الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الأوَّل
أقسام الأحاديث المُعلَّة في «الصَّحيحين» من قِبَل المُتقدِّمين
لأجل أن تُفهمَ طبيعة التَّعليلِ القديم لأحاديثِ الكِتابين، والَّتي كانت سِمةً للعَمليَّة النَّقدية للمُحدِّثين الأُوَل، فتُتصوَّر على مُراداتِ أصحابِها ومناهجهم فيها، نُسهِّل سُبل تحصيلها للمُبتدي بإيجازٍ، عبر تقسيمِ ما تُكلِّم فيه من «الصَّحيحين» إلى أربعةِ أقسامٍ نوعيَّة، كلُّ قسمٍ نُتبعه بحكمِه ومسالكِ الأئمَّة في التَّعامل معه.
هذه الأقسام قد أشار إليها ابن حجر في معرض تقيِيمه لما وُجِّه إلى أحاديث البخاريِّ من تعليلات بقوله: «ليست كلُّها قادحة، بل أكثرها الجواب عنه ظاهر، والقدح فيه مندفع، وبعضها الجواب عنه محتمل، واليسير منه في الجواب عنه تَعسُّف»
(1)
.
فأمَّا القسم الأوَّل: فما أخرجه أحد الشَّيخين مِن طريقٍ فيه كلامٌ، لكن جاء مِن طُرق أخرى صَحيحة في نفس كتابيهما.
فهذا النَّوع يُعِلُّ النَّاقد فيه الرِّواية الَّتي جاءت بهذا الإسنادِ المُتكلَّم فيه، لا أصل الحديث؛ وهذا القسم أمره سهل لا إشكال فيه.
وأمَّا القسم الثَّاني: فأن يُخرج الشَّيخانِ أو أحدهما حديثًا مِن طريقٍ مُتكَلَّم فيه، وله طُرقٌ أخرى أو شواهد عاضدة عند غيرهِما مِن أصحاب المُصنَّفاتِ الحديثيَّة.
(1)
«هدى الساري» (ص/348، 383).
ولا إشكال في هذا القِسم كسابقه، فإنَّ الحديث في النِّهاية صحيحٌ وإن ضَعفَّ النُّقاد طريقَه الَّتي في «الصَّحيحين» ، وقد يُصرِّحون هم بصحَّتِه مِن تلك الطُّرق الأخرى
(1)
؛ وإنَّما يختار الشَّيخان هذا الطَّريق المُتكلَّم فيه لفائدة ما، سيأتي عليها البيان.
فهذان القِسمانِ الأوَّل والثَّاني حالُ أغلبِ المُعَلِّ في «الصَّحيحين» ! والشَّيخان إنَّما أوردا أغلبَ أمثلتهما في المُتابعاتِ والشَّواهد
(2)
لا في الأصولِ
(3)
، إذ جَرَت عادَتُهما في هذا النَّوع مِن الأحاديث على تخفيفِ حِدَّة النَّقدِ فيها، بخلافِ أصول الأبواب المُصفَّاةِ للصَّحيح الصِّرف.
ثمَّ كثيرًا ما يكون غَرضُهما مِن إيرادِ هذه الرِّواياتِ المُتكلَّمِ فيها (الإشارةُ إلى الخلافِ عليها)، فإنَّهما لا يكَادان يَرويان لفظًا مُنتقدًا في «صحيحيهما» إلَّا ويَرويان اللَّفظَ الآخر الَّذي يُبيِّن أنَّه مُنتَقد
(4)
؛ فلا يصحُّ الاستدراك عليهما في مثل
(1)
انظر أمثلةً لهذا التصحيح من وجوه أخرى لما نتُقد في «الصحيحين» في مقدمة تحقيق «التتبع والإلزامات» للدارقطني (ص/6)، و «الأحاديث المنتقدة في الصحيحين» لمصطفى باحو (1/ 72).
(2)
المتابعة: أن يُوافَق راوي الحديث على ما رواه مِن قِبل راوٍ آخر فيرويه عن شيخه أو عمَّن فوقه.
يقول ابن حجر في «النُّزهة» (ص/74 - 75): «لا اقتصار في هذه المتابعة على اللَّفظ، بل لو جاءت بالمعنى لكفت، لكنها مختصة بكونها من رواية ذلك الصحابي، وإن وجد متن يروى من حديث صحابي آخر يشبهه في اللَّفظ والمعنى، أو في المعنى فقط فهو الشَّاهد.
