الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دَفعُ دعوى المعارضاتِ الفكريَّةِ المعاصرةِ
عن أحاديثِ رؤيةِ الله تعالى في الجنَّة
تمهيد:
قبل الشُّروعِ في دحضِ شُبهات المعاصرين في أحاديث الرُّؤية، ننبِّه إلى أنَّ هذا المبحث مِن أجلِّ مسائلِ أصولِ الدِّين وأجلاها أدلَّةً، وأنصعها بيانًا في مدوَّنات عقائد أهل السُّنة؛ كيف ورؤية الله جل جلاله هي الغاية الَّتي شَمَّر إليها المُشمِّرون، وتنافس فيها المتنافسون، وحُرمها الَّذين هم عن ربِّهم مَحجوبون، وعن بابِه مَطرودون!
ولقد دلَّ أكثر من دليلٍ من الكتاب والسُّنة والعقل على إثباتِ رؤية المؤمنين لربِّهم عز وجل في الجنَّة.
فمِن الكِتاب: قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23].
وهذه مِن أظهر الآيات على إثبات الرُّؤية من عدَّة أوجُهٍ، منها:
أ- أنَّ الله أضاف النَّظر إلى الوجه الَّذي هو محلُّ البصر.
ب- تعدِّي (النَّظر) في الآية بأداة الجرِّ (إلى)، وهي في لسانِ العربِ
صريحة في نظر العَينِ فقط، دون ما سوى ذلك مِن المعاني المُحتمَلة
(1)
.
ج- خلوُّ الكلامِ مِن قرينةٍ تدلُّ على خلاف الحقيقة، وتصرُّف اللَّفظ عن معناه الحقيقيِّ المُتبادَر
(2)
.
وكذا في قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]: فالحُسنى فيها الجَنَّة، والزِّيادة بعدها النَّظر إلى وجه الله الكريم؛ بذا فسَّرَها نبيُّنا صلى الله عليه وسلم
(3)
، ثمَّ الصَّحابة رضي الله عنهم مِن بعده
(4)
.
وكذا قوله تعالى: {كَلَاّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]: وفيها يقول الشَّافعي: «لمَّا حَجَب الله قومًا بالسُّخط، دلَّ على أنَّ قومًا يرونه بالرِّضا»
(5)
.
أمَّا دلالة العقل على جوازِ الرُّؤية:
فإنَّ كلَّ ذاتٍ مَوجودةٍ يجوز في الأصلِ رؤيتها، ووجود الله تعالى هو أكمل وجود، فجائز رؤيته سبحانه.
(6)
.
يُوِضِّح ذلك:
أنَّ تَعذُّر الرُّؤيةِ يكون إمَّا: لخفاءِ المَرئي عن نظر الَّرائي، أو لضعفٍ وآفةٍ في الرَّائي.
(1)
انظر «تصحيح الفصيح» لابن المرزبان (ص/154)، و «شرح المفصَّل للزَّمخشري» لابن يعيش (4/ 464).
(2)
انظر «الإبانة» للأشعري (ص/40)، و «التَّوحيد» لأبي منصور الماتريدي (ص/84).
(3)
كما مرَّ في حديث صهيب في «صحيح مسلم» أوَّل هذا المبحث.
(4)
انظر «جامع البيان» (12/ 165) فما بعده.
(5)
«معرفة السنن والآثار» للبيهقي (1/ 191).
(6)
«الإبانة» (ص/51).
فالله تعالى ليس به خفاء، وإنَّما تَعذَّرت رؤيته في الدُّنيا لضعفِ القوَّة الباصرةِ للمخلوق أن تتحمَّل رؤيةَ بارِيها جل جلاله، كما جرى لموسى عليه السلام حين تجلَّى ربُّه للجَبل حتَّى {جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً} [الأعراف: 143].
ففي هذا إبطالٌ لقولِ من ادَّعى أنَّه لو جازَ أن يُرى في الآخرة لجازت رؤيته في الدُّنيا، فإنَّما «الدُّنيا دار فناء، ولا يجوز أن يُرى الباقي في الدَّار الفانية، ولو رأوه في الدُّنيا، لكان الإيمان به ضرورةً، والجملة أنَّ الله تعالى أخبر أنَّها تكون في الآخرة، ولم يخبر أنَّها تكون في الدُّنيا، فوَجَب الانتهاءُ إلى ما أخبرَ الله تعالى به»
(1)
.
