الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّاني
دَفعُ دعاوي المُعارضات الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن أحاديث الآياتِ الحسِّيَّة للنَّبي صلى الله عليه وسلم
فإنَّ أخبار الآيات الحِسيَّة الَّتي أجراها الله تعالى على يَدي نبيِّه صلى الله عليه وسلم كثيرة، بلغ بها بعض أهل الحديثِ مبلغَ التَّواتر المَعنويِّ، الَّذي لا شكَّ بعده في ثبوتها عنه من جِهة النَّقل.
يقول المَازريُّ: «مُعجزات النَّبي صلى الله عليه وسلم ضُروب.
فأمَّا القرآن: فمَنقول تواترًا.
وأمَّا مثل هذه المعجزة، ذلك فيها طَريقان:
أحدهما: أنْ تقول: تَواترت على المعنى، كتواترِ جُود حاتم، وحِلم الأحنف، فإنَّه لا تُنقل قصة بعينها في ذلك تواترًا، ولكن تكاثرت القِصص مِن جهة الآحادِ، حتَّى صارَ مَحصولها التَّواتر بالكَرَم والحِلم، وكذلك تَواترت مُعجزات سِوى القرآن، حتَّى ثَبَت انخراقُ العادةِ له صلى الله عليه وسلم بغيرِ القرآن.
والطَّريقة الثَّانية: أن تقول: فإنَّ الصَّاحب إذا رَوَى مثلَ هذا الأمرِ العجيبِ، وأحالَ على حضورِه فيه مع سائرِ الصَّحابة وهم يَسمعون روايتَه ودعواه حضورَهم معه، ولا يُنكرون ذلك عليه: فإنَّ ذلك تصديقٌ له، يوجب العلم بصحَّة ما قال»
(1)
.
(1)
«المُعلِم» للمازري (2/ 414).
أمَا وإنَّا معاشر المسلمين مُستيقِنون بكرامةِ الله لنبيِّه بتلك الآياتِ الباهرات، فإنَّا نقول في دحضِ ما شَغَّب به المُبطلون لهذه الكرامةِ الإلهيَّةِ، في دعوى أنَّ إثباتَ الآياتِ المادِّيَّة الحاصلةِ للنَّبي صلى الله عليه وسلم غيرُ متأتٍّ؛ لأنَّ الدَّليل الحسِّي لا يقوم بإثباتها:
إنَّ دعواكم هذه عَريَّة عن التَّحقيقِ وحُسنِ التَّصوُّر لِما يُحتَجُّ به مِن مناهج الاستدلال، وذلك أنَّ الحِسَّ ليس المَصدر الوَحيدَ للمعرفةِ، لم يكُن كذلك في تاريخ البشريَّة كلِّها ولن يكون، وخروج بعض المَعارف عن دائرتِها لا يَنفي عنها كونها حقائق ثابتة بمصدرٍ آخر صحيح مُعتبَر.
هذا ما قد صَرَّح به كثيرٌ مِن النَّاقدين للأديانِ من الغَربيِّين أنفسِهم، كان مِن أشهرِهم:(هِنْري بوانْكارِيه)(ت 1921 م) المَنعوتِ بـ «المُمثِّل النَّموذجي لنقدِ العِلمِ» ؛ فقد ألزَم الوَضعيَّةَ بأنَّ حصرَ الحقيقةِ في المنهجِ التَّجريبيِّ دعوى مُشبعة بقدرٍ من المجازفةٍ والتَّعميمِ المتعسِّف الَّذي لا برهان عليه
(1)
.
وذلك لأنَّ الحقائقَ المَوجودة في الكَوْنِ مُختلفةٌ في طبائِعها، ومتباينة في سِماتها؛ فالحقيقة الفيزيائيَّة -مثلًا- مختلفة عن الحقيقةِ الإنسانيَّة، والظَّواهر الإنسانيَّة مُباينةٌ للظَّواهر الكونيَّة، .. إلخ؛ فمِن غير المَعقول أن تُحصَر كلُّ هذه المجالات المتباينةِ في منهجٍ واحدٍ للتَّعامل معها، بل لا بدَّ مِن تَضافر عِدَّة مَصادر مَعرفيَّة وتكاملِها، لأجلِ استيعابِ جميعِ المُكوِّنات الوُجودِيَّة.
