الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث دفع دعوى المعارضات الفكريَّة المعاصرة عن أحاديث الموافقات القرآنية لعمر بن الخطَّاب
أمَّا دعوى المُعترضِ بأنَّ آية مقامِ إبراهيم هي مِن أوائل ما نَزل في المدينة بعد الهجرة، فلا يُقال فيه أكثر مِن أنَّه: قولٌ يُعدم دليلًا يقيمُه!
نعم؛ قد ذكرَ بعض أهل العلمِ أنَّ سورة البقرة أوَّل ما نَزل في المدينة بعد الهجرة
(1)
، لكن لا يستلزم ذلك أنْ تكون جميع آياتِها كذلك في الأوَّليَّة؛ إذْ من المُتحقَّق علمُه أنَّ القرآن نَزَل مُنجَّمًا لا جُملة، تنزل السُّورة في وقتٍ، ثمَّ تُلحَق بها آياتٌ قد نَزَلت بعدَها بوقتٍ، فكان النَّبي صلى الله عليه وسلم يُرشد كُتَّابَه إلى ما نَزَل مِن الآياتِ حديثًا، فيكتبوها ضمنَ سُورٍ قد تنزَّلت قبلُ، والإجماع والنُّص مترادفان على أنَّ ترتيبَ الآيات في سُوَرها واقعٌ بتوقيفِه صلى الله عليه وسلم وأمرِه، من غيرِ خلافٍ في هذا بين المسلمين
(2)
.
والَّذي يظهر عند تبصُّرِ حديثِ عمر رضي الله عنه: أنَّ آية مَقامِ إبراهيم قد تَأخَّر نزولها إلى وقتِ اعتمارِ المسلمين، أو وقتِ فتحِهم لمكَّة، أو قبلَ حَجَّة الوداع،
(1)
مروي عن عكرمة في «أسباب النزول» للواحدي (ص/21 ت: الحميدان) بإسناده إليه، وانظر الخلاف في أول ما أنزل من السور في المدينة في «الإتقان» للسيوطي (1/ 96).
(2)
انظر هذا الإجماع في «البرهان» للزركشي (1/ 256)، و «الإتقان» للسيوطي (1/ 211 - 212).
فإحدى هذه الأزمانِ الثَّلاثة أنسبُ الظُّروفِ المَوضوعيَّةِ لاستثارةِ الفكرةِ في ذهنِ عمر رضي الله عنهبلا شكٍّ، ثمَّ اقتراحِها بعدُ على النَّبي صلى الله عليه وسلم
(1)
.
وأمَّا زعمُ المعترضِ بأنَّ سياقَ الآياتِ دالٌّ على أنَّ الأمرَ باتِّخاذ المقامِ إنَّما خوطب به النَّاس في ذلك الوقت الَّذي ابتُنيت فيه الكعبة فيما مضى، وليس هو أمرًا لأمَّةِ المسلمين:
فقد غفل المعترض عن تفصيلٍ في معنى الآية، كان أجدى لتقويةِ شُبهتِه الواهيةِ هذه لو تَأمَّل! فنحن نفيدُه به وبضدِّه كذلك، فنقول:
لو جعلَ المُعترِضُ الأمرَ في الآيةِ مُحتملًا أحدَ مَعنيين ابتداءً:
إمَّا أن تكون الآية مُجرَّد إخبارٍ إلهيٍّ بخطابٍ تَزامَن مع بناءِ الكعبةِ، قد خُصَّ به النَّاسُ وقتَها، كما يدَّعيه هو.
أو تكون أمرًا لأمَّةِ محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم؛ وهنا على المعترِضِ السَّعيُ إلى ترجيحِ المعنى الَّذي يوافق هوَاه، بأن يورِد القراءةَ الثَّانيةَ للآية الَّتي جاءت بصيغةِ الإخبار:{وَاتَّخِذُوا} بفتح الخاءِ
(2)
، فكان هذا المَسلك أقوى دلالةً على مُرادِه مِمَّا هَرَف بهِ في تفسيرِه للآية!
ولو سَلَك هذا الأقوى لتهاوى أيضًا وما نَفَعه في رصفِ شُبهتِه! وذلك أنَّا جوابِ هذا المِسلك في الاعتراضِ على كِلا القراءتين للآيةِ:
أنَّا إن حَملنا الآيةَ على صيغة الأمر: يكونُ حديث عمر رضي الله عنه بذا قد أبانَ أنَّ القصدَ بها أمَّة المسلمين، ولا غروَ؛ وهم المخاطَبون بأوامرِ القرآن ابتداءً وأصالةً، فمناسبٌ على هذا أن يكون الحديث مِثالًا لتعيِينِ السُّنة أحدَ المعاني الَّتي تحتملُها الآية.
(1)
يقويِّ هذا النَّظر عدَّة روايات تدلُّ على أنَّ اقتراح عمر رضي الله عنه كان زمن الفتحِ أو حجَّة الوداع، أوردها ابن رجب في كتابه «فتح الباري» (2/ 317 - 318)، وإن كان لا يخلو إسناد منها من ضعف كما ذكر، لكن قد يفيدُ مجموعها وجودَ أصل لها.
(2)
وهي قراءة نافع وابن عامر، انظر «السبعة في القراءات» لابن مجاهد (ص/170).
وأمَّا إن سَلَّمنا أنَّ الأمرَ في الآية مُوَجَّه في أصله إلى إبراهيم عليه السلام وأتباعِه، أو أنَّها بصيغة الإخبار: فيكون حديثُ عمر رضي الله عنه هنا دَالًّا على فضلِ اقتداءِ المسلمين بمِلَّةِ إبراهيمَ في هذه الشَّعيرة وغيرها، بل هو الموافق للأصلِ القرآنيِّ، في قوله تعالى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4].
