الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفع المعارضات الفكريَّة المعاصرة
للتَّفسير النَّبوي لآية: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ}
أمَّا قول المعترضِ في المعارضةِ الأولى: أنَّ جَهنَّم لن تضيقَ بِمَن فيها مَهما بلغَت أعدادُهم، فيُقال في الجواب عنه:
إنَّ الآية مُحتملةٌ لمَعنيْين:
الأوَّل منهما: أنَّ السُّؤالَ فيها جاء سؤالَ نَفيٍ، بمعنى: أنَّها تُخبر ألَّا احتمالَ لها لمزيدِ حيث امتلأت، فالآية بهذا المعنى مُتوائمة مع مدلول الحديث.
المعنى الثَّاني: أنَّ السُّؤال فيها سؤال طَلبٍ واستزادة، فحيث بَقي فيها مُتَّسَع لذلك، استزادت مِن ربِّها وَقودها.
ذَكر الطَّبري كِلا المَعنيْين اللَّذَين تَفرَّق عنهما قولُ أهلِ التَّفسير، ثمَّ رَجَّح المعنى الثَّاني مَقصودًا للآية، فقال:«وَأوْلى القَولين في ذلك عندي بالصَّواب، قول مَن قال: هو بمعنى الاستزادة، هل مِن شيءٍ أَزدَاده؟ وإنَّما قُلنا ذلك أولى القولين بالصَّواب: لِصحَّة الخبرِ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم .. »
(1)
.
ثمَّ ذَكَر حديثَ أبي هريرة رضي الله عنه ونحوَه مِن أحاديث هذا الباب.
(1)
«جامع البيان» للطبري (21/ 445).
والجمعُ بين هذا المعنَى الثَّاني ودلالةِ الحديث على امتلاءِ جَهنَّم مُتناولٌ مَيسور بفضلِ الله، وذلك أن نقول: بأنَّ جَهنَّم لن تَزال تَطلبُ المزيدَ مِن ربِّها، حتَّى يضَع عليها الجبَّار سبحانه قدَمه، فيُزوى بعضها إلى بعضٍ، وتَضيق، حتَّى تَمتلِئ بذلك.
وفي تقريرِ هذا الوجهِ القَويم من التَّوفيق بين النَّصَّين يقول ابن تيميَّة: «الصَّحيح أنَّها تقول: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} على سبيلِ الطَّلب، أي: هل مِن زيادةٍ تُزاد فيَّ؟ والمَزيد ما يَزيده الله فيها مِن الجنِّ والإنس، كما في الصَّحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم -وذكر حديثنا هذا-.
فإذا قالت: حَسبي، حَسبي! كانت قد اكتفَت بِما أُلقي فيها، ولم تقُل بعد ذلك: هل مِن مَزيد، بل تَمتلئ بما فيها، لانزواءِ بعضها إلى بعض؛ فإنَّ الله يُضيِّقها على مَن فيها لِسعَتها، فإنَّه قد وَعدها ليَملأنَّها مِن الجِنَّة والنَّاس أجمعين، وهي واسعةٌ فلا تَمتلئ، حتَّى يُضيِّقها على مَن فيها»
(1)
.
وفضلًا عن هذا الجواب، يُمكن أن يُزاد عليه فيُقال:
إنَّه يجوز أن يُقالَ للشَّيء: هو مُمتلئ، مع أنَّ فيه مَكانًا -ولو صَغُر- لا يَزال فارغًا! نبَّه عليه الدَّارمي في مَعرضِ تبكيتِه لِمن رَدَّ هذا الحديث، فقال:«يجوز في الكلامِ أن يُقال لممتلئٍ: استزادَ، كما يَمتلئ الرَّجل من الطَّعام والشَّراب، فيقول: قد امتلأتُ وشبعتُ، وهو يقدِر أن يزداد، كما يُقال: امتلَأ المسجد مِن النَّاس، وفيه فضلٌ وسِعة للرِّجال بعدُ، وامتلأ الوادي ماءً، وهو محتملٌ لأكثر منه .. »
(2)
.