وبهذا تتعاضد أدلَّة القرآن والعقل مع السُّنةِ النَّبويَّة لإثباتِ عقيدة الرُّؤية لله تعالى في الجنَّة، لا كما افتراه (النَّجمي) على أهل السُّنة من أنَّهم لم يسُوغوها إلَّا مِن مصدرٍ واحد، وأنَّها عقيدة لم تَرِد إلَّا بأخبار آحاد!
وليس الأمر كذلك، فإنَّه مع ما قد علِمنا من أدلَّة الكتاب والعقل عليها، فإنَّ ما وَرد في هذا الباب مِن المتواتر المَعنويِّ القطعيِّ، فقد رُويت عنه صلى الله عليه وسلم بعباراتٍ متنوعةٍ، مِن وجوه كثيرةٍ، يمتنع بمثلها في العادة التَّواطؤ على الكذبِ.
فعن يحيى بن معين قال: «عندي سبعة عشرَ حديثًا في الرُّؤية، كلُّها صِحاح»
(2)
.
وجمعَ الدَّارقطني طُرقَ الأحاديث الواردةِ في رؤية الله تعالى في الآخرة
(3)
، فزادت على العشرين، ثمَّ تَتبَّعها ابن القيِّم
(4)
، فبلغت الثَّلاثين، يقول ابن حجر:«وأكثرُ أسانيدها جِياد»
(5)
.
(1)
«التعرف لمذهب أهل التصوف» للكلاباذي (ص/43).
(2)
«العواصم والقواصم» لابن الوزير اليماني (5/ 193).
(3)
في جزئه المَطبوع «رؤية الله» .
(4)
في كتابه «حادي الأرواح» (ص/296 - 297).
(5)
«فتح الباري» لابن حجر (13/ 434).
وفي تقريرِ هذه الحقيقة المتواترة يقول أبو الحسن الأشعري: « .. وخالفوا -يعني المعتزلة- رواياتِ الصَّحابة رضي الله عنهم عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في رؤية الله عز وجل بالأبصار، وقد جاءت في ذلك الرِّوايات مِن الجِهاتِ المختلفات، وتواترت بها الآثار، وتتابعت بها الأخبار»
(1)
.
ويقول أبو بكر الكَلاباذي (ت 380 هـ): «الأخبار في هذا مشهورةٌ متواترةٌ، وَجب القولُ به، والإيمان والتَّصديق له»
(2)
.
وممَّن جهر بتواتر أحاديث الرُّؤيةِ غيرُ مَن سَبق جَمٌّ غفيرٌ مِن أئمَّة الإسلامِ، منهم: أبو محمَّد ابن حزم
(3)
، وابن عطيَّة
(4)
، وابن قيِّم الجوزيَّة
(5)
، وأبو الفداء ابن كثير
(6)
، وأبو العبَّاس القرطبي
(7)
، وابن أبي العزِّ الحنفي
(8)
، وابن حجر العسقلاني
(9)
، وغيرُ هؤلاء كثير.
ولذلك قال ابن تيميَّة:
«وأهل العلمِ بالحديثِ يعلَمون أحاديثَ الرُّؤية متواترةً، أعظمَ مِن تواترِ كثيرٍ ممَّا يظنُّونه متواترًا، وقد احتجَّ أصحابُ الصَّحيح منها أكثرَ ممَّا خرَّجوه في الشُّفعة، والطَّلاق، والفرائض، وسجود السَّهو، ومناقبِ عثمان وعليٍّ، وتحريم المرأة على عمَّتِها وخالتِها، والمسحِ على الخفين، والإجماعِ، وخبِر الواحدِ، والقياسِ، وغيرِ ذلك مِن الأبواب الَّذين يقولون إنَّ أحاديثها متواترة؛ فأحاديث
(1)
«الإبانة عن أصول الديانة» (ص/14).
(2)
«التَّعرُّف لمذهبِ أهل التَّصوف» للكلاباذي (ص/42).
(3)
«الفِصل في الملل والنحل» (3/ 3).
(4)
«المحرر الوجيز» (2/ 131).
(5)
«حادي الأرواح» (ص/296).
(6)
«تفسير القرآن العظيم» (3/ 309).
(7)
«المُفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم» (3/ 21).
(8)
«شرح العقيدة الطحاوية» (1/ 215).
