الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دَفعُ دعاوى المعارضاتِ الفكريَّةِ المعاصرةِ
عن أحاديث عذاب القبرِ ونعيمه
لقد دلَّت الأحاديث المُساقَة السَّابقة على ثبوتِ فتنةِ البَرْزَخ
(1)
، وأنَّ في القَبْر عذابًا ونعيمًا للميِّت بِحَسَبِ عملِه، وذلك مُقتضى عدلِ المولى تبارك وتعالى، وموجبِ أسمائه وكماله، أنْ يُنعِّم أرواحَ وأبدَانَ أوليائه، ويُعذِّبَ أرواحَ وأبدان أعدائه؛ فيُذيقَ بدَنَ المطيع له وروحَه مِن أنواع النَّعيم ما يَليق به، ويُذيقَ بَدَنَ الفاجِر والعاصي له ورُوحَه ما يناسبه
(2)
.
وقد نصَّ الأئمَّةُ على تواترِ الأحاديث في إثباتِ عذابِ القَبْرِ ونعيمِه، ومُساءَلةِ مُنكَر ونكير، وتَظاهُرِها عنه صلى الله عليه وسلم، بل وانعقد إجماعُهم على ما حَوَته مِن أخبار.
(1)
البَرْزَخ في اللغة: الحاجزُ والحدُّ بين الشيئَيْنِ، كما في «مقاييس اللغة» لابن فارس (1/ 233)، وأمَّا عند أهل الاصطلاحِ: فهو اسمُ ما بينَ الدنيا والآخرة؛ من وقْتِ الموتِ إلى البعث، وقد ينوب عنه لفظ (القبر) فيُقال: عذاب القبر ونعيمه: من باب الأغلب، إذْ قد يموت إنسانٌ ولا يُدفَن في المقابر؛ بِأَنْ تأكلَه السباعُ، أو يُصلَب .. إلخ، انظر «الرُّوح» لابن القيِّم (ص/58).
(2)
انظر «الرُّوح» لابن القيِّم (ص/74).
يقول ابن العَطَّار
(1)
(2)
.
وقال ابن عبد البرِّ: «ليس مِن أئمَّة المسلمين وفقهائهم، وحمَلَة الآثار منهم مِن الصَّحابة والتَّابعين ومَنْ بعدهم: أحدٌ يُنكِرُ فتنةَ القَبْر، فلا وجْهَ للاشتغالِ بأقاويلِ أهل البِدَع والأهواءِ المُضِلَّةِ»
(3)
.
ويقول ابن القطَّان الفاسيُّ: «أجمع أهل الإسلام مِن أهل السُّنة على أنَّ عذاب القبر حقٌّ، وعلى أنَّ مُنكرًا ونكيرًا مَلَكيْ القبر حقٌّ، وعلى أنَّ النَّاس يُفتنون في قبورهم بعدما يُحيون فيها .. »
(4)
.
حتَّى المعتزلة -مُراغِمو السُّنَنِ بالعَقليَّات- مُجمِعون على الإقرارِ بعذابِ القبرِ إلَّا النَّادر! ترى إقرارهم في ما نصَّ عليه مُقدَّمُهم عبد الجبَّار الهمدانيُّ (ت 415 هـ) بقولِه: «فصلٌ في عذاب القبر: وجملة ذلك أنَّه لا خلاف فيه بين الأمَّة، إلَّا شيء يُنقَل عن ضرار بن عمرو
(5)
، وكان مِن أصحاب المعتزلة، ثمَّ التحقَ بالمُجبِّرة، ولهذا ترى ابن الرَّاوندي يُشنِّع علينا، ويقول: إنَّ المعتزلة يُنكرون عذابَ القبر، ولا يقرُّون به! .. »
(6)
.
(1)
هو علي بن إبراهيم بن داود، علاء الدين، أبو الحسن العطَّار الدمشقي الشَّافِعي، إمام حافظٌ زاهد، تتلمذ على النَّووي وتخرَّج به، من تآليفه «تحفة الطالبين في ترجمة الإمام النَّووي» ، و «حكم صوم رجب وشعبان» ، توفي سنة (724 هـ)، انظر «معجم الشيوخ الكبير» للذهبي (2/ 7)، و «الأعلام» للزركلي (4/ 251).