وأمَّا دعوى المُعترضِ استنكارَه للقدَمِ أن تكون صِفةً لله تعالى في المعارضةِ الثَّانية، فجوابه أن يُقال:
إنَّ مِن لوازم الإيمان بالله تعالى الإيمان بما وَصَف به نفسَه في كتابه، ووَصَفه به رسوله صلى الله عليه وسلم في سُنَّتِه، مِن غيرِ تحريفٍ ولا تعطيل، ومِن غير تكيِيفٍ
ولا تمثيل، مع قطعِ الطَّمَع عن إدراكِنا لكيفيَّةِ تلك الصِّفات، لقولِه تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110]، وتنزيهِه سبحانه أن يُشبِه شيءٌ مِن صفاتِه شيئًا مِن صفاتِ المخلوقين، لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].
ومعلوم أنَّ السَّمع والبصر مِن حيث هما سَمع وبَصر يتَّصِف بهما جميع الحيوانات، والله يقول:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11].
فكأنَّ الله يُشير للخلقِ: ألَّا يَنفوا عنه صِفةَ سمعِه وبصرِه، بدعوى أنَّ الحوادثَ تَسمع وتُبصر، بدعوى أنَّ ذلك تَشبيه؛ بل عليهم أن يُثبِتوا له صفةَ سمعِه وبصِره على أساسِ ليس كمثله شيءٌ؛ فالله جل جلاله له صفات لائقةٌ بكمالِه وجلالِه، وللمخلوقات صفاتهم المناسبة لحالهِم، وكلُّ هذا حَقٌّ ثابت لا شكَّ فيه، وصِفة الربِّ أعلى وأكمل وأجلُّ مِن أن تُشبه صفاتِ المخلوقين
(1)
.
هذا التَّأصيل العَقديُّ في باب الأسماء والصِّفات يشمل نَوعَيْ أدِلَّة هذا الباب:
الصِّفات الشَّرعيَّة العقليَّة: وهي الَّتي يَشترك في إثباتِها الدَّليل السَّمعي، والدَّليل العقلي.
والصِّفات الخَبريَّة: وهي الَّتي لا سَبيل إلى إثباتِها عقلًا إلَّا بطريقِ الخبرِ عن الله تعالى أو رسولِه صلى الله عليه وسلم؛ وهذه بدورها تكون فعليَّة: كالفَرح، والغَضب، والاستواءِ، وتكون ذاتيَّة: كالوَجه، واليَدين.
فمِن هذا القسم الأخيرِ صِفة القَدم -كما ثبت في حدِيثِنا هذا وغيرِه ممَّا وَرَد في هذا البابِ- فيجري على هذه الصِّفة الذَّاتية ما يَجري على باقي الصِّفاتِ الثَّابتة شَرعًا، مِن الإيمان بها على ما يَليق بالله تعالى، مِن غير تعطيلٍ ولا تمثيلٍ بصفاتِ المخلوقين، تعالى الله عن ذلك، وفيها يقول أحمد بن حنبل:«قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: يَضَعُ قدَمَه، نُؤمِنُ به، ولا نردُّ على رسولِ الله ما قال»
(2)
.
(1)
انظر «منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات» لمحمد الأمين الشنقيطي (ص/11).
(2)
«طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (1/ 144).
وكذا في تنزيل هذا الأصل على هذه الصِّفةِ، قال الطَّيِبيُّ (ت 743 هـ):«القَدَم والرِّجل المَذكوران في هذا الحديث مِن صفات الله تعالى المنزَّهة عن التَّكيِيف والتَّشبيه، وكذلك كلُّ ما جاء مِن هذا القَبيل في الكتاب والسُّنة، كاليَد، والأصِبع، والعَين، والمَجيء، والإِتيان، والنُّزول، فالإيمان بها فَرْض، والامتناعُ عن الخوضِ فيها واجب، والمُهتدي مَن سَلك فيها طريقَ التَّسليم، والخائضُ فيها زائغ، والمنكِر مُعطِّل، والمُكيِّف مُشبِّه»
(1)
.
فالحاصل: أنَّه لا يَلزم مِن الاشتراكِ في جنسِ الصِّفة التَّماثلُ في حقيقتِها، وإلَّا لزِمَ مثله في آياتِ الصِّفاتِ الإلهيَّةِ الَّتي يتَّصِف بجنسِها المخلوقُ، وما أكثرَها في كتابِ الله تعالى.