(9)
«فتح الباري» (8/ 302).
الرُّؤية أعظم مِن حديث كلِّ نوعٍ مِن هذه الأنواع، وفي الصِّحاح منها أكثر ممَّا فيها مِن هذه الأنواع»
(1)
.
فعلى ما تَضمَّنته هذه المُتواتراتِ مِن وجوب الإيمان برؤية المؤمنين لربِّهم جل جلاله يومَ القيامة، انعقد إجماع الصَّدر الأوَّل من هذه الأمَّة.
يقول عثمان الدَّارمي (ت 280 هـ) بعد إيرادِه ما في هذا العقدِ مِن دلائل نقليَّة:
(2)
.
وبعد أن أوردَ البيهقيُّ (ت 458 هـ) جملةَ أحاديث الباب، عَقَّب ببيانِ اتِّفاقِ السَّلف على ما تضَمَّنته، وأنَّ الخلافَ فيها لم يوجد بينهم أبدًا، إذْ لو وُجِد لنُقل إلينا كما نُقل في مسائل هي أدنى شأنًا مِن مسألتنا هذه، فتراه يقول:
«رُوِّينا في إثبات الرُّؤية عن: أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عبَّاس، وأبي موسى، وغيرهم رضي الله عنهم، ولم يُرو عن أحدٍ منهم نفيُها، ولو كانوا فيه مختلفين لنُقل اختلافُهم إلينا.
وكما أنَّهم لمَّا اختلفوا في الحلال والحرام والشَّرائع والأحكام: نُقل اختلافهم في ذلك إلينا، وكما أنَّهم لمَّا اختلفوا في رؤيتِه بالأبصارِ في الدُّنيا: نُقل اختلافهم في ذلك إلينا، فلمَّا نُقلت رؤية الله بالأبصار عنهم في الآخرة، ولم ينُقَل عنهم في ذلك اختلاف -يعني في الآخرة- كما نُقِل عنهم فيها اختلاف في
الدُّنيا: علِمنا أنَّهم كانوا على القولِ برؤيةِ الله بالأبصارِ في الآخرةِ مُتَّفِقين مُجتمِعين»
(1)
.
ولا ريبَ أنَّ ما نَقَله البيهقيُّ وغيره
(2)
مِن إجماعٍ على هذه المسألة، هو القولُ الَّذي لا يجوز العدول عنه، لصراحةِ ما أورده في ذلك من أدلَّة، فكان الواحد مِن أولاءِ الأئمَّةِ لصراحةِ النُّصوص في هذه المسألةِ، وتظافر الأدلَّة على ذات المعنى: لا يرتاب في تضليلِ كلِّ مَن ينكر الرُّؤية، وإلحاقِه على الفورِ بالجهميَّة
(3)
.
فأمَّا دعاوي المخالفين فيما أورَدُوه في المقام الأوَّل مِن المعارضات العقليَّة على أصلِ الرُّؤية: في زعمِهم أنَّ كلَّ ما يكون مَرئيًّا فلا بدَّ وأن تنطبع صورته ومثاله في العَين، والله تعالى يتنزه عن الصُّورة والمثال، وأنَّ كلَّ ما كان مرئيًّا فلا بدَّ له من لَون وشكل، والله تعالى منزَّه عن ذلك، فوَجَب ألَّا يُرى.
فجوابه أن يُقال: إنَّ كون الرُّؤية بالانطباعِ، ومنعِ كونِ المرئيِّ ذا لونٍ وشكلٍ: هو مِن لوازم المَرئيِّ المخلوقِ المُشاهَد في الدُّنيا، أمَّا رؤية الخالقِ في الدَّار الآخرة، فليست هي كرؤية المخلوق قطعًا، وبِما أنَّ المختلفات في الماهيَّة لا تستوي لوازمها، فليست تجِب تلك اللَّوازم المُدَّعاة في حقِّ الله تعالى.
وكذا دَعواهم أنَّ المَرئيَّ لا بدَّ وأن تنطبع صورتُه ومثالُه في العين، وأنَّه لا بدَّ وأن يكون ذا لونٍ وشكلٍ: هو مَبنيٌّ على أنَّ هذه الأشياء المشاهَدة المُحسَّة لا تُرى إلَّا كذلك، وقِياس رؤيةِ الخالق سبحانه عليها في الآخرةِ مِن أبطلِ الأقيسةِ قطعًا، فإنَّ الله تعالى ليس كمثله شيء
(4)
، «ولا تُقاس شئون البَشر في
(1)
«الاعتقاد» للبيهقي (ص/130).