(2)
«العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام» لابن العطار (1/ 139)، وانظر الحكم على أحاديث عذاب القبر ونعيمه بالتواتر: عند ابن القيم في «الروح» (ص/52)، والسيوطي في «شرح الصدور» (ص/121)، والكتاني في «نظم المتناثر» (ص/123).
(3)
«الأجوبة عن المسائل المستغربة» (ص/189).
(4)
«الإقناع في مسائل الإجماع» (1/ 51).
(5)
ضرار بن عمرو الغطفاني: قاض من كبار المعتزلة، طَمَع برياستهم في بلده، فلم يدركها، فخالفهم، فكفَّروه وطَردوه؛ وصنَّف نحو ثلاثين كتابًا، بعضها في الرَّد عليهم وعلى الخوارج، وفيها ما هو مَقالات خبيثة، قال الجشمي: ومَن عدَّه من المعتزلة فقد أخطأ، لأنَّا نتبرَّأ منه فهو من المُجبِرة، توفي (221 هـ) انظر «تاريخ الإسلام» (5/ 738).
(6)
«شرح الأصول الخمسة» (ص/730).
ثمَّ أخذَ يستدِلُّ لعذابِ القبر ونعيمِه؛ ومِن أهل العلم من يجعل مدارَ الآيات الدَّالَّة على هذا الأمر على ثلاث آيات؛ وهو المَفهوم من صنيعِ البخاريِّ
(1)
، وبَلَغَ بها ابنُ القيِّم خَمْسَ آياتٍ
(2)
، وابنُ رجب سِتَّ آياتٍ
(3)
.
فمن الدَّلائل القرآنيَّة الَّتي أشارتْ إليها:
قوله تعالى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45 - 46].
(4)
.
فمعنى العرض في هذه الآية كمعنى عرض الكفَّار على النَّار يوم القيامة في قوله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45]؛ أي: أنَّ الكفَّار يبتدئُ نظرهُم إلى جهنَّم من تحريك لأجفانهم ضعيفٍ خفىٍّ بمُسارقة، كما ترى المَصبور ينظر إلى السَّيف من شدَّة الهول
(5)
.
فلصريح معنى آية عرض آل فرعون على النَّار في إثبات عذابٍ في البرزخ، قال ابن كثير:«هذه الآيةُ أصْلٌ كبيرٌ في استدلال أهل السُّنَّة على عذاب البَرْزَخ في القبور»
(6)
.
وقال ابن القيِّم في الآية: «ذكرَ عز وجل فيها عذابَ الدَّارَين ذكرًا صريحًا لا يحتمل غيرَه»
(7)
.
(1)
انظر «جامعه الصحيح» (ك: الجنائز، باب: ماجاء في عذاب القبر).
(2)
انظر «الرُّوح» لابن القيم (ص/75).
(3)
انظر «أهوال القبور» لابن رجب (ص/45 - 48).
(4)
«الكشَّاف» (4/ 170).
(5)
«الكشَّاف» (4/ 231).
(6)
«تفسير القرآن العظيم» (7/ 3079).
(7)
«الروح» (ص/75)
ومِنْ تلكم الآيات القرآنيَّة الَّتي ألْمحَتْ أيضًا إلى مسألتنا:
قال ابنُ قَيِّم الجوزيَّةِ فيها: «هذا خطابٌ لهم عند الموت، وقد أَخْبَرت الملائكةُ -وهم الصَّادقون- أنَّهم حينئِذٍ يُجزَون عذابَ الهون، ولو تأخَّر عنهم ذلك إلى انقِضاءِ الدُّنيا لَمَا صحَّ أن يُقالَ لهم: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ}»
(1)
.
هذا ليتَقرَّر أنَّ عذابَ القَبْر ونعيمَه، وإنْ نصَّتْ الأحاديثُ عليها وجَلَّتْها؛ فلا يعني ذلك خُلُوَّ القرآن مِن الإشارة إليها.
فأمَّا جواب ما ادَّعَوه مِن الضَّرورة العقليَّة، بيانُه في التَّالي:
أوَّلًا: قاعدةُ أهل السُّنة والجماعة الَّتي فارقوا بها طوائف المبتدعة والضُّلَّال، والَّتي طَردوها في جميعِ أبواب الدِّين أصولهِ وفروعِهِ: أنَّه لا تقوم قدَمُ الإسلام إلَّا على ظَهْرِ التَّسليم والاستسلام.