فإن زُعِمَ أنَّ هذه مَجاز، فيُقال: فلِمَ لا يُقال مثلَ هذا في تلك الأحاديثِ الَّتي نقضتموها أنَّها مَجاز؟! بل سَعيتم في إبطالِها، ولم يُنقَل عن أحدٍ من مُحَقِّقي المُتكلِّمين الطَّعن في ثبوتِها؛ ولولَا أنَّ الخبرَ ثابتٌ مِن جِهةِ النَّقل، ما تَكلَّف جمهورُهم التَّنقيبَ عن دلالتِه، والخوضَ في تأويلِه
(2)
.
أمَّا ادِّعاء المعارضة الثَّالثِة من أنَّ الخبر يُفيد حصول المُماسَّةِ بين الخالقِ والمَخلوق:
فهذا كلام مَن يقيس صفات الله على صِفة المَخلوقِ، أو لم يفهمِ الحديثَ أساسًا! بأنْ تَوهَّم أنَّ قَدَم المولى سبحانه قد وَلَجت جَهَنَّم وبَقيت فيها مُدَّة! تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا؛ وقد تَوهَّم هذا الإفك على أهلِ الإثباتِ من أهل السُّنةِ قَومٌ مِن المُعطلِّة
(3)
.
وهذا جَهل مِمَّن تَوهَّمه أو نَقله عنهم، فإنَّ في الحديث:«حتَّى يَضعَ رَبُّ العِزَّة عليها قدمَه .. » ، وهذا لا يَلزم مِنه مماسَّة لا لُغةً ولا عقلًا، فهو كقولِ الله تعالى:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، و {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، ونحوها.
(1)
«الكاشف عن حقائق السنن» للطِّيبي (11/ 3596).
(2)
انظر «شرح صحيح مسلم» للنووي (17/ 182)، و «فتح الباري» لابن حجر (8/ 595).
(3)
«جامع المسائل» لابن تيمية (3/ 240 - 241).
وأمَّا لفظُ الحديث من روايةِ أنسٍ رضي الله عنه: «حتَّى يضَع فيها رَبُّ العالمين قدَمه» ، فمَجيء (في) فيه بمعنى (على)، كما في قولِ الله تعالى:{وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71]، والمعنى: على جذوعِ النَّخل
(1)
، ولأنَّه ضُمِّن مَعنى شدَّةِ الالتصاقِ أُبدِل بحرفِ (في)؛ فكذا أبدِل حرفُ الجرِّ (على) في هذا الحديث بـ (في) لتضمنُّه معنى الإِملاءِ.
وأمَّا جواب المعارضة الرَّابعةِ: في دَعوى كونِ الجنَّة والنَّار لا عقلَ لهما ولا مَعرفة ولا حاسَّة، وأنَّ ما وَرَد في الآية الكريمة من كلام جهنَّم لربِّها هو مجاز، فيُقال فيه:
حملُ الألفاظ على الحقيقة أصل لا يُحاد عنه إلَّا بقرينةٍ على إرادةِ المخاطِبِ للمَجاز
(2)
.
فأين القرينة هنا؟! وأيُّ مانع شرعيٍّ أو عقليٍّ يَحول دون كلامِ جَهنَّم أو الجنَّةِ وتَمييزِهما إذا أرادَ الله منهما ذلك؟! وقياس عالمِ الغيب على ما عندنا في عالمِ الشَّهادة باطلٌ لا يجوز، وإن كان «لا يَلزم من هذا أن يَكون ذلك التَّميِيزُ فيهما دائمًا»
(3)
.
ورَحِم الله ابنَ المنيِّر (ت 683 هـ) على كلماتٍ رصيناتٍ سبكهنَّ في مَعرضِ تعقُّبِه للزَّمخشريِّ حملَه كلامَ النَّار في الآيةَ على المَجاز، يقول فيهنَّ: «نعتقِد أنَّ سُؤال جَهنَّم وجوابها حقيقة، وأنَّ الله تعالى يخلُق فيها الإدراكَ بذلك بشرطِه، وكيف نفرِض وقد وَرَدت الأخبار وتظاهرت على ذلك؟! منها هذا، ومنها: حِجاج الجنَّة والنَّار، ومنها: اشتكاؤُها إلى ربِّها فأذِن لها في نَفَسين.
