الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث دفع المعارضاتِ الفكريَّةِ المعاصرةِ عن حديث «إذا هَلك كِسْرى فلا كِسْرى بعده»
قد سبق التَّنبيه إلى أنَّ مِن مَثارات الغَلط عند المُستشكلينَ للأخبارِ: فَهمُهم للنَّصِ على غير مُراد صاحبِه، بحيث يأخذون بظاهرِ عمومِه مُجرَّدًا دون اعتبارٍ لما يَحتفُّ به مِن قرائن تُوجِب التَّخصيص.
وهذا الحاصل في هذا الحديث، وعليه ابتنَى بعض المُعاصرين إنكارَهم له؛ وكان الفَرض أن ينظروا في ما يحتمله لفظُه مِن أوجُه المعاني، فتُقَرَّ منها ما وافق الشَّرع والعقل، ويُستبعد منها ما يخالف ذلك مخالفةً بيِّنة.
فلأجل هذا؛ لم نرَ أحَدًا مِن أئمَّةِ العلمِ -في القديم أو الحديثِ- يُجرِي هذا الخبر على معنى انقضاءِ مُلكِ الرُّومِ بالمَرَّة بعد هلاكِ هرقلَ، ولا قال أحدٌ منهم بانعدامِ مَن يخلُفه في مَملكتِه بعده، كيف والواقع المُعايَش عندهم خِلاف ذلك؟
والمعتزلة مع كثرة شَغَبهم على أخبارِ الغيبِ، لم يُعلَم عن أحدِهم طَعنٌ في هذا الحديث بخصوصِه، بل ولا أورَدَه الغُماري أبو الفضل في «الفوائد المقصودة» فيما ما شَذَّ مِن أحاديث الصَّحيحين وغيرهما في نظره.
وقد سَلَك العلماء في تفسيرِ هذا الخبر مَسلكَ التَّخصيصِ لدلالتِه، يظهر ذلك في: حملِهم نَفيَ القَيْصَريَّةِ في الحديثِ على انقراضِها عن مَوضعٍ مَخصوصٍ، لا عن وجهِ الأرض كلِّها؛ وكذا الأمر في كِسرى.
فيكون المعنى من الحديث: لا يَبقى كِسرى بأرضِه، وهي العراق، ولا قيصر بأرضِه، وهي الشَّام، كما كان الشَّأن في عهد النُّبوة، فإعلَامه صلى الله عليه وسلم بانقصامِ مُلكِهما وزوالِه هو مِن هذين القُطرَين، ولذا «قوِيَتْ نفوسُ الَعرب على الاتِّجار مع هذين القُطرين، وكانوا مِن قبل يملكون المزَارع في الشَّام، ويقيمون، ويَنعمون»
(1)
.
هذا القول مَنقول عن الشَّافعي، وأيَّدَه مُرادًا للحديثِ بسَوقِ سَببِ ورودِه، بأن قال:«كانت قريش تَنتابُ الشَّامَ انْتِيابًا كثيرًا، مع مَعايشها منه، وتأتي العِراق، فلمَّا دَخلت في الإسلام، ذَكَرت للنَّبي صلى الله عليه وسلم خوفَها مِن انقطاعِ تعايُشها بالتِّجارة مِن الشَّام والعراق إذا فارقت الكفرَ ودَخلت في الإسلام، مع خلافِ مُلكِ الشَّام والعراق لأهل الإسلام، فقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إذا هَلَك كِسرى فلا كسرى بعده» .
قال: فلَم يكُن بأرضِ العراقِ كسرى بعدَه ثَبَت له أمرٌ بَعدَه.
قال: «وإذا هَلَك قيصر فلا قيصر بعده» ، فلم يكُن بأرضِ الشَّام قيصرٌ بعدَه، وأجابهم على ما قالوا له، وكان كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَطَع الله الأكاسرة عن العراق، وفارسَ وقيصر ومَن قام بالأمرِ بعدَه عن الشَّام.
قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم في كِسرى: «يُمَزَّق ملكُه» ، فلم يبقَ للأكاسرةِ مُلك، وقال في قيصر:«يثبتُ ملكُه» ، فثَبَت له ملكٌ ببلادِ الرُّوم إلى اليوم، وتَنحَّى ملكُه عن الشَّام، وكلُّ هذا أمرٌ يصدِّق بعضُه بعضًا»
(2)
.
وإلى الإقرار بهذا الوجه مِن الشَّافعيِّ مُرادًا للحديث، جنح ابن حبَّان
(3)
، والخَطَّابي
(4)
، والقاضي عِياض
(5)
، والنَّووي
(6)
، وابن كثير
(7)
، وغيرهم.
