الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الرابع
دراسة ما أعلَّه أحمد بن حنبل (ت 241 هـ) وهو في أحد «الصَّحيحين»
الحديث الأوَّل:
أخرج الشَّيخان مِن حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُهلِكُ النَّاسَ هذا الحَيُّ مِن قريش» قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «لو أنَّ النَّاسَ اعتزلوهم»
(1)
.
ذكر (الكرديُّ)
(2)
و (جمال البنَّا)
(3)
أنَّ أحمد أنكره، بدلالةِ أمرِه وَلَدَه عبد الله بالضَّربِ عليه، كما هو مُثبَتٌ في «مُسنَدِه» عقِب سَوقِ هذا الحديثِ، حيث قال عبد الله:«قال أبي في مَرَضِه الَّذي ماتَ فيه: اِضرِبْ على هذا الحديث، فإنَّه خِلافُ الأحاديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، يعني قوله: «اِسمَعوا، وأطيعوا، واصْبِروا»
(4)
.
(1)
أخرجه البخاري (ك: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، برقم: 3604)، ومسلم (ك: الفتن وأشراط الساعة، باب: لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيتمنى أن يكون مكان الميت من البلاء، برقم: 2917).
(2)
«نحو تفعيل نقد متن الحديث» (ص/63).
(3)
«تجريد البخاري وسلم» (ص/20).
(4)
«المسند» لأحمد (13/ 383، برقم: 8006).
فظاهرٌ من كلامِ أحمدَ إنكارُ الجملةِ الأخيرة مِن الحديث فقط: «لو أنَّ النَّاس اعتزلوهم» .
لكن قيل: ليس فيه تضعيفٌ للحديث! ولكن قاله منعًا لفُشوِّ ما ظاهره الخروج على الوُلاةِ
(1)
، خوفًا مِن قصورِ فهمِ بعضِ النَّاس له، فيُظنُّوا أنَّ الاعتزال معناه المُحاداة والخروج، فيَقعوا بذلك في مفاسد أشَدَّ؛ وهذا تخريجُ أحمد شاكر (ت 1377 هـ) لكلامِه
(2)
، وتبِعَه عليه بعضُ المُعاصِرين
(3)
.
وكلام أحمد يَأْبى هذا التَّأويل، فإنَّه ظاهرٌ في إنكارِ متنِه، فقد نَصَّ على كونِه مُخالفًا لمِا تَظافرت به السُّنةِ مِن الأمرِ بالسَّمع، والطَّاعة، ولزومِ الجماعةِ، وتركِ الشُّذوذ والانفرادِ؛ فأيُّ محلٍّ للاجتهاد في صرفِ كلامِه عن معناه مع نَصِّه على مُرادِه؟!
ومِمَّا يَشهد على أنَّه يُعِلُّ الحديث حقيقةً: صَريحُ ما نقله عنه تلميذُه المَرُّوذي (ت 275 هـ) من نَبْزه للحديث بقولِه: «هو حديثٌ رَديءٌ أُرَاه، هؤلاء المعتزلة يَحتجُّون به، يعني في تَرْكِ حضورِ الجُمعة»
(4)
؛ فلو كان الحديث صحيحًا عند أحمد، ما كان أبعَدَه أن يَصِفَه بالرَّديء
(5)
!
نعم؛ لا يَمنع مِن تعليلِه إيَّاه أن يمسَحه مِن «مُسنَده» لمِا يخاف أيضًا مِن
(1)
يقول ابن حجر في «الفتح» (1/ 225): «وممَّن كره التحديث ببعضٍ دون بعضٍ: أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان» .
(2)
في تخريجه لـ «مسند أحمد» (8/ 118).
(3)
كبشير علي عمر في كتابه «منهج الإمام أحمد في إعلال الحديث» (2/ 947)، و (علي رضا) في «مجموع رسائله الحديثية» (2/ 382) وكاد يجزم به!
(4)
«الورع» لأحمد برواية أبي بكر المروذي (ص/45)، و «المنتخب من عِلل الخلال» لابن قدامة (ص/163).