وهذه وإن لم تكن نصوصًا، فظواهرُ يجِبُ حملُها على حقائِقها، لأنَّا مُتعبَّدون باعتقادِ الظَّاهرِ، ما لم يَمنع مانع، ولا مانع هاهنا، فإنَّ القدرة صالحة،
(1)
انظر «تهذيب اللغة» (15/ 418).
(2)
انظر «إرشاد الفحول» للشوكاني (2/ 269).
(3)
«شرح النووي على مسلم» (17/ 181).
والعقل يجوِّز، والظَّواهر قاضيةٌ بوقوع ما صَوَّره العقل، وقد وَقع مثل هذا قَطعًا في الدُّنيا، كتسليمِ الشَّجر، وتسبيحِ الحَصا في كفِّ النَّبي صلى الله عليه وسلم وفي يدِ أصحابه.
ولو فُتِح باب المَجاز والعُدول عن الظَّواهر في تفاصيلِ المقالة، لاتَّسع الخرق، وضَلَّ كثير مِن الخلق عن الحقِّ»
(1)
.
فالحاصل أنَّ ما في هذه النُّصوصِ من المحاجَّة جاريةٌ على التَّحقيق، وعلى فَرضِ احتمالِ الآية لكلا الحقيقةِ والمجاز، فقد جاءت السُّنة تُعيِّن المُرادَ منهما، فوَجب الأخذُ بها مُبيِّنةً، وطرح أيِّ اجتهادٍ عداها.
ومع كونِ «جُلِّ المفسِّرين على أنَّ القولَ في الآيةِ حقيقةٌ»
(2)
، فقد نَحى بعضُ المفسِّرين إلى تأويلِ الآية على المجاز، فنَفوا حقيقةَ الحوارِ بين الله تعالى والنَّار
(3)
، وآخرونَ منهم توقَّفوا في ترجيحِ المُراد
(4)
، إلَّا أنَّهم لم يُقدِموا على ما أقدمَ عليه هؤلاء المُحدَثونَ من الغَمزِ في الحديثِ! إذ كانوا أعقلَ وأكثر اتِّساقًا مِن أن يُنكروا لفظَ خَبرٍ مثلُه كائنٌ في كتابِ الله.
أمَّا قول المُنكرِ في المعارضة السَّادسة أنَّ في الحديث تبرُّمَ الجنَّة مِمَّن فيها من الضَّعفة .. إلخ، فجوابه:
أنَّ المَفهومَ مِن ظاهرِ الحديث معنَيان، لا أرى الحقَّ يحيد عن أحدِهما:
المعنى الأوَّل: أنَّ الجنَّة والنَّار تخاصَمتا في الأفضلِ منهما، فأقامَت كلُّ واحدةٍ منهما الحجَّة على أفضليَّتها.
وهذا المعنى أبان عنه أبو زرعة العِراقيُّ (ت 826 هـ) بقوله: «الظَّاهر أنَّ المُراد بتحاجُج الجنَّة والنَّار: تخاصمُهما في الأفضلِ منهما، وإقامةُ كلٍّ منهما الحجَّة على أفضليَّتها، فاحتجَّت النَّار بقهرِها للمُتكبِّرين والمتجبِّرين، واحتجَّت الجنَّة بكونِها مَأوى الضُّعفاء في الدُّنيا، عوَّضهم الله تعالى عن ضعفهم الجنَّة،
(1)
«الانتصاف فيما تضمنه الكشاف ـ المطبوع بهامش الكشاف للزمخشري» (4/ 388).
(2)
«غرائب التفسير وعجائب التأويل» للكرماني (2/ 1133).
(3)
انظر مثلًا «الكشاف» للزمخشري (4/ 392)، و «أنوار التنزيل» للبيضاوي (5/ 230).