فأهل السُّنَّة ومَن تبِعهُم في ذلك، أقَرُّوا بهذه الأخبار النَّبويَّة وصدَّقوها، وأَجْرَوْها على حقائقِها، وآمنوا بأنَّ لله الحكمة البالغة في ذلك، يفعل ما يشاءُ مِن عقابٍ ونعيمٍ، وأنَّ الإيمان بذلك هو من الإيمان بالغيب، الَّذي هو مِن أخصِّ خصائص أهل الإيمان، وهو مدار الابتلاء.
فوجبَ حَمْلُ ما تضافرتْ عليه النُّصوص، ودَلَّت عليه الأخبار من عذاب القَبْر ونعيمه، وحصول السُّؤال للميِّت من المَلَكَيْنِ: وجب حملُ كلِّ ذلك على الحقيقة، إذ ليس هناك ما يُحيلُها؛ لا مِن جِهة الدَّلائل النَّقلية، ولا العقليَّة؛ فعذاب القَبْر ونعيمه ثابتٌ في الأَخْبَارِ، وليس في بدائه العقل ما يدفعه، بل تلك الأخبارُ موافقة لأحكامِه أتمَّ الموافقة.
(1)
«الرُّوح» (ص/75).
ثانيًا: أنَّ دعواهم استحالةَ حصولِ العذاب للمقبور وقد صار مجرَّد جثةٍ هامدةٍ لا روح فيها، أو في حالِ انتقاضِ بِنْيَتِه، مع انتفاءِ الحياة عنه: دعوى باطلة؛ لأنَّ النُّصوص قد أبانتْ أن الرُّوح تُعاد إلى الميِّت إعادةً غير الإعادةِ المألوفةِ في الدُّنيا؛ ليَجرِي للميِّت السُّؤالُ والامتحان وما بعدهما، والدَّليل قد أَبانَ عن ذلك، والعقلُ لا يُحِيلُه، فيلزم التَّصديقُ بما وراء ذلك مِن السُّؤال والخطابِ، والعذاب والنَّعيم للمقبور.
والبراهين على حصولِ هذا النَّوع من الحياة كثيرةٌ:
منها ما جاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه المشهور في تشيِيعهم مع نبيِّهم صلى الله عليه وسلم جنازةَ رجل من الأنصارٍ، حيث قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدُّنيا، وإقبال من الآخرة، نَزل إليه ملائكة مِن السَّماء، بيضُ الوجوه
…
»، والشَّاهد فيه قوله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: «فتُعادُ روحه في جسده، فيأتيه ملَكَان، فيُجلسانه، فيقولان له: مَن ربُّك؟
…
» الحديث
(1)
.
قال ابن القيِّم معلِّقًا على هذا الحديث: «قد كفانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمْرَ هذه المسألة، وأغنانا عن أقوال النَّاس؛ حيث صرَّح بإعادةِ الرُّوح إليه»
(2)
.
وقد أورد ابنُ رجب آثارًا كثيرةً عن السَّلف، تشهدُ لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه، ثمَّ أعقَب ذلك بقوله: « .. فهؤلاء السَّلف كلُّهم صرَّحوا بأنَّ الرُّوح تُعاد إلى البَدن عند السُّؤال، وصرَّح بمثل ذلك طوائفُ من الفقهاء والمتكلِّمين مِن أصحابنا وغيرهم؛ كالقاضي أبي يعلى وغيره، وأنكر ذلك طائفةٌ؛ منهم: ابن حزم وغيره، وذكر أنَّ السُّؤال للرُّوح خاصَّة، وكذلك سماع الخِطاب، وأنكرَ أن تُعاد الرُّوح للجسد في القَبْر للعذاب وغيره.