وخصَّ قوم المتابعة بما حصل باللَّفظ، سواء كان من رواية ذلك الصَّحابي أم لا، والشَّاهد بما حصل بالمعنى كذلك، وقد تطلق المتابعة على الَّشاهد وبالعكس، والأمر فيه سهل».
والمقصود بكلٍّ منهما هو تقوية الحديث، ولذا فلا انحصار للمتابعاتِ في الثِّقات، كما نبَّه عليه ابن الصَّلاح في «مقدمته» (ص/84) قائلًا:«اعلم أنَّه قد يدخل في باب المتابعة والاستشهاد رواية من لا يحتجُّ بحديثه وحده، بل يكون معدودًا في الضُّعفاء، وفي كتابي البخاري ومسلم جماعة من الضُّعفاء ذكراهم في المتابعات والشَّواهد، وليس كل ضعيف يصلح لذلك» .
يقول السَّخاوي في «فتح المغيث» (1/ 257): «قد يكون كلٌّ من المتابِع والمتابَع لا اعتماد عليه، فباجتماعهما تحصل القوَّة» !.
(3)
انظر الفرق بين أحاديث الأصول والمتابعات لدى الشَّيخين في «الموقظة» للذهبي (ص/79 - 80)، و «هُدى السَّاري» لان حجر (ص/384).
(4)
نبَّه على هذا ابن تيمية في «منهاج السنة» (7/ 216).
هذه المواطن، ولو تنبَّه النَّاظر إلى أنَّ «الصَّحيحين» ليسا كتابي سرد للحديث المَحضٍ، بل هما من كتب التَّعليل أيضًا -ولو على قلَّته فيهما- لانحلَّت له الكثير من الإشكالات المنتشرة اليوم بخصوص بعض أسانيد الكتابين.
أو يكون إيراد الشَّيخان للسَّند المُتكلَّم فيه رغبةً للعُلوِّ في الإسنادِ، ويكون أصلُ حديثه مَعروفًا مِن رواية الثِّقاتِ؛ وبهذا أجاب مسلمٌ أبا زُرعةَ الرَّازيَ (ت 264 هـ) حين بَلَغه إنكاره روايته في «صَحيحِه المُسند» عن رُواةٍ ضعفاءَ، كأسباطِ بنِ نَصر، وقَطن بن نسير، وأحمد بن عيسى، حيث قال:«إنَّما قُلت: صَحيح، وإنمَّا أدخلتُ مِن حديثِ أسباطَ وقَطن وأحمد ما قد رَواه الثِّقات عن شيوخِهم، إلَّا أنَّه ربَّما وَقَع إليَّ عنهم بارتفاع، ويكون عندي مِن روايةِ مَن هو أوثقُ منهم بنزولٍ، فأقتصِرُ على أولئك، وأصلُ الحديث مَعروف مِن روايةِ الثِّقات»
(1)
.
وهذا كلُّه على فرضِ كونِ تلك التَّعليلات المُوجَّهةِ لأحاديث «الصَّحيحين» صحيحة في ذاتها! وإلَّا فإنَّ كثيرًا منها غير مُعتبر عند المُحقِّقين
(2)
.
أو يكون المُعِلُّ لم يذكُر ما ظاهره التَّعليل إلَّا على وجهِ الاحتمالِ
(3)
.
أو يكون إعلالهم يَسيرًا غير مُؤثِّر في أصل صحَّةِ الرِّواية، بحيث يكون الجوابُ عنه مُتَناولًا
(4)
.
(1)
«الضُّعفاء» لأبي زرعة الرازي (ص/676).
(2)
كأن يُعلِّل ابن القطَّان الفاسي أحاديث باختلاطِ رُواتِها أو تدليسِهم، ويتبيَّن بجمعِ الطُّرق أنَّ الرُّواة عن المختلط قد أخذوا عنه قبل اختلاطه، أو أنَّ الشَّيخين أو غيرهما خرجوها من طُرق صرَّح فيها المدلِّس بالسَّماع ونحو ذلك، انظر أمثلة لذلك في «بيان الوهم والإيهام» (4/ 344،345).
(3)
ويُبيِّن هو نفسُه صوابَ ما أخرجه الشَّيخانِ، في نفس الكتابِ، أو موطنٍ آخر، كأحاديث مَروية في «الصَّحيحين» بالإجازة والمراسلة، ذكرها الدارقطني في «التتبع» (ص/291، 305)، ثمَّ صرَّح بأنَّ مثل هذه الأحاديث حُجَّة في قبول الإجازة والمكاتبة، وكأنَّه يردُّ على بعض من لا يصِّحح حديث المكاتبة، انظر «منهج الإمام البخاري في تصحيح الأحاديث وتعليلها» لأبو بكر كافي (ص/222 - 223).
