّاني، وهو: أنَّ المَشهور عن كعبٍ خلاف حديث خلق التُّربة، فكيف ينسبُه البخاريُّ إليه؟
والَّذي تَبدَّى لي مِن كلامِ البخاريِّ وجهٌ آخرَ مِن التَّأويل، أزعمُ أنَّه أقرب ما تُحمل عليه مَقالَته السَّالفة، أقول فيها مُستَهديًا بالله:
إنَّ البخاريَّ لا يعني أنَّ الخبر الَّذي قال فيه: «وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب» : هو بنفسِ مَتنِ حديثِ خلقِ التُّربة! فليس يُعرَف لهذا الحديث في كلِّ صحائفِ الدُّنيا غير الإسناد الَّذي ساقَه مسلم له عن أيُّوب بن خالد! وليس لمِثل البخاريِّ في سِعة علمِه واطِّلاعِه أن يجهل أنَّ كعبًا لا يقول بما في متنِه من ابتداء الخلق يومَ السَّبت.
إنَّما أراد البخاريُّ بقولِه ذاك: ما يدخلُ في جملةِ أخبار هذا الباب الَّذي يندرج فيه حديث مسلمٍ ولو اختلف في متنه، مادام مَوضوعها واحدًا -والله أعلم-؛ ما يعنيه المُحدِّثون بقولهم:«وفي الباب عن فلانٍ وفلانٍ مِن الصَّحابة .. » ، أي أنَّ مَوضوع حديث ما قد وَرَد فيه أحاديث أخرى عن فلانٍ وفلانٍ، وهذه الأحاديث قد تختلف لفظًا ومعنًى، وأمثلة ذلك واضحة في «جامع التِّرمذي»
(2)
.
فعلى هذا، يكون متنُ الخَبر الَّذي عَناه البخاريُّ، والَّذي قد عَزاه هو إلى أبي هريرة عن كعب الأحبار، لا يُطابق متنَ حديثِ مسلمٍ في خلقِ التُّربة يوم
(1)
«الأنوار الكاشفة» (ص/189).
(2)
انظر مثالًا له في «نزهة الألباب في قول الترمذي وفي الباب» لحسن الوائلي (3/ 1633 - 1637).
السَّبت بالحرف! وإنَّما يُطابقُ مَوضوعَه العامَّ الجامع، هذا الموضوع هو حَدُّ ابتداءِ الخلق الأوَّل، وانتهاءهِ بخلقِ آدم.
هنا يُقال: وهل يوجد خَبَرٌ آخر يرويه أبو هريرة عن كعب في بدءِ الخلقِ ونهايتِه غير ما في مسلمٍ؟
أقول: نعم، أحدُس أن يكون مُراد البخاريِّ: ما رواه أبو هريرة عن كعب بعد أن قال له: سمِعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خَيرُ يومٍ طَلَعت فيه الشَّمس وغابت يوم الجمعة» ، فقال كعبٌ:«نعم، إنَّ الله خَلَق الخلقَ يومَ الأحد، حتَّى انتهى إلى الجمعة، فخَلَق آدمَ آخرَ ساعاتِ النَّهار يوم الجمعة»
(1)
.
فكأنَّ البخاريَّ يقول: إنَّ الأصحَّ عن أبي هريرة في هذا الباب ما رواه بعضهم عنه عن كعب الأحبار مِن قولِه، وقولُ كعبٍ أنَّ ابتداءَ الخلق يوم الأحد.
فكأنَّه أراد أن يشير بهذا إلى أنَّ حديث أيُّوب مَعلول من جِهتين:
الأولى: أنَّ رفعَه عن أبي هريرة لا يصحُّ.
الثَّانية: أنَّ الأصحَّ في متنِ الخبر ما جاء عن أبي هريرة عن كعب في أنَّ ابتداءَ الخلقِ يومَ الأحد.
فإن قيل: إنَّ ما حَدَسته مِن خبرِ كعبِ هذا إسنادُه ضعيف! فكيف يجعله البخاريُّ أصحَّ من حديث التُّربة؟
قلت: الحديث أخرجه ابن سلام قال: حدَّثنا عثمان، عن سعيد المقبري، أنَّ إنَّما الخلاف في يحيى بن سلام، وشيخِه عثمان، وهو الأخنسي.
فأمَّا يحيى بن سلام: وإن كان قد تَكلَّم بعض العلماء في حفظِه، فقد مَشَّى حالَه آخرون، وأعدل الأقوال فيه ما قاله أبو زرعة:«لا بأس به، ربَّما وَهِم»
(2)
.
وأمَّا عثمان بن محمَّد الأخنسي: فالبخاريُّ وَثَّقه، وهذا المهمُّ لدينا
(3)
.
(1)
«تفسير يحيى بن سلام» (1/ 292).
(2)
«الضعفاء» له (2/ 339)، وقال أبو حاتم في «الجرح والتعديل» (9/ 155):«صدوق» ، ووَثَّقه ابن حبَّان (9/ 261) وقال:«ربَّما أخطأ» .
(3)
وكذا وثَّقه يحيى بن معين، انظر «التهذيب» لابن حجر (7/ 152).
فيكون هذا الإسناد مُحتَمِلًا للتَّحسينِ عند البخاريِّ، مع ما يَشهَدُ لمتنِه من أحاديث أخرى، وقد مَرَّ ما رواه أبو صالح عن كعب في ما يوافق ذلك.
