الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثالث دفعُ المعارضاتِ الفكريَّةِ المعاصرةِ عن التَّفسير النَّبويِّ لآيةِ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ}
أمَّا دعوى المُنكرِ في شُبهتِه الأولى كونَ التَّعبيرِ في الآية مجرَّدَ استعارةٍ لُغويَّة .. إلخ:
فيُقال في الجواب عنه:
فلا يُنكَرُ قِدَمُ الخلافِ في تفسير هذه الآية مِن سورةِ القَلم مُنذ زَمنِ السَّلف، فقد «قال جماعةٌ مِن الصَّحابةِ والتَّابعين مِن أهلِ التَّأويل: يَبدو عن أمرٍ شديدٍ»
(1)
، وهو مَنقولٌ عن ابنِ عبَّاس رضي الله عنه وبعضِ أصحابِه، نزوعًا منهم إلى أساليبِ العَربِ في التَّعبِير.
وأصل ذلك: أنَّ الرَّجل كان إذا وَقَع في أمرٍ عظيمٍ يحتاج إلى معاناةٍ وجِدٍّ فيه: شَمَّر عن ساقِه، فاستُعيرت السَّاق في موضعِ الشِّدة
(2)
.
ونَحا جماعةٌ آخرون مِن الصَّحبِ الكِرامِ إلى روايةِ مثلِ ما في حديثِ
(1)
«جامع البيان» للطبري (23/ 186).
(2)
«البرهان في علوم القرآن» للزركشي (2/ 84).
وقيل أصله: أن يموت الولد فى بطن النَّاقة، فيدخل المذمر يدَه فى رحِمها، فيأخذ بساقه فيخرجه، فهذا هو الكشف عن السَّاق، فجُعل لكل أمر فظيع، انظر «بصائر ذوي التمييز» للفيروزآبادي (3/ 280).
أبي سعيدٍ في كونِ المَكشوف هو ساقٌ هي صِفةٌ لله تعالى، رُوي ذلك عن ابن مسعودٍ، وأبي هريرة رضي الله عنهم
(1)
.
والمقرَّر عند أربابِ أصولِ التَّفسير بالإجماع
(2)
: أنَّ الخِلافَ إذا وَقَع في تفسيرِ مُجملِ آيةٍ من كتابِ الله، وكان فيها مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم بَيانٌ عنه صَحيح، فلا شكَّ أنَّ السُّنة قاضيةٌ في هذا المَقامِ.
وإنَّما مناطُ الخلاف: في ما إذا كانَ الحديثُ ظاهرًا في تفسيرِ آيةٍ لا نَصًّا فيها، ففي هذه الحالة يُحتمَل الخلاف؛ وما نحن بصَددِ دراستِه مِن حديثِ أبي سعيد رضي الله عنه مِن أوضحِ الأمثلةِ على هذه المسألة! ذلك أنَّ ابنَ عبَّاس رضي الله عنه وإن نَحا في تفسيرِ الآيةِ مَنحًى لُغوِيًّا، وغيرُه أخَذَ فيها بما صَحَّ مِن خبرٍ مَرفوعٍ، فإنَّ ابن عبَّاس ومَن تبِعه لا يُعَدُّون بذا مُخالِفين للتَّفسيرِ النَّبوي نفسِه؛ فإنَّ الحديثَ وإن كان التَّشابه بينه وبين الآيةِ ظاهرًا، لكنْ لم يَنُصَّ صَراحةً على كونِه تَفسيرًا للآية! فتَرجِعُ المسألة حينئذٍ إلى الاجتهادِ.
وفي تقرير هذه القاعدة في خلافِ المُفسِّرين، يقول ابن تيميَّة:
«الصَّحابة رضي الله عنهم قد تَنازعوا في تفسيرِ الآية: هل المُراد به الكشفُ عن الشِّدة؟ أو المُراد به أنَّه يَكشف الرَّبُ عن ساقِه؟
ولم يتنازع الصَّحابة والتَّابعون في ما يُذكر مِن آياتِ الصِّفاتِ إلَّا في هذه الآية، بخلاف قولِه:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [ص: 75]، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [الرحمن: 27] ونحو ذلك، فإنَّه لم يَتنازَع فيها الصَّحابة والتَّابعون.
