الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفع المُعارِضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن أحاديثِ انشقاقِ القَمَر
والجواب عن تلك المعارضات الثَّلاث في الفِقَر التَّالية:
أمَّا دعوى أنَّ انشقاق القَمر لو وَقع لتوافرت الدَّواعي على نقله متواترًا، ولَمَا خفِي على أهل الأقطار.
فيُقال في تَفصيلِ جوابها إمعانًا في تَفهيمِ المُعترض:
أوَّلًا: هذه الحادثة وَقَعتْ ليلًا، وذلك أنَّه شيءٌ طَلَبه قومٌ مخصوصون مِن أهل مكَّة، ومِن شأنِ اللَّيل أن يكون أكثرُ النَّاس فيه في غفلةٍ، أو نومٍ، أو سكونٍ عن المشي في الطُّرق، سيما في موسم البرد، مُستكنِّين بالأبنية ونحوها.
أفلا نرى إلى خسوفِ القمر؟ فإنَّه يكون كثيرًا، وأكثر النَّاس لا يحصلُ لهم العلم به، حتَّى يُخبِرهم أحدٌ به في السَّحَر
(1)
.
يقول أبو سليمان الخطَّابي: «الأيقاظ البارِزون منهم في البوادي والصَّحارى قد يتَّفِق أن يكونوا في ذلك الوقت مَشاغيل بما يُلهيهم مِن سَمر وحديثٍ، وبما يهمُّهم مِن شغلٍ ومِهنة، ولا يجوز أن يكونوا لا يزالون مُقنعِي رؤوسِهم، رافعين لها إلى السَّماء، مُترصِّدين مركزَ القَمر مِن الفَلك لا يغفلون عنه، حتَّى إذا حَدَث بجُرمِ القمر حَدثٌ مِن الانشقاق، أبصروه في وقتِ انشقاقِه، قبل التئامِه واتِّساقِه!
(1)
انظر «إظهار الحق» للهندي (4/ 1038)، و «فيض الباري» للكشميري (5/ 408).
وكثيرًا ما يَقع للقمر الكسوف، فلا يشعر به النَّاس، حتَّى يخبرهم الآحاد منهم والأفراد مِن جماعتهم، وإنَّما كان ذلك في قدرِ اللَّحظة الَّتي هي مدرك البَصر»
(1)
.
ثانيًا: أنَّ هذا إِنَّما يَلزَم لو جُوِّزَ استواءُ أهل الأرض في إدراكِ مَطالِعِه، ومِن المَعلوم أنَّ القَمَر لا يطلع على أهلِ الأرضِ كلِّهم في زمانٍ واحدٍ؛ بل يطلع على قوم قبل طلوعه على آخَرين
(2)
.
هذا إن لم يَحُل دون رؤيتِه في كثيرٍ مِن الأمكنة والأوقات سَحابٌ غَليظ أو جبال! وأهلُ البلاد الشَّمالية كشَمالِ آسيا وأورُبا في موسم نزول الثَّلج والضَّباب، لا يَرَون الشَّمسَ إلَّا أيَّامًا في كثير من الأوقات، فضلًا عن أن يروا القَمر! مع شيوع الجهلِ في تلك الدِّيار وقتئذٍ، وعدم رسوخ الكتابِ فيهم
(3)
.
ومع الأخذِ بعينِ الاعتبارِ: أنَّ زَمنَ الانشقاقِ كان قصيرًا لم يطُل، ولم تَتَوافر الدَّواعي على الاعتناءِ بالنَّظرِ إليه وقتها، إذْ لم تكُن مُتوقَّعة! فانتبهَ له مَن استشهدوا به، ولم يَرَه مَن كانوا في الأطرافِ، ولا استحالة في هذا
(4)
.
(5)
.
ثالثًا: دعواهم أنَّ أهلَ التَّواريخ لم ينقلوا ذلك؛ ممَّا يؤكِّد عدم حصول هذه الآية، يُقال فيه: نَفيُ العلمِ ليس بعلمٍ؛ ويكفي في تثبيتِ مثل هذا ألَّا يَرِدَ عن
(1)
انظر «أعلام الحديث» للخطَّابي (3/ 1619).