(1)
«خُطط الشَّام» لكرد علي (4/ 241)
(2)
«الأم» للشَّافعي (4/ 180 - 181).
(3)
«صحيح ابن حبان» (15/ 84).
(4)
«أعلام الحديث» (2/ 1447).
(5)
«إكمال المعلم» (8/ 461).
(6)
«شرح النَّووي على مسلم» (18/ 42).
(7)
«البداية والنهاية» (6/ 491).
فأمَّا كِسرى الثَّاني، المُلَقَّب بـ (بَرْويز) ابنِ هُرمز: فكان حاله كما أخبرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، فبعد أن قتله ابنُه (شِيرُويَه)، انقطعَ أمرُه بالكليَّة، ولم يَزل مُلك فارس إلى انمحاقٍ وانقراضٍ بعدَه بِدَعوتِه صلى الله عليه وسلم.
وهو وإن مَلَك بعده جماعةٌ، لكن لم يخلُفه أحَدٌ مثلُه، ولا ثَبَتَ المُلك لأيِّهِم
(1)
، وكانوا عشرةً على الأقلِّ، كُلَّما خَلَف أحدُهم مَن سَبَقه قَتلوه، ومَن نَجى عاجَله المَرض بالموتِ بعد أشهرٍ قليلةٍ
(2)
، آخرُهم يَزْدَجِرد بن شَهريار، وقد هرَب مِن المدائن عند فتح المسلمين مُتخفِّيًا نحوًا مِن عشرين سنة، إلى أن قُتل في عهد عثمان رضي الله عنه سنة (31 هـ)
(3)
.
فكان بهذا «كِسرى بن هُرمز آخرَ الأكاسِرة المُمَلَّكين، ومَن وَلِي بعده وُلاة مُتضَعِّفون»
(4)
، و «مَا مَلَكَ مَن لم يكُن لمُلكِه طائلٌ ولا ثبوت»
(5)
!
فبانَ بذا أنْ لا كِسرى مِن بعدِه مِن حيث المُلك حقيقةً، إنمَّا هو اسم فارغٌ مِن المعنى.
فإن قال قائل: قَدَّرنا صِحَّةَ هذا المعنى في كِسرى، فكيف بقيصرَ ومملكةُ الرُّوم لم تَزَل بعدَه قرونَ عديدة؟
وجواب ذلك أن يُقال:
إنَّ مُلك قيصرَ قد انجلى عن الشَّامِ بالكليَّة، واستُفتِحت خزائِنُه، ولم يخلُفه مِن ملوك الرُّومِ في تلك البلادِ أَحَد، والنَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما أخبرَ العَربَ عن هلاكِه حيث كان في زَمانِه
(6)
-كما أسلفنا تقريرَه- إذْ كانت العَرَب لا تجعَلُ (قيصرَ) عَلَمًا إلَّا
(1)
انظر «كشف المشكل» لابن الجوزي (1/ 449)، و «التوضيح» لابن الملقن (20/ 201).
(2)
انظر «إيران في عهد السَّاسانيِّين» للكاتب الدَّانماركي: أَرْثِر كريسْتِنْسِن (ص/480).
(3)
انظر «تجارب الأمم وتعاقب الهِمم» لابن مسكويه (1/ 246 - 253).
(4)
«الجواب الصحيح» لابن تيمية (6/ 100) بتصرف يسير.
(5)
«الوفا بتعريف فضائل المصطفى» لابن الجوزي (ص/227).
(6)
انظر «فيض الباري» للكشميري (4/ 232).
على مَن مَلَك الشَّام مع الجَزيرة
(1)
مِن الرُّوم، فإذا سَقَطت الشَّام مِن مَملكتِه، انتفى لَقَب القَيصريَّة تَبعًا لذلك
(2)
.
هذا، وقد كانت الشَّام لقيصرَ «مَشْتاه ومَربَعُه، وبها بيت المَقدس، وهو المَوضع الَّذي لا يَتِمُّ نُسُك النَّصارى إلَّا فيهنَّ، ولا يُمْلِ على الرُّوم أحَدٌ مِن ملوكِهم، حتَّى يكونَ قد دَخَله سِرًّا أو جهرًا»
(3)
.
ولذلك لوحِظَ تاريخيًّا تَخلِّي مُلوك الرُّومِ البِيزَنطيِّينَ عن لَقبِ (القَيصر) بعد ما جرى عليهم في تلك الأرض المُقدَّسة ما جَرى، وانْمحَى فيهم هذا الاسم بعدُ تَدريجيًّا.