(2)
نقل الإجماع أيضا: أبو الحسن الشعري في «رسالة إلى أهل الثغر» (ص/134)، وابن القيم في «حادي الأرواح» (ص/342)، ونقل قبله أقوال جمع غفير من علماء السَّلف من الصحابة ومن بعدهم في إثبات الرؤية.
(3)
كما ثبت ذلك عن وكيع بن الجراح، انظر «السنة» لعبد الله بن أحمد (1/ 231)، و «الصفات» للدارقطني (ص/41).
(4)
«رؤية الله تعالى وتحقيق الكلام فيها» (ص/71 - 72).
الآخرة على شئونِهم في الدُّنيا؛ لأنَّ لذلك العالمِ سُنَنًا ونواميسَ، تخالف سُنَنَ هذا العالَم ونواميسَه»
(1)
.
فيبقى أنَّ الرُّؤية الَّتي يُهيِّؤها الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين في الجنَّة، هي مِن الأمورِ الغيبِيَّة الَّتي نقطع فيها الطَّمعَ عن إدراكِ حقيقَتها وكيفيَّتها على وجهِ الإحاطة واليقين، وذلك يدلُّ على مذهبِ السَّلف، الَّذي عُبِّر عنه بأوْجَزِ عبارةٍ اتَّفق عليها جميعُهم، في قولهم:«رؤيةٌ بلا كيف» ، فهي خاليةٌ «عن الشَّرائطِ والكيفيَّاتِ المُعتبرةِ في رؤيةِ الأجسامِ والأغراضِ»
(2)
.
وأمَّا قولهم: بأنَّ إثباتَ الرُّؤية يستلزم إثباتَ الجِهة لله تعالى والتَّحيُّز له، وأنَّه مُنَّزه عن ذلك .. إلخ، فجوابه:
أنَّ لفظ (الجِهة) مِن الألفاظ المُجملَة الَّتي لم يَرِد نفيُها ولا إثباتُها في الشَّرع، فتأخذ حكمَ مَثيلاتها مِن استفسارِ قائلِها عن مُرادِه منها، فإنْ أرادَ حَقًّا قُبِل، وإن أراد باطلًا رُدَّ، وإن احتملَ حقًّا وباطلًا: لم يُقبَل مُطلقًا، ولم يُرَدَّ جميعُ معناه، بل يُتوَقَّف في اللَّفظِ، ويُفسَّر المعنى.
فيُقال هنا لمِن نَفى ما سَّماه بالجِهة:
«أتريد بالجهةِ أنَّها شيءٌ مَوجود مخلوق؟ فالله ليس داخلًا في المخلوقات؛
أم تريد بالجهة ما وراء العَالَم؟ فلا ريب أن الله فوق العالَم، بائنٌ مِن المخلوقات.
وكذلك يُقال لمِن قال: إنَّ الله في جِهة:
أتريد بذلك أنَّ الله فوق العالِم؟ أو تريد به أنَّ الله داخلٌ في شيءٍ مِن المخلوقات؟!
فإن أردتَ الأوَّل فهو حقٌّ، وإن أردتَ الثَّاني فهو باطل، ولا معنى (الجِهة)
(1)
«تفسير المنار» (9/ 135).
(2)
«جلاء العينين» لخير الدين الآلوسي (ص/474)، وانظر «تفسير المنار» (9/ 154).
يُسعفُكَ على ذلك، لأنَّ الجِهة ليست أمرًا وجوديًّا، بل أمرٌ اعتِباريٌّ، ولا شكَّ أنَّ الجهات لا نهاية لها، وما لا يوجد فيما لا نهاية له فليس بمَوجود»
(1)
.
وكذلك نقول في لفظ «التَّحيُّز» :
إن أريدَ به أنَّ الله تحُوزُه المخلوقات: فالله أعظم وأكبر، بل قد وَسِع كرسيُّه السَّموات والأرض .. وإن أريدَ به أنَّه مُنحازٌ عن المخلوقات، أي مُبايِنٌ لها، مُنفصل عنها، ليس حالًّا فيها: فهو سبحانه كما قال أئمَّة السُّنة: فوقَ سمواته على عرشه، بائنٌ مِن خلقه
(2)
.