(2)
انظر «المُفهِم» للقرطبي (7/ 404)، و «إظهار الحق» (4/ 1040).
(3)
انظر «إظهار الحق» (4/ 1040).
(4)
«فيض الباري» للكشميري (5/ 408).
(5)
«المستصفى» (ص/115).
أحدٍ من أهل التَّاريخ ولا المُعانين للتَّنجيم نفيُ الواقعةِ نفسِها؛ «فالحُجَّة فيمن أثبتَ، لا فيمن يوجدُ عنه صريح النَّفي؛ حتَّى إن وُجِد عنه صريح النَّفي، يُقدَّم عليه مَن وُجِد منه صريحُ الإثبات»
(1)
.
وعلى خلافِ ما سارعوا إليه مِن النَّفيِ المطلقِ عن أربابِ التَّواريخ تدوين هذه الواقعة، فقد ذكر ابن كثير (ت 774 هـ) أنَّها قد أُرِّخ لها في بعضِ بلاد الهندِ، وأنَّه بُنِي بناءٌ تلك اللَّيلة، وأُرِّخ بليلةِ انشقاقِ القمر!
(2)
يعزِّز هذا النَّقلَ ما ذكره الكشميريُّ (ت 1353 هـ) عن كتاب «تاريخ فَرِشْتَه» للاستربادي
(3)
: أنَّ أحد ملوكِ الهند رأى الانشقاقَ، يُسمَّى:(راجهُ وجبال)، وأنَّ على اسمه سُمِّيت بلدة (بَهوبال)
(4)
!
وينقل رحمة الله الهندي (ت 1308 هـ) عن نفسِ كتاب الاسترابادي: أنَّ أهل مِلِيبار من إقليم الهند رأوه أيضًا، وأسلَمَ والي تلك الدِّيار، الِّتي كانت مِن مجوس الهند، بعد ما تحقَّق له هذا الأمر
(5)
.
يشهد لهذا النَّقل: ما وَقَف عليه بعض الأكاديميِّين في مكتبة المركز الهنديِّ بالمتحف البريطانيِّ بمدينة لندن: حيث رأوا في إحدى المخطوطات الهنديَّة القديمة المحفوظة فيها: أنَّ أحدَ ملوك مِليبارْ -وهي إحدى مُقاطعات جنوب غربيِّ الهند- وكان اسمه «شاكْرُوتي فارْماد» : عايَنَ انشقاقَ القمر على نفسِ عهدِ محمَّد صلى الله عليه وسلم، وأنَّه أخذ يحدِّث النَّاس بذلك!
(6)
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (7/ 185 - 186).
(2)
انظر «البداية والنهاية» (4/ 299).
(3)
لمؤلفه: محمد قاسم هندوشاه الاستربادي، نزيل الهند، الملقب بـ (فرشته)، المتوفى في حدود سنة 1018 هـ، اشتهر بهذا التاريخ، كتب فيه بالفارسية تاريخ الهند من الفتح الإسلامي، إلى العام الذي توفي فيه، واعتمد على عدة مصادر هي الآن مفقودة، ولم يُترجم بعد حسب علمي، انظر «كشف الظنون» (6/ 268).
(4)
«فيض الباري» (5/ 408).
(5)
«إظهار الحق» للهندي (4/ 1039).
(6)
نقلًا عن «السماء في القرآن الكريم» لـ د. زغلول النجار (ص/542 - 543).
وقد تحقَّقتُ بنفسي مِن وجود هذه المخطوطة الهنديَّة القَديمة بمُراسلةِ نفسِ القَائِمين على هذه المكتبة العَريقة بلندن، فردُّوا عليَّ بالإيجاب، وأنَّها عندهم بعنوان:«قِصَّة شاكْرُوتي فارْماد» ، وأَفَادوني بوجودِ نصٍّ فيها يُفيد رؤيةَ هذا الملِك لانشقاق القَمر زمنَ النَّبي محمَّد! وأنَّ رؤيتَه هذه كانت سَببًا فيما بعدُ لتوطينِ (المُحَمَّديِّين) ـ يعنون: المسلمين ـ في مِليبار!