(1)
أخرجه أحمد في «مسنده» (رقم: 18534)، يقول البيهقي في «إثبات عذاب القبر» (ص/37):«هذا حديث كبير، وصحيح الإسناد، رواه جماعة الأئمة الثقات عن الأعمش» ، والحديث حسَّنه ابن تيمية في «الفتاوى» (4/ 290)، وقال ابن القيِّم في «الروح» (ص/65):«الحديث صحيح لا شك فيه، رواه عن البراء جماعة» ، وأفاد أن الدارقطني جمع طرقه في جزء مُفرد.
(2)
«الرُّوح» (ص/41).
وقالوا: لو كان ذلك حقًّا لَلَزِم أن يموت الإنسان ثلاث مرَّات، ويحيا ثلاث مرات، والقُرآن دلَّ على أنهما مَوتتان وحَياتان
(1)
: وهذا ضعيفٌ جِدًّا؛ فإنَّ حياة الرُّوح ليست حياة تامَّةً مستقلَّة كالحياة الدُّنيا، كالحياة الآخرة بعد البعث، وإنَّما فيها نوع اتِّصالٍ بالبَدَنِ، بحيث يحصل شعور للبدن، وإحساس بالنَّعيم والعذاب وغيرهما؛ وليس هو حياة تامَّةً حتَّى يكون انفصالُ الرُّوح به موتًا تامًّا! وإنَّما هو شبيهٌ بانفصالِ روحِ النَّائمِ عنه، ورجوعها إليه؛ فإنَّ ذلك يُسمَّى موتًا وحياةً»
(2)
.
وليست تُشترط سلامة البِنْيَةِ وعدم انتقاضها ليصحَّ حلول الرُّوح فيها، فإنَّ هذا مَدفوعٌ مِن وجهين:
الأوَّل: أنَّ البِنْيَةَ لا تنتقض بالموت نفسِه، فقد يبقى بعضُ الموتى في قبورهم على بِنْيتِهم زمانًا ولا يتغيَّر حالهم، وقد ثبتَ النصُّ بتخصيص الأنبياء عليهم السلام بذلك
(3)
؛ وكذا دلَّت المشاهدة على تحقُّقه لبعضِ الموتى
(4)
.
الثَّاني: أنَّه وإن انتقَضَت بعض البِنية؛ فلا يمنع هذا الانتقاض مِن حلول الرُّوح بالباقي من بَدَن الميت، ولهذا فإِنَّه من المشاهَد قطعُ يَدي الحيوان ورجليه وهو حيٌّ، وقد عقد البيهقيُّ بابًا في كتابه «إثبات عذاب القبر» وَسَمَه بِـ «باب: جواز الحياة في جزءٍ منفرد، وأنَّ البِنية ليست من شرط الحياة، كما أنَّها ليست من شرط الحيِّ، وفي ذلك جواز تعذيب الأجزاء المتفرِّقة»
(5)
.
(1)
يشيرون إلى قوله تعالى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [11].
(2)
«أهوال القبور» (ص/83).
(3)
كالحديث الذي أخرجه أبو داود في «السنن» (ك: الصلاة، باب: الاستغفار، رقم: 1531)، والنسائي في «السُّنن» (ك: الجمعة، باب: إكثار الصلاة على النبي يوم الجمعة، رقم: 1374)، وابن ماجه في «السنن» (ك: إقامة الصلاة، باب: في فضل الجمعة، رقم:1085) من حديث أَوْس بن أَوس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الله تبارك وتعالى حرّم على الأرضِ أجسادَ الأنبياء» ، وصحَّحه النَّووي في «الأَذكار» (ص/115)، وابن قيِّم الجوزيَّة في «جلاء الأَفهام» (ص/80).
(4)
كما حصل -مثلا- لجابر بن عبد الله رضي الله عنه حين غيَّر قبرَ والدِه رضي الله عنه المُستشهد في أُحد، حيث يقول:« .. فَأَخْرَجته بعد سِتَّةِ أشهر، فإذا هو كيَوْم وَضعته هُنيَّة غير أُذُنه» ، رواه البُخاري في (ك: الجنائز، باب: هل يخرج الميِّت من القبر واللَّحد لعلَّة، رقم: 1351).
(5)
«إثبات عذاب القَبر» للبيهقي (ص/64).
