الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَبحث الرابع
التَّفاوت الفسيح بين منهجِ المُتقدِّمين وطُرق المُعاصرين
من غير ذوي الأهليَّة في تعليلِ «الصَّحيحين»
مِمَّا يتأكدُّ التَّذكير به ابتداءً قبل استجلاء أوجه الاختلاف بين الفريقين: أنَّ الَّذي يُسوِّي في أيٍّ عِلمٍ كان، بين الرَّجلِ المَعروفِ بالعلمِ به والدِّقةِ فيه والسَّعيِ في تحصيلِه، والمَهارةِ البَحثيَّةِ المُكتسبَةِ فيه عبر أزمان مَديدةٍ، وشهادةِ النَّاس له بالدِّينِ والصِّدقِ في الطَّلَب؛ ومَن هو دونَه مِمَّن تخلَّفَت عنه هذه الأوصاف، بجامعِ أنَّ الكلَّ بَشَر يُصيب ويُخطئ؛ إنَّ التَّسويةَ بين هذين في العلومِ لمِن أفسدِ القياس! والسَّببُ في ما ابتُليت به الأمَّة من هذه الفوضى في استصدار الأحكام، والعبث بمصادر تشريعها.
فهذا الصِّنفِ الثَّاني لا يحِقُّ له التَّبجُّح بنَقداتِ الفُحولِ القُدامى للتُّراث مِمَّن سبق ذكرهم، ولا التَّعذُّرَ بسابقِ نَظراتِهم في مرويَّات السُّنة، بل كان الأستَر لهمُ التَّحايَدُ عن هذا المَسلكِ بالمرَّة! إذ حادوا عن جادتهمِ تَنظيرًا وتطبيقًا، وذلك مِن عِدَّة وجوه:
الوجه الأوَّل: حِيادُهم عن منهجِ المُتقدِّمين في الصِّناعةِ الحديثيَّة وأصولها، وعدم مُراعاتِهم للضَّوابطِ الآليَّةِ الَّتي التزموها في النَّقدِ، وتراميهم على نقد المتون -أو ما يسمِّيه بعضهم بالنَّقد الدَّاخلي- دون مراعاة لأحوال الأسانيد ومراتب الرُّواة وحيثيَّات الرِّواية؛ ومَردُّ ذلك إلى اختلافِ الرُّؤى الفكريَّة بين الفَرِيقين،
والمَقصِد من النَّظرِ في السُّنة ومرتبتها في التَّشريع؛ ما أدَّى إلى تباينٍ في المَعايير النَّقديَّة المُحدِّدة للمقبول منها والمَردود.
فلمَّا تَنافَرت هاتان المَنهجيَّتان الصِّناعيَّتان في نقد السُّنة، تَوَسَّعت رُقعةُ المَنقودِ المَنقوض منها عند هؤلاء المُحْدَثين لصِحاحِها، حتَّى بَلغوا بها قراطيسَ غَفيرة! في الوقت الَّذي ضاقَ فيه الباب على المُتقدِّمين لنَقدِ «الصَّحيحين» ، فلم يُعِلُّوا فيهما إلَّا أحاديث مَعدودة، نظرًا لانضباطِهم بأنظار دقيقةٍ للأخبار، ضاقت صدورُ المُعاصرين عن دَرْكِ مآخِذها، وضبطِ قواعدِها
(1)
.
الوجه الثَّاني: جهلُهم بمناهجِ الأئمَّةِ المُتقدِّمين في التَّعليلِ والتَّخريجِ والاعتبارِ، وضَعفُ تَصوُّرِهم لكثيرٍ مِن مَسائِل «علمِ الحديث» ، أوقعَهم في خَطايا عِلميَّةٍ جسيمةٍ في أحكامهمِ على الأحاديثِ المَدروسةِ
(2)
.
الوجه الثَّالث: غفلتُهم عن طُرق المُتقدِّمين ومقاصدهم من التَّصنيفِ؛ كما نراه من توهُّم بعضِ المُتعجِّلين أنَّ صاحِبَي «الصَّحيحين» إنَّما أخرجوا كلَّ حرفٍ
(1)
انظر بحثًا معروضًا في مؤتمر «الانتصار للصَّحيحين» منشورًا باسم «المنهجية المنضبطة في تعليل بعض أحاديث الصحيحين عند النقاد المتقدمين» لجميل بن فريد أبو سارة (ص/15 - 20).
(2)
من أمثلة هذا الجهل بقواعد المحدِّثين في التَّعليل: ما أعَلَّ به حسن السَّقاف حديثَ عبد الله بن عمرو المشهورَ في «صحيح البخاري» (رقم: 2669) وغيره مرفوعًا: «بلِّغوا عني ولو آية، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمِّدًا فليتبوَّأ مقعده من النَّار» ، حيث قال في تحقيقِه لكتاب «العلو» للذَّهبي (ص/39):«هذا اللَّفظ لا يصحُّ، لأنَّ لفظ رواية مسلم مخالفٌ لذلك، ونصُّه: (وحدِّثوا عنِّي ولا حرج .. )، وليس حديث (حدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)؛ فالَّذي أراه وأعتمده: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يقول هذه المَقالة .. » .
ثمَّ اتَّجه إلى تأكيدِ هذا التَّعليل الإسناديِّ، بدعوى أنَّ المتن مخالفًا لظاهر القرآن.