وفي ذلك يقول أبو زرعة العِراقي: «مِمَّا انقرَضَ ولم يعُد: بقاءُ اسمِ قيصر، لأنَّ ملوك الرُّوم لا يُسمَّون الآن بالأقاصِرة، وذَهَب ذلك الاسم عن مُلكِهم، فصَدَق أنَّه لا قيصر بعد ذلك الأوَّل»
(4)
.
هذا مع فقدِهم لبلادٍ واحدةٍ وهي الشَّام، فكيف يكون بُأسُ دولةِ هرقلٍ وقد فقدوا بعدها بلادَ مِصر؟!
لقد كان هِرقلٌ نفسُه مُعترِفًا بأنَّ سقوط هذين القُطرَين العَظيمين لا يُسقِط حكمَ القيصريَّةِ فحسب، بل هو إيذانٌ باندثارِ دولةِ الرُّوم بأكملِها، فكان يقول:«لَئِن ظَهَرت العَربُ على الإسكندريَّة، إنَّ ذلك انقطاعُ مُلك الرُّوم وهلاكُهم؛ لأنَّه ليس للرُّوم كنائس أعظمُ مِن كنائس الإسكندريَّة، وإنَّما كان عيد الرُّوم بالإسكندريَّة حيث غَلَبت العَرب على الشَّام، فلَئِن غَلبونا على الإسكندريَّة لقد هَلَكَت الرُّوم، وانقطعَ مُلكها»
(5)
.
(1)
هي البلاد الَّتي بين نَهري دجلة والفرات، مجاورة الشَّام، وهي أقرب أرض الروم إلى فارس، تشتمل على دِيار مُضر وديار بكر، انظر «معجم البلدان» (2/ 134).
(2)
انظر «البداية والنهاية» لابن كثير (6/ 491)، و «مرآة الجنان» لليافعي (2/ 236).
(3)
«أعلام الحديث» (2/ 1447).
(4)
«طرح التَّثريب» (7/ 253).
(5)
«فتوح مصر والمغرب» لابن عبد الحكم (ص/99).
فقد كان ما خَشِيَه حقًّا! فإنَّه بعد تخلِّيه عن الشَّام، ورجوعِه القَهقرى إلى داخل بلادِه وقواعدِها مِن قُسطنطينية، هَلَك أثناء حصارِ عمرو بن العاص رضي الله عنه للإسكندريَّة سنة (641 م)، «ولم يكُن قد بَقِيَ مِن أرض مصرَ في أيدي الرُّوم عند وفاةِ هرقل سِوى هذه المدينة، وبدخولهِا في حَوْزة المسلمينَ في السَّنةِ التَّاليةِ، تَمَّ لهم فتحُ مصرَ، واقتطاعُها نهائيًّا مِن الإمبراطوريَّة البِيزَنطيَّة»
(1)
.
فظَهَر بهذا أنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «لا قيصر» هو على حقيقتِه، لأنَّ القيصر لقبُ مَلِك الشَّام مِن الرُّوم، وليس لقبًا لمَلِك الرُّوم مُطلقًا، وقد انزاحَ مُلك الرُّومِ عن الشَّام، فانزاح معها لقب القيصريَّة تَبَعًا، «وفي هذا بِشارة عظيمةٌ بأنَّ مَلِك الرُّوم لا يعود أبدًا إلى أرض الشَّام»
(2)
.
وأمَّا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا كِسرى» : فالمُراد مِنه وَقَع لا مَحالة، لأنَّه لم تَبقَ مملكتُه على الوجهِ الَّذي كان زمنَ النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولم يثبُت لأحدٍ بعدَه مُلكٌ حتَّى اضمحلَّت دولتُه سَريعًا؛ وكان أنِ «افتَتَح المسلمون بلادَهما، واستقرَّت للمسلمين ولله الحمد، وأنفقَ المسلمون كنوزَهما في سبيلِ الله كما أخبرَ صلى الله عليه وسلم، وهذه معجزات ظاهرة»
(3)
.
ولذلك عَدَّ العلماء هذا الخَبر منه صلى الله عليه وسلم مِن أعلامِ نُبوَّتِه
(4)
.
(1)
«تاريخ الامبراطورية البيزنطية» لـ د. محمد مرسي الشيخ (ص/88) بتصرف يسير.
(2)
«البداية والنهاية» لابن كثير (6/ 491).
(3)
«شرح النَّووي على مسلم» (18/ 42).
(4)
كأبي نُعيم في «دلائل النبوة» (ص/543)، وابن تيميَّة في «الجواب الصحيح» (6/ 100).