الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث دَفعُ دعاوي المعارضاتِ الفكريَّةِ المعاصرةِ عن أحاديثِ انقضاءِ قرن الصَّحابة بعد المائة
لا يَنقضي عَجبي مِن هؤلاء السُّرْعانِ في تجهيلِ المحدِّثين والطَّعنِ في مرويَّاتِهم، من دون تريُّثٍ وتأمُّل في صنيعِهم وما قد يرد عليه من وهمٍ وسوء فهمٍ، لربَّما كشف عنه أهل العلمِ منذ قرون عديدة.
فلو سألناهم -مثلًا- عمَّا يزعمون مِن تكذيب الواقع لأحاديث هذا الباب: هل هو أمرٌ ظَهَر لكم مَعاشر المُحْدَثين بخاصَّة؟ أم ظَهَر لِمن سبَقكم مِن عقلاءِ السَّلف؟
وبصيغةٍ أدقَّ نقول: متى كان سيظهر تكذيبُ الواقع لمثلِ هذا الخَبر الَّذي بَلَغ رتبة القطعِ عند المحدِّثين؟
فلا بدَّ أن يقولوا: مثل هذا الأمر الجَليِّ الواضح في المخالفةِ للواقعِ لابدَّ أن يكون قد ظَهَر لِمن قَبلنا بداهةً، وتحديدًا بعد هرمِ الغُلامِ، أو انقضاء المائة سنةٍ بعد وفاةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم!
فنقول لهم: إن كان النَّبي صلى الله عليه وسلم قد قال هذا الحديث وغيره ممَّا في معناه سنة عشرٍ للهجرة، فسيكون المُجلِّي لكذبِ هذه الأخبار هو سنة (110 هـ)! إذ به يكتمل قرنٌ من زمنِ تحديثه به.
لكنَّا وجدنا المحدِّثين يصحِّحون هذه الأحاديث، ولو بعد مرور هذه السَّنة العاشرة بعد المائة! حيث رواه التَّابعون وأتباعهم في كُتبِهم، مع مخالفته القطعيَّة للواقعِ كما يدَّعيه المعترضونَ! بل أخرجها البخاريُّ ومسلم في «صحيحيهما» ، وقد مَرَّ على ظهورِ كذبِه للأعمى -حسب دعواكم- أكثر مِن مائة وأربعين سنةً!
فلن يبقى لنا في الحكمِ على هؤلاء المُحدِّثين حسب دعواكم إلَّا القول بأحدِ احتمالين:
إمَّا مجانين كلُّهم! يصحِّحون ما يظهر كذبه لأغبى الخليقةِ، ثمَّ يلحقهم في هذا الجنونِ عوَّام المسلمين، حيث أقرُّوا علماءهم على تلك الغباوة المفرطة، وأخذوا عنهم هذه الأخبار.
وإمَّا أنَّهم لم يجدوا في هذه الأخبار ما يُخالف الواقعَ بحالٍ، فلذلك قبلوها.
إنَّ ظنِّي بالمُعترض أنَّه مهما خالفَ البخاريَّ ومسلمًا وأئمَّة الدِّين في منهج النَّقدِ للرِّوايات، فإنَّه لن يبلُغَ به الشَّطَط في الخصومةِ أن يعتقد فيهم الجنونَ والتَّغابي إلى هذه الدَّرجةِ من البَله.
فعليه -إذن- أن يُقرِّر أنَّ لهؤلاء تفسيرًا للحديث يدفع ما قد يظنُّه معارضةً مِن الخبر للشَّرع والواقعِ، ولينظر في تفسيرِهم ذلك للحديثِ، ثمَّ لينقُده بعدُ إذا شاء أن ينقد، لكن لا يحِقُّ له أن يَتوهَّم في مَن صَحَّح الحديث مِن سادات الأمِّةِ أنَّهم كانوا في غفلةٍ عمَّا يستشكله أمثالُ المُعتِرض من الحديث.
فإذا رجعنا إلى «الصَّحيحين» نفسيهما، في الَمواطن الَّتي أخرج فيها الشَّيخان حديث أنس رضي الله عنه:«إنْ أُخِّر هذا، فلن يدركه الهَرم حتَّى تقوم السَّاعة» ، نجِدُهما قد أخرجا بإزاءِه الحديثَ المفسِّر لِما قد يُشكِل مِن فهمِه، وهو:
حديث عائشة رضي الله عنها، وبه خَتمتُ أحاديث هذا الباب فيما مَرَّ، ليكون كاشفًا لِما مَضى قبلَه مِن أحاديث قد تكون مجملةً، حيث جاء في آخره قولُ النَّبي صلى الله عليه وسلم:«إنْ يَعِش هذا، لا يُدركه الهَرَم حتَّى تقوم عليكم ساعتُكم» ، قال هشام: يعني موتَهم».
فلو فرَضنا أنَّ البخاريَّ لا يَعِي مِن فهمِ الحديثِ شيئًا، وأنَّه المسكينُ لا يَدْرِي أنَّ السَّاعة لم تَقُم بعد موتِ ذاك الغُلام! فلقد بَيَّن له هشام بن عورة هذا المعنى الواضح في آخر روايتِه للحديث بقوله:«يعني موَتهم» ، أي: لن يهرم هذا الغلام حتَّى يموت السَّائل، فتقوم قيامَته، إذْ المَوتُ سَاعةُ كلِّ إنسان، ومن مات فقد قامت قيامتُه.
