الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث دفعُ دعاوي المعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ عن حديث «إذا سمعتم صياحَ الدِّيَكة .. وإذا سمعتم نهيق الحمار»
أمَّا عن معارض الحديث فيما يُدَّعى من تكذيب الحسِّ له .. إلخ؛ فقولُنا في دحضِه يَنبَجِسُ مِن عِدَّة وجوه:
الوجه الأوَّل: أنَّ الحديث قد رواه الأئمَّة، واستهَمَ الشُّراح في بيانِه، فلم يقع لواحدٍ الإدلاءُ بهذا الاعتراض الَّذي اعترض به المعترضون مِن المعاصرين، مع سداد فهومِهم، وذكاء عقولهم، فتفرُّدهم بهذا الاعتراض على الحديث يُنبِئك عن مقدارِ فهمهم في جنبِ فهوم أولئك الأعلام.
الوجه الثَّاني: أنَّ الحديث بتمامِه مِن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعوى أنَّ تعليل صياحِ الدِّيَكة في الحديث هو مِن إدراج أبي هريرة رضي الله عنه -كما ادَّعاه الكرديُّ- أو غَلط مِن عبد الرَّحمن بن هرمز -كما ادَّعاه عَفانة-: مجرَّد دعوى يُعوزها البرهان، ولم أرَ أحدًا مِن نقَّاد الحديث صرَّح بذلك، مع كونِهم أدقَّ عينًا بِما تصحُّ نسبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما لا يصحُّ.
والمُعترضان إنَّما نَصَبا هذه الدَّعوى الإسناديَّة -فيما يظهر- لِئلَّا يستوحش النَّاظر مِن طعنهما في الحديث، وتكذيبهما له بدعوى مخالفتِه الواقع!
(1)
(1)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/758).
الوجه الثَّالث: أنَّ الحديث أخبرَ عن أمرٍ غَيبيٍّ، لا يَقع للعقل إدراك كُنْهِهِ؛ لعجزِه من جِهة، ولقصورِ الواسطة النَّاقلة للعقلِ -وهي: الحواسُّ- عن تحصُّل هذا الإدراك من جهة أخرى؛ فإذا تحقَّق ذلك، فلا طريق إلى معرفة هذا الغيب إلَّا عن طريق الوحي، وحينئذٍ يجب الإيمان بما أخبر به الصَّادق صلى الله عليه وسلم؛ وذلك مِن مقتضيات الإيمان بالرَّسول صلى الله عليه وسلم.
وبناءً على ما قُرِّر، يَتبيَّن لك أنَّ دعوى المعترض أن لو كانت الدِّيَكة تصيح عند رؤيتها للملائكة، مع كون كلِّ إنسان محاطًا بملائكة يحفظونه، ومَلكين يكتبان أعماله؛ للَزِم مِن ذلك أن تصيح كلَّ وقت: هي دعوى باطلة، ذلك:
أنَّ حصول صياح الدِّيَكة عند رؤية مَلَك، وكذا نهيق الحمار عند رؤية شيطان؛ لا يلزم منهما أن يكونا عند رؤيةِ كلِّ مَلَك أو كلِّ شيطان؛ لأنَّ الَّذي أشهدَ كُلًّا منهما لرؤيةِ ما لا يراه البشر: قادرٌ أن يحجُب عن الدِّيَكة رؤيةَ الملائكةِ الحَفَظة والمُوكَّلين بكتابة الأعمال؛ ويحجُبَ عن الحمارِ: قرينَ الإنسان، وهذا القرين نفسُه الَّذي يُدْبِر لِسماعِه الأَذَان، فهما نوعٌ واحد
(1)
.
وكما عَلِمنا بدلالة الواقع عدمَ شهودِ الدِّيَكة رؤيةَ كلِّ أنواع الملائكة، وعدمَ شهود الحمير كلَّ أنواع الشَّياطين، فإنَّ في بعض الأحاديث ما يُعلِم بأنَّ هذا الشُّهود لا يقع لها في كلِّ حين، بل هي محصورة في اللَّيل.
جاء القيدُ بهذا في رواية أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه رواها الثِّقات
(2)
(3)
.
(1)
بأمارةِ وسوستِه للمُصلِّي في حديث الإدبار بقوله: « .. اُذْكُر كذا، اذْكُر كذا .. لِمَا لم يَكُنْ يَذْكُر .. » ، وفي هذا التَّذكير منه بأمور تخصُّ المُصلِّي، وتعدادها عليه: أَمَارةٌ على معرفته الكاملةِ بهذا الإنسان ومُتعلَّقاته اليومِيَّة، ولا يتمُّ هذا إلَّا باقترانٍ منه وملازمة.
(2)
انظر «سلسلة الأحاديث الصَّحيحة» للألباني (7/ 560).
(3)
أخرجه النسائي في «السُّنن الكبرى» (ك: عمل اليوم والليلة، باب: ما يقول إذا سمع نهيق الحمير، رقم: 10713)، وأحمد في «المسند» (رقم: 8674)، وقال أحمد شاكر:«إسناده صحيح»
قال الشَّوكاني: «قوله في الحديث الآخر (مِن اللَّيل): يُقيِّد المطلقَ، فتكون الاستعاذة إذا سمِع النُّباح ليلًا لا نهارًا»
(1)
، وكذلك قال علي القاريُّ (ت 1014 هـ) قبله
(2)
؛ ويكفي في ردِّ تلك الشُّبهة اليتيمة ما سُقناه مِن تلك الحُجَج؛ والحمد للِه.
(1)
«تحفة الذاكرين» للشوكاني (ص/283).
(2)
«مرقاة المفاتيح» (7/ 2761).