وبهذا يُعلَم وِفاقُ حديث عمر للآية على كِلا التَّفسيرين والقراءتين.
وأمَّا دعوى المعترضِ التَّناقضَ بين الرِّواياتِ في سببِ نزولِ آية الحجاب، فيُقال في جوابِه: أنْ ليسَ ثمَّةَ تعارضٌ في الحقيقة بين تلك الأخبارِ، وأبْيَنُ طريقٍ للجمعِ بينها: أن يُقالَ بتعدُّدِ أسباب نزولِ الآيةِ ولا بأسَ، فيكون خبرُ قصَّةِ زينب رضي الله عنها هي آخر هذه الرِّواياتِ حدوثًا، للنَّصِ على قصَّتها في الآية الكريمة، وكذا حديث أنس رضي الله عنه.
ولا مانعَ مع ذلك أن تكون الآية نزلت بعدَ المجموعِ، وكان ذلك سنةَ خمسٍ مِن الهجرة، وليس ببِدعٍ أن يكونَ للآيةِ الواحدةِ عدَّةُ أسبابٍ مُستويةِ الدَّرجة، أو بعضُها أقرب مِن بعضٍ
(1)
، فيَنسِبُ الرَّاوي النُّزولَ إلى سببٍ منها دون الآخر، باعتبارِ القُربِ منه، ولا يكون القصدُ أنَّها نَزلت فورَ وقوعِ ذلك السَّبَب.
وفي تقريرِ سَواغِ هذا الجمعِ، يقول ابن حجر:«يُمكن الجمع بأنَّ ذلك وَقَع قبل قصَّةِ زينب، فلِقُربِه منها أَطلَقت -يعني عائشة- نزولَ الحجابِ بهذا السَّبب -يعني قصَّة سَودة-، ولا مانعَ مِن تعدُّدِ الأسبابِ»
(2)
.
فالحاصل: أنَّ عمرَ رضي الله عنه كان مُلِحًّا في حجبِ أمَّهاتِ المؤمنين، و «النَّبي صلى الله عليه وسلم كان ينتظِر الوحيَ في الأمورِ الشَّرعيَّة، ولذا لم يأمرهُنَّ بالحجابِ مع وضوحِ الحاجةِ إليه»
(3)
، فلم يزَل ذلك عنده إلى أن نَزَل الحجاب
(4)
.
(1)
«نظم الدرر» للبقاعي (15/ 399).
(2)
«فتح الباري» لابن حجر (8/ 531).
(3)
«فتح الباري» لابن حجر (1/ 250) بتصرف يسير.
(4)
«التوضيح لشرح الجامع الصحيح» لابن الملقن (23/ 137)، و «فتح الباري» لابن حجر (1/ 249).
على أنَّ البخاريَّ روى في «كتاب التَّفسير» في سياقِ آيةِ الحجابِ ما هو صَريحٌ في كونِ قصَّة سَودة رضي الله عنها كانت بعد الحجابِ لا قبله، وهو المشهور عند أهلِ العلم
(1)
، كما تراه في قول عائشة:«خرجَت سَودةُ بعدما ضُرِب الحجابُ لحاجتِها، وكانت امرأةً جَسيمةً، لا تخفى على مَن يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سَودة، أمَا والله ما تَخفَين علينا، فانظرِي كيف تخرجين .. » الحديث
(2)
.
فيُقال على هذا: إنَّ الأمرَ حينَ وَقَع على وِفق ما أراده عُمر قبلُ مِن إيجابِ حجابِ الوجوهِ على أمَّهاتِ المؤمنين، أحَبَّ أيضًا أن يُحجَب أشخاصُهنَّ مُبالغةً في التَّستُّر، فلذا قال لسَودة:«قد عرفناك .. » ، حِرصًا منه على أن ينزِل حكم الحجاب أضيقَ منه، فلا تُرى أشخاصُهنَّ البتَّةَ ولو مع حِجابِهنَّ، لكنَّ الله تعالى أذِنَ لهنَّ بخلافِ رغبةِ عمر، وأنزل آيةَ الحجابِ وليس فيها التَّضييقُ الَّذي أرادَه عمر، لأجلِ ما فيه مِن الحَرج
(3)
، فلِذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم لسَودة بعد شكواها له قولَ عمرَ في الحديث السَّابق:«إنَّه قد أُذِن لكنَّ أنْ تخرُجنَ لحاجتِكُنَّ» .
وإنَّما عُدَّ الحجابُ مِن موافقات عمر في قصَّةِ سَودة هذه
(4)
، لنزولِ حِصَّةٍ منه على وفقِ رأيه
(5)
.
ويُقال في الجمعِ بين هذا وحديثِ أَنَس رضي الله عنه في نزولِ الحجابِ بسبب زينب: أنَّ عمر رضي الله عنه حَرَص على ذلك، حتَّى قال لسودة ما قال، فاتَّفَقَت القصَّة
(1)
«تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (6/ 454).
(2)
أخرجه البخاري (ك: تفسير القرآن، باب: باب قوله: لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه، رقم: 4795)، ومسلم (ك: السلام، باب: إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان، رقم: 2170).
(3)
«فتح الباري» لابن حجر (1/ 249).
(4)
كما في روايةٍ عن عائشة في البخاري (ك: الاستئذان، باب: آية الحجاب، رقم: 6240)، ومسلم (ك: السلام، باب: إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان، رقم: 2170).
(5)
«فيض الباري» للكشميري (1/ 346).
للَّذين قَعدوا في البيتِ في زواج زينب، فنَزَلت الآية، فكان كلٌّ مِن الأمْرَين سَببًا لنزولهِا
(1)
.