وذلك أنَّه ليس في ظاهرِ القرآنِ أنَّ ذلك صِفةٌ لله تعالى، لأنَّه قال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، ولم يقُل:(عن ساقِ الله)، ولا قال:(يكشف الرَّب عن ساقِه)، وإنَّما ذَكَر ساقًا مُنكَّرة غيرَ مُعرَّفة ولا مُضافة، وهذا اللَّفظ بمجرَّدِه لا يدلُّ على أنَّها ساقُ الله.
(1)
«جامع البيان» (23/ 189).
(2)
انظر «مناهل العرفان» للزرقاني (2/ 23).
والَّذين جَعلوا ذلك مِن صِفات الله تعالى، أثبتوه بالحديثِ الصَّحيحِ المفسِّرِ للقرآن، وهو حديث أبي سعيد الخدري المخرَّج في «الصَّحيحين» ، الَّذي قال فيه: فيكشِف الرَّب عن ساقِه»
(1)
.
فعلى ذلك، أمكننا القولُ بأنَّ الباعثَ لابنِ عبَّاس رضي الله عنه ومن تبعه إلى استعمالِ العُرفِ اللُّغويِّ في تفسيرِ هذه الآية، وتركِ اعتمادِه على الخَبرِ النَّبوي، أحدُ اعتبارين:
الأوَّل: إمَّا أنَّ الحديثَ لم يَبلُغهم، فحمَلوا الآيةَ على المَعهود عندهم مِن لسانِ العَرب
(2)
.
الثاني: أنْ يكون عارِفًا بالحديثِ، لكن رأى أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم عنَى أمرًا آخرَ لم يتقصَّد به تفسيرَ الآيةِ، فكأنَّ الآيةَ ليست عند ابن عبَّاسٍ مِن آيات الصِّفات أصلًا.
وأصل اعتباري لهذا الثَّاني، راجعٌ إلى أنَّ التَّشابهَ وإن كان مَوجودًا بين الآية والحديث، إلَّا أنَّه شَبَه جُزئيٌ لا كليٌّ، بدلالةِ الظَّاهرِ مِن حديثِ أبي سعيد نفسِه، إذْ فيه: أنَّ مَن يُكشف لهم السَّاق أهلُ الإيمانِ أو مُدَّعِيه مِن المنافقين؛ أمَّا الكُفَّار الصُّرَحاء فقد تبِعوا مَعْبوداتِهم إلى النَّار؛ في حين أنَّا نرى سياقَ الآيةَ في سورةِ القَلم جاءَ كلُّه في الكفَّار، والسُّورة مَكيَّة تخاطِبهم، والنِّفاقُ لم يَظهر بعدُ!
فبهذا رجَّحْنا أنَّ المُرادَ مِن الحديث غيرُ منطبقٍ على الآيةِ بالتَّمام، فليس هو نَصًّا في تفسيرِها
(3)
.
(1)
«بيان تلبيس الجهمية» (5/ 473).
(2)
وهذا ما ذَهب إليه مساعد الطَّيار في رسالتِه للدُّكتوراه «التَّفسير اللُّغوي للقرآن الكريم» (ص/87).
(3)
وهذا منِّي خلاف ما ذهب إليه (أحمد نوفل) الأردني في كتابِه «يوم يكشف عن ساق» (ص/102 - 103) مِن نفيِ التَّفسير عن حديث أبي سعيد الخدري للآية: «بكون الآية مكيَّة، والحديث مدنيٌّ، حيث أنَّ راويه من أهل المدينة، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، فلا يصلح أن يكون الحديث مفسِّرًا للآية من الأساس» : فهي عَجلة منه أوقعت به في حفرة أغلاط!
فكون الرَّاوي مدنيًّا لا يقتضي أنَّ ما رواه من الحديث لم يقله النَّبي صلى الله عليه وسلم إلَّا في المدينة.
كما لو وجدنا حديثًا من رواية صحابيٍّ ما، لا يقتضي ذلك انحصار سماع الحديث فيه، فرُبَّ حديث يسمعه كثرة من أصحابه، فلا يرويه منهم إلَّا البعض، ثمَّ لا يبلغنا إلَّا واحدٌ منهم!
ثمَّ الصَّحابي قد يسمع الحديثَ من صحابي آخر سمعه من النَّبي صلى الله عليه وسلم في مكَّة فيُرسل عنه.
هذا من النَّاحية التَّأصيليَّة في ردِّ استدلالِ نوفل.