وكذا إذا قيل: أنَّه في جِهة بذلك الاعتبار الَّذي قُرِّر هنا قريبًا، فهو صحيح، ومعناه: أنَّه فوق العالم حيث انتَهَت المخلوقات، فهو بذا فوق الجميع، عالٍ عليهم.
والحاصل: أنَّ هذه اللَّوازم السَّالف إيرادها مِن قِبل المُعترضين، من لفظ الجِهة والمُقابلة ونحوها: ليست ممتنعةً عند أهلِ السُّنة؛ فإذا كانت (المُقابلة) لازمةً للرُّؤية فهي حَقٌّ، وما كان حقًّا وصوابًا، فلازمه كذلك
(3)
.
وأمَّا استدلال المعترض على نفيِ أحاديث الرُّؤية بآية: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} :
فالاستدلال بهذا منه عجيب، لأنَّه لو تَأمَّله بتجرُّد، لوَجده عليه لا له! بكِلَا قَوْلي الصَّحابة في تفسيرِها.
فأوَّل قَوْلَيهم في ذلك: أنَّ الإدراكَ في الآية بمعنى الرُّؤية، وحَملوا الآيةَ على نفيِ الرُّؤية في الدُّنيا بخصوصِها، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّكم لنْ تَرَوا ربَّكم حتَّى
(1)
«شرح الطحاوية» لابن أبي العز (1/ 267) بتصرف يسير.
(2)
«التَّدمرية» (ص/66 - 67).
(3)
وما مرَّ من تفصيلٍ في هذا الجواب، يقول عنه ابن تيميَّة:«ممَّا خاطبتُ به غيرَ واحدٍ مِن الشِّيعة والمعتزلةِ، فنفعه الله به، وانكشفَ بسببِ هذا التَّفصيل ما وقع في هذا المقامِ مِن الاشتباهِ والتَّعطيل» ، «منهاج السنة» (2/ 349).
تموتوا»
(1)
، فهذا هو مُراد عائشة رضي الله عنها حينَ استدلالِها بالآيةِ على نَفيِ رؤيةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم ربَّه ليلةَ المعراجِ، غايةُ ما في ذلك أنَّها فهِمت مِن الآيةِ عدمَ قدرةِ أبصارِنا على رؤيتِه سبحانه في الدُّنيا، ولم يُنقَل عن أحدٍ من الصَّحابة رضي الله عنهم مِن طريقٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ أنَّه أراد بذلك نفيَ الرُّؤية في الآخرة
(2)
.
وبهذا ينتفي التَّعارض المُتوهَّم بين تلك الآيةِ على قولِ عائشة ومَن وافقها
(3)
، وباقي الآياتِ الصَّريحةِ على ثبوتِ الرُّؤية في الآخرة.
وثاني القَوْلين في الآية: أنَّ الإدراكَ فيها هو بمعنى إحاطةِ الرَّائي بربِّه عز وجل، وهذا ما جَرت عليه أقوال جلَّةٍ مِن الصَّحابة والأئمَّة بعدهم، تراه -مثلًا- في تفسيرِ ابن عبَّاس رضي الله عنه للآية:«لا يحيطُ بَصرُ أحدٍ بالملِكِ» ، وقولِ عطيَّة العوفي:«ينظرون إلى الله، ولا تحيط أبصارهم به مِن عظمتِه، وبصرُه يحيط بهم»
(4)
.
وقد قرَّر ابن تيميَّة وجهَ الاستدلال من الآيةِ على مسألةِ الرُّؤية أحسنَ تقريرٍ وألطفَه في قوله:
«أنا ألتزِمُ أنَّه لا يَحتجُّ مُبطِلٌ بآيةٍ أو حديثٍ صحيحٍ على باطلِه، إلَّا وفي ذلك الدَّليل ما يدلُّ على نقيضِ قوِله! فمنها هذه الآية، وهي على جواز الرُّؤية أدلُّ منها على امتناعها، فإنَّ الله سبحانه إنَّما ذكرها في سياقِ التَّمدح، ومَعلوم أنَّ المدحَ إنَّما يكون بالأوصافِ الثُّبوتية، وأمَّا العَدم المحض فليس بكمالٍ ولا يُمدح به.