وفي تقرير ما مضى من الجمعِ بين سَبَبَيْ النُّزولِ، يقول أبو العبَّاس القرطبي:
«الأَوْلى أن يحُمَل ذلك على أنَّ عمر رضي الله عنه تَكرَّر منه هذا القول قبل نزولِ الحجاب وبعده، ولا بُعدَ فيه .. فإنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وَقَع في قلبِه نُفرة عظيمةٌ، وأَنَفة شديدة مِن أن يطَّلِع أحَدٌ على حَرَم النَّبي صلى الله عليه وسلم، حتَّى صرَّح له بقوله: «احجِب نساءَك، فإنَّهن يراهن البَرُّ والفاجر .. » ، ولم يَزَل ذلك عنده، إلى أن نَزَل الحجاب وبعده، فإنَّه كان قصدُه ألَّا يخرُجنَ أصلًا، فأفرطَ في ذلك! فإنَّه مُفضي إلى الحرجِ والمشقَّةِ والإضرارِ بهن، فإنَّهن محتاجاتٌ إلى الخروج»
(2)
.
وأمَّا دعوى المُعترضِ قدحَ الحديثِ في العلمِ الإلهيِّ، فيُقال له:
إنَّ جعلَك موافقةَ عمر اقتراحًا على الله تعالى واستدراكًا عليه مَنزعٌ خَبيثٌ في فهمِ النُّصوصِ، مَنشأه التَّحاملُ على الصَّحبِ الكِرام رضي الله عنهم، فأيُّ تَلازمٍ عقليٍّ بين الموافقةِ والاستدراكِ حتَّى يُطعنَ به على الأخبار؟!
ولو ادَّخرَ المُعترض فرطَ ضغينتِه عليهم بمَزيدِ تأمَّلٍ لهذه الأخبارَ، دون انتهاضٍ منه لمُجرَدِّ الاعتراض: لتبيَّنَ له أنَّ ذاك الاقتراحَ -كما يسمِّيه- إنَّما تَوَجَّه به عُمر رضي الله عنه إلى شخصِ النَّبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته، لا إلى الله أصالةً! ولا خَطَر ببالِ عمر أن يُنزِلَ ربُّه في ذلك آياتٍ توافق مُرادَه، فضلًا عن أن يَتقصَّد الاستدراكَ على آياتِه كما تَوهَّمه المُعترض، وحاشاه، وحاشا عاقلًا أن يَفهم ذلك.
وقد أسلفنا التَّنبيه مرارًا أنَّ القرآنَ نَزل مُنجَّمًا ثلاثًا وعشرين سنةً، منه ما نَزل ابتداءً مِن غير سببٍ مَعلومٍ بعينِه، ومنه ما نَزَل عَقِب واقعةٍ أو سُؤال ونحو ذلك، كلَّما أُلقِيت على النَّبي صلى الله عليه وسلم آيةٌ أو أكثر، أُمِر بوضعِها مِن فورِه في مكانٍ
مُرتَّب مِن سورةٍ مُعيَّنة كما قد سبق تقريره، فلم يكُن هذا التَّنجيم في التَّنزيلِ ليُخِلَّ بالوحدةِ الموضوعيَّةِ لكلِّ سورةٍ من القرآن على حِدَّة
(1)
.
وفي هذا رَدمٌ لمِا أرادَ (ابنُ قرناسٍ) أن يُفهِمَه قُرَّاءَه، من نفيِه أن يكون لآية الحجاب سَبب نزولٍ مُستقِّل، كونُها «جاءت ضمنَ موضوعٍ كاملٍ يحثُّ نساءَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يتمسَّكنَ بالحشمة .. » إلخ تخرُّصاتِه
(2)
؛ فإنَّ التَّرابطَ المَوضوعيُّ بين الآيات في المقطعِ الواحدِ مِن القرآن، لا يَنفي نزولَ بعضِها قبل بعض، ولا أنَّ لبعضِها سببًا للنُّزولِ مختلفًا عن الآخر.
فكم مِن سورةٍ نَزَلت جميعًا أو أشتاتًا في الفترات بين النُّجوم مِن سورةٍ أخرى، وكم مِن آيةٍ في السُّورةِ الواحدةِ تَقدَّمت فيها نزولًا وتأخَّرت تَرتيبًا، وكم مِن آيةٍ على عكسِ ذلك ..
وهذا -وربِّي- مِن أجلِّ مَظاهرِ إعجازِ القرآنِ في تنزيله، وعلوِّ نظمِه أن يبلغَه بَشر، فـ «هذا القرآن الَّذي نَزل مُنَجَّمًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكثر من عشرين عامًا، تنزِلُ الآيةُ أو الآياتُ على فتراتٍ مِن الزَّمن، يقرؤه الإنسانُ ويتلو سوَرَه، فيجِده محكمَ النَّسج، دقيقَ السَّبك، مترابطَ المعاني، رصينَ الأسلوب، متناسقَ الآيات والسُّور، كأنَّه عقد فريدٌ نُظمت حبَّاتُه بما لم يُعهَد له مَثيل في كلامِ البَشر!
ولو كان هذا القرآن مِن كلام البَشر، قيل في مناسباتٍ متعدِّدة، ووقائع متتاليةٍ، وأحداثٍ متعاقبةٍ: لوَقَع فيه التفكُّك والانفصام، واستعصى أن يكونَ بينه التَّوافق والانسجام»
(3)
.
(1)
انظر «مناهل العرفان» للزرقاني (1/ 44 - 45).
(2)
«الحديث والقرآن» لابن قرناس (ص/443 - 445).
(3)
«مباحث في علوم القرآن» لمناع القطان (ص/116 - 117)، ولمحمد عبد الله درَّاز في كلام نفيس رائق في كتابه العظيم «النبأ العظيم» (ص/187 - 189) عن دلالة التناسق بين التنزيل والترتيب على الإعجاز القرآني، فليراجع هناك.
وبهذا الجواب ندحضُ حُجَّة (ابن قرناس) في اعتراضِه على الموافقةِ القرآنيَّة لعمر في آيةِ سورةِ التَّحريمِ.