وهذا منه هُراء، أبعد ما يكون عن منهجِ المُحدِّثين، فإنَّ اللَّفظ الَّذي عَزاه السَّقاف إلى مسلمٍ حديثٌ لصَحابيٍّ آخر، هو أبو سعيد الخدري، والحديث الَّذي رَدَّه به هو لعبد الله بن عمرو، فمَخرج الحديثين على هذا مُختلفين تمامًا، كلٌّ منهما حديث مُستقلٌّ بحالِه، فيجوز أن يُعَلَّ لفظُ أحدهما بالآخر؛ والحَقُّ أنَّهما مُتوافقان من جِهة المعنى غير مُتعارضين، ومع ذلك أعَلَّ السَّقاف أحدَهما بالآخر تعليلًا هو أوْلى بوصفِه به! وهذا مثال لا تكاد تجده إلَّا عند هؤلاءِ المُتعالِمين، فلا يُعرف لهذا العبث نظير في كُتب التَّخريج والعِلل.
فيهما على وجهِ التَّصحيحِ والاحتجاجِ به! والواقع أنَّهما يُخرِجان ما يَعْلَمان عِلَّتَه أحيانًا، لمقاصد لا تخفى على المُتَمَرِّسينِ بأساليبِ المُحَدِّثين في التَّأليف.
الوجه الرَّابع: تَحايُدهم -في الجملة- عمَّا تستوجبه المنهجيَّة العلميَّة الرَّصينة مِن الإنصاف والموضوعيَّة في نقدِ «الصَّحِيحين» ؛ فإنَّ أئمَّة العِلل لا يُغمطون في غَرَضِهم مِن نَقدِ السُّنَنِ بسَببِ عَداوةٍ مَذهبيَّةٍ أو شَخصيَّة؛ بل تجد جبلًا مثل الدَّارقطنيَّ يخطِّئ البخاريَّ في حديث ما، لكن يُصوِّب حكمَ البخاريِّ في آخر مُختلَفٍ عليه بين النُّقاد.
فالإشكال أنَّ دَوافع المتأخِّرين مِمَّن ترامَوا على الصَّحيحين بالطَّعن، غالبًا ما يَكتنِفُها الانحيازُ إلى المَذهبِ العَقديِّ أو التَّيار الفِكريِّ؛ يكفي الحَصيف أن يفهم هذا مِن لَحْنِ تَصريحاتِهم في حَقِّ السُّنةِ؛ فلقد سَالَت البغضاءُ مِن أقلامِهم وما تُخفِي صدورُهم أكبر!
هذه البواعث الإيديلوجيَّة هي بحَقٍّ مِن أبرزِ إشكالاتِ الفِكر الحديثِ في نَقدِه للتُّراثِ الإسلاميِّ؛ تَرى الواحد من الإماميَّة يَردُّ كلَّ حديثٍ يُخالف اعتقادَه برِدَّةِ الصَّحابة رضي الله عنهم ولزوم الوَصيَّة لعليٍّ رضي الله عنه!
والإِباضيَّ يضَعِّف من السُّنةِ كلَّ أصلٍ لا يجده في حَفنةِ الكُتب الَّتي ورثها من أسلافه، وآخرَ جهميًّا غالٍ في تَكذيبِ كلِّ أثرٍ يَهدم مَذهبَه في تعطيل الصَّفات؛ وذاك حَداثيٌّ سَاخطٌ على التُّراثِ وكلِّ إسلاميٍّ قديم؛ .. وهَلُمَّ جَرًّا، فيحملهم تعصُّبهم هذا للطَّائفة على تنقص قدر الشَّيخين في نقد المتون لروايتهما ما يخالف قولَهم.
وأمَّا الوجه الأخير: فإنَّ الألفاظَ نفسَها المُستعمَلة في نَقدِ «الصَّحيحين» متنافرة فيما بين الفريقين!
فبينما نجِدُ تقديرًا مِن علماء الحديث والفقه للخِلافِ والمُخَالَف أثناءَ نقدهم لبعض مرويَّات الكتابين، وقَبولَهم الاحتمالَ فيها بلطيفِ العِبارات، وتخيُّرِ أنسبِ النَّقداتِ في أوجُهِ التَّعليلات، كقولِهم: هذا أشبه، وهذا أصَحُّ، وهذا خالَفه
فلان، والأرجح عندي كذا، ونحو هذه العباراتِ المُحتاطةِ؛ نُصعَق في مقابلها مِن كمِّ شراسة ألفاظ الطَّاعنين المُعاصرين، وتكذيبِهم الفجِّ للأخبار المُتَّفق على صحَّتها، بلغةٍ جازمةٍ وساخرة، مع التَّجنِّي على الشَّيخينِ بشَتَّى الاتِّهاماتِ والتَّهكُّماتِ.
وكلُّ إناءٍ بما فيه يَنضح!
(1)
.
فكان على ما بيَّناه قبيحًا بهؤلاء المُحْدَثين أن يتذرَّعوا بنَقداتِ الأئمَّة وتعليلهم لبعض ما في «الصَّحيحين» ، لتبايُن ما بينهما في المكانة والمنهج والآلةِ والأغراض.
وسيزيد انكشاف هذا التَّباين بذكر أمثلة ذلك من تعليلات الأئمَّة الأربعة لبعض أخبارهما، لكثرة ما ينقُله المُعاصرون عنهم في هذا البابِ، بعد أن تكلَّمنا إجمالًا عن أئمَّة الحديث المُتقدِّمين، لتستبين المَحجَّة على أنَّ هؤلاء الأعلام يا بُعدَهم عن عبث المُعاصرين! فأقول مُستعينًا بالله تعالى:
(1)
«الدفاع عن الصحيحين دفاع عن الإسلام» للحجوي الفاسي (ص/118).