الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث
دفع المعارضات الفكريَّة المعاصرة
عن أحاديث تفسيرِ آية: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ} بقتالِ الملائكة
أمَّا عن المعارضةِ الأولى في دعوى المُعترضِ حصرَ الآياتِ لوظيفةِ الملائكة في تبشيرِ وتثبيتِ المسلمينَ يومَ بدر، فيُقال جوابًا لمثلِها:
إنَّه استدلالٌ بمَحلِّ الخلاف غير جائز؛ ذلك أنَّا نَدَّعي أيضًا أنَّ الله تعالى قد كَلَّفهم في الآياتِ نفسِها بشيءٍ زائدٍ على مجرَّد التَّثبيت، وهو ما ذكره في قوله تعالى:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12].
فقول المُعترضِ بعدم قتال الملائكة في بدر، قرينةٌ على كونِ الأمرِ بالضَّربِ في هذه الآيةِ للمؤمنين: لا يصلُح، لأنَّ نفسَ هذه الدَّعوى نُنازعهم عليها، فأيُّ مانعٍ في أن تكون أمرًا للملائكة أيضًا؟
ثمَّ إنَّ نزولَ الملائكة لتسكينِ القلوب لا يعني بالضَّرورةِ عدمَ مشاركتِهم في القتال، فالأفيدُ أن يُنتقَل بالنِّقاشِ إلى إثباتِ مَن هو المُخاطَب بالأمرِ الإلهيِّ في الآية، وهو ما يظهر جوابه في:
ردِّ الاعتراضِ الثَّاني: وهو دعوى أنَّ الأمرَ بالقتالِ مُوَّجَه للصَّحابةِ لا الملائكةِ:
فإنَّه لا يخفى الخلافُ القديم في المعني بالمُخاطَب هنا بين أهل التَّفسيرِ
أنفسِهم
(1)
، ولسنا نُنكِر أنَّ الآية ظنيَّة الدَّلالة، تحتمل كِلا الوَجهين؛ لكنَّ القواعد العلميَّة تقتضي تصحيحَ أحدِهما بالمرجِّحاتِ المُعتبرَة أصوليًّا، وباستعمالِ هذه يَتبيَّن رجحانُ قولِ الجمهورِ في كونِ قتالِ الملائكةِ كان بأمرِ الله تعالى، وقولُهم بعَودِ الأمرِ في الآيةِ إلى الملائكةِ يعتمد على أصلين:
الأوَّل: دلالةُ الأحاديث على ذلك نَصًّا:
وهذه تَلقَّاها أهلُ الحديثِ بالقَبول، يكفي منها ما أخرجه الشَّيخان ممَّا سبق سَوقَه، ومَعلوم من علمِ الأصولِ أنَّ نصوص السُّنة مُبيِّنة لمُجملِ الآيات، والنَّص إذا وَرَد لم يُعارَض بالمحتملاتِ.
الثَّاني: دلالة السِّياق القرآنيِّ نفسه على ذلك:
وذلك أنَّ الله تعالى أخبرَ أنَّه أنزلَ الملائكة في بدرٍ مُردِفين: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9]، أي: أُنزِلوا فرقةً بعد فِرقةٍ
(2)
، وهذا تَعبير يتضَمَّن حمولةً عسكريَّة واضحة! فكأنَّهم مجموعاتُ مآزَرةٍ، تأتي الواحدة تلوَ الأخرى، كما المعهود مِن الجيوش في الحروب، فجاء عَدد الملائكةِ مُساويًا لعددِ المشركين، وكان الصَّحابة زيادة.
ولو كانت الغاية مُجرَّد التَّسكين لقلوبِ مَن قاتلَ في بدرٍ، لمَا احتِيجَ إلى كلِّ هذا الإردافِ والتَّتابع بهذا الشَّكلِ مِن هذه الأعدادِ الكثيرة.
ثمَّ المعلوم من حال الحروب، أنَّ مَعنويَّات الجنودِ إنَّما تَتقوَّى في حمأةِ المعارك إذا علِموا بالتحاقِ فُرقٍ أخرى مِن حُلفاءِهم! تخفيفًا عنهم لضغطِ المعركة، وتحقيقًا للتَّفوُّقِ المَّاديِّ على العَدوِّ، ومِن ثَمَّ تزدادُ الرَّغبة في الإجهازِ على العَدوِّ، وتُشحذُ الهِمَم للظَّفر منه بالنَّصر.