وأمَّا المعارضات المُتَّجِهةُ إلى خبرِ موافقةِ عمر في النَّهيِ عن الصَّلاة على المنافقين، فيُقال في أولاها، وهي دعوى حملِ النَّبي صلى الله عليه وسلم لـ (أو) في الآيةِ على التَّخييرِ، وهي للتَّسوية .. إلخ:
فإنَّه يجدر بنا الاستنارةُ بأقوالِ السَّلف الأقدمين في هذا الحديث، فبهم فهِمنا الكِتاب والسُّنة، وهم أجدرُ أن ينزعوا عنَّا قيدَ الإشكالِ الظَّاهر منهما، فنقول:
نَحا جمع مِن أهلِ التَّفسيرِ إلى أنَّ مقصودَ هذه الآية التَّسويةُ بين الاستغفارِ للمنافقين وعدمِه من حيث أثرُه، ومِن ثَمَّ التَّيئيس مِن أن تلحقهم أيُّ مغفرةٍ، وأنَّ عِلَّة ذلك مَنصوص عليها آخرَ الآية، في قوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 80].
ذَهَب إلى هذا التَّأويل ابن جرير
(1)
، وأبو بكر الجَصَّاص
(2)
، وابن الجوزي
(3)
، في آخرين مِن أهل التَّفسير.
وهؤلاءِ مع هذا القول، لم ينزِعوا يدًا عن قبولِ حديثِ عمر رضي الله عنه، ولكن أعملوا آلةَ التَّأويلِ له على معنى يَتِمُّ به وِفاق الآية، ولنِعم ما فَعلوا.
فمِن ذلك قولهم: إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم استغفرَ لابن سلولٍ لعدمِ يَقينِه بوفاتِه على الكفر، وكان الظَّاهر منه الإقرارَ بالإسلام
(4)
، وأنَّه لفرط رحمته صلى الله عليه وسلم بالنَّاس، وحرصِه على نجاتِهم، اختارَ الأخذَ بمفهومِ العَددِ في لفظِ (السَّبعين) على حقيقتِه، وتَرَك المعنى المجازيَّ له، استقصاءً لمظنَّةِ الرَّحمةِ، ولو مِن وجهٍ ضَعيف
(5)
.
(1)
«جامع البيان» (14/ 394).
(2)
«أحكام القرآن» للجصاص (4/ 351).
(3)
«زاد المسير» لابن الجوزي (3/ 477).
(4)
انظر «أحكام القرآن» للجصاص (4/ 351)، و «زاد المسير» لابن الجوزي (3/ 477)، و «أنوار التنزيل» للبيضاوي (1/ 161).
(5)
انظر «جامع البيان» للطبري (14/ 395)، و «الكشاف» للزمخشري (2/ 453).
وذهب آخرون: إلى أنَّ المقصودَ بالآية حقيقةً تخييرُ النَّبي صلى الله عليه وسلم بين الاستغفارِ وعدمِه، اعتمادًا على ظاهرِ الحديث، منهم: أبو بكر ابنُ العربيِّ
(1)
، وابن عطيَّة
(2)
، وابن جُزَي
(3)
، والآلوسي
(4)
.
وهؤلاء أجابوا عن دلالةِ التَّيئيسِ في الآية: بأنَّه مُستفادٌ مِن طريقِ الاستنباط، والحديث أقوى منه من حيث أنَّه نصٌّ صَريح فيُقدَّم عليه؛ فما فوقَ السَّبعين لم تُبيِّن الآية حكمَه، وبيَّن الحديثُ حكمًا مخالفًا
(5)
.
والَّذي يظهر لي بعد تَأملٍ في الآية الكريمة -والعلم عند الله تعالى-: عدم التَّنافي بين كِلا هذين القولين، فأقول:
إنَّ الآية تحتمِل معنَى التَّسويةِ والتَّيئيسِ مع معنى التَّخيِير أيضًا
(6)
، فإنَّها خِلوٌ مِن نهَيٍ صَريحٍ عن الاستغفار للمنافقين، غايتها إعلامُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بأنَّ الله تعالى لا يغفرُ لهم، ولو أكثرَ مِن الدُّعاء لبعضِهم، فالمعنى أنَّ الاستغفارَ مِن عدمه سواءٌ مِن حيث المَآل في آخِرَتِهم، ليَكونَ التَّيئيس مُنصَبًّا في هذه الجهةِ فقط.
أمَّا حكم ذلك مِن حيث المآل في الدُّنيا من جهةِ تحقُّق المصالِح ودرءِ المَفاسِد: فلم تتطَّرق الآية له، فيبقى تحقيقُ هذه الحيثيَّة على أصلِه راجعًا إلى سياسةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، ومَعلومٌ مع هذا كونُه صلى الله عليه وسلم يُجري على المنافقينَ أحكامَ ظاهرِ أحوالِهم بين عامَّةِ المسلمين، «والقرآن ينعتُهم بسيماهم، كيلا يطمئِنَّ لهم المسلمون، وليأخذوا الحذرَ منهم، فبذلك قُضِيَ حَقُّ المصالحِ كلِّها»
(7)
.
(1)
«أحكام القرآن» لابن العربي (2/ 557).
(2)
«المحرر الوجيز» لابن عطية الأندلسي (3/ 64).
(3)
«التسهيل لعلوم التنزيل» لابن جزي (1/ 344).
(4)
«روح المعاني» للألوسي (7/ 309).
(5)
انظر «المحرر الوجيز» لابن عطية (3/ 64)، و «أحكام القرآن» لابن العربي (2/ 558)
(6)
ثمَّ وجدت الألوسي قد أشار في تفسيره (5/ 336) إلى قول من سبق إلى هذا الجمع من «بعض المحقِّقين بعد اختياره للتَّسوية في مثل ذلك: إنَّها لا تنافي التَّخيير .. » .