(4)
كأن يُغلِّطَ الشيخين أو أحدهما في اسم راوٍ، وهو يصحح الحديث لكن باسم الراوي الصحيح، انظر أمثلته في «الأحاديث المنتقدة في الصحيحين» (1/ 259، 291).
وبعد هذا البيانِ بأكملِه، يأتينا اليومَ من جَهَلةِ الإماميَّة ومَن يحذو حذوَهم في عَداوةِ السُّنن، مَن يطعنُ في «الصَّحيح» باكتشافِ رواة ضعفاء في بعض أسانيدهما! وهم يجدون البخاريَّ نفسَه يضعَّفهم في كُتب التَّراجم! فاستعصى عليهم حلُّ هذه المعادلة، لفرطِ جهلِهم بمناهج التَّصنيف الحديثيِّ، ثمَّ جهلهم بأنَّ علماء الإسلام مُتَّفقون على أنَّ البخاريَّ ومسلما قد يخرجان للضَّعيف انتقاءً إذا ثَبَت ضبطُه لحديث معيَّن، بأدلَّةٍ مُعتبرة عندهم وقرائن، قد مرَّ ذكر بعضها آنفا
(1)
.
وأمَّا القسم الثَّالث: فأنْ يُخرجَ الشَّيخان الحديثَ المُتكلَّم فيه، وله شَواهد ضعيفة ضَعْفًا يَسيرًا.
وهذا القسم أقلُّ القِسمين السَّابقين حَديثًا في «الصَّحِيحين» ؛ فإذا انضَمَّ إليها ورودُها مِن أوجهٍ أخرى في أسانيدها ضَعف يَسيرٌ، فلا رَيب أنَّها تَتَقوَّى بمجموعها، ويكون أقلُّ أحوالها أن تُبوَّأ رُتبةَ الحُسن.
(2)
.
وأمَّا القسم الرَّابع والأخير: فما أخرجَاه وأُعِلَّ بعِلَلٍ مُؤثِّرةٍ، لا يوجد له ما يُقوِّيه.
وهذا القسم صحيح الأصلِ (في أغلبِه)، لكن وَقَع في أحاديثه زياداتٌ مُرسَلة، أو مُدرجة، أو وَهمٌ مَا
(3)
؛ ولا يصل مَجموع أحاديثِ هذا القسمِ إلَّا إلى خمسة عشر حديثًا، أو قريبًا مِن ذلك
(4)
.
(1)
ولتفصيل هذه المسألة، يُنظر «منهج الحافظ ابن حجر في دفاعه عن رجال صحيح البخاري المتكلم فيهم» لصالح الصيَّاح (2/ 545).
(2)
«هدى الساري» لابن حجر (ص/349).
(3)
كالحديث الطَّويل الَّذي رواه شريك بن أبي نمر في الإسراء، حيث أنَّ أصله صحيح، لكن وقعت في روايته ألفاظ أعلَّها كثير من النُّقاد بلغت اثني عشر فقرةً، لبعضها شواهد، وبعضها أعلالها غير قادح، وبقيت ستة ألفاظ لا شاهد لها، انظر تخريجها في «الإسراء والمعراج» للألباني (ص/26).
(4)
وهو عَدُّ مصطفى باحو في كتابه «الأحاديث المنتقدة في الصحيحين» (ص/63)، ومنه استفدت هذا التقسيم للأحاديث المُعلَّة عندهما، وتجد في الكتاب أمثلةً كثيرةً عن كل قسم مِن الأربعة الَّتي ذكرتها، غير أنَّ المؤلِّف زاد قسمًا خامسًا جعله للأحاديث التي ذكر فيها الناقد تعليلا، ثم رجَّح ما أخرجه الشيخان، أو ضعَّف التَّعليل هو نفسه، كما فعله الدارقطني مرَّات، لكن استغنيتُ عن هذا القسم، لأنه في حقيقته ليس تعليلًا.
(1)
.
ويقول ابن حجر: «جملة أقسام ما انتقده الأئمَّة على «الصَّحيح» ، قد حرَّرتها، وحقَّقتها، وقسَّمتها، وفصَّلتها، لا يظهر منها ما يؤثِّر في أصل موضوع الكتابِ -بحمد الله- إلَّا النَّادر»
(2)
.
(1)
«منهاج السنة» لابن تيمية (7/ 216).
(2)
«هدى الساري» (ص/348، 383).