أمَّا فيما يتعلَّق بحديث السَّاق بخصوصه: فقد رواه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم غير أبي سعيد، فقد ثبت عن ابن مسعود أيضًا، في «تفسير عبد الرزاق» (3/ 335) و «المعجم الكبير» للطبراني (9/ 357، برقم: 9763) وغيرهما، ومَعلوم أنَّه من أوائل من أسلَم في مكَّة، فانخلعت بذا الشُّبهة مِن أساسها.
وبه يُعلَمُ أنَّ ابنِ عبَّاس رضي الله عنه وإن نَحى في تفسيرِ الآيةِ على نَحوِ أهلِ اللُّغةِ، فإنَّ ذلك منه غيرُ مُقتضٍ لنفيِ نفسِ الصِّفةِ المذكورة في الحديث، وقد وردَت هي في خبرٍ آخر عن الشَّارع، فإنَّ انتفاءَ الدَّليل المُعيَّن لا يقتضي انتفاءَ المَدلول
(1)
.
ومِن ثَمَّ قُلنا: إنَّ تفسيرَ ابن عبَّاس رضي الله عنه ومَن تبِعه للآيةِ ليس تأويلًا منه للصِّفة كما تَوهَّمه عنه مَن لم يفهم كلامَه، فليست الآية نَصًّا في ذلك؛ إنَّما أخذ ابن عبَّاس بظاهرِ اللَّفظِ بما يتبادر إلى ذهنِ العَربيِّ إذا خُوطبِ بمثلِه، وهذا الطَّريقُ يُلجَأون إلى سلوكِه في حالِ لم يجدوا في نصوصِ الوَحيِ ما يُبِين عن المُرادِ منها
(2)
.
وحاصل الكلام في هذا المقام: أنَّ السَّببَ الحقيقيَّ في اختلافِ المتأخِّرين في هذه الآيةِ يرجع إلى اختلافٍ في الرِّوايةِ عن السَّلف:
فمَن ذَهب إلى اعتمادِ الحديثِ تفسيرًا للآية، باعتبارِ التَّشابه الظَّاهرِ بينهما، فهو يَرى أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قد حَدَّد المدلولَ المُراد من لفظِ السَّاقِ في الآية، فقائلُ هذا سائغٌ قولُه، وله فيه أئِمَّتُه.
(1)
مثالُ هذا رواه الطَّبري في «تفسيره» (2/ 457) عن مجاهد بن جبر في تفسيرِ قولِ الله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} ، قال مجاهد:«فثَمَّ قِبلةُ الله» ؛ فمَن قال مثلَ قولِه في الآية، مَنَع أن يكونَ لفظُ الوجهِ فيها ظاهرًا في الصِّفة، بل الوجهُ عنده فيها كالوِجهة، كما في الآية الأخرى:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} ، ومَن أثبتَ أنَّها صِفة لله تعالى، سلَك طريقةً أخرى في إثباتِ ذلك، غيرَ أنَّهم مُتَّفقون جميعًا أنَّ الوجهَ صِفة ذاتيَّة لله تبارك وتعالى؛ انظر «جواب الاعتراضات المصريَّة» (ص/110).
(2)
انظر أثرًا صحيحًا عن ابن عباس رضي الله عنه في ترتيب مصادر التفسير عنده في «المقدمات الأساسية في علوم القرآن» لعبد الله الجديع (ص/286).
ومَن ذَهب في تفسيرِ الآيةِ إلى اعتمادِ اللُّغة، ولم يَرَ الحديثَ واردًا لتفسيرِها: فقولُه سائغٌ، وله فيه أيضًا أئِمَّتُه
(1)
.
الشَّاهد الأهمُّ مِن هذا كلِّه: أنَّ أحَدًا مِن هؤلاء الأئمَّةِ لم يَطعن في خبرِ أبي سعيدٍ رضي الله عنه بأيِّ دعوًى كانت كما فَعَله المُحْدَثون!
وأمَّا جوابُ المعارضةِ الثَّانية: في دعوى المُنكرِ للحديثِ كونَ الآخرةِ دارَ جزاءٍ، لا تَكليفَ فيها بسجودٍ ولا بغيرِه، فيُقال فيه:
إنَّ ما استشهدَ به (الغزاليُّ) مِن كلامٍ أورده البخاريِّ في كتابِه، ليتوصَّل به إلى إبطالِ خبرٍ صحيحٍ، لا يَصِحُّ منه مَسلكًا علميًّا مُعتبرًا في النَّقدِ، لأمرين:
أوُّلاهما: أنَّ الأثرَ الَّذي عَناه بالاستشهادِ، لا يصِحُّ مَرفوعًا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، كما قد يتوهَّمه مَن لا خبرةَ له بشأنِ مُصنَّفاتِ الحديث، بل هو مَوقوف على عليٍّ رضي الله عنه، ونسبة الغزاليِّ له إلى «الصَّحيح» مُطلقًا يُوهِم كونَه في «الصَّحيح» مُسندًا للاحتجاجِ، في حينِ أنَّ البخاريَّ قد ذَكَره مُعَلَّقًا، مُترجِمًا به أحدَ أبوابِ كتابِه لا غير
(2)
.