(7)
«التحرير والتنوير» لابن عاشور (10/ 279).
وابن سلولٍ نفسُه، لم يكن يعاجِلُه النَّبي صلى الله عليه وسلم بعقوبةٍ، مع ما صَدَر منه مِن بَوائق، مُراعاةً منه للمَآلاتِ والعواقبِ في إدارةِ المجتمعِ المَدنيِّ بكافَّةِ طوائِفه، ودفعًا منه لِما يُتوَقَّع مِن مفاسدَ على الدَّعوةِ الإسلاميَّةِ ودولتِها الفتيَّة آنذاك
(1)
، مع ما جُبِل عليه مِن فرطِ رحمةٍ يُحمَد عليها إلى يوم الدِّين.
فلمَّا لم تَقتضِ المصلحةُ إهانةَ ابن سلولٍ حين وفاتِه، مع ما له مِن حَظوةٍ عند عشيرَتِه، ومُراعاةً منه لولَدِه الصَّالِح، تطييبًا لقلوبِ بعض الأحياءِ مِن قراباته، ورغبةً منه في استمالةِ قومِه إلى الدِّينِ إذا ما رَأوه لَبَّى طلبَ ابنِ زعيمِهم في إكرامِ مَثواه: بادَرَ النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الإجراءِ مِن بابِ السِّياسةِ الشَّرعيَّة، طالما المانِع مِن ذلك غير قطعيٍّ ولا صَريحٍ في كتاب الله، فالآية -كما قُلنا- وإن قَطَعت رجاءَ حصولِ المغفرةِ للمنافقين، فلم تمنع فعلَ الاستغفارِ صَراحةً كما هو الحال مع المشركين الصُّرحَاء.
فتخيَّل معي بعد هذا، لو كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم «تَركَ الصَّلاةَ عليه قبلَ ورودِ النَّهي عنها: لكان سُبَّة على ابنِه! وعارًا على قومه! فاستعملَ صلى الله عليه وسلم أحسنَ الأمرين وأفضلَهما في مبلغِ الرَّأي، وحقِّ السِّياسة في الدُّعاء إلى الدِّين، والتَّأليفِ عليه، إلى أن نُهي عنه فانتهى»
(2)
.
ونفيُ المُعترضِ أن تكون لهذه الصَّلاة على ابن سَلولٍ فائدةٌ مِن جهة استمالةِ قلوبِ عشيرتِه، بدعوى أنَّ القرآنَ يُخبر أنَّ الاستغفارَ لا تفيد بحالِه: هو نفيٌ صحيحٌ لو كُنَّا على علمٍ بأنَّ قومَه على علمٍ بأنَّ زعيمَهم هذا واحدٌ مِن أولئك المنافقين الَّذين عناهم القرآن بشخصه! إذن لاستهجنوا فعلَ النَّبي صلى الله عليه وسلم واستخفُّوا به، إذْ كيف يُصلِّي مُحمَّد صلى الله عليه وسلم على غير أهلِ مِلَّتِه؟!
في حين أنَّ هذا العلمَ منهم ممَّا يستحيلُ إثباته عنهم.
(1)
أشار إلى هذا المعنى ثلة من أهل العلم، كأبي العباس القرطبي في «المفهم» (2/ 642)، وأبو عبد الله القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (8/ 220)، وابن حجر في «فتح الباري» (8/ 178).
(2)
«أعلام الحديث» للخطابي (3/ 1849).
فهذا عبد الله رضي الله عنهوهو ابنه، قد خفِيَ عليه استصحابُ أبيه للكفر! فما كان إلَّا أن «حَملَ أمرَ أبيه على ظاهر الإسلام، ولدفعِ العارِ عنه وعن عشيرتِه، فأظهرَ الرَّغبةَ في صلاةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، ووقعت إجابتُه إلى سؤالِه على حسبِ ما ظَهر مِن حالِه، إلى أن كشَفَ الله الغطاء عن ذلك»
(1)
؛ هذا مع كونِه أقربَ النَّاس إليه لحالِ البُنُوَّة، فكيف الظَّنُّ بغيرِه مِن قومِه ممَّن هم أبعدَ منه عنه، ممَّن لا يعلم عنه إلَّا ظاهره؟! لم يكُن هؤلاء إلَّا ليحسِبوه واحدًا مِن أفراد المسلمين.
وبعد هذا البيان، يبقى لنا الإشكال المُتعلِّقُ بآخر الآيةِ:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 80]: فالمعلوم ضرورةً من الدِّين: أنَّ مَن ثَبت كفرُه لا يُستغفَر له، قولًا واحدًا، وبه تَشبَّث مَن حَصَر الآية في التَّسويةِ المستلزمة للنَّهيِ عن الفعلِ البتَّة.
وقد وَرَدت في بعضِ جواباتِ أهل العلمِ ما يحلُّ هذا الإشكال، مِن ذلك ما تراه في قول ابن حجر: «في بقيَّة هذهِ الآية من التَّصريح بأنَّهم كفروا بالله ورسوله ما يدلُّ على أنَّ نزولَ ذلك وقع مُتراخيًا عن القصَّة، ولعلَّ الَّذي نَزَل أوَّلًا وتمسَّك النَّبي صلى الله عليه وسلم به، قولُه تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ، إلى هنا خاصَّة، ولذلك اقتصرَ في جوابِ عمر على التَّخييرِ وعلى ذكرِ السَّبعين
(2)
.
فلمَّا وقعت القَّصة المذكورة، كشَفَ الله عنهم الغطاء، وفضحَهم على رؤوسِ الملَأ، ونادَى عليهم بأنَّهم كفروا بالله ورسولِه، ولَعلَّ هذا هو السِّر في اقتصارِ البخاريِّ في التَّرجمة مِن هذه الآيةِ على هذا القدرِ إلى قوله:{فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ، ولم يقع في شيء من نُسخِ كتابِه تكميل الآية، كما جرت به العادة مِن اختلاف الرُّواة عنه في ذلك ..