فلو افترضنا جدلًا أنَّ العِلْمَ التَّجريبيَّ استطاعَ الجوابَ عن كلِّ الأسئلةِ المَاديَّة التَّجريبيَّة، فإنَّ هناك ركامًا من الأسئلةِ الأخرى تبقى مُلقاةً على قارعة الطَّريق لا طاقةَ لمعاملِ التَّجريب في الجواب عنها! كونها لا تدخل في نظامِ بحثه من حيث طبيعتُها وماهيَّتها؛ كسُؤالِ الخَيرِ والشَّر، وسؤال الحكمةِ والتَّعليلِ، والمَبادئ والأخلاق، والغَيْبِيَّات، ونحو ذلك مِن الأسئلة الوجوديَّة الكبرى.
(1)
انظر شيئا من ترجمة (هِنْري بوانْكارِيه) وموقفه هذا في «مصادر وتيارات الفلسفة المعاصرة في فرنسا» لـ ج. بنروبي (ص/293).
مُحصِّل ما تقدَّم: أنَّ الحقائق العلميَّة لا يمكن حصرها في دائرة الحِسِّ والتَّجربة؛ ولكن طبيعة المَوضوع المَبحوث فيه هي الكفيلةُ بتَحديدِ المَنهجِ العلميِّ الأنسبِ له
(1)
!
ومع التَّسليم بعملِ المنهج الوضعيِّ على إثباتِ ما كان داخلًا في الحسِّ والتَّجربة، فإنَّه لا يَلزم مِن عَدم قدرةِ منهجٍ ما على إثباتِ شيءٍ نفيُه في حقيقة الأمر! ومِن ثَمَّ جاز لنا القول بأنَّ حكم الوضعيِّين على الآياتِ الحسيَّة بالبُطلان هو «خروجٌ عن مفهوم هذا المنهج نفسِه ووقوعٌ في التَّناقض! لأنَّ الحكمَ بالصِّحة والبطلان تحكُّم ميتافيزيقيٌّ، ليس مِن أصُولِ هذا المنهج ولا مِن شأنِه»
(2)
!
فمَنْ مارى في هذه الحقيقة المنهجيَّة، لا بدَّ أن تَجْبهَه مَعارفُ أضحَتْ حقائقَ لا تَقبَل الشكَّ عند أصحاب المنهج التَّجريبيِّ أنفسهم؛ مع أنَّها لم تُباشرْها الحَواسُّ، ولم تُدرَك في مَعامل البحث، ولم تخضع للتَّجريب!
(3)
ونفيُ المتأثِّرين برَهَج المنهجِ التَّجريبيِّ لآيات الأنبياءِ لكونِها بطريقِ النَّقلِ لا التَّجربة يَلزمُهم على قولِهم نَفيُ الحقائق التَّجريبيَّة الَّتي لم يُباشِرها النَّاس! ولم يدركوها بحواسِّهم! لأنَّها إِنَّما نُقِلَت إليهم نقلًا عمَّن جَرَّبها! فنفيُ الأوَّل دونَ الثَّاني تحكُّمٌ
(4)
.
وما أبلغَ تعبير بحَّاثة غَربيٍّ عن عَجزِ التَّجربةِ في إثباتِ جميعِ الحقائق، في اعترافٍ له آخرَ عُمْرِه يقول فيه: «إنَّ العلمَ يَصطاد في بحرِ الواقعِ بنوعٍ مُعيَّنٍ مِن
(1)
من أشهر فلاسفة العلمِ الَّذين نادوا بتعدُّد المناهج العلميَّة: الفيلسوف (باومر فيير أيند)(ت 1944 م)، حيث ألَّف كتابًا أسماه «ضدَّ المنهج: مخطَّط تمهيديٌّ لنظرية موضوعيَّة في المعرفة»، يقوم على فكرة أساسةٍ مفادها: أن العلم لم يكن أبدا أسيرَ منهج واحد محدَّد، وإنَّما عملت فيه مناهج متعدِّدة، اشتركت جميعًا في بناء هيكله، واستدلَّ بشواهد كثيرة من تاريخ العلم، انظر «فلسفة العلم في القرن العشرين» ليُمني الخولي (ص/367).