(1)
بل قريبًا منَّا؛ نشرت أحد المواقع العلميَّة التَّاريخيَّة المتخصِّصة في حضارة (المَايا) في أمريكا الجنوبيَّة، مقالًا عجيبًا يؤكِّد وقوع انشقاق القمر في القرن السَّابع الميلاديِّ ـ أي في نفس وقت وجود النَّبي صلى الله عليه وسلم في مكَّة! ـ وأنَّ أغلب الأمَم في تلك القارَّة رأته، بل قامت بتغيير تقويمها الفلكيِّ ليوافقه!
(2)
ولم يكُن قد خطر ببالِ مَن نشروا هذا المَقال أنَّهم بذلك يُثبتون آيةً من أعظم الآيات على نبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم! فلمَّا بلغهم ما أحدثه من ضجَّة اعتلى فيها المسلمون، سارعوا إلى تغيير عنوان المَقال أربعةً وخمسين مرَّةً تعميةً عليه!
(3)
والله مُتِّم نورَه ولو كره الكافرون.
رابعًا: أنَّ خَبَر انشقاقِ القَمرِ ممَّا تواتر علمُه عند أهلِ الإسلام، وقد ثَبت في مَعْلَمات السُّنَّة ودواوينها، وفي كُتب أهل السِّيَر، وفي أسفار مَنْ صَنَّف في دلائل نبوَّته صلى الله عليه وسلم، وتناقَلَه الأئمَّة الثِّقات؛ فالقدْح في روايتهم مع ما عُلِم بالضَّرورة عنهم من شدَّة تمحيص الرِّوايات، ومعرفة أصول نقلِها، والبلوغ في هذا الشَّأن أعلى درجات التثبُّت، مع ما في هذه الحادثة من الإعجاز الَّذي تحدَّى به
(1)
رقم رفَّة المخطوطة في المكتبة (2807 - O)، وموضع الكلام عن حادثة انشقاق القمر موجود منها في (ص/81) و (ص/140).
(2)
المقال بعنوان:
The split moon of the madrid codex and persian manuscripts
أو: القمر المنشق في وثائقيات مدريد والمخطوطات الفارسية.
(3)
مُستفاد من مقال بموقع (الباحثون المسلمون) بعنوان: هل لانشقاق القمر من شواهد علميَّة وتاريخيَّة؟! وفيه أدرجوا روابط المقال الأصلي لذاك الموقع التَّاريخيِّ.
النَّبي صلى الله عليه وسلم مَن عايَن هذه الواقعة من المشركين، لا شكَّ أنَّ مَن جَعل ذلك كلَّه دَبْرَ أُذنيه فقد كابر المقطوع به في شريعتِنا
(1)
.
وقد حكى جلَّةٌ مِن الأئمَّة إجماعَ الأوائلِ على وقوع هذه الحادثة، وحكم بعضهم بالتَّواتر لها، مُستفادًا مِن «روايةِ خَلقٍ مِن الصَّحابة، وعنهم خَلْق»
(2)
، إلى أن دُوِّنت الواقعة في دواوين الإسلام، حتَّى نظمها ابن جعفر الكتَّاني في سِلك الأحاديث الَّتي بلغتْ مبلغَ «التواتُر» و «الاستفاضة»
(3)
.
فمِن أولئك الأعلامِ الَّذين صرَّحوا بذلك:
ابن عبد البَرِّ؛ حيث قال: «قد روى هذا الحديث جماعةٌ كثيرة من الصَّحابة، وروى ذلك أمثالهم من التَّابعين، ثمَّ نقله عنهم الجمُّ الغفير، إلى أن انتهى إلينا، ويؤيَّد ذلك بالآية الكريمة، فلم يبقَ لاستبعادِ مَن استبعدَه عذرٌ»
(4)
.
وقال القاضي عياض: «أجمع المفسِّرون وأهلُ السُّنة على وقوعه»
(5)
، ثمَّ ذَكرَ مَن رواه مِن الصَّحابة، منهم: عليٌّ، وابن مسعود، وحذيفة، وجُبير بن مُطعِم، وابن عمر، وابن عبَّاس، وأنس رضي الله عنهم
(6)
.