(1)
«عمدة القاري» للعيني (18/ 273).
(2)
معنى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ما دام اقتصر على ذلك الجواب، ولم يجب عمر عن التعليل الذي في آخر الآية، دلَّ ذلك أنَّها لم تنزل بعدُ، وإلا لبقي الإشكال قائمًا لم يزل بعدُ لنقصان جوابه، ولم يكن له صلى الله عليه وسلم عذر في الاستغفار بعد نزولها.
فكونُ ذلك وَقَع مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم متمسِّكًا بالظَّاهرِ على ما هو المشروع في الأحكامِ إلى أن يقوم الدَّليلُ الصَّارف عن ذلك: لا إشكالَ فيه، فللَّه الحمد على ما أَلهم وعلَّم»
(1)
.
وعندي في جواب ابن حجر هذا نوعُ نظر، أقول فيه -والعلم عند الله-:
إنَّ القول بتأخُّر نزولِ تتِمَّةِ الآيةِ -والَّتي فيها ذكر تعليلِ نفيِ المغفرة- يُحتاجُ في إثباتِه إلى دليلٍ نقليٍّ مستقلٍّ، فإنَّ الكلامَ في نزول سُور القرآن وآيِه وتنجيمِه مُتوقِّف علمُه على الرِّوايةِ أصالةً، لا على اجتهادٍ في الرَّأي.
ومع ذلك يُقال هنا: إنَّه إذا تَبيَّن ما سَلف تقريرُه مِن تفريقٍ بين المآل الأخرويِّ والفائدة الدُّنيويَّة في الصَّلاة على المنافقين، لم نحتج بعدُ إلى القولِ بتأخُّرِ نزولِ باقي الآية مِن الأساس، حتَّى على فرضِ عِلْمِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بكفرِ ابن سلولٍ في الباطن، فإنَّ ذلك لا يمنَعُ مِن الصَّلاة عليه، جريًا على حكمِ الظَّاهر، على ما جَرَت به عادتُه الحكيمة في معاملةِ هذا الصِّنفِ مِن العَدوِّ.
وأمَّا دعوى المعارضةِ الثَّانية من كونِ المتبادرِ مِن الآيةِ كنايةُ السَّبعين عن الكثرة .. إلخ، فجوابها:
أنَّ في روايات قصَّةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم مع عمرَ رضي الله عنه في شأنِ ابن سَلولٍ بعض اختلافٍ في ألفاظها، قد نَبَّه غير واحدٍ مِن أهل العلم إلى ذلك، حتَّى قال الآلوسيُّ:« .. والأخبارُ فيما كان منه صلى الله عليه وسلم مع ابنِ أبيٍّ من الصَّلاة عليه وغيرها لا تخلو من التَّعارض .. »
(2)
.
فأمَّا رواية عمر رضي الله عنه نفسِه للحادثة: فجاءت مِن رواية ابن عبَّاس رضي الله عنه عنه، والَّذي فيها أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال له:«أخِّرْ عنِّي يا عمر» ، قال عمر: فلمَّا أكثرتُ عليه قال: «إنِّي خُيِّرت فاخترتُ، لو أعلمُ أنِّي إن زِدتُ على السَّبعين يُغفر له، لزِدتُ عليها»
(3)
.
(1)
«فتح الباري» (8/ 339).
(2)
«روح المعاني» (5/ 342)، وانظر «التحرير والتنوير» لابن عاشور (10/ 278).
(3)
أخرجه البخاري في (ك: الجنائز، باب: ما يكره من الصلاة على المنافقين، والاستغفار للمشركين، رقم: 1366)، وفي (ك: تفسير القرآن، باب: قوله تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} ، رقم: 4671).
وأمَّا رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فوقع في ألفاظها اختلاف:
ففي طريق أنسِ بن عياض
(1)
وأبي أسامة
(2)
عنه، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر:«إنمَّا خيَّرني الله .. وسأزيدُه على السَّبعين»
(3)
.
وجاء مِن طريق صَدقة بن الفضل
(4)
عن يحيى بن سعيد
(5)
: أنَّه صلى الله عليه وسلم لم يزِد على أن تَلَا الآية في جوابِه لعمر
(6)
.
ففي هذا الاختلاف في بعض ألفاظِ المتنِ دلالة على تصرُّفِ بعضِ الرُّواة في المتن، ونقلِهم لفظَ كلامِ النَّبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى الَّذي استقَّرَ في حافظتهم على ما فهِموه، ظَهَر هذا الاختلاف بين لفظِ روايةِ عمر رضي الله عنه الأولى -وهي كما ترى تفيدُ علمَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بانتفاءِ مفهومِ العددِ في الآية، وعدم الفائدة مِن الزِّيادة على السَّبعين- وبين روايةِ ابنِه عبد الله مِن طريقِها الأولى بخاصَّة، حيث أفادت عزمَ النَّبي صلى الله عليه وسلم على الزِّيادةِ على السَّبعين.
فلا شكَّ بعقد هذه المقارنة يتَّضح أنَّ رواية عمر هي الصَّحيحة الرَّاجحة، وذلك لثلاثة اعتبارات:
الأوَّل: لموافقةِ رواية عمر رضي الله عنه دلالةَ الآية على التَّيئيسِ مِن المغفرة للمنافقين لكفرهم، حيث لا تنفع معه كثرة استغفار، والسَّبعون فيها جارٍ مَجرى المَثلِ للتَّكثُّر.
(1)
أنس بن عياض بن ضمرة، أبو ضمرة المدني، ثقة من أوساط أتباع التابعين كما في «التقريب» ، توفي سنة 200 هـ.