وعلى فرضِ ضَعفِه، فإنَّ البخاريَّ قال:« .. هو أصَحُّ» ، ولا يلزم من هذه العبارة أن يكون صَحيحًا في نفسِه، ولكن مِن بابِ:(أصحُّ ما في الباب)؛ ومع ما في متنِ حديث التُّربة مِن نكارةٍ اقتضت عنده تخليطَ راويه في سندِه ومتنِه
(1)
،
استوجبَ تغليبَ غيره عليه.
(1)
ومُؤدَّى صَنيعِ البخاريِّ في تغليطِه لحديث التُّربة في ترجمته أيُّوب بن خالد: أن يحدُسَ أنَّه هو مَن أخطأ فيه، وشأن الغلط في المتنِ أن يُناط بأوهى حلقة في الإسناد، ولعلَّ إدراجَ البخاريِّ لهذا المثال وحده لِما استُنكر على أيُّوب في ترجمتِه الموجزة له فيه إشارة إلى شيءٍ في ضبِطه، «فإنَّ من شأن البخاريِّ أن لا يخرج الخبرَ في التَّاريخ إلَّا ليدلَّ على وهن راويه» كما قرَّر المعلميِّ في مقدمة تحقيقه لـ «الفوائد المجموعة» (ص/180).
فأيُّوب ليس بالقَويِّ باعتراف المُعلِّمي، وهو مُقِلٌّ، لم يُخرِج له مسلم إلَّا هذا الحديث؛ وليس حَدُّه أن يحتج به في الصَّحيح، ولم يُنقَل له توثيقٌ مُعتبر، بل قال الأزديُّ:«أيُّوب بن خالد ليس حديثه بذاك، تكلَّم فيه أهل العلم بالحديث، وكان يحيى ين سعيد ونظراؤُه لا يكتبون حديثَه» اهـ «التَّهذيب» (1/ 401).
فلأجل هذا كلِّه قال عنه ابن حجر في «التَّقريب» : «ليِّن الحديث» .
وردُّ الألبانيِّ في «سلسلته الصَّحيحة» (4/ 450) لكلامِ الأزديِّ في أيوب، بدعوى ضعفِه هو في نفسه عند المُحدِّثين، لا يُسلَّم له على إطلاقِه، فإنَّ ضعفَ الأزديِّ يُحمَل على أحوالٍ خاصَّة لا مطلقًا، وهو مِن أئمَّة الاجتهاد في الجرح والتَّعديل، وأقواله في الرِّجال مقبولة في الجملة، فإنَّه لم يُتعقَّب فيما انفرد به إلَّا بأقلَّ من نصف العُشر مِن مجموع أقوالِه فقط، وانظر بحثًا مُحكَّمًا في التَّدليل لهذا التَّقرير بعنوان:«أبو الفتح الأزدي بين الجرح والتَّعديل» لعبد الله مرحول السَّوالمة، منشور في مجلة جامعة الملك سعود بالرياض (4/ 2/429 - 476)، بتاريخ 1412 هـ 1992 م.
وإلى نحو من نتائجه فيه وصل الطَّالب عمرو حلمي في رسالته للماجستير المُقدَّمَة في جامعة الأزهر، بعنوان:«أقوال الإمام أبي الفتح الأزدي في الجرح والتَّعديل» ، والمنشور مُلخَّصها في عدد شوَّال 1438 هـ من مجلة «الأزهر» (ص/2071 - 2077).
وقد قدَّمنا أنَّ أيُّوب لم يُوَثَّق توثيقًا يُعتَدُّ به، فأَوْلى هنا إعمال كلامِ الأزديِّ فيه بَدَلًا من إهمالِه، خاصَّة أنَّه يَنقل حكمَه عن غيره لا عن نفسِه فقط، ولو فرَضنا سقوطَ قولِ الأزديِّ، فإنَّ ما مرَّ من حالِه يُنبئ عن عدم حُجِّيتِه إذا انفرَد، خصوصًا إذا جاءنا بمتنٍ مُثخَنٍ بالإشكالات، كحديث خلق التُّربة هذا، فلا يُقبل منه بحال، والله تعالى أعلم.
هذا الَّذي أراه في توجيه كلام البخاريِّ، فإنِّي على اعتقاد بأنَّ مثله لا يُصحِّح نسبةَ الكلامِ إلى مَن يُعلَم نَأيُه عنه يقينًا.
ولعلَّ هذا المَلْحظ نفسَه هو ما به اطمأنَّت نفس مسلم لتصحيح الحديث! ذلك أنَّه عَلِم أنَّ خَبر خلقِ التُّربة لا يقول بمثلِه كعب، فكأنَّ الشُّبهة انتفت عنده في الحديث أن يغلطَ فيه الرَّاوي فيجعله عن أبي هريرة بينما هو عن كعب! حيث أنَّ كعبًا لا يقول بمثلِ متنِه أصلًا! فتمحَّضَ عنده أنَّه عن أبي هريرة مرفوعًا؛ مع تاويلِ مسلمٍ للمتنِ على وجهٍ يَراه غير مُناقضٍ للأصولِ، كما قد أشرنا إليه.
ومع كلِّ ما قُلته: يبقى كلامِ البخاريِّ مَزَّلة أفهامٍ، مُحتملَةً عندي، والمَقام لا يتَّسع لبَسطها بأكثر من هذا؛ ويكفينا القطعُ بأنَّ الحديث أشَدُّ ما يُقال فيه: أنَّه غَلط مِن الرَّاوي، وليس هو مِن الإسرائيليَّات في شيء، والله تعالى أعلم.