وكذا قال ابن كثير: «قد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمِنِه عليه الصلاة والسلام، وجاءت بذلك الأحاديث المتواترة مِن طرق متعدِّدة، تفيد القطعَ عند مَن أحاط بها، ونَظر فيها»
(7)
.
وقال أبو العبَّاس القرطبي: «قد روى هذا الحديث جماعةٌ كثيرة من الصَّحابة .. وفاضتْ أنوارُه علينا، وانضافَ إلى ذلك ما جاء من ذلك في القرآن
(1)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/353).
(2)
«البحر المحيط» للزركشي (6/ 125).
(3)
انظر «نظم المتناثر» (ص/212)، وانظر «لوامع الأنوار البهية» للسفاريني (2/ 298).
(4)
نقلًا عن «فتح الباري» لابن حجر (7/ 186)
(5)
«الشفا» (1/ 281).
(6)
انظر «موافقة الخُبر الخبر» لابن حجر (1/ 201).
(7)
«البداية والنهاية» (4/ 293).
المتواترِ عند كلِّ إنسان؛ فقد حَصل بهذه المعجزةِ العِلمُ اليقين الَّذي لا يَشكُّ فيه أحدٌ من العاقلين»
(1)
.
وما حوته تلك الأحاديث المتظافرة مِن إثباتِ حادثة الانشقاقِ، قد ثبت بنصِّ القرآن الكريم، في قوله تعالى:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} [القمر: 1 - 2]، والقرآن مَنقولٌ بنقلِ الكافَّة عن الكافَّة، لا يمتري في هذا اثنان.
وفي تقرير هذين التَّواترين: التَّواتر القرآني، والتَّواتر الحَديثيُّ، يقول ابن تيميَّة:
«مَعلوم أنَّ هذه المعجزات لا ريبَ فيها، وانشقاق القمر قد أخبر الله به في القرآن، وتواترت به الأحاديث، كما في «الصَّحيحين» وغيرهما، عن ابن مسعود، وأنس، وابن عبَّاس، وغيرهم، وأيضَّا فكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بهذه السُّورة في الأعياد، والمجامع العامَّة، فيسمعها المؤمن، والمنافق، ومَن في قلبه مرض، ومِن المعلوم أنَّ ذلك لو لم يكن وقع لم يكن ذلك:
أمَّا أوَّلًا: فلِأنَّ مَن مقصوده أنَّ النَّاسَ يصدِّقونه ويقِرُّون بما جاء به، لا يُخبرهم دائمًا بشيءٍ يعلمون كذبه فيه، فإنَّ هذا يُنفِّرهم، ويوجب تكذيبَهم لا تصديقَهم.
وأمَّا ثانيًا: فلِأنَّ المؤمنين كانوا يسألونه عن أدنى شبهةٍ تقع في القرآن .. فكيف يقرأ عليهم دائمًا ما فيه الخبر بانشقاق القمر، ولا يَردُّ على ذلك مؤمنٌ، ولا كافرٌ، ولا مُنافق؟!»
(2)
.
فإن زَعم زاعمٌ: أنَّ أسلوبَ الماضي في قوله تعالى: {وَانشَقَّ الْقَمَرُ} ليس على حقيقِته، وإنَّما غَرضه التَّأكيد على تحقُّقِ الفعل في المستقبل
(3)
عند قيام
(1)
«المفهمِ» (7/ 403).
(2)
«الصفدية» (1/ 139 - 141).
(3)
انظر «دين السلطان» لنيازي عز الدين (ص/484).
السَّاعة، نظير قوله تعالى:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1]، فأمر الله الَّذي هو قيام السَّاعة لم يأتِ بعد، ولكن المراد المبالغة في تحقُّق وقوعِه، فنُزِّل منزلة الواقع.