(2)
حماد بن أسامة بن زيد القرشى مولاهم، أبو أسامة الكوفى، من صغار أتباع التابعين، قال ابن حجر في «التقريب»:«ثقة ثبت ربما دلس، وكان بأخرة يحدث من كتب غيره» ، توفي 201 هـ.
(3)
أخرجها البخاري في (ك: تفسير القرآن، باب: قوله تعالى {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، رقم: 4670)، ومسلم في (ك: فضائل الصحابة، باب: فضائل عمر بن الخطاب، رقم: 2400).
(4)
صدقة بن الفضل أبو الفضل المروزى، ثقة من كبار الآخذين عن تبع الأتباع كما في «التقريب» ، توفي سنة 223 هـ وقيل 226 هـ.
(5)
يحيى بن سعيد بن فروخ القطان، أبو سعيد البصري، ثقة إمام قدوة، من صغار أتباع التابعين كما في «التقريب» ، توفي سنة 198 هـ.
(6)
أخرجها البخاري في (ك: اللباس، باب: لبس القميص، رقم: 5796).
الثَّاني: عمر رضي الله عنه هو مَن عايَش الحَدثَ، وسمِع مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم مباشرةً، ومعلومٌ مِن قرائنِ التَّرجيحِ: أنَّ روايةَ صاحبِ القصَّةِ مُقدَّمةٌ على غيرِها عند اختلافِ المتون
(1)
.
الثَّالث: رواية عمر رضي الله عنه مستقِلَّةُ الإسنادِ عن رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه؛ ثمَّ رُواتُها لم يختلفوا في ألفاظِها كما اختلفَ رواة حديث عبد الله بن عمر، وترجيحُ ما اتُّفِق على ألفاظِه أولى ممَّا اختُلِف في ألفاظه
(2)
.
وبهذه الثَّلاثة يرجح ضعفُ روايةِ عبد الله بن عمر: «وسأزيدُه على السَّبعين» ، ويَغلبُ على الظَّنِّ -كما قال ابن عاشور
(3)
- أنَّه لفظ زائد وَهِم الرَّاوي فيه بحسبَ ما فهِمه.
فإذا كانت هذه الجملة ساقطة، فقد انزاح عن الحديث مُعضِلة كانت أكثرَ ما استشكَلَه الشُّرَّاح والمُفسِّرون من حديث عمر هذا، حتَّى ساروا مذاهبَ شتَّى في التَّوفيق بينه ودلالةِ الآية الكريمة
(4)
، والحمد له وحدَه على توفيقِه.
أمَّا دعوى المعارضةِ الثَّالثة: في استنكارِهم صلاةَ النَّبي صلى الله عليه وسلم على منافقٍ، مع سبقِ نهيِ القرآنِ عن الصَّلاةِ على المُشركين، فجواب ذلك أن يُقال:
قد ألمْحنا قبلُ إلى أنَّ النَّهيَ عن الاستغفارِ لمِن ماتَ مُشركًا لا يستلزِم النَّهيَ عنه لمِن ماتَ مُظهرًا للإسلام، لاحتمالِ أن يكونَ معتقدَه صَحيحًا
(5)
، ولعلَّ
(1)
انظر «الإشارة» للباجي (ص/84)، و «الإحكام» للآمدي (4/ 243).
(2)
انظر «البحر المحيط» للزركشي (8/ 182 - 183).
(3)
في «التحرير والتنوير» (10/ 278).
(4)
بل توقَّف بعضهم في تفسير الحديث، فجعله الصنعاني في كتابه «التحبير لإيضاح معاني التيسير» (2/ 196)«من المتشابه الَّذي لا يعلم تأويله إلا الله، والمتشابه من الحديث ثابت كالمتشابه من القرآن» !
وتكلَّف آخرون الجمع بطرق بعيدة المآخذ، ترى كثيرا منها وما أجيب عليها في «روح المعاني» (5/ 338)، من ذلك ما في «المفهم» لأبي العباس القرطبي (8/ 116) أنَّه جعل رواية ابن عمر مِن الوعد المطلق منه صلى الله عليه وسلم، ليحمله على رواية عمر المقيِّدة، فيكون المعنى عنده: وسأزيد على السَّبعين لو نفعه استغفاري، والواقع أنَّه لا ينفعه يا عمر! وإن كان القرطبي يرى في نفس الموضع أن رواية عمر أولى من هذا اللفظ التي في رواية ابنه عبد الله.
(5)
يقول ابن حجر في «فتح الباري» (8/ 339): «وهذا جواب جيد» .
هذا الاحتمالَ ما حدا بعبدِ الله وَلدِ ابن سَلولٍ إلى أن يطلبَ مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم الصَّلاةَ عليه، مع علمِه بما كان مِن أبيه مِن جرائمَ في حقِّ الإسلامِ وأهلِه.
لكنْ مخالطةُ أمثالِ هؤلاءِ لأحوالِ الإيمانِ، ولو في ظاهر الحال، قد يجرُّ إلى تعلُّقِ هديِه بقلوبِهم بأقلِّ سَبب، وهذا بخلافِ المُعلِنِ لكفرِه، المجاهرِ بعداوتِه للدِّين، وقد علِمنا أنَّ سياسة النَّبي صلى الله عليه وسلم مع كِلا الفريقين مُتباينةٌ بالكُليَّة، وابنُ سَلولٍ بَقي على دعوى الإسلامِ إلى أن مات، والنَّبي صلى الله عليه وسلم يُجري على المنافقين أحكامَ ظاهرِ حالهِم في عامَّةِ المسلمين.
يقول ابن عاشور:
(1)
.
