الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث دفع المُعارضاتِ الفكريَّةِ المعاصرةِ عن حديثِ الجسَّاسة
أمَّا عن المعارض الأوَّل: وهو دعوى ردِّ الحديث لعَدمِ استفاضتِه، مع توفُّر الدَّواعي لذلك، فالجواب عنه:
أنَّ تلك الدَّواعي لنقلِ الحديث مُتواترًا كما قرَّرها (رشيد رضا) لا توجِبُ أن يكونَ الحديثُ كذلك مِن جِهة واقع الرِّواية، فإنَّ عددًا مِن المَرويَّات قد تَوَفَّرت لها ذات الشُّروط لم تبلُغنا بالتَّواتر، هي مع ذلك ممَّا يقرُّ (رشيد رضا) بصحَّتها بلا شكٍّ، مثل خطبة حجَّة الوَداع، وقد كانت في جمعٍ لم يعرف الإسلام مثله عددًا في عهد النُّبوة، ومع ذلك لم يروِها إلَّا آحاد قلائل.
فإن قيل: قد يُستشكَل على هذا الجواب أمور، منها:
أنَّ أهل الأصولِ على أنَّ خَبر الواحدِ فيما تَتوافر الدَّواعي على نقلِه، إذا انفردَ الواحدُ بروايتِه عن باقي الخَلقِ لم يُقبَل؛ لكونِ الدَّواعي على نقلِه مُتوفِّرة عَقلًا وطَبعًا؛ إمَّا لغرابتِه، وإمَّا لتعلُّقِه بأصلٍ مِن أصول الدِّين، ولم يخالف في هذا إلَّا الإِمامِيَّة، فقالوا بقَبولِه
(1)
.
(1)
انظر «المستصفى» للغزالي (ص/114)، و «المحصول» للرازي (4/ 292)، و «روضة الناظر» لابن قدامة (1/ 300)، و «الإحكام» للآمدي (2/ 41)، و «البحر المحيط» للزركشي (6/ 123).
وحديث الجسَّاسة هذا يُشبِه أن يكونَ مِن هذا النَّوع الَّذي تَتوافر الدَّواعي لنقلِه عن جمعٍ لا عن فرد، فهي خطبة عامَّة، خَصَّها النَّبي صلى الله عليه وسلم بالنِّداءِ، وحَضرَها جَمعٌ مِن المسلمين رِجالًا ونِساءً، وقد حَوَت مِن أعاجيبِ الأخبارِ ما حَوَت.
والَّذي أرَاه سديدًا في ردِّ هذا الاستشكال، أن يُقال:
ليس الحديث غريبًا فردًا كما تَوَهَّمَه مَن رَدَّ الحديثَ، فقد شاركَ فاطمةَ بنتَ قيسٍ في روايتِها هذه الحادثةَ بعضُ أصحابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال ابن حجرٍ عند شرحِه للحديث:«قد تَوهَّم بعضُهم أنَّه غريب فَرد، وليس كذلك، فقد رواه مع فاطمة بنت قيس: أبو هريرة، وعائشة، وجابر»
(1)
.
والتَّحقيق عندي أنَّ الحديث قد تابعَ فاطمةَ فيه اثنان مِن الصَّحابة لا ثلاثة كما قال ابن حجر، أعني بالاثنين: أبا هريرة، وعائشة؛ فأمَّا جابر فلا يثبتُ عنه؛ وتفصيل ذلك في الآتي:
أمَّا حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
فقد جاء مِن طريقِ مجالد بن سعيد عن الشَّعبي في آخر روايتِه لحديث فاطمة بنت قيس، يقول فيه الشَّعبي:« .. فلقيتُ المحرَّرَ بنَ أبي هريرة، فحدَّثتُه حديثَ فاطمة بنت قيس، فقال: أَشهدُ على أبي أنَّه حدَّثني كما حدَّثَتك فاطمةُ، غير أنَّه قال: قال رسول الله: إنَّه نحو المشرق .. »
(2)
.