فجواب ذلك مِن ثلاثة وجوه:
الأوَّل: أنَّ هذا المعنى الَّذي نَزع إليه المُعترض هو خلاف الظَّاهر من استعمال صيغة الماضي، الدَّالة في الأصلِ على الفراغِ من وقوعِ الفعل، وظواهر الكتابِ لا يجوز الخروج عنها إلَّا بقرينةٍ، ومَن تقحَّم الخروجَ بغير قرينةٍ توجب ذلك، فقد رامَ إفسادَ الخِطاب على النَّاس، وتلبيسَ المُراد من الكلام عليهم.
الثَّاني: ما أورده المعترضون دعمًا لشبهتهم مِن التَّمثيل بقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} على استعمالِ الماضي في القرآن للمبالغةِ في تحقيق الأمر في المستقبل: هو في حقيقته عاضدٌ لما قرَّرناه مِن وجوبِ وجودِ القرينةِ الصَّارفةِ عن الأصل!
وذلك أنَّ هذه الآية الكريمة قد دلَّت على تحقُّقَ إتيان السَّاعةِ في المستقبل القريب، لا أنَّ الأمر أتى ووَقع، بقرينة قوله في آخرها:{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} ، واستعجالُ الشَّيء لا يكون إلَّا عند عدم مَجيئِه أو تحقُّقه.
الثَّالث: ممَّا يؤيِّد أنَّ صيغةَ الماضي في آيةِ الانشقاقِ على ظاهِرها قوله تعالى بعدها: {وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ} [القمر: 2]، «فإنَّ ذلك ظاهرٌ في أنَّ المُراد بقوله:{وَانشَقَّ الْقَمَرُ} : وقوع انشقاقِه، لأنَّ الكُفَّار لا يقولون ذلك يومَ القيامة! وإذا تَبيَّن أنَّ قولهم ذلك إنمَّا هو في الدُّنيا، تَبيَّن وقوعُ الانشقاق، وأنَّه المراد بالآية الَّتي زعموا أنَّها سِحرٌ»
(1)
(2)
.
وأمَّا دعوى (رشيد رضا) في المعارضة الثَّانية: أنَّ هذه الأحاديث مُعارِضةٌ للقرآن الَّذي دلَّ بالقطعِ على امتناعِ إرسالِ الآياتِ الحسيَّة، لأجل أنَّ التَّكذيب بها مُوجِبٌ لتعجيل العذابِ .. إلخ؛ فجوابه:
أنَّ المعترض بمثل هذه الشُّبهة مُلزَم بخِيارين لا ثالث لهما:
أولاهما: أن علماءَ الإسلامِ اجتمعوا على ضلالةٍ حين اتَّفقوا على إثباتِ انشقاقِ القَمر آيةً للنَّبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا في ذهولٍ عمَّا اهتدى إليه هو مِن استحالةِ ذلك له!
ثانيهما: أن تكون تلك الآيات الَّتي استدَّل بها المعترض غيرَ قطعيَّة الدَّلالة على نفيِ تلك الحادثة، وأنَّ معناها لا يَتعارض معها حقيقةً، لانفكاكِ الجِهة.
ولا ريبَ أنَّ هذا الخيار الثَّاني هو الواجب التَّسليم له، فإنَّ مُشركي قريشٍ في ما ساقه المعترض مِن الآيات: إنَّما طَلَبوا مِن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم آياتٍ حِسيَّةً بعينِها تَدُلُّ عندهم على صِدقِه، طلبوا ذلك تعجيزًا له ومعاندةً، فلم يُستجَب لهم، حتَّى لا يُعجَّل لهم العذاب، كما عُجِّل لمن قبلهم من الأُمَم السَّابقة ممَّن كابروا ما عَاينوه مِن الآياتِ، فهذه هي سُنَّة الله فيمَن اقترحَ آياتٍ ثمَّ كفَر بها مُستهترًا بعِنادٍ، والمُراد مِن قول الله تعالى:{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَاّ تَخْوِيفاً} [الإسراء: 59].
ففي أسلوب الآيةِ حذف، والتَّقدير: فما مَنَعَنا أن نُرسِل بالآياتِ الَّتي اقترحوها إلَّا أن يُكذِّبوا بها كما كَذَّب الأوَّلون
(1)
، والمعنى: لو أرسلناها فكَذَّبتم، لأُهلكتم كما أُهلك أولئك
(2)
، وعلى ذلك تكون (أل) في قوله:{بِالآيَاتِ} للعهدِ لا للجنسِ
(3)
.