(1)
أخرجه النسائي في «السنن الكبرى» (ك: النعوت، باب: المعاقاة والعقوبة، رقم: 7716)، وابن ماجه في «السنن» (ك: الفتن، باب: فتنة الدجال، وخروج عيسى ابن مريم، وخروج يأجوج، ومأجوج، رقم: 4077)، وصحَّحه الضِّياء المقدسي في «المختارة» (8/ 264)، والألباني في «صحيح الجامع» (4076).
(2)
«معارج القبول» للحَكمي (1/ 361)؛، فلا وجهَ لنصبِ الخلاف بين الصَّحابة رضي الله عنهم في ذلك كما أراد أن يوهمه (هاشم معروف)!
(3)
وهذا مذهب إسماعيل ابن عليَّة، وهشام بن عبيد الله الرازي، ونعيم بن حمَّاد، انظر «شرح اصول اعتقاد أهل السنة» للالكائي (3/ 577)، وبه أخذ أحمد بن حنبل في «ردِّه على الجهمية» (ص/78)، وعثمان الدرامي في «نقض المريسي» (2/ 738)، وأبو الحسين الملطي في «التنبيه والرد» (ص/60).
(4)
انظر القولين في «جامع البيان» للطبري (9/ 457 - 459).
وإنمَّا يُمدح الرَّب تبارك وتعالى بالعدمِ إذا تضمَّن أمرًا وجوديًّا، كتمدُّحه بنفيِ السِّنة والنَّوم، المتضمِّن كمالَ القيوميَّة، ونفيِ الموت المتضمِّنِ كمال الحياة، ونفيِ اللُّغوبِ والإعياء المتضمِّن كمال القدرة، ونفيِ الشَّريك والصَّاحبة والولد والظَّهير المتضمِّن كمالَ ربوبيَّتِه وإلهيَّته وقهرِه، ونفيِ الأكلِ والشُّرب المتضمِّن كمالَ الصَّمدية وغناه، ..
ولهذا لم يتمدَّح بعدمٍ محضٍ لا يتضمَّن أمرًا ثبوتيًّا، فإنَّ المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العَدم، ولا يوصف الكامل بأمرٍ يشترك هو والمعدوم فيه.
فلو كان المُراد بقوله: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} أنَّه لا يُرى بحالٍ: لم يكُن في ذلك مَدحٌ ولا كمال، لمشاركة المَعدوم له في ذلك، فإنَّ العَدم الصِّرف لا يُرى ولا تدركه الأبصار! والرَّب جل جلاله يَتعالى أن يُمدَح بما يشاركه فيه العَدم المَحض.
فإذن المعنى: أنَّه يُرَى ولا يُدرك ولا يُحاط به .. »
(1)
.
فالآية على هذا دالَّة على كمالِ عظمتِه سبحانه، وهو لعظمتِه أجَلُّ وأكبر وأوسع من أن يُدرَك ويُحاط به، فإنَّ (الإدراك) هو الإحاطة بالشَّيء، وهو بذا قدْر زائدٌ على الرُّؤية، والنَّفي في الآية الكريمة ورد على الرُّؤية المحيطة، لا جنسَ الرُّؤية، فهو يُرى بلا إدراكٍ له.
نظير ذلك ما في قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110]، والمَعنى: يحيطُ بهم علمًا، لأنَّه يَعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهم لا يحيطون به عِلمًا، وإن كانوا يَعلمون عنه ما أَذِن الله به، لأنَّ إحاطةَ المُحاط به بالمحيطِ مُحالٌ
(2)
.
فكلا الآيتين جارٍ على قاعدةٍ معروفةٍ في اللُّغة: أنَّ النَّفيَ إذا وَرَد على مُقيَّدٍ
(1)
نقله عنه ابن القيم في «حادي الأرواح» (ص/293).
(2)
انظر «جامع البيان» للطبري (9/ 459).
بقيدٍ، كان النَّفي مُنصَبًّا على القيدِ لا المُقيَّد، وأنَّ نفيَ وصفٍ خاصٍّ لمعنى عامٍّ، يستلزم إثباتَ ذلك العامِّ
(1)
.