(2)
انظر «الفكر المادي الحديث وموقف الإسلام منه» لمحمود عبد الحكيم عثمان (ص/448).
(3)
انظر «الإسلام يتحدى» لوحيد الدين خان (ص/47).
(4)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/331 - 332).
الشِّباك، يُسَمَّى المنهجَ العلميِّ، وقد يكون في البحرِ الَّذي لا يُمكننا أن نَسبر غورَه، الكثير ممَّا تعجز شِباك العلم عن اقتناصِه»
(1)
.
وأمَّا دعوى (الجابريِّ) في المعارضِ الثَّاني: كون القرآنَ الآيةَ الَّتي اختُصَّ بها النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلا تكون له آيةٌ أخرى تخرق العادَة:
فهذه بيِّنة البطلان؛ لأنَّ الاختصاصَ بالقرآن لا يَقضي على الآياتِ الأخرى بالنَّفي، واستدلاله على نفيِه ذاك بقوله تعالى:{وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} : ليس له فيه مُستمسك؛ لأنَّ الإغلاقَ واقعٌ في إجابةِ أهلِ مكَّةَ فيما اقترحوه مِن الآياتِ بعينِها، وليس في مُطلق الآيات، لأنَّ (الـ) التَّعريف في قولِه:{الآيَاتِ} عَهديَّة، وسَيأتي تحقيقه قريبًا.
أمَّا حصول الكفايةِ بالقرآن: فهو حقٌّ لا نُماري فيه، فهي الآية الكبرى لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم، لكنْ لا يقتضي هذا نفيَ ما عداه مِن الآيات الحسيَّة الَّتي تواترت بها أخبار الثِّقات! فإنْ كان «القرآن مُعجِزًا ثابتًا بالتَّواتر اللَّفظي، فباقي المعجزاتِ بالتَّواتر المَعنَوِيِّ»
(2)
؛ ومثل هذه السُّنَن المُتناقلة مُفسِّرة للقرآن، ومبيِّنة لمُجمَلِه، فوُرود هذه الآيات ورودًا قطعيًّا من جِهة النَّقل مُبيِّنٌ عن المعنيِّ بالآياتِ.
(1)
«بساطة العلم» لـ بيك ستانلي (ص/229).
وللبروفيسور (سوليفان) كتاب خاصٌّ في هذه القضيَّة أسماه «حدود العلم» ، قد محَّض كاملَه للتَّأكيد على قصور العلم الإنسانيِّ، واستحالةِ إحاطته بكلِّ الحقائق الوجوديَّة، وإثبات أنَّ له حدودًا لا بدَّ أن يقف عندها، وأثبت أنَّ التَّحوُّلات العلميَّة في القرن العشرين تؤيِّد تلك النَّتيجة، فكان ممَّا قال فيه (ص/32): « .. لقد أصبحَ العلم شديد الحساسيَّة، ومتواضعًا نسبيًّا، ولم نعد نلقِّن الآن أنَّ الأسلوب العلميَّ هو الأسلوب الوحيد النَّاجع لاكتساب المعرفة الحقيقيَّة .. إنَّ عددًا من رجال العلم البارزين يصرُّون بمنتهى الحماس على حقيقةٍ مؤدَّاها: أنَّ العلم لا يقدِّم لنا سوى معرفةٍ جزئيَّة عن الحقيقة، وأنَّ علينا لذلك أن لا نعتبر أو لا يُطلب منَّا أن نعتبر كلَّ شيءٍ يستطيع العلم تجاهله مجرَّدَ وهمٍ من الأوهام
(2)
«الانتصارات الإسلاميَّة» لنجم الدين الطُّوفي (2/ 571).
هنا أنقل عن (محمَّد الغزالي) بَديعةً مِن بدائعِ تأمُّلاتِه في سيرةِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم، جلَّى فيها بعضَ الحِكَم الَّتي لأجلها أيَّد الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم ببعضِ الآياتِ المرئيَّةِ، مع كونِه مُؤيَّدًا بتنزُّل أعظمِ آيةٍ عليه وهي القرآنِ، فيقول:
« .. حتَّى تنقطع الألسنة المعاندة، وحتَّى لا يُقال: إنَّ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم لم يُسلَّح بما سُلِّح به الأنبياء السَّابقون مِن خوارق حسيَّة: أجرى الله خوارق حسيَّة على يَد نبيِّه محمَّد صلى الله عليه وسلم، مِن الَّنوع الَّذي يقهر أهلَ العِنادَ على الإيمان.