(5)
وهذا الذي فهمه أيضا جماعة من أهل العلم من كلام أحمد في هذا الحديث، كابن الجوزي في كتابه «كشف المشكل من حديث الصحيحين» (3/ 471)، وابن القيم في «الفروسية» (ص/266) وغيرهم.
مَفسدتِه أن يكون مَطِيَّةً لأهل الأهواء للخروجِ على الإمام؛ وإلَّا ففي «مُسندِه» أحاديث مَعلولةٌ كثيرةٌ لم يأمر بالضَّربِ عليها، إذْ لم يشتَرط هو الصِّحة
(1)
.
فلذا تَعقَّب أحمدَ في إعلالِه لمتنِ الحديث عَددٌ من العلماء، ونفوا تعارضه مع أصل الطَّاعة، فينقُل عنهم ابن القيِّم وجهَ الحديثِ بقولِه:« .. هذا في أوقاتِ الِفتَن والقِتالِ على المُلك، ولزومُ الجماعةِ في وقتِ الاتِّفاق والتِئام الكلمةِ؛ وبهذا تجتَمِعُ أحاديثُ النَّبي صلى الله عليه وسلم الَّتي رَغَّب فيها في العُزلةِ والقعود عن القتالِ، ومَدَح فيها مَن لم يكُن مع أحدِ الطَّائفتين، وأحاديثَه الَّتي رَغَّب فيها في الجماعةِ والدُّخول مع النَّاس؛ فإنَّ هذا حالُ اجتماعِ الكلمةِ، وذاك حالُ الفتنةِ والقتالِ، والله أعلم»
(2)
.
هذا ما أقرَّه المُحقِّقون مِن الشُرَّاحِ في معنى الحديث
(3)
؛ وما خَشِيَه أحمد مِن معنى الحديث أن يُؤدِّي إلى مَفسدة
(4)
قد أثبتَ ابنُ بطَّالٍ (ت 449 هـ) من معناه
(1)
على خلاف ما ذهب إليه أبو موسى المديني في «خصائص مسند الإمام أحمد» (ص/16 - 18)، حيث زعم أنَّ أحمد لم يروِ فيه إلَّا ما صحَّ عنده.
(2)
«الفروسية» لابن القيم (ص/266).
(3)
انظر «الإفصاح» لابن هبيرة (6/ 444)، و «الإحكام» لابن حزم (3/ 36)، و «إكمال المعلم» للقاضي عياض (8/ 460)، و «كشف المشكل» لابن الجوزي (3/ 471)، و «عمدة القاري» للعيني (16/ 139)، و «فتح الباري» لابن حجر (13/ 10).
(4)
وإلى يومنا هذا، لايزال هذا الفهمُ للحديثِ - كما خشيه الإمام أحمد - قابعًا في عقولِ كثيرٍ من منظِّري بعضِ الأحزابِ الإسلاميَّة المناكفةِ للسُّلطةِ السِّياسية في بعض البلدان الإسلاميَّة! بله في بلدنا المغرب، وا أسَفاه! حيث اتَّخذوه وأمثالَه من الأحاديث مطيَّةً لتسويغِ نهجهم التَّصادميِّ، وذريعةً شرعيَّةً -زعموا- لإسقاطِ ما لا يرتضونه من السَّاسة ولو بالقوَّة.
فهذا مثالٌ لما أقول: مَقالٌ لأحَدِ رُوَّادِ الفكر في إحدى الجماعاتِ الإسلامية في المغرب، عنون لها بـ «نظرات في فقه الاعتزال السياسي» ، منشور بتاريخ 17 أكتوبر 2015 م على الموقع الرَّسمي «لجماعة العدل والإحسان» ، يقول معلِّقًا على الحديث:
نقيضَ ما خَشِيَه أحمد! حيث جعله «حُجَّةً لجماعةِ الأمَّةِ في تركِ القيامِ على أئمَّة الجَور، ووجوبِ طاعتِهم، والسَّمعِ والطَّاعةِ .. وأنَّه مِنْ أقوى ما يُرَدُّ به على الخوارج»
(1)
!