ثانيهما: على فرضِ صِحَّةِ هذا الأثرِ عن عليٍّ رضي الله عنه فإنَّ عمومَه غير مُراد، والاستدلال بالعُمومِ لنفيِ الخصوصِ لا يمشي عند الأصوليِّين، وعمومُ هذا الأثرِ يَقتضي قصْرَ الاختبارِ والتَّكليفِ في حالِ الدُّنيا فقط، ونَفْيَ ذلك عن النَّاسِ مُطلقًا مِن لحظةِ الموتِ إلى دخولِ إحدى الدَّارين!
وهذا ما لا يقول به عالِم قَطُّ، ولا حَتَّى الغزاليُّ يقول به، فإنَّه يُثبِت سؤالَ المَلَكيَين للنَّاسِ في البَرزخ وفتنتهم
(3)
.
(1)
انظر «شرح مقدمة التسهيل» لمساعد الطيار (ص/113).
(2)
أورد البخاري هذا الأثر عن علي في «صحيح» (8/ 89) بعد قوله: (باب: في الأمل وطوله)، ووصله ابن حجر في «تغليق التعليق» (5/ 158).
(3)
انظر «عقيدة المسلم» (ص/209 - 210)، و «كيف نتعامل مع القرآن» كلاهما لمحمد الغزالي (ص/116).
ولذا كان الصَّحيح أن يُقال في هذا الباب: إنَّ التَّكليفَ أو الاختبارَ إنَّما يَنقطِعان عند دخولِ دارِ القَرار، أمَّا في البرزخِ وعَرَصاتِ يومِ القيامةِ فلا يَنقطع مُطلقًا، وهذا ما حكاه الأشعريُّ عن مذهبِ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ
(1)
، بل عَدَّه بعضُ المُحَقِّقين مِن المَعلومِ مِن الدِّين بالضَّرورةِ
(2)
.
لكن هذا التَّكليف وقتئذٍ لا يَقتضي ترتيبَ ثوابٍ أو عقابٍ خاصَّيْنِ على المُكَلَّفين بالضَّرورة، بل الغايةُ منه إظهارُ حالِ المُختَبرين وتقريع مَن خالَف منهم، وهو بذا نوع عقوبة
(3)
(4)
.
هذا هو المَنقول عن علماءِ السُّنة والحديث، ونقَلَه ابن حجرٍ موافقًا له
(5)
.
وأمَّا دعواهم في الاعتراضِ الثَّالث: أنَّ ظاهرَ الحديث التَّشبيه والتَّجسيم.
فالجواب عليه: وإن كان مُضمَّنًا في الجوابِ عن المعارضةِ الأولى آنفًا، فقد سَبق الإجابة عن شبيهِه عند الكلامِ عن شبهةِ مَن نَفَى (صِفة القَدم) في مَبحثٍ قبل هذا: في كونِها تُثبَت لله تعالى كما أثبتَها له نبيُّه صلى الله عليه وسلم، مِن غير تَكييفٍ ولا تمثيل لها بصفةِ المَخلوقين، فإنَّ مثلَها مثلُ باقي الصِّفاتِ الذَّاتية، والكلام في هذا الباب واحد، ما يُقال في بَعضِ الصِّفاتِ، يُقال في البعضِ الآخر؛ فلا يُستفصل عن حقيقة ذلك وكيفيَّتِه، ويُفوَّض علم ذلك إلى الله.
(1)
في سياقِ تقريره لامتحانِ الأطفالِ يوم القيامة، انظر «تفسير ابن كثير» (5/ 58).
(2)
«طريق الهجرتين» لابن القيم (ص/401).
(3)
انظر «دفع دعوى المعارض العقلي» لـ د. عيسى النعمي (ص/574)
(4)
«جامع المسائل» لابن تيمية (3/ 238).
(5)
«فتح الباري» لابن حجر (3/ 246).