ومُجالد بن سعيد هذا وإن كان ضعيفًا في الأصل
(3)
، لكن تابَعه عن الشَّعبي: سليمانُ بن أبي سليمان الشَّيباني
(4)
، وهو ثِقة حافظ، حديثُه في غِنىً عن متابعةِ ثِقةٍ، فضلًا عن مثلِ مُجالد.
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (13/ 328).
(2)
أخرجه أحمد في «المسند» (45/ 58، رقم: 24100)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (7/ 510، رقم: 37636)، والطبراني في «المعجم الكبير» (24/ 393، رقم: 961).
(3)
انظر «الضعفاء الصغير» للبخاري (ص/130)، و «المجروحين» لابن حبَّان (3/ 10)، و «الكامل» لابن عدي (10/ 13 - 17).
(4)
كما عند الطبراني في «المعجم الكبير» (24/ 392، رقم: 960)، وابن منده في «الإيمان» (2/ 950، رقم: 1057) بسندٍ صحيح إليه.
وكذا المُحرَّر في روايتِه عن والدِه أبي هريرة رضي الله عنه تحديثَه بما في حديث فاطمة، قد جاء له شاهدٌ عن أبيه مِن طريق: محمَّد بن أبي بكر المقدَّمي، عن سعد بن زياد، عن نافع مولى حمنة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم استوَى على المنبر، فقال: حدَّثني تميم الدَّاري، فرَأى تميمًا في ناحيةِ المسجد، فقال: قُمْ يا تَميم، فحَدِّث النَّاسَ بما حدَّثتني، فقال: كنَّا في جزيرة في البحر .. »، وذَكَر حديثَ الجسَّاسة
(1)
.
وهذا إسناد وإن لم يكُن بالمَتين
(2)
، لكن يصلحُ مثله مقويًّا لحديثِ المُحرَّر بن أبي هريرة؛ ويتحصَّل من ذلك ثبوت حديثِ تميمٍ في الجسَّاسة عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وأمَّا متابعة عائشة رضي الله عنها:
فقد جاءت مِن نفسِ طريق مجالد بن سعيد السَّابق آخرَ روايةِ الشَّعبي، حيث ورَد فيه مع سؤالِه للمُحرَّر عن حديث فاطمة: سؤالُه لمحمَّد بن القاسم عن قصَّة تميم، فكان جوابُ محمَّدٍ له بقولِه:«أشهدُ على عائشةَ أنَّها حَدَّثتني كما حدَّثَتك فاطمةُ .. »
(3)
.
وكما الحال في روايةِ المُحرَّر، قد صَحَّت هذه الفقرة عن عائشةَ مِن نفسِ
(1)
أخرجه أبو يعلى بهذا الإسناد كما في «البداية والنهاية» لابن كثير (19/ 137)، وأبو عوانة في «مسنده» (2/ 98، رقم: 1793).
(2)
فإنَّ سعد بن زياد وإن ذكره ابن حبَّان في «الثقات» ، قال فيه أبو حاتم (4/ 83):«يُكتَب حديثه، ليس بالمَتين» .
ونافع مولى حمنة، ترجم له البخاري في «تاريخه» (8/ 83 - 84)، وابن أبي حاتم (8/ 453 - 454) ولم يذكرا فيه حكمًا، وذكره ابن حبَّان في الثِّقات، ولم يذكر سماعًا عن أبي هريرة، فلا يُدرى أسمع منه أم لا.
(3)
أخرجه أحمد في «المسند» (45/ 58، رقم: 24100)، وابن أبي شيبة في «المصنف» (7/ 510، رقم: 37636)، والطبراني في «المعجم الكبير» (24/ 393، رقم: 961).
طريق سليمان الشَّيباني، غير أنَّ المَسئول فيه ليس محمَّدَ بنَ القاسم -كما في روايةِ مجالد بن سعيد- بل عبد الرَّحمن بن أبي بكر، وهو الصَّحيحُ في إسنادِه
(1)
.