قلت: لعلَّ ما جَرَّأَ أحمدَ على تعليلِ هذا الحديث ما رآه من تَفرُّد شُعبة بن الحجَّاج (ت 160 هـ) بجملةِ الاعتزالِ في آخرِه، حيث جاء الحديث مِن أوجهٍ أخرى صحيحةٍ ليس فيها تلك الجملة، فرآه مِن غرائب شُعبة، كما قاله ابن حَجر
(2)
.
لكن شُعبة قد رَواه على الوَجهين جميعًا! بجملةِ الاعتزالِ وبدونِها، وكِلا الوَجهين رواتُهما ثِقات أثبات
(3)
، وهذا إن دَلَّ على شيءٍ فعلى ضبطِ شُعبة للحديث على كِلا الوَجهين؛ بل الأقربُ مِن حيث الصَّنعة أنْ تكونَ روايةُ الوجهِ الَّذي بجملةِ الاعتزالِ أصحَّ مِن الَّتي بدونها
(4)
.
فلهذا كلِّه لم يَتَردَّد البخاريُّ ومسلم في إخراج رواية شعبة بجملةِ الاعتزالِ، ليتَبيَّن غَلطُ شيخِهما أحمدَ في تعليلِه إيَّاها، والله يأجُره على اجتهادِه.
(1)
«شرح صحيح البخاري» لابن بطال (10/ 10).
(2)
ذكر هذا ابن حجر في «الفتح» (6/ 615).
(3)
فقد شارك شعبةُ سفيانَ الثَّوريَّ وأبا عوانةَ وابنَ أبي زائدةَ في روايةِ هذا الحديث: عن سِماك، عن مالك بن ظالم، عن أبي هريرة، دون ذلك اللَّفظِ.
ثمَّ رواه شعبة باللَّفظِ الزَّائد من طريقٍ آخر: عن أبي التَّياح يزيد بن حميد، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة؛ وانظر تخريج هذين الوجهين في «المسند الجامع» (18/ 381)، و «المسند المصنف المعلَّل» (34/ 497).
(4)
فإن رواية مالك بن ظالم فيها اختلاف، فمرة يروى عنه أنه عبد الله بن ظالم، وأخرى عن مالك بن ظالم، انظر هذا الاختلاف في «تعجيل المنفعة» لابن حجر (2/ 225).
وقال الأزدي -كما في «ميزان الاعتدال» (3/ 427) - عن رواية مالك هذا عن أبي هريرة هذا الحديث: «لا يتابع عليه» ،
الحديث الثَّاني:
روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(1)
.
فقد ذكرَ (الكرديُّ)
(2)
أنَّ أبا عليٍّ الجيانيَّ (ت 498 هـ) نقلَ عن أحمدَ تكلَّمه في هذا الحديثِ بقولِه: «هذا الحديث غير مَحفوظ، قال: وهذا الكلام لا يُشبه كلامَ ابنِ مَسعود، وابنُ مسعود يقول: اصْبِروا حتَّى تَلْقوني» .
وقد أحالَ (الكرديُّ) هذا النَّقلَ إلى النَّووي في شرحِه لـ «صحيح مسلم»
(3)
، وجهل أنَّ النَّوويَّ إنَّما أخَذَه عن عِياضٍ في شَرحِه «الإكمال»
(4)
، الَّذي نَقَله بدَورِه مِن كتابِ الجِيَّاني حيث تَعَقَّب مُسلمَ بن الحجَّاج
(5)
، ومَصدر هذا النَّص عن أحمد في «مَسائل أبي داود لأحمد» !
وبرجوعنا إلى هذا الأصلِ وتَركِ تلك الوَسائط، وجدنا أنَّ أبا داود يَنقُل عن شيخهِ أحمد كلامًا مُختلِفًا عمَّا نَقَلته هذه الوسائط عنه! يقول هو فيه:«سَمِعتُ أحمدَ ذكَرَ حديثًا لصالح بنِ كيسان، عن الحارثِ بن فُضيل الخَطمي، عن جعفر بنِ عبد الله بنِ الحَكم، عن عبد الرَّحمن بنِ المِسْور بنِ مخَرمة، عن أبي رافعٍ، عن عبد الله بنِ مَسعود، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «يكون أُمَراء يَقولون ما لا يَفعلون، فمَن جاهدَهم بيَدِه .. » .