وأمَّا استدلال المُعترضِ بقولِه تعالى: {لَن تَرَانِي} ، وأنَّ (لن) تفيد التَّأبيد:
فالآية كسابقتها حُجَّة عليهم لا لهم! فإنَّ الاستدلال بها على ثبوتِ الرُّؤيةِ من عِدَّة وجوهٍ:
الوجه الأوَّل: أنَّه لا يُظَنُّ بكليمِ الله ورسوله الكريم، وأعلمِ النَّاس بربِّه في وقتِه، أن يسأل اللهَ ما لا يجوز عليه، بل هذا مِن أعظمِ المُحال، بدليل:
الثَّاني: أنَّ الله تعالى لم يُنكِر عليه سؤالَه، في حين أنَّه لمَّا سأله نوح عليه السلام نجاةَ ابنِه، أنكرَ عليه سؤالَه، وزجَره إذ سأَله المُحالَ بقولِه:{فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46].
الثَّالث: أنَّه تعالى إنَّما قال: {لَن تَرَانِي} ، ولم يقُل: إنَّي لا أُرَى، أو لا يجوز رؤيتي، أو لستُ بمَرئيٍّ.
والفرق بين الجوابين ظاهر، مَثَّلَ له الفخر الرَّازي (ت 606 هـ): بأنَّ مَن كان في كمِّه حَجر، فظنَّه رجلٌ طعامًا، فقال له: أطعمنيه، فالجواب الصَّحيح أن يقول له: إنَّه لا يُؤكل، أمَّا إذا كان طعامًا صحَّ أن يقول: إنَّك لن تأكله
(2)
؛ فالآية -على ذلك- تدلُّ على أنَّه سبحانه مَرئيٌّ، ولكنَّ موسى عليه السلام لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدَّار؛ يوضِّحه:
الوجه الرَّابع: قوله تعالى له: {وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، فالله أعلَمَه أنَّ الجبَلَ مع قُوَّتِه وصلابتِه لا يثبُت للتَّجلي في هذه الدَّار، فكيف بالبَشر الَّذي خُلق مِن ضعف؟! ولا شكَّ أنَّ الله قادر على أن يجعل الجبلَ مستقرًّا، وقد عَلَّق به الرُّؤية، ولو كانت مُحالًا لكان
نظيرَ أن يقول: إن استقرَّ الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام -تعالى الله عن ذلك- فالكلُّ عندهم سواء
(1)
!
وأمَّا دعوى المُعترضِ تأبيدَ النَّفي بـ (لن)، وأنَّه يدلُّ على نفيِ الرُّؤية في الآخرة:
فهو قول فاسد مِن جِهة العَربيَّة نفسِها، وفي تقريرِ عدمِ إفادتِها للتَّأبيد، يقول ابن مالك الأندلسيُّ في «ألفيَّته» المشهورة:
ومن رأى النَّفي بـ «لن» مُؤبَّدا *** فقولَه ارْدُد وسواه فاعضُدا
ثمَّ (لَنْ) لو قدَّرْنا أنَّها للتَّأبيد في الآيةِ، لمَا دلَّ ذلك على دوامِ النَّفي في الآخرة، لوجود أدلَّة خارجيَّة تفيد خلافَ ذلك؛ نظيرُها في كتاب الله، قوله:{فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: 94 - 95].
ثمَّ هو يُخبر عنهم وعن أمثالِهم مِن أهل النَّارِ بتمنِّيهم للموتِ في الآخرة، كما في قولِه:{وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77].
هذا؛ مع أنَّ في ذاتِ سياقِ الآية ما يدلُّ على عدمِ التَّأبيد، وهو ما أبَانَ الباقلَّاني عنه بقولِه:«أرادَ في الدُّنيا -يعني طلبَ موسى عليه السلام الرُّؤية-، لأنَّه إنَّما سَأل ربَّه أن يُريَه نفسَه في الدُّنيا، فقوله: {لَن تَرَانِي} جوابُ هذا السُّؤال»
(2)
.
وأمَّا قولُ (حسن السَّقاف) في المقام الثَّاني مِن معارضاتِ أحرفٍ في متنِ أحاديث الرُّؤية: في دعواه أنَّ حديثنا هذا: «جنَّتَان مِن فضَّة، آنيتهما وما فيهما .. » ، مُعارَضٌ بحديثٍ آخر لأبي هريرة رضي الله عنه في وصفِ الجَّنة أنَّها «لبِنة مِن ذَهبٍ، ولبِنة مِن فضَّة» ، فيُقال له:
إنَّ الظَّاهر مِن قولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي موسى: «آنيتهما وما فيهما .. » أنَّه بَدَل اشتمالٍ لمِا قبلها: «جَنَّتَان مِن فضَّة .. مِن ذهب» ، وعليه فإنَّ الَّذي هو مِن فضَّة وذَهب: ما كان داخلَ تلك الجنَّتين مِن أواني، وقصورٍ، ونحو ذلك
(3)
.