غير أنَّ هذا الَّذي قاله هشام هو ما فهِمه البخاريُّ ومسلم وباقي الأئمَّة حقًّا، بل هو ما كان واضحًا عند علماء الصَّحابة قبلهم قبل أن يهرم ذلك الغلام! كما تراه في ثاني أحاديثِ هذا الباب، في قولِ ابن عمر رضي الله عنه:« .. إنمَّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَبْقى مِمَّن هو اليومَ على ظهرِ الأرض أحدٌ» ، يريد بذلك أن ينخرِمَ ذلك القرن».
يقول ابن حجر: «قد بَيَّن ابنُ عمر في هذا الحديث مُراد النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأنَّ مُراده أنَّ عند انقضاءِ مائةِ سنةٍ مِن مقالتِه تلك ينخرم ذلك القَرن، فلا يبقى أحدٌ ممَّن كان موجودًا حال تلك المقالة.
وكذلك وَقع بالاستقراء، فكان آخر مَن ضُبِط أمرُه ممَّن كان موجودًا حينئذٍ: أبو الطُّفيل عامر بن واثلة، وقد أجمعَ أهل الحديث على أنَّه كان آخر الصَّحابة موتًا، وغاية ما قيل فيه أنَّه بَقِي إلى سنة عشر ومائة، وهي رأس مائة سنةٍ مِن مقالة النَّبي صلى الله عليه وسلم»
(1)
.
ونحن نَعلمُ أنَّ عبد الله بن عمر رضي الله عنه توفي سنة (73 هـ)، أي: أنَّه قد فهِم الحديث فهمًا صحيحًا قبل أن يُقطَع بمجيءِ سنة (110 هـ)، وهو الوقت المضروب لظهورِ كذبِ الحديث، حسب زعمِ المعترضين من المعاصرين!
وعلى نحوِ فهمِ ابن عمر رضي الله عنه ينبغي أن تُفهم أحاديث النَّبي صلى الله عليه وسلم مجموعًا طُرقها بعضها إلى بعض، لا بأن يُنظر في كلِّ واحدٍ منها مُنعزلًا عن الآخر؛ فما
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (2/ 75).
جاء في روايةٍ مجملةٍ بلفظٍ: «السَّاعة» مُطلقةً دون إضافة، بيَّنته رواية أخرى بإضافتها إلى ساعةِ ذلك القَرنِ المُخاطَبِ:«تقوم عليكم ساعتُكم» .
(1)
.
العجيب في هذا: أنَّ ذاك المعنى الخاطئ الَّذي توَهَّمه المُحْدَثون من الحديث، فظنُّوه اكتشافًا حصريًّا لهم، قد وَقَع مثله قديمًا زمنَ المقالةِ النَّبوية نفسِها! فقد جاء في كلامِ ابن عمر رضي الله عنه:« .. فوَهَل النَّاس -أي غلِطوا- في مقالةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك، فيما يتَحَدَّثون مِن هذه الأحاديثِ عن مائةِ سَنة» .
فعلماء الصَّحابة والتَّابعين قد نَبَّهوا على خطأِ هذا الفهمِ، وليس هو مَعنًى تأوَّله أهل السُّنةِ حَديثًا وتَعسَّفوا في تفسيرِ الحديث به، تفاديًا لتخطئةِ المُحدِّثين كما يزعمه المُبطِلون.
فإن قال قائل: إن كان الأمرُ كما قرَّر مَن ذكرتَ مِن أهل العلم، فلماذا أجابَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بأنْ أشار إلى عُمْرِ الغُلامِ، أو انخرامِ القرن، ولم يكتفِ بنفِي علمِه بالسَّاعةِ رأسًا؟
فجواب ذلك:
أنَّ الأعرابَ مِن جفائهم كانوا يَسألون النَّبي صلى الله عليه وسلم عن مَوعدِ السَّاعة، ومع أنَّ الجواب قد حُسِم في القرآن، إلَّا أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يحِبَّ أن يرُدَّ جفاءَهم ذاك كلَّ مَرةٍ بجفاءٍ منه، فأرادَ أن يُلفِت انتباهَهم بأسلوبِ الحكيمِ، إلى كون السُّؤال عن وقتِ السَّاعة -فضلًا عن جهلِ المَسئولِ به- لن يَنفعهم في شيء، إنَّما ينفع المرءَ عملُه ومحاسبةُ نفسِه عليه، كما قال للأعرابي:«وما أعددتَ لها؟!» .
(1)
«شرح النووي على مسلم» (16/ 90).
فأراد صلى الله عليه وسلم أن يؤكِّد هذا المعنى للسَّائل فقال: «إنْ أُخِّرَ هذا، فلن يُدركه الهَرم حتَّى تقوم السَّاعة» ، وفي الرِّواية الأخرى:«إنْ يَعش هذا، لا يُدركه الهَرم حتَّى تقوم عليكم ساعتُكم» .
فكأنَّه صلى الله عليه وسلم يريد بهذا أن يقول له: إنَّه مهما يكُن مَوعدُ السَّاعةِ أيُّها السَّائل، فإنَّك لن تفوق في العُمرِ عمرَ هذا الغلامِ الصَّغير، وموتُك حينها قيامُ ساعتِك، فانظر فيما قدَّمتَ مِن عملٍ قبل موتك!
(1)
وبذا يتبيَّن لكلِّ منصفٍ ألَّا تعارض بين الحديث وبين الواقع البتَّة، فضلًا عن أن يكون معارِضًا للقرآن في نفي علم السَّاعة عن غير الله تعالى.
والحمد لله على توفيقه.
(1)
مُستفاد من مَقال جدليٍّ للدُّكتور حاتم العوني في الموقع الإلكترونيِّ لمركز نماء للبحوث والدِّراسات، المنشور بتاريخ 4/ 9/1435 هـ.