الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دَفعُ دعوى المعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن أحاديثِ عذابِ الميِّت ببكاءِ أهلِه عليه
لا شكَّ أنَّ مَن ردَّ هذا الحديث في عذاب الميِّت ببكاء أهلِه عليه عَلَمان مِن أعلامِ العلمِ من الصَّحابة الكِرام: عائشة وابن عبَّاس رضي الله عنهم؛ غير أنَّ هذا الرَدَّ منهما للخَبر ليس عن تقدمةٍ للعقلِ على النَّقلِ! -كما توهَّمه هؤلاء الطَّاعنون في الحديث-، وإنَّما تقديمًا لِما يرَيَانِه دَلالةً نَقليَّةً قاطعةً على دَلالةٍ نقليَّةٍ ظَنيَّةٍ؛ وفرقٌ بين المُوجِبين في النَّظر إلى الأخبار.
فها هي عائشة رضي الله عنها تجهرُ بأنَّ مقتضى استنكارِها للخبرِ: مُناقضته لآية: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، مع ما نقلته هي عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن لفظٍ آخر يخالف لفظَ عمر وابنه عبد الله رضي الله عنهم للحديث.
فكان ظاهر القرآن مُوجبًا عندها لتَقديمِ لفظِ روايتِها هي على روايةِ غيرها مِمَّا ظنَّته مُعارِضًا لظاهرِ القرآن؛ وإن كان هذا الاعتداد منها بلفظِ روايتِها دون لفظِ غيرها من الصَّحابة أمر قد أخطأت فيه رضي الله عنها.
يقول الخطَّابي: «الرِّواية إذا ثَبَتَت، لم يُمكن إلى دفعِها سبيلٌ بالظَّن، وقد رواه ثلاثةُ أنفسٍ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: عمر، وابن عمر، والمغيرة؛ وليس فيما حَكَت عائشةُ مِن مرورِ رسول الله صلى الله عليه وسلم على يهوديةٍ يبكي عليها أهلُها ما يدفع روايةَ عمر
والمغيرة، لجوازِ أنْ يكون الخَبَران صَحيحين معًا، وكلُّ واحدٍ منهما غيرُ الآخر»
(1)
.
وبتأمُّلنا في دعاوي المُعاصرين في إنكارِ هذا الخبرِ، نلحظ أنَّها ترتكز على أَمرين، لم يُصِب المخالفون في تصحيحِ أصلِه الَّذي ابتُني عليه إنكارُه
(2)
:
الأوَّل: توهُّمهم أَنَّ ظاهرَ الحديثِ مُعاقبةُ الميِّت بلا وِزرٍ اقترفه، ولا ذنبٍ جناه؛ هذا قادهم إلى القول بـ:
الثَّاني: أنَّ هذا الظَّاهر مَدْفوع بيَقينِ العقلِ وضَرورة الشَّرع.
والحقيقة: أنَّ ظاهر الحديث لا ينافيه العقل؛ فضلًا عن الدَّلائل النَّقليَّة، وما ظنُّوه منافيًا لهذا الظَّاهر، ليس هو مَدلوله ولا ظاهره، بيان ذلك:
أنَّ المعارِضين قَصَروا معنى (العذاب) على (العقاب)، والصَّواب: أَنَّ العذاب أَعمُّ من العِقاب؛ فكلُّ عِقابٍ عذاب بلا عكس.
والَّذي يُبرهن على هذه الدَّعوى الدَّلائل التَّالية:
تسمية الله تعالى على لسان أيوب عليه السلام ما ابْتَلى به عبدَه عذابًا، فقال:{أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41]، والعذاب هنا بمعنى: الضُرِّ في بدنِه وأهلِه الَّذي ابتلاه الله به
(3)
، لا على سبيل العقوبة له عليه السلام؛ وإنَّما ابتلاءً له.
ومِن البراهين الدَّالة على بطلان قصرِ مفهومِ العذابِ على العقابِ:
ما صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّه قال: «السَّفرُ قِطعةٌ من العَذَابِ، يمنع أَحدكم طعامَه وشرابه ونومه، فإذا قضى أحدكم نَهْمَتَهُ من سَفَرِه، فَلْيعجِّل بالرجوع إلى أهله»
(4)
، فَسَمَّى النَّبي صلى الله عليه وسلم السَّفر قطعةً مِن العذاب، ومعلوم أنَّه إنَّما أراد الألم الحَاصِلَ للمسافر، وليس هو على جهة العِقَاب.
(1)
«أعلام الحديث» (1/ 684).
(2)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/64 - 67).
(3)
انظر «جامع البيان» لابن جرير (20/ 106 - 107).
(4)
رواه البخاري في (ك: العمرة، باب: السفر قطعة من العذاب، رقم:1804).
ومن براهين ذلك أيضًا: أنَّ مِن العقوبات ما يصيب غيرَ المُعاقَب؛ فيكون مصيبةً في حقِّه، كما قال صلى الله عليه وسلم:«إذا أنزلَ الله بقومٍ عذابًا أصاب العذابُ مَن كان فيهم، وبُعِثُوا على نيَّاتهم»
(1)
.