(1)
نسبَ القرطبي في «جامع أحكام القرآن» (7/ 378) كون الملائكة هي المعينة بالأمر بالضرب في الآية إلى الجمهور، وهو الذي اختاره النووي في شرحه لمسلم (8/ 10)، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 25)، وأبو حيان في «البحر المحيط» (5/ 285)، وذهب قلة من المفسرين إلى أن المعني به هم المؤمنون، كالفخر الرازي في «تفسيره» (15/ 460)، وجعله ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 508) محتملًا لكليهما.
(2)
«معاني القرآن وإعرابه» للزجاج (2/ 403).
وقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَاّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ} [الأنفال: 10] ليس يفيد الحصرَ بحال كما ادَّعاه المُعترض، لأنَّ الضَّمير في قوله:{جَعَلَهُ} عائِدٌ إلى فعلِ الله مِن الإمدادِ نفسِه، لا إلى الملائكةِ، أي: القَصدُ مِن إنزالِه الملائكةَ للقتالِ طَمأنةُ المؤمنين إذا عَلموا بزيادةِ عددِهم بعد ما رَأوا مِن وفرةِ المشركين وعدمِ تكافئهم، فنفسُ قتالِ الملائكةِ بجوارِهم تَطمينٌ لهم، وفيه تبشيرٌ ضِمنيٌّ بالنَّصر، بأن أوقعَ في نفوسِهم ظنَّ النَّصر، وهذا منه إلهامٌ وتثبيتٌ، وفيه إرشادٌ لما سيُطابق الواقع، ودفعٌ لأيِّ وَسوسةٍ شيطانيَّة.
وفي سِباقِ الآياتِ نفسِها ما يدلُّ على كونِ المُخاطَبين بالضَّربِ الملائكةُ، حيث أنَّها افتُتِحَت بخطابِ الله لهم، في قوله تعالى:{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} ، فناسبَ أن يكون مُختَتَمها للملائكة أيضًا.
لكنَّ (رشيد رضا) فَصَل هذا الأمرَ عن سياقِه القريبِ، وألحقَه بسياقٍ بعيدٍ عنه الَّذي فيه خطاب المؤمنين! ولا يجوز استصحابُ السِّياقات البعيدة دون القريبةِ إلَّا بدَليل، «فإنَّ قولَه تعالى:{فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} تفريعٌ على جملة: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعْبَ} المفرَّعة هنا أيضًا على جملة: {فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا} في المعنى»
(1)
.
هذا؛ ولو فَرَضنا أنَّ الأمرَ بالقِتالِ في الآية كان للمؤمنين، لنَزَلَت عليهم قبل المعركةِ بداهةً ليمتثِلوه! في حين أنَّ السُّورةَ نَزَلت بعدَ انكشافِ الملحمةِ، وفراغِ المؤمنين مِن القِتال!
وعلى فرضِ أنَّ الأمرَ القرآنيَّ مُوجَّه للمؤمنين أصالةً، فما المانِعُ أن تكون الملائكة شاركَتهم في القتالِ؟! فلم يكن مِن داعٍ لرَدِّ الأخبارِ الصَّحيحة في هذا الباب.
(1)
«التحرير والتنوير» لابن عاشور (9/ 237 - 238).
وأمَّا دعوى المعترض في أنَّ قتالَ الملائكة تنقيصٌ مِن شأنِ أهلِ بَدر، ونَفيٌ لمزيَّتِهم عن باقي المسلمين .. إلخ:
فهذا منه صحيح لو كان الحَسمُ في المَعركة مِن جهة الملائكةَ فقط، وكان الصَّحابة رضي الله عنهم في دَعةٍ لا يكادون يرفعون سيفًا؛ ولكن الواقع أنَّ قتال هؤلاء كان هو الأصل، وقد أبلوا فيه بَلاءً حَسنًا، وأنَّ الملائكة ما تَنزَّلت إلَّا عَونًا وتَسديدًا وتَبشيرًا، وما خَبر مبارزةِ الثَّلاثةِ مِن المؤمنين أوَّلَ المعركةِ عن أذهانِنا بغائب
(1)
(2)
.
فنَفي (رشيد رضا) أن تكونَ لأهلِ بَدر بقتالِ الملائكة مَزيَّة على مَن بعدهم قولٌ منه عجيب، فإنَّ أهلَ بدرٍ لِما اجتمعَ فيهم مِن الفَضائلِ خصَّهم الله بقتالِ الملائكةِ، وغزوتُهم كانت فاتحةَ الصِّراعِ المباشرِ بين الإسلامِ والكُفرِ، وفرقانًا بين الحَقِّ والباطِل؛ فلِما احتفَّ بهذه الغزوةِ مِن فرائد الخِصال، وما تَرتَّب عليها مِن أثرٍ على الدَّعوة في الحالِ والمآل، مع قلَّة عددٍ وعَتاد: اقتضَت حكمة الله أن تكون الغَلبة فيها للمسلمين، رحمةً منه وفَضلًا بعد استضعافِهم، ولعدوِّهم عَذابًا وإذلالًا بعد كِبرهم عن الحقِّ وطغيانِهم.