(4)
انظر مثلًا «البحر المحيط» لأبي حيان (8/ 126)، و «التحرير والتنوير» لابن عاشور (10/ 131).
فقطع سبحانه وتعالى التَّخاصمَ بينهما، وبيَّن أنَّ الجنَّة رحمتُه، أي: نعمتُه على الخلق، .. وأنَّ النَّارَ عذابه النَّاشئ عن غضبه، وإرادةِ انتقامِه جلَّ وعلا»
(1)
.
والمعنى الثَّاني: أنَّ المحاجَّة والتَّخاصُمَ بينهما ليسَ للمغالبة، بل بمعنى حكاية كلٍّ منهما بما اختُصَّت به على وجهِ الشِّكاية
(2)
، كأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما تُنكِر ما ابتُليَت به.
وهذا المعنى ما أميلُ إلى كونِه الأرجح -إن شاء الله تعالى- لسياق الحديث؛ فانظر كيف ردَّ عليهما الله تعالى فقال للجنَّة: «أنتِ رحمتي» ، وللنَّار:«أنتِ عذابي» ! وكأنَّ فيه إفحامًا لكلٍّ منهما بما اقتضته مشيئته سبحانه وتعالى، بألَّا مَشيئة لهما إزاء مَشيئته.
وفي تقريرِ هذا المعنى، يقول الكُورَانيُّ (ت 893 هـ) في مَعرضِ ردِّه على أربابِ المَعنى الأوَّل:«إنَّ الخصام هنا مَجاز عن الشِّكاية، ألا تَرى إلى قول كلِّ واحدةٍ: (ما لها لا يدخلها إلَّا كذا -قول الجنة- من الضُّعفاء والسَّقط)، وقول النَّار: (ما لي لا يدخلني إلَّا المتكبِّرون والجبَّارون)؟ وهل يُعقل أن تفتخِر بمثلِ هذه الأشياء؟! وهل يُقال في معرضِ الافتخار: (ما لي)؟! ألا ترى قول سليمان: {مَالِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20]، كأنَّه يَرى نقصًا في مُلكِه! .. فقال الله للجنَّة: (أنتِ رحمتي، وللنَّار: أنت عذابي) أي: أنتما تحت مَشيئتي لا إرادة لكما»
(3)
.
وأمَّا استنكارُ المعترِض تنكُّرَ الجنَّة في الحديثِ لصِفاتِ مَن دخَلها، بكونِهم سَقطَ
(4)
النَّاس وضعفائِهم .. إلخ:
فيُقال: إنَّ شكايةَ الجنَّة مِن صِفةِ ساكنِيها هو باعتبارِ الأغلب لا الكُلِّ، فلا يدخل في الشَّكوى الأنبياء، والمُرسلون، والملوك العادلة، والنُّبلاء مِن أهل
(1)
«طرح التثريب» (8/ 178).
(2)
انظر هذا المعنى في «الكاشف عن حقائق السنن» للطيبي (11/ 3596)، و «إكمال إكمال المعلم» للأبيِّ المالكي (7/ 217).
(3)
«الكوثر الجاري» للكوراني (11/ 250).
(4)
قال ابن هبيرة في كتابه «الإفصاح» (7/ 222): «سُمُّوا سَقطًا على معنى أنَّهم لا يُكرمون بصدر المجالس، ولا يُفتقدون إذا غابوا، ولا يعُرفون إذا حضروا، وهذا هو الأغلب من صفة أهل الجنَّة» .
العلم، ونحوهم، و «الأشياء تُوصَف بغالِبها، لأنَّ الجنَّة قد يدخُلها غيرُ الضُّعفاء، والنَّارُ قد يدخلها غير المتكبِّرين»
(1)
، هذا أوَّلًا.
وثانيًا: يمكن أن يُقال هنا: بأنَّ شِكاية الجنَّةَ هي مِن ذاتِ الصِّفاتِ، لا مِن المتَّصِفين بها، بمعنى أنَّها كرِهت أن يكونَ الضَّعف والمَسكنة صفةً لأهلها، وإن كانت هي في واقعِ الأمرِ فَرِحةً بهم، راضِيةً عن أشخاصِهم، والله تعالى أعلم.
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (13/ 437).