(1)
«الجامع في أحكام القرآن» للقرطبي (10/ 281).
(2)
انظر «كشف المشكل» لابن الجوزي (1/ 292).
(3)
انظر «التحرير والتنوير» (15/ 143).
وممَّا يوطِّد هذا المعنى من السِّيرةِ النَّبوية:
ما ثبت على لسانِ ابن عبَّاس رضي الله عنه: مِن سؤالِ أهل مكَّة النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يجعلَ لهم الصَّفا ذهبًا، وأن يُنحيَّ الجبالَ عنهم فيزرعوا، فقال الله له:«إن شئتَ أن تَستأنيَ بهم، وإن شئتَ أن نُؤتيهم الَّذي سألوا، فإن كفروا أُهلكوا كما أَهلكتُ مَن قبلهم» ، فقال:«لا، بل أستأني بهم»
(1)
.
لكنَّ حادثة انشقاق القمر تختلف عن هذا، فإنَّ النَّفر مِن أهل مكَّة حين سألوا النَّبي صلى الله عليه وسلم آيةً قد أطلقوا الطَّلَبَ في ذلك، فلم يقترحوا آيةً من عندهم بعينِها يعلِّقون بها إيمانَهم! فقضى الله أن يُريَهم آيةَ انشقاقِ القمر
(2)
.
فهذا الفرق بين الحالتين؛ و (رشيد رضا) نفسُه أقرَّ بأنَّ آية الانشقاقِ إن صحَّ وقوعها بدون اقتراح سيزول هذا الإشكال مِن أصله
(3)
؛ فها هو قد زال!
وأمَّا دعواهم في المعارضةِ الثَّالثة: أنَّ الآية الوحيدة الَّتي أُوتِيَها النَّبي صلى الله عليه وسلم هي القرآن: فقد سَبَق الجواب عنها في مَبحثِ مُعجزات النَّبي صلى الله عليه وسلم الحسيَّة في «الصَّحيحين» ، والحمد لله الَّذي بنعمتِه تتِمُّ الصَّالحات.
(1)
أخرجه أحمد في «المسند» (رقم: 2166)، وقال أحمد شاكر:«إسناده صحيح» .
(2)
وما ساقه (منصف الجزَّار) في كتابه «المخيال العربي في الأحاديث المنسوبة إلى الرَّسول» (ص/369) في سياقِ تدليله على تناقضِ أحاديث انشقاق القمر، وهو ما أخرجه أبو نعيم في «دلائل النبوة» (ص/279) من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال:
اجتمعت المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فقالوا: إن كنتَ صادقًا، فشُقَّ القمرَ لنا فرقتين، نصفًا على أبي قُبيس، ونصفًا على قعيقعان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن فعلت تؤمنوا؟ قالوا: نعم .. فأمسى القمر قد مُثِّل نصفًا على أبي قبيس ونصفَا على قعيقعان .. ».
فهو حديث ساقط لا يصلح أن يُروى، فضلًا عن أن يُستشهد به، ففي إسنادِ أبي نعيم ثلاث فواقر: بكر بن سهل الدُّمياطي، عن عبد الغني بن سعيد الثَّقفي، وكلاهما ضعيفان، انظر «تاريخ ابن يونس» (1/ 321)، و «لسان الميزان» (2/ 344)، وعبد الغني هذا يرويه عن شيخه: موسى بن عبد الرحمن، وهو المعروف بأبي محمد المفسِّر، قال ابن حبان: دجَّال، وقال ابن عدي: منكر الحديث، انظر «لسان الميزان» (8/ 210).
فالحديث منكر الإسناد والمتن معًا، ولو كان صحيح الإسناد لما قوي على دفعِ باقي الصِّحاح التي تثبت عدم اقتراح المشركين لشقِّ القمر، وإطلاقهم في الطلب.
(3)
«مجلة المنار» (31/ 63).