والله تعالى قادرٌ على إعادة الرُّوح إلى جميع البَدنِ، وإلى بعض أجزائِه، وكلاهما في متعلَّق قدرة الرَّب سواء، {إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
فإذا تَبيَّن اختلاف تعلُّق الرُّوح بالجَسد في البرزخِ عنه في الدُّنيا، فقد فسدَ تبعًا لذلك قول المخالفِ: أنَّ فقدَ الميِّت لأدواتِ الإحساسِ يُفقِده الشُّعور بالعذاب أو النَّعيم؛ وذلك أنَّ الحقيقة الشَّرعيَّة دلَّت على أنَّ الإنسان مُركَّب من نفسٍ وبَدن، وانقسام الدُّورِ إلى ثلاثٍ: دار الدُّنيا، ودار البَرْزَخ، والدَّار الآخرة، ولكلِّ واحدةٍ من هذا الدُّور أحكامها الَّتي تختصُّ بها عن غيرها.
فالله تعالى جعلَ أحكام الدُّنيا: على الأبدان، والأرواحُ تبعٌ لها؛ ولِذا أناط الأحكامَ الشَّرعية على ما يظهر من اللِّسان والجوارح، وإنْ أضْمرت النُّفوسُ خلافَه.
وجعل أحكامَ البَرْزَخ: على الأرواح، والأبدانُ تَبع لها، وتجري أحكامُه على الأرواح، فتسري على الأبدان نعيمًا أو عذابًا، بحسَب تعلُّقها به.
وجعل أحكام دار القَرار: على الأرواح والأبدان معًا
(1)
.
فمَنْ مَاثَل بين هذه الدُّور في الأحكام، وساوى بينها، فقدْ خالَف مقتضى البراهين الشرعيَّة، والدَّلائل العقليَّة؛ إذْ العقل يمنعُ من الجمع بين المُختلفات، كما يأبى التَّفريق بين المتماثلات.
فإذا عُلِم هذا الاختلافُ بين الدُّور: زالَ الإشكال، وانقشعت حُجُب الحيرة، واستبان «أنَّ النَّار الَّتي في القَبْر والخُضرةَ: ليست من نار الدُّنيا، ولا زرع الدُّنيا، وإنَّما هي من نار الآخرة وخُضْرتِها، وهي أشدُّ من نار الدُّنيا، فلا يحسُّ بها أهل الدُّنيا؛ فإنَّ الله يُحمي عليه ذلك التُّراب والحجارة مِن تحته، حتَّى تكون أعظم حَرًّا مِن جمر الدُّنيا، ولو مَسَّها أهل الدُّنيا لم يحِسُّوا بذلك، وقُدرة الرَّب تعالى أوسعُ وأعجبُ من ذلك»
(2)
.
(1)
انظر «الرُّوح» لابن القيم (ص/63).
(2)
«الروح» (ص/66).
ومِن لطفِ الله تبارك وتعالى، أنْ صرَفَ أبصارنا وأسماعنا عن إدراك ما يحصل للمَدفونين؛ رحمةً بعباده، لعلمه تبارك وتعالى أنَّ قُدَرَهم لا تثبتُ على رؤيةِ العذاب وسماعه، واختبارًا لنا؛ إذْ لو كان الغيبُ شهادةً لآمَنَ كلُّ النَّاس، ولزالَ أصل الجزاء، ولمَا حصل التمَّايُز بين المؤمنين والكافرين
(1)
، وعلى هذا وِفاق أهل السُّنة.
(2)
.
فالحاصل: أنَّه ليس في العقول ما يحيل أن يمسَّ الأبدانَ مِن العذابِ أو النَّعيم ما لا يحسُّ به النَّاس في الدُّنيا، والله تعالى يقول:{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الأنفال: 50].
فما في هذه الآية يجري كلُّه للميِّت الكافرِ أثناء موتِه، يُعذَّب بضربِ وجهِه ودُبُرِه، وليس أحدٌ ممَّن حوله يرى ذلك، ولا هو يشعر به إنسان، «فإنَّ ما وَهَبه الله تعالى له من نِعمة الحواسِّ مناسبٌ لضعفه وعجزه، فكانت حواسُّه على قدْره في الخَلق، ومهما جاهد الإنسانُ للبلوغ بها إلى حدٍّ يفوق طبيعتها البشريَّة المتَّصفة بالنَّقص والعجز: فَلنْ يُفْلح، لأنَّ هذا قَسْمُه الَّذي اختاره الله، وهذا القَسْم والخلقة جاريةٌ على مقتضى حكمة الله تبارك وتعالى، العالِم بوجوه المصالح، وأَفنان الخيور»
(3)
.