وأمَّا عن متابعة جابر بن عبد الله رضي الله عنه:
فالصَّواب أنْ لا أصلَ لهذا الحديث عنه! فلستُ أُرَاه إلَّا مِن تخاليطِ الوَليد بن جميع
(2)
وأوهامِه، إذْ جعَلَه عن أبي سلمة عن جابر
(3)
، والصَّواب المَعروف فيه أنَّه: عن أبي سلمة عن فاطمة بنت قيس كما قال الدَّارقطني
(4)
؛ وقد نَصَّ ابنُ عَديٍّ على أنَّ الوليد لم يُتابَع عليه، وعَدَّه مِن مناكيرِه
(5)
، واستغربه ابن كثير جدًّا
(6)
.
فلا وجهَ عندي لاكتفاءِ ابن حجرٍ
(7)
والألبانيِّ
(8)
بظاهرِ هذا الإسنادِ لتحسينِه وهو بهذا النَّحوِ مِن العِلَّة
(9)
.
(1)
فإنَّه من رواية أسباط بن محمَّد عن سليمان الشيباني، كما في «مشكل الآثار» للطحاوي (7/ 389، رقم: 2947) و «الإيمان» لابن منده (2/ 950، رقم: 1057)، وأسباط ثِقة ثبَت في الشَّيباني.
أمَّا ما جاء في «المعجم الكبير» للطبراني (24/ 392، رقم: 960) من طريق محمَّد بن فضيل عن سليمان الشيباني أنَّ المَسئول في الحديث هو عبد الله بن أبي بكر الصِّديق: ففضلًا عن كونِ أسباط أوثق من محمَّد بن فضيل، فتكون نسبة حديث عائشة إلى عبد الرَّحمن أرجحَ من هذه الجِهة، فإنَّ عبد الله بن أبي بكر تُوفيَّ مُبكرًا في سنة (11 هـ)، أي قبل أن يسمع الشَّعبي الحديث من فاطمة إبَّانَ خلافة معاوية، فكيف يلتقيه الشَّعبي ويسأله عن حديث فاطمة؟! وعبد الرَّحمن بن أبي بكر قد عاشَ بعد (53 هـ)، فمنه سمِع الشَّعبي، فعُلم بهذا أنَّ ذكرَ عبدِ الله وَهم مِن ابن فضيل.
(2)
الوليد بن عبد الله بن جميع (ت 160 هـ)، قال ابن حبان في «المجروحين (3/ 78):«كان ممَّن ينفرد عن الأثبات بما لا يُشبه حديث الثِّقات، فلمَّا فحُش ذلك منه بطل الاحتجاج به، وكان يحيى بن سعيد لا يحدِّث عنه» ، وقال أحمد:«ليس به بأس» ، ولذا قال ابن حجر في «التقريب»:«صدوق يهم، ورُمي بالتَّشيع»
(3)
أخرجه أبو داود في «سننه» (ك: الملاحم، باب: في خبر الجساسة، رقم: 4328).
(4)
«العِلل» للدارقطني (13/ 396).
(5)
«الكامل في الضعفاء» لابن عدي (10/ 267).
(6)
«البداية والنهاية» (19/ 136).
(7)
«فتح الباري» (13/ 406).
(8)
«قصة المسيح الدجال» (ص/87).
(9)
عِلمًا أنَّ الألبانيَّ قد ضعَّف إسنادَ حديث جابر هذا في «ضعيف سنن أبي داود» !
ومُحصَّل القول: أنَّ خبرَ تميمٍ رضي الله عنه ليس غريبًا تفرَّدت به صحابيَّةٌ -كما تَوهَّم مَن أنكره مِن المعاصرين- بل شهِد لصدقِه مِن الصَّحابةِ أبو هريرة، وعائشة، وناهيك بهذين إمامةً في الحفظِ والدِّين.