(1)
أخرجه مسلم (ك: الإيمان، باب: كون النهي عن المنكر من الإيمان، برقم: 50).
(2)
«نحو تفعيل نقد متن الحديث» (ص/65).
(3)
«شرح صحيح مسلم» للنووي (2/ 28).
(4)
«إكمال المعلم» للقاضي عياض (1/ 292).
(5)
«تقييد المهمل وتمييز المشكل» لأبي علي الجياني (3/ 776).
قال أحمد: جعفر هذا هو أبو عبد الحميد بن جعفر، و (الحارث بن فضيل) ليس بمَحمودِ الحديث
(1)
، وهذا الكلام لا يُشبه كلامَ ابنِ مسعود، ابنُ مسعود يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصْبِروا حتَّى تَلقوني»
(2)
.
فبَانَ بهذا النَّص أنَّ كلامَ أحمد مُتَّجِّهٌ إلى لفظٍ آخرَ للحديث، ليس هو لفظُ مسلمٍ محلُّ البحث كما أوهَمَته عبارةُ الجيَّاني!
فالمَنكور عند أحمد هو الَّذي بلفظِ «الأُمَراء» ، أمَّا ما في «صحيحِ مسلم» فبلفظ:«خُلوف» ، وفَرقٌ بين اللَّفظين مِن جِهة المعنى؛ فالأولى قد أعلَّها أحمد لكونِ ظاهرِها بابًا للخروجِ على الوُلَاة
(3)
، أمَّا الَّتي في «مسلم»: فليس للأُمراءِ فيها ذِكرٌ، فـ (الخُلوف) جَمع خَلْف، «وهو القَرنُ بعد القَرن، واللَّاحقُ بعد السَّابق»
(4)
، وهذا عامٌّ في النَّاس.
وأحسَبُ أنَّ هذا القَدْر مِن البَيانِ كافٍ في نَقضِ دَعوى (الكرديِّ) في نسبةِ تعليلِ هذا الحديث الَّذي بلفظِ مسلمٍ إلى أحمد.
لكن يبقى الإشكال في مَوضِعين مِن كلامِ أحمدَ:
الأوَّل: ذِكرُه للحديثِ الَّذي بلفظ «الأمراء» في «مسائلِ أبي داود له» ، بنفسِ السَّنَد الَّذي أخرج به مسلم حديثَ «الخلوف» ! مِن طريق (صالح بن كيسان)، عن (الحارث بن فضيل) إلى آخر السَّند؛ مع أنَّي لم أقِف على طَريقٍ عن صالحٍ هذا
(1)
وفي رواية المهنَّى بن يحيى عنه: «غير محفوظِ الحديث» ، «تهذيب التهذيب» (2/ 265).
وقد خالف أحمد بحكمه هذا عليه جمهور النُّقاد وقد وثَّقوه، ولا ريبَ أنَّ كلامَهم مُقدَّم على جرحِه إيَّاه مِن غير بيِّنة مفسِّرة، اللَّهم إلَّا إن كان هذا الحديث نفسَه ما اقتضى تجريحه عنده! ولذلك لم يعتبر كلامَه فيه أحدٌ مِمَّن صنَّف في «الرِّجال» مِن المتأخِّرين بخاصَّةٍ.
(2)
«مسائل الإمام أحمد» برواية أبي داود السجستاني (ص/418)، ونقله عنه الخلَّال بنفس لفظِه في كتابه «السُّنة» (1/ 142).
(3)
وقد تُعقِّب أحمد في إنكارِه لمتنِ هذا الحديث، وبيَّنَ العلماء وجهَه الصَّحيح، منهم ابن رجبٍ في «جامع العلوم والحكم» (2/ 249)، وابن الصَّلاح في «صيانة صحيح مسلم» (ص/209).