(1)
انظر «المواقف» للآمدي (3/ 175)، و «شرح الطحاوي» لابن أبي العز (1/ 212 - 215).
(2)
«تمهيد الأوائل» للباقلاني (ص/307 - 308).
(3)
انظر «فتح الباري» لابن حجر (13/ 432).
أمَّا ما أحاطَ بتلك الجِنان، مِن أسوارٍ وحوائطَ، فلم يُشِر له حديث أبي موسى هذا، وإنَّما دلَّ على طبيعةِ هذا البناء الخارجيِّ ما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه:«لبِنة من فضَّة، ولبِنة من ذهب .. » ، ويؤيِّده أنَّه وقع في حديثٍ آخر لأبي هريرة نفسِه:«حائط الجنَّة مبنيٌّ لبنة من ذهب، ولبنة من فضَّة .. »
(1)
.
فبهذا يتَّسق الحديثان ويتكاملان، ولا يتعارَضان كما يشتهيه (السَّقاف)!
وأمَّا دعواه الثَّانية: بأنَّ ما في حديث أبي موسى: « .. وما بَين القومِ وبين أن ينظروا إلى ربِّهم إلَّا رداء الكِبْر على وجهِه في جنَّة عَدن» دالٌّ على أنَّ الرَّداء مانع من رؤيتِه:
فهذا كلام مَن غلبت عليه عُجمَتُه، وانبطحت لثقلِ رأسِه وِسادَتُه! فإنَّ الحديث قد جاء في سياقِ التَّبشير والتَّفضُّل مِن الله تعالى على أهل الجنَّة، فأيُّ تبشيرٍ وتفضُّلٍ عليهم إذا أخبرهم بأنَّه سيمنعهم مِن رؤيتِه؟!
فليت شعري؛ إذا لم تكن الرُّؤية له في جنَّة عَدن وهي دار القرار والنَّعيمِ، وقد وعدهم بها في آياتٍ كثيرة، فمتى تكون؟!
إذا قال لك إنسان: رُدَّ لي مالي، فقلتَ: ما بينك وبين أن أُرجعَ لك مالكَ اليومَ إلَّا أن أصلِّي العصرَ .. ، فهذا يدلُّ على ردِّه مالَه إذا صلَّى أو على عدمِه؟! فانظر كيف يُفسَد الوَحيُ ويُحرَّف معناه بهذه الطُّرق السَّخيفة.
(1)
أخرجه عنه مرفوعًا: ابن عبدويه في «الغيلانيات» (732)، وأبو نعيم في «صفة الجنة» (138)، والبيهقي في «البعث والنشور» (256).
ورواه عنه موقوفًا: معمر بن راشد كما في «جامعه» (11/ 116 - آخر مصنف عبد الرزاق، رقم: 20875)، وابن المبارك في «الزهد والرقائق» (2/ 72).
وقد رجَّح غير واحد وقفه على أبي هريرة دون الرفع، كالدراقطني في «العلل» (11/ 139)، والمنذري في «الترغيب والترهيب» (4/ 283)، وابن القيم في «حادي الأرواح» (ص/277).
وهو وإن كان موقوفًا علي أبي هريرة، إلَّا أنَّ له حكم الرَّفع، فمثله لا يُقال بمجرَّد الرَّأي.
وقد ورد له شاهد من حديث أبي سعيد الخدري: أخرجه المخلِّص البغدادي في «المخلصيات» (1/ 440، رقم:782) أبو نعيم في «صفة الجنة» (237)، والبيهقي في «البعث والنشور» (214، 261)، وابن بشران في «أماليه» (1065)، لكن في إسناده عدي بن الفضل، وهو متروك الحديث كما في «التقريب» .
ومن ثمَّ نقول: إنَّ الغَرض مِن الحديث حاصل؛ فإنَّ المعنى بيان قُربِ النَّظر، «فكأنَّ في الكلام بعد قولِه (إلَّا رداء الكبرياء) حذفًا تقديره: فإنَّه يمُنُّ عليهم برفعِه، فيحصلُ لهم الفوز بالنَّظر إليه»
(1)
؛ والله أعلم.
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (13/ 432).