فكان حَقُّ الحديث أن يُعرَف بالشُّهرة لا الغُربة
(1)
،
والمَشهور مِن الحديث مَقبول في ما تَوافَرت الدَّواعي إلى نقلِه، حتَّى الحنفيَّةَ قبِلوه في ما تَعمُّ به البَلوى، مع أنَّهم يشترطون فيه التَّواترَ خلافًا للجمهورِ، فحكمُ المَشهورِ عندهم حكمُ المُتواترِ في هذا الباب
(2)
.
ولَعَمري؛ إنَّ الواحدَ مِن أولاءِ الصَّحبِ الكِرامِ رضي الله عنهم، لتكفينا شهادتُه على نفسِه في ما سمِعه أو رآه مِن نبيِّه صلى الله عليه وسلم لنصَدِّقَه فيه، ولو كان عجيبَ المَخْبَرِ، واسعَ المَحْضَر، فكيف باتِّفاقِ ثلاثتِهم على روايةِ نفسِ المَشهد؟ ثمَّ كيف لو رواه أكثرُ مِن هؤلاء، لكن لم تَتَّصِل بنا روايتَهم مِن جِهة التَّدوين؟!
ولذا قال ابن حجر: «دَلَّ ورُودَها علينا مِن روايةِ عائشة أمِّ المؤمنين، وأبي هريرة، وجابر وغيرهم رضي الله عنهم، على أنَّ جماعةً آخرين رَووها، وإنْ لم تتَّصلْ بنا روايتُهم»
(3)
.
هذا كلُّه مِمَّا يَنفي عن فاطمة تُهمةَ الوَهمِ أو الخَلطِ في ما رَوته مِن قصَّة تَميم رضي الله عنه. فليت شعري؛ كيف بعد ذلك يُقال في مثلِها أنَّها وَهِيَت في حفظِها لحديثِ نبيِّها إلى دركةِ التَّخليطِ بين خطبةٍ سمعتها مِنه صلى الله عليه وسلم على المنبر حينَ حَدَّث
(1)
وأنا أتكلَّم هنا عن طبقة الصَّحابةِ لا مَن دونهم.
أمَّا دعوى الألباني في كتابه «قصة المسيح الدَّجال» (ص/82)، في قوله عن هذا الحديث:«اِعلَم أنَّ هذه القصَّة صحيحةٌ، بل متواترة .. » ، فلا أدري وجه حكمِه هذا عليه بالتَّواتر، ولو مَع فرضِ متابعاتِ ثلاثةٍ لفاطمة رضي الله عنهم، ولا أعلمُ أحدًا سَبَقه إلى ذلك.
(2)
انظر «بدائع الصَّنائع» للكاساني (1/ 147).
(3)
«الأسئلة الفائقة بالأجوبة اللائقة» لابن حجر (ص/27).
عن الدَّجال
(1)
، وقصَّةٍ مُستقلَّةٍ سمعتها عن تَميم؟! .. كما يزعمُه أحدُ الباحثين
(2)
.
أيُّ غفلةٍ هذه بَلَّغت صاحبَها أن يسمع كلامٍ يسرُده قَصَّاصٌ يُؤنِس به سَامِعِيه، ثمَّ يَنسِب ما سمعه بطولِه إلى المَعصومِ صلى الله عليه وسلم؟! أليس هذا الخَرَف بعينِه؟!
هل يُعلَم صحابيٌّ وَقَع في مثلِ هذا الخلطِ المَشينِ بين خَبَرين مُتبايِنين، بل النَّحْلِ على النَّبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقُله! وبهذه الصُّورة الفَجَّة الدَّالةِ على اختلاطِ صاحبها وشديدِ غفلتِه؟!
(3)
أيُّ عاقلٍ يُجيز أن تَقَعَ مثل تلك الفَقيهة في مثلِ ما ادُّعيَ عليها، وقد راكَمَت في عينِ حديثِها مِن قرائنِ الحفظِ، ومُعايشتِها لتفاصيلِ أحداثِه، ما يُنْبِي عن شديدِ تثبُّتٍ منها في الإِخبار، ويُحيلُ أيَّ احتمالٍ لخلطِ الأَخبار؟!