إنَّه أرى النَّاس أنَّ محمَّدًا مَوصول بالسَّماء، وأنَّ سُنَن الله الكونيَّة يُمكن أن تَلين له، وأنَّ خوارق العادات يمكن أن تَقع على يده، ولكنَّ مُعجزته الكبرى ليست هذه، مُعجزته الأولى هذا الكتاب الَّذي جاء يَفتح العُقول، ويصقل المعادن، ويرفع المُستويات.
ممكنٌ جدًّا أن تكثر هذه المعجزات، ولكنْ كما قيل: هذه خوارق أيَّد الله بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم، ولكن لم يعطها المكانةَ الأولى في الشَّهادة له بالنُّبوة، لأنَّ الشَّهادة له بالنُّبوة وتصديق الرِّسالة جاءت على النَّحو الَّذي يليق برسالةٍ عامَّةٍ خالدةٍ ..
وإذا كانت المعجزة تُورث أصحابَها الَّذين رأوها يقينًا، فإنَّ هذا القرآن لا يزال ـ كما قُلنا ـ يصنع اليَّقين، ويؤكِّد أنَّ الإسلام هو الحقُّ الفذُّ إلى يوم الدِّين»
(1)
.
أمَّا ما أبداه الطَّاعنون في أحاديث المعجزات الحسيَّة مِن مُعارضتها لبَشريَّة الرَّسول، فجوابه أن يُقال: إنَّه لابدَّ للمعجزةِ بداهةً أن تكون خارقةً للعادةِ وفوق قدرةِ البَشرِ كي تُسمَّى آية، إذ لو كانت بمَقدورِ البَشر، لانتفت عنها صِفة الإعجاز أو التَّصديق بالنُّبوة؛ فلا يستقيم عقلًا أن يُكذَّب بأخبارها بدعوى أنَّها تَتَجاوز بَشريَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم!
وإذا نَفوها عن نبيِّنا صلى الله عليه وسلم لبَشريتِه، فلينفوا مثلَها عن إخوانِه الأنبياء وقد وردت صراحةً في القرآن! فهل أولاءِ الرُّسل -بما أُيِّدوا به مِن آيات- إلَّا بَشرٌ مثل نبيِّنا؟!
(1)
«خطب الشيخ محمد الغزالي» (3/ 69).
لقد أمكنَ لمثل هذه المعارضةِ أن تجد مَحلًّا وسيعًا من نظر العقول لو أنَّ تلك المُعجزاتِ الحسيَّة كانت مَقدورةً للنَّبي صلى الله عليه وسلم لذاتِه، مَأتيةً مِن عند نفسِه؛ أما وهي ممَّا قد أجراه الله تعالى وحده على يَدَيه بإذنِه ليُقيم الدَّليل بها على صدقِه، وليس لنبيِّه فيها يَدٌ ولا مَشيئة: فاستشكالُ الآياتِ بعد هذا -فضلًا عن استنكارِها- ساقطُ الاعتبارِ.
تأمَّل ما جاء على لسان النَّبي صلى الله عليه وسلم نفسِه من نسبةِ ما جرى على يَدَيه من بعضِ الآيات إلى إيجادِ الله وتسخيره، من حالِه مسافرًا وقد قلَّ الماء مع أصحابه، فقال:«اطلُبوا فضلةً مِن ماء» ، فلمَّا جاءوا بإناءٍ فيه ماء قليل، أدخل يده فيه، ثمَّ قال:«حيَّ على الطَّهور المبارك، والبركةُ مِن الله» ، يقول ابن مسعود: فلقد رَأيتُ الماءَ ينبُع مِن بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم
(1)
!
يقول العينيُّ في قوله صلى الله عليه وسلم: « .. والبَركةُ مِن الله» : «إشارةٌ إلى أنَّ الإيجاد من الله»
(2)
.