أما دعوى المُعترضِ: في كونِ موافقةِ القرآنِ لعمر في هذا مُستلزم أن يكون مَن هو أعلم مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمفهومِ الآيات ومقاصد الشَّريعة:
فقد مَرَّ جوابُه في ثنايا جوابِ الاعتراضِ الأوَّل المتعلِّق بالمعنى المقصودِ مِن آية: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، حيث بَيَّنا أنَّ الآيةَ لا تحوي نهيًا صَريحًا عن الاستغفار للمنافقين، بل هي حمَّالةٌ لمعنى التَّسوية والتَّيئيس، ومحتملة لمعنى التَّخييرِ إذا ما بانَ للنَّبي صلى الله عليه وسلم فائدة في إحدى الخِيرَتين.
(1)
«التحرير والتنوير» (10/ 279).
فاختيار النَّبي صلى الله عليه وسلم الاستغفارَ لابن سَلولٍ كان صَحيحًا وقتَها في حَقِّه، لاحتمالِ الآية له، ولم يكُن غَلطًا منه في فهم الآيةِ كما توهَّمه المعترض.
كما أنَّ ما نزَعَ إليه عمر مِن معنى منعِ الآية للاستغفارِ بلازمِ نفيِ الفائدةَ منه في المآل الأخرَويِّ: هو أيضًا فهمٌ منه صَحيح، تحتمله الآية بهذا القيدِ أيضًا، «فإنَّه إذا لم يكُن للاستغفارِ فائدةُ المغفرةِ يكون عَبثًا، فيكون مَنهيًّا عنه»
(1)
.
لكنَّ فهمَ النَّبي صلى الله عليه وسلم للآية وتأويلِها باعتبارِ مآلِها المَصلَحيِّ في الدُّنيا هو الأقرب إلى الحقِّ بلا شكٍّ، كلُّ ما في الأمرِ أنَّ عمرَ رضي الله عنه لطبعِه الشَّديد وقُوَّتِه في ما يَراه حَقًّا، أخَذَ بالمعنى الَّذي يَتَضمَّن الشِّدةَ على المنافقين وإهانَتهم، جزاءَ ما لقِي المسلمون مِن أذاهم؛ وأمَّا النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلأنَّه أرحمُ الأمَّةِ بالأمَّة، وأعلم بالمصالحِ في حالِها ومآلِها، ولأنَّه «لم يُنهَ عن الصَّلاةِ عليه صَراحةً: مَشى على محتملِ اللَّفظِ، وليسَ في الآيةِ إلَّا أنَّ استغفارَك غير مُفيد له، فلَمْ يَبحثْ عن النَّفعِ الأُخرويِّ، فإنَّه لمَّا أرادَ أن يُصلِّي عليه، اكتفى بسِعةِ الألفاظِ فقط، ولم يكن فيها إلَّا عدمُ نفعِ صلاتِه»
(2)
، وهذا سبق تقريره.
وهو مع ذلك صلى الله عليه وسلم لم يخفَ عليه المناط الَّذي علَّق عمر عليه المنعَ!
فإنَّه لم يُنكِر عليه ما كان يذكِّره به رضي الله عنه مِمَّا جرى على لسانِ ابن سَلولٍ مِن قبائح، ولكن نظرُه صلى الله عليه وسلم كان أبعدَ مِن عمر في اعتبار المصالح، والمعلوم مِن حالِه صلى الله عليه وسلم أنَّه ما خُيِّر بين أمرين إلَّا اختارَ أيسرهما وأنفعهما، ولم يكن مَيَّالًا إلى جانب العقوبة والتَّشديد إلَّا بوحيٍ، أمَّا عمر، فلم يلتفِت إلى احتمالِ إجراءِ الكلامِ على ظاهِره، لمِا غلَب عليه مِن الصَّلابةِ المذكورةِ.
فأين عمر رضي الله عنه مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم؟! وأين فهمُه من فهمِه؟! فإنَّه كان نبيَّهم وأوْلى به وبالمؤمنين مِن أنفسهم.
(1)
«الكواكب الدراري» للكرماني (17/ 139).
(2)
«فيض الباري» للكشميري (3/ 18).
والَّذي ينبغي تبيُّنه هنا: أنَّ نزولَ ظاهرِ الآيةِ بموافقةِ رأيِ عمر رضي الله عنه، إنَّما هي موافقة جُزئيَّة في النَّتيجة، وليست موافقة تامَّة في مقدِّماتِ تلك النَّتيجة!
بيانُ ذلك: أنَّ عمر رضي الله عنه احتجَّ في حوارِه بما صَدَر مِن ابن سَلولٍ مِن جرائم على نفيِ استحقاقِه للاستغفار، لكن الآية الكريمة قد راعَت في نهيِها الصَّريحِ أمرًا آخرَ أجلَّ: إنَّه متغيِّرات الحالةِ الإسلاميَّة، وتَمركُزٌ في موقعِ قوَّةٍ وهَيبةٍ لم يَكُن مُتاحًا للمسلمين من قبلُ، هذا ما لم يجرِ اعتبارُه على بالِ عمر في مجادلَتِه.
(1)
.
فلأجلِ ذا نُهي النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن إغداقِ رحمتِه على العدُوِّ الباطِن والاستغفار له، لا لِمجرَّد أنَّهم فَعلوا وفعلوا كما قال عمر رضي الله عنه، لكن عاجلُ عقوبةٍ لهم قبل يومِ التَّلاقِ، واقتلاعٌ لجذورِ الخَوَنةِ مِن تُربةِ النِّفاقِ.
وإنَّ في إعراضه صلى الله عليه وسلم عن ابن أبي سلولٍ مع اتسِّاع صحيفة هذا بسواد أعماله، لدليلًا حيًّا على أنَّه صلى الله عليه وسلم أبعدُ النَّاس عن إغراءاتِ السَّيف، وطموحاتِ المُستكبرين في الأرض!
فصلِّ اللهم عليه وسلَّم، والحمد لله على توفيقه.
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (8/ 336).