فلقد ذَكَرتْ فاطمة رضي الله عنها أنَّها سمِعتْ بأُذُنِها النِّداءَ للصَّلاة، وأنَّها إنَّما ذَهبتْ إلى المسجدِ تُجيبه، حتَّى ذَكَرتْ مَكانَ جلوسِها بتدقيقٍ! ثمَّ شَرعت في وصفِ مشهدِ ما رَأَته مِن حركاتِ النَّبي صلى الله عليه وسلم قبل كلماتِه، وكيف ضحِك بدءَ خطابِهم، وماذا قال للنَّاسِ تسكينًا لارتياعِهم، وكيف أنَّ الجمعَ كان منه جرَّاءَ خبرٍ سُرَّ به، ثمَّ هو بعد سَرْدِ ما جرى مِن تفاصيل القصَّةِ، استشهدَ فاطمةَ ومَن معها مِن
(1)
وهذا أصل هذا الحديث صحَّ عن عدَّة صحابة في «الصَّحيحين» وغيرهما، وحديث فاطمة فيه رواه عنها الشَّعبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«إنَّه لم يكُن نبيٌّ قطُّ إلَّا وقد حذَّر أمَّته الدَّجال، وإنَّه فيكم أيَّتها الأمَّة، وإنَّه يطأ الأرض كلَّها غير طيبة» أخرجه ابن راهويه في «مسنده» (5/ 219، رقم: 2360) والنسائي في «السنن الكبرى» (4/ 251، رقم: 4245).
(2)
أعني به حاكم المطيري، رئيس حزب الأمَّة بالكويت، في بحثٍ له اكتفى بنشر مُلَخَّصه على موقِعه الرَّسمي، وقد عنونه بـ:«دراسة لحديث الجسَّاسة، وبيان ما فيه من العِلل في الإسناد والمتن» ، بعد أن اعتذرت مجلة كليَّة الشَّريعة بجامعة الكويت من نشره لطوله، ورفضت عددٌ من المجلَّات العلميَّة السُّعودية والمصريَّة تحكيمَه ونشرَه لجلالةِ «صحيح مسلم» ! كما يذكر الباحث نفسُه في مُقدِّمة بحثه ذلك.
(3)
فإن قيل: قد وقع منها الغلط في حديثِها المشهور عن المَبتوتة، ونسبتها إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم أنَّه نفى عنها السُّكنى والنَّفقة! فيُقال في ردِّ هذا الإيراد: أنَّ ما وقع من فاطمة في حديث المَبتوتة غايتُه أن يكون عن سوء فهمٍ عنه صلى الله عليه وسلم، لا عن سوء حفظٍ عنه! بمعنى: أنَّها نَقَلَت ما فهِمته منه خَبَرًا عنه، في حين أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يَعني بكلامِه لها التَّعميم، فكأنَّها عَّمَمت كلامَه وحقُّه التَّخصيص، وأطلقته وحقُّه التَّقييد.
الحضورِ بـ: «ألَا هل كنتُ حدَّثتكُم ذلك؟» ، فذكرتْ إجابتَهم له بِنَعم، ثمَّ أنَّه صلى الله عليه وسلم خَتَم خُطبَتَه إعجابًا بحديثِ تميم أنْ وافَق ما حدَّثهم به قبلُ عن الدَّجال، لتُنهيَ هذا السَّردَ العَجيبَ بما رأته مِن إشارتِه بيدِه الشَّريفةِ إلى مكانِ خروجِه.
فمثلُ هذا لا يكون أبدًا عن وهمٍ، لا يكون إلَّا عن تعمُّدِ اختلاق! وقد برَّأ الله فاطمة رضي الله عنها أن تقعَ في مثلِه؛ وقد علمنا مُتابعة غيرها لها فيه.