وكذا جاء في حديث جابر رضي الله عنه قال:
«سِرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتَّى نزلنا واديًا أفيحَ، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجتَه، فاتَّبعته بإداوةٍ من ماء، فنَظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرَ شيئًا يستتر به، فإذا شجَرتان بشاطئ الوادي، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إحداهما، فأخذَ بغصنٍ مِن أغصانها، فقال: «اِنقادي عليَّ بإذن الله» ، فانقادت معه كالبَعير المخشوشِ الَّذي يصانع قائده، حتَّى أتى الشَّجرة الأخرى، فأخذَ بغصنٍ من أغصانها، فقال:«اِنقادي علي بإذن الله» ، فانقادت معه كذلك، حتَّى إذا كان بالمنصف ممَّا بينهما، لأَمَ بينهما، فقال:«اِلتَئِما عليَّ بإذن الله» ، فالتأمتا .. » الحديث
(3)
.
فمَنشأ غَلَطِ أصحابِ هذا المنهج: قياسهم الفاسد لأحكام النُّبوة على سائر النَّاس؛ مع تحقُّق الفَرق بينهما بمقتضى النَّقل والعقل، فأدَّاهم إلى جحود ما
(1)
أخرجه البخاري في (ك: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام، رقم: 3579).
(2)
«عمدة القاري» (16/ 123).
(3)
أخرجه مسلم في (ك: الزهد والرقائق، باب: حديث جابر الطويل، وقصة أبي اليسر، رقم: 3012).
فضَّل الله به الرُّسل عليهم السلام؛ والنَّظر الصَّحيح يوجب التَّفريق بين أمرين عند اتِّصاف أحدِهما بما يُوجب امتيازَه عن الآخر
(1)
.
العجيب؛ أنَّ الله سبحانه وتعالى قد ذكر هذا القياس الفاسدَ مانعًا للكفَّار من الإيمان بآياتِ الأنبياءِ والانقيادِ لهم! فقال تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَاّ أَن قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94].
(2)
.
وأمَّا دعوى (صالح أبو بكر) بأنَّ التَّبرُّك بالنَّبي صلى الله عليه وسلم نوعُ وثنيَّة وتعلُّق بغير الله تعالى: فمُؤنةٌ مِن عقلِ هذا الرَّجل! فاضحةٌ لسوء فهمه لمصطلحاتِ الشَّريعة؛ فإنَّ لفظَ التَّقديس يحتمل معاني:
إن قُصدَ منه معنى التَّطهير ورفعِ الدَّرجة
(3)
: فإنَّه بهذا غير مختصٍّ بالله، بل هو ثابت لبعضِ خلقِه اصطفاءً، كقول الملائكة لمريم:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 42].
وإن قُصدَ بلفظ (التَّقديس): معنى التَّعظيم والتَّنزيه التَّعبُّدي، كالمَعنيِّ في حوارِ الملائكة لربِّهم:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]: فإنَّ هذا غير مَقصود في التَّبرُّك، فإنَّ التَّبرُّك هو التماس زيادة الخيرِ ونمائه وثبوته ودوامه
(4)
، وليس هو عبادةً في نفسِه، ولا يلزم منه تعلُّقٌ بذاتِ المُتبرَّك به ممَّن أجاز الله تعالى فيه التَّبرك.
والمؤمنون يعلمون أنَّ الله هو خالق البركة وحدَه، وهو مَن وضعها في تلك الذَّات المُباركة، أو الزَّمان المُبارك، أو المكان المُبارك، وهو مَن أعلمنا بثبوتها
(1)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/324).
(2)
«تفسير آيات أَشكلت» لابن تيمية (2/ 726).
(3)
انظر «لسان العرب» (6/ 168 - 169).
(4)
«التبرك، أنواعه وأحكامه» لناصر الجديع (ص/30).
فيه، وهو مَن شرع لنا التِماسِها فيه، ولولا خبره جل جلاله لنا بذلك، ما تبرَّكنا بذلك كلِّه، فما بغيتنا إلَّا استزادة الخيرِ من مظانِّه الَّتي شرعها الله.
فكيف يُقال بعد هذا أنَّ التَّبرك بالنَّبي صلى الله عليه وسلم وثنيَّة وشرك بالله في ربوبيَّته وألوهيَّته؟! .. فاللَّهم غُفرًا.