(4)
«المُفهم لما أشكل من صحيح مسلم» لأبي العباس القرطبي (1/ 236).
بلفظِ «الأمراء» ! فكُلُّها بلفظِ «الخلوف»
(1)
، وتَابعَه عليه (عبد العزيز الدَّراوَردي)
(2)
.
أمَّا لفظ «الأمراء» : فمَرويٌّ مِن طريقِ (عبد الله بن جعفر المَخرمي)
(3)
عن (الحارث بن فضيل)، قال فيه:«خَوَالف أُمَراء»
(4)
، وهو عند أحمد في «مُسنده» ، لكنْ من دونِ ذكرِ «الجهادِ» في آخرِه
(5)
؛ وهذا سند مَقبولٌ عند أحمد إلى (الحارث بن فضيل)
(6)
.
يتحصَّل بهذا أنَّ (الحارث بنَ فُضيل) قد ثَبَت عند أحمد أنَّه مَرويٌّ عنه بكِلا اللَّفظين: بلفظِ «الخلوف» : مِن طريق صالح بن كيسان عنه، مع جملة «المُجاهدة» في آخره؛ وبلفظِ «الأمراء الخَوالف»: مِن طريق المخرميِّ عنه، بدون جملة «المجاهدة» .
(1)
كما أخرجه أحمد نفسه في «مسنده» (7/ 387، برقم: 4379).
ولعلَّ هذا ما أوهمَ الجيَّاني ومن تابعه كالقاضي عياض وابن الصَّلاح والنَّووي وغيرهم أنَّ أحمد قد تكلَّم في حديث مسلمٍ بذاته الَّذي بلفظِ «الخلوف» !
(2)
أخرجه مسلم (ك: الإيمان، باب: كون النهي عن المنكر من الإيمان، برقم: 50)، والطبراني في «المعجم الكبير» (10/ 13، برقم: 9784) وابن حبان في «صحيحه» (14/ 73، برقم: 6193) لكن بلفظ «أقوام» .
والدراوردي: صدوق، كان يحدث من كتب غيره فيخطئ كما في «التقريب» ، ومتابعة ابن كيسان له دليل على ضبطه لهذه الرواية.
(3)
هو ثقة عند أحمد في الجملة، انظر «موسوعة أقوال الإمام أحمد في رجال الحديث وعِلله» (2/ 234).
ورَاوي هذا الحديث عنه (أبو سعيد البصري) كان أحمد يرضاه أيضًا، وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عبيد، مولى بني هاشم، وانظر كلامه فيه في «تهذيب الكمال» (17/ 219)، وقال ابن حجر في «التَّقريب»:«صدوق ربَّما أخطأ» .
(4)
أخرجه الطبراني في «المعجم الأوسط» (1/ 43، برقم: 98)، وابن بطة في «الإبانة» (1/ 212، برقم: 54).
(5)
«المسند» لأحمد (7/ 411، برقم: 4402) بلفظ: «خوالف أمراء» ، وكذا رواه من غير لفظ المجاهدة الطبراني في «الأوسط» (9/ 50، برقم: 9107).
(6)
مع ما يُضمُّ إليه من متابعةٍ قاصرةٍ له أودعها «مسندَه» (7/ 374، برقم: 4363): مِن طريق عامر بن السَّمط، عن معاوية بن إسحاق، عن عطاء بن يسار، عن ابن مسعود به، ورجال هذا الإسناد ثقات، على اختلاف في سماع عطاء من ابن مسعود، وجزم أبو حاتم الرازي بعدمِه، كما في «المراسيل» لابنه (ص/156).
وغَرضي: بيانُ كونِ (ابنِ كيسان) هذا لم يُروَ عنه لفظُ «الأمَراءِ» أصلًا حتَّى يَستنكِره عليه أحمد! وكأنَّ أحمد وَهم فيه، حيث خَلَّط في كلامِه بين روايةِ ابن كيسان وروايةِ غيرِه -والله أعلم-.