فإذا تَحَصَّل مِن ذلك عموم معنى العقاب، عُلِم أنَّ ما يجده الميِّت مِن الألم بسببِ النِّياحة عليه:
قد يكون عقوبةً له؛ إن كان مِن سُنَّة أَهله فِعْلُ ذلكَ، ولم ينههم، أو أمَرَ به بعد موته، وهذا مذهب البخاريِّ البيِّن مِن تبويبه للحديث بقوله:«باب: قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: يُعذَّب الميِّت ببعض بكاء أهله عليه، إذا كان النَّوح من سُنَّته»
(2)
.
وقد يكون ما يجده مِن الألم جرَّاء ذلك هو مِن جِنس الضَّغطة، وانتهار الملَكَين، والمرور على الصِّراط، وغيرها مِن أهوال يوم القيامة، فهذه الآلام تكون سببًا لتكفير خطايا المؤمن، وهذا ما نحا إليه جِلَّةٌ مِن العلماء؛ كابن جرير الطَّبري، والقاضي عياض
(3)
.
وفي بيان هذا المعنى يقول ابن تيميَّة:
«فهذا الحديثُ قَبِلَه أَكابر الصَّحابةِ مثلُ عمرَ، وهو يُحدِّث به حين طُعن، وقد دخل عَليه المهاجرون والأنصار، وينهى صُهيبًا عن النِّياحة، ولا ينكر ذلك أَحد؛ وكذلك في حال إمرته يعاقِبُ الحيَّ الَّذي يُعذِّب الميِّتَ بفعله، وتلقَّاه أكابر التَّابعين مثل سعيد بن المسيب وغيره، ولم يَردُّوا لَفْظَه ولا معناه.
والَّذي عليه أَكابر الصَّحابةِ والتَّابعينَ هو الصَّواب؛ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يُعذَّب)، ولم يقل:(يُعاقب)! والعذابُ أعمُّ من العقاب .. فالعذاب هو: الآلام الَّتي يُحْدِثُها الله تعالى؛ تارةً يكون جزاءً على عَمَل فيكون عقابًا، وتارةً يكون
(1)
أخرجه البخاري في (ك: الفتن، باب: إذا أنزل الله بقوم عذابًا، رقم: 7108)، ومسلم في (ك: الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: الأمر بحسن الظن بالله تعالى عند الموت، رقم: 2879).
(2)
«صحيح البخاري» (2/ 79)، ونَسب النَّووي هذا المذهب إلى الجمهور، انظر كتابه «المجموع» (5/ 308).
(3)
انظر «إكمال المعلم» (3/ 371 - 372)، و «فتح الباري» لابن حجر (3/ 155).
تكفيرًا للسَّيئات .. ثمَّ ذلك الألم الَّذي يَحْصُل للميِّت في البرزخ إذا لم يكن له فيه ذَنْبٌ: مِن جنسِ الضَّغطة، وانتهارِ منكر ونكير، ومِن جنس أهوال القيامة؛ يكفِّر الله به خطايا المؤمن، ويكون مِن عقوبة الكافر»
(1)
.
ولا يُعترض على هذا التَّفسير المتينِ مِن هؤلاءِ الأعلامِ بما اعترضَ عليهم به (محمَّد الغزالي) في دعواه منافاة هذا الألمِ لتبشيرِ المؤمنِ عند موتِه بعدم الحزن! حيث قال:
(2)
.
قلت: الَّذي في الآية: تبشير الملائكةِ للمؤمنين أن «لا تخافوا ما تقْدُمُون عليه مِن أمرِ الآخرة، ولا تحزنوا على ما خلَّفتم من دُنياكم مِن أهلٍ وولدٍ، فإنَّا نخلُفكم في ذلك كلِّه»
(3)
، فطمأنتُهم للمؤمن على مصيرِه الأخرويِّ تنفي خوفَه ممَّا يقدُم عليه، والتَّبشير له برعايةِ أهلِه من بعده غايةُ ما فيه ذهابُ حزنِه على فقدِهم وإعالتِهم.
وهذا -كما ترى- لا يَنفي أن يجدَ هذا المُبشَّر شيئًا مِن الألمِ إذا سمع بكاءَ أهلِه عليه، كما أنَّه يجد شيئًا مِن الألم عند الضَّمة، وعند انتهارِ المَلَكَيين له، ونحو ذلك ممَّا سبق في كلامِ ابن تيميَّة، فهذا كلُّه لا دخلَ له بالحزنِ المَنفيِّ في الآية الكريمة.
(1)
«جواب الاعتراضات المصريَّة» (ص/62 - 72).
(2)
«السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث» (ص/24).
(3)
من كلام مجاهد في تفسير الآية، انظر «جامع البيان» للطبري (20/ 427).
وبهذا يَسلم الحديث ممَّا وُجِّه إليها مِن نَقدات، والحمد لله على ما كشف من المُشكِلات.