فما جَرى بين الفريقين كان -في حقيقتِه- «إبدالًا للحقائقِ الثَّابتة باقتلاعِها ووضعِ أضدادِها، حيث جُعِل الجُبن شجاعةً، والخوف إقدامًا، والهَلع ثَباتًا في جانب المؤمنين، وجُعِلت العزَّة رُعبًا في قلوبِ المشركين، وقُطِعت أعناقهم
(1)
حيث قَتل حمزة وعليٌّ رضي الله عنهم الَّذَين بارزاهما، وطُعن عبيدة بن الحارث رضي الله عنه بعد قتلِه لعدوِّه عتبة بن ربيعة، ثمَّ مات بعدها، في نزالٍ شديد جرى بين هؤلاء الرَّهطِ السِّتة خلَّد الله تعالى ذكره في كتابه، فكان أبو ذرٍّ الغفاري رضي الله عنه -في البخاري (رقم: 4743) ومسلم (رقم: 3033) - يُقسم بالله أنَّ هذه الآية نزلت فيهم: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} .
(2)
مِن كلام السُّبكي، نقله ابن حجر في «فتح الباري» (7/ 313).
وأيديهم بدون سَببٍ من أسبابِ القطعِ المعتادة، فكانت الأعمال الَّتي عُهِد للملائكة عَملُها خوارق عادات»
(1)
، بَعَث عليها عنايةُ الله بهذه العِصابة المؤمنةِ الَّتي لم هلكت لم يُعبَد في الأرض.
ثمَّ ما أدرى (رشيدًا) أنَّ الله لم يُنزِل ملائكةً تَقاتل مع غيرهم مِن «المؤمنين مِمَّن غَزوا بعدهم وأذلُّوا المشركين وقتلوا منهم الألوفَ»
(2)
؟ إذا ما حَقَّقوا شرطَ الإيمان، ونصرةَ الدِّين، والأخذَ بما تَوافر مِن أسباب، كما فعله أهل بدر؟!
إنَّ إعلالَ (رشيد رضا) حديثَ البابِ بأنَّه مِن روايةِ ابن عبَّاس رضي الله عنه وهي مرسلة لا يقوم على ساق في مقامِ الحِجاج، هو قول لم يَلتفِت إلى مثلِه المحقِّقون، فإنَّ العَمل جارٍ منهم على قَبولِ مَراسيل الصَّحابةِ والاحتجاج بها في العقائدِ والأحكام، فضلًا عن المَغازي والسِّيرة؛ فرواية الصَّحابةِ عن التَّابعين نادرة جِدًّا، لم يكونوا يَروون إلَّا عن الصَّحابة مثلِهم، وهم يبيِّنون ذلك عند المُحاقَقة
(3)
.
وما كان لابن عبَّاس أن يَلجأ إلى تابعيٍّ ليقُصَّ عليه أحداث بدرٍ، وحوله كبار الصَّحبِ مُتوافرون!
ولو سَلَّمنا لرشيدٍ قولَه في ابن عبَّاس، فما يقول في روايةِ سعد بن أبي وقَّاص وقد حَكى ما رأته عيناه في بدرٍ مِن قتالِ الملائكة؟!
أمَّا دعواه آخرَ هذه المعارضةِ، بأنَّ هذه الأخبار لو كانت صَحيحةً لأخرجها الطَّبري في تفسيره:
فإطلالةٌ مِن الشَّيخ خاطفةٌ لموضعِ تفسيرِ ابن جريرٍ لآيةِ: {أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ مُنزَلِينَ} وهي في آل عمران نفسِها: كانت
(1)
«التحرير والتنوير» (9/ 281) بتصرف يسير.
(2)
«تفسير المنار» (9/ 511).
(3)
انظر «النكت على مقدمة ابن الصلاح» لابن حجر (2/ 574 - 575)، و «توجيه النظر» لطاهر الجزائري (2/ 561).
لتكون كفيلةً لتُخجِلَه من إيرادِ هذا الكلام! فإنَّ الطَّبريَّ قد مَلأ موضِعَ تأويلِ هذه الآيةِ من تفسيرِه بجملةٍ من الآثارِ الدَّالةِ على قتال الملائكة يومَ بدرٍ، وبأسانيد له صحيحة.
وسبحان مَن لا يسهو ويغفل.