ثمَّ على التَّسليمِ بصحَّةِ لفظةِ «الأُمراء» عن (المَخرميِّ): فينبغي مُعارَضتها بروايةِ (صالح بن كيسان)؛ وصالحٌ هذا لوحدِه أوثقُ وأجَلُّ مِن (المخرميِّ) بدَرجاتٍ، فضلًا عن مُتابعةِ (الدَّراوردي) له في لفظه!
مِمَّا لا يَدع مجالًا للشَّكِ عندي بأنَّ زيادةَ (المخرميِّ) للفظِ «الأمراء» هي مِن أوهامِه، يبلُغ بها الحكمَ بالشُّذوذ، خصوصًا أنَّها تُسبِّبُ إشكالًا في معنى الحديث.
والَّذي جَرَّأني على تخطِئةِ هذا الإمام الكبير قرينةٌ أخرى في كلامِه تُلَوِّح بخَطَئِه:
وهو ما عنيته بالمَوضع الثَّاني مِن مُشكِل كلامِ أحمد:
حيث نَسَب حديثَ «اصْبِروا حتَّى تَلقوني» إلى روايةِ ابنِ مسعود رضي الله عنه، وابنُ مَسعود لم تَصحَّ روايةٌ عنه بهذا اللَّفظ أصلًا! بل هي روايةُ غيرِه مِن الصَّحابةِ
(1)
، أمَّا ابن مسعود فقد رَوى حديثَ:«أنا فَرَطُكم على الحوضِ»
(2)
؛ والله أعلم.
(1)
وهم: أسيد بن حضير، وأنس بن مالك، وعبد الله بن زيد بن عاصم، وكعب بن عجرة، انظر رواياتهم لهذا الحديث في «المسند المصنف المعلل» (1/ 344)(3/ 528)(4/ 225)(11/ 254)، ويتبيَّن أيضًا عدم رواية ابن مسعود لهذا الحديث بخلوِّ أحاديثه التي في «تحفة الأشراف» للمزِّي مِن هذا الحديث بهذا اللَّفظ الَّذي ذكره أحمد.
(2)
كما عند البخاري في (ك: الرقاق، باب: في الحوض، برقم: 6575)، ومسلم (ك: الفضائل، باب: إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته، برقم/2297).
وبعد؛
فبعد هذا العرض والنَّقدِ لِما استُشهِد به مِن كلامِ الأئمَّة الأربعةِ على تَعليلِ بعضِ أحاديث «الصَّحيحين» ، يَتبيَّنُ أنَّ أغلبَ ما سِيق لهم من أمثلةٍ في ذلك، إنَّما هي في صَالحِ الشَّيخينِ، لم تخالفهما فيما صَحَّحاه مِن أخبارٍ؛ فلم يَثبُت عن أحدٍ من أولئك الأئمَّة المتبوعين كلامٌ فيه على وجه التَّحقيق، وإنَّما هو سوء فهمٍ للمُستشهِد المُعاصِر.
ولم أجِدَ مِمَّا أعَلَّه الأربعة مِمَّا خَرَّجه أحدُ الشَّيخينِ على وجهِ التَّحقيقِ إلَّا ثلاثة أحاديث، تَكلَّم الشَّافعيُّ في اثنين: أخطأَ في الأوَّل، وتُرك فيه قوله؛ والحديث الثَّاني فيه خلاف قديم بين النُّقاد، فيخرج من حيِّز التَّلقِّي، مع أنَّ مسلمًا إنَّما أخرجه في المُتابعات لا الأصول.
وتَكلَّم أحمدُ في واحدٍ، قد أثبتُّ غلَطَه فيه.
فصَوَّبتُ تصحيحَ الشَّيخين لهذه الثَّلاثة كلِّها، وجمهورُ أتباعِ مَذهبِي الشَّافعي وأحمد على قَبولِ هذه الثَّلاثة أيضًا؛ فيكون الخلاف فيها قديمًا، ثمَّ اندثر بتتابع العلماء على قبولها.
والحمد لله على ما وَّفق ويسَّر.