وفي هذا بطلانُ الدَّعوى الثَّانية في إحالةِ الضَّرورة الحسيَّة.
(1)
انظر «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/534 - 535).
(2)
نقله عنه ابن القيم في «الروح» (ص/51).
(3)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/533).
أمَّا استدلال المعترض بقوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} على انتفاءِ قدرة الميِّت على السَّماعِ لفقدِ آلةِ ذلك:
فمثالٌ منه مندرجٌ فيما يسمِّيه الجَدَليُّون بـ «الاستدلالِ بمحلِّ الشَّاهد» ! وليس يصحُّ في باب الاحتجاج؛ ذلك أنَّه قد يُقال: بأنَّ نفيَ السَّماع في الآية هو لاختلافِ أحكامِ الدَّارَيْنِ، وانتفاءِ قناةِ التَّواصل بينهما، إلَّا بنصٍّ شرعيٍّ يثبت ذلك لبعضِ الأعيانِ
(1)
، وليس لكونِ الميِّت فاقدًا للقدرة على جنسِ السَّماع لفقدِ آلته كما يدَّعيه المعترض.
على أنَّ من العلماء من يذهب أنَّ المُراَ مِن السَّماع في الآية ما هو بمعنى الانتفاع والاستجابة، «فإنَّه في سياقِ خطابِ الكُفَّار الَّذين لا يستجيبون للهُدى ولا للإيمان إذا دُعوا إليه.
نظير ذلك قول الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَاّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَاّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَاّ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179]، فالآية في نفي السَّماع والإبصار عنهم، لأنَّ الشَّيء قد يُنفى لانتفاء فائدته وثمرته، فإذا لم ينتفع المرء بما يسمعه ويبصره، فكأنَّه لم يَسمع ولا يُبصر، فسماع الموتى هو بهذه المثابة»
(2)
.
والَّذي ينعقد القلبُ عليه في هذا الباب: أنَّ ما يجري للميِّت مِن صنوف العذاب والنَّعيم؛ وكيفيَّة بصرِه وسمعِه، ليس مِن جنسِ المعهود في هذه الدُّنيا.
(1)
كالَّذي أخرجه البخاري في (ك: الجنائز، باب: الميت يسمع خفق النعال، رقم: 1338)، مسلم في (ك: الجنَّة وصفة نعيمها، باب: عرض مقعد الميت من الجنَّة أو النَّار عليه، رقم:2870) مِن أنَّ «العبدَ إذا وُضع في قبره، وتولَّي وذهب أصحابه، حتَّى إنَّه ليسمع قرع نعالهم .. » .
وما أخرجه البخاري في (ك: المغازي، باب: قتل أبي جهل، رقم:3976)، ومسلم مختصرًا في (ك: الجنَّة وصفة نعيمها، باب: عرض مقعد الميت من الجنَّة أو النَّار عليه، رقم:2875) من قول النَّبي صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه جوابًا لاستغرابه مناداتَه أهل القليبِ وهم أموات: «والَّذي نفس محمَّد بيده، ما أنتم بأسْمَعَ لما أقولُ منهم» ، قال قتادةُ راوي الحديث: أحياهم الله حتَّى أسْمَعَهم قولَه؛ توبيخًا، وتصغيرًا، ونَقِيمَةً، وحسْرةً، وندمًا».
(2)
«أهوال القبور» لابن رجب (ص/81).
وفي تقرير هذا المعنى يقول ابن القيِّم: «سرُّ المسألة: أنَّ هذه السِّعة، والضِّيق، والإضاءة، والخُضرة، والنَّار؛ ليس من جنس المعهود في هذا العالَم، والله سبحانه إنَّما أشْهدَ بني آدم في هذه الدَّار ما كان فيها ومنها، فأمَّا ما كان من أمر الآخرة فقد أسبلَ عليه الغطاء؛ ليكون الإقرارُ به، والإيمان به سببًا لسعادتهم»
(1)
.
(1)
«الرُّوح» (ص/71).