وكان مِن جَليلِ فهمِ ابنِ القيِّمِ لأنماطِ الخِطابِ ودلالاتِه، أن جَعل ما حدَّثت به فاطمةُ دليلًا في نفسِه على صدقِ خبرِه، وفضلِ راوِيَتِه، كما في قوله:«إذا شئتَ أنْ تعرِفَ مقدارَ حِفظها وعلمِها، فاعرِفهُ مِن حديثِ الدَّجال الطَّويل الَّذي حدَّث به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على المنبرِ، فوَعَته فاطمةُ وحفظته، وأدَّته كما سمعته، ولم يُنكِره عليها أحدٌ مع طولِه وغرابتِه»
(1)
.
نعم؛ لم يُنكره عليها أَحدٌ البتَّة، وعلى مثلِ هذه الحالِ يَتنزَّل تقرير المَازَريِّ حين قال: «إنَّ الصَّاحِبَ إذا رَوَى مِثلَ هذا الأمرَ العجيبَ، وأحالَ على حضورِه فيه مع سائرِ الصَّحابة، وهم يَسمعون روايتَه ودعواه حضورَهم معه، ولا يُنكِرون ذلك عليه
(2)
، فإنَّ ذلك تصديقٌ له يُوجِب العلمَ بصحَّة ما قال»
(3)
.
فمَنْ ظَنَّ بها بعد كلِّ هذا ظنَّ سَوءٍ في التَّحديثِ، فإنَّا سائلوه:
لِمَ لم يَتَنبَّه أحَدٌ مِن الأئمَّة قبلك طيلةَ قرونٍ إلى هذه العِلَّة في خبرِها حتَّى خَرجتَ علينا تُلوِّح باكتشافِكَ؟!
أين الأمَّة مِن دعوى التَّعليل هذه؟
مَن جَرُؤَ مِن علمائِها على رَميِ صحابيَّةٍ بالتَّضعيفِ أو التَّخليطِ كما فعلتَ؟
فهذا عامر الشَّعبي، وهو الَّذي سمِع من فاطمةَ حديثَها عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في وصفِ الدَّجال، وسمِع منها أيضًا حديثَها في الجسَّاسة
(4)
، لم يَدَّعِ عليها هذا الخلْطَ أو تطرُّقَ الوَهمِ إليها في مَزجِهما، وقد كان أَوْلى أن يَتنبَّه لذلك!
(1)
«زاد المعاد» (5/ 476).
(2)
هذا لمجردِّ عدم الإنكار، فكيف وقد أقرَّ فاطمةَ بنتَ قيسٍ على خيرها هذا اِثنان من جِلَّة الصَّحابة؟!
(3)
«المعلم بفوائد مسلم» (2/ 414).
(4)
وهذان هما الخَبرانِ اللَّذان اتُّهِمَ د. المطيري فاطمة بالتَّخليطِ بينهما.
ثمَّ أئمَّة العِلَل بعده أجدرَ النَّاس أن يُوَفَّقوا لبيانِ ذلك، وأوْلى أن يُعِلِّوا حديثَها بهذا الانفرادِ المُدَّعى.
بل أنا أقول: إنَّ في نفسِ تفرِقَتِها بين هذين الخبرين وهي تُحدِّث بهما، لأكبرُ دليل على تثبُّتِها ومَزيد عنايتِها وتمييزها لِما تُنميه إلى نبيِّها صلى الله عليه وسلم مِن غيرِه!
يبقى إشكال أخيرٌ قد يُشَوَّش به على أذهانِ من يعتقد صحَّة حديثِ فاطمة هذا، وهو: أنَّ عددًا مِن الصَّحابة رضي الله عنهم ظَلَّ على اعتقادِ أنَّ ابنَ صيَّادٍ
(1)
هو الدَّجالُ، أو كان يرتابُ فيه على أقلِّ تقدير، حتَّى بعد وفاة النَّبي صلى الله عليه وسلم، مع أنَّه قد خُطِب فيهم قبلُ بقصَّة تميم، مِن هؤلاء: ابن مسعود
(2)
، وأبو سعيد الخدري
(3)
، وابن عمر
(4)
، وأختُه حفصة
(5)
،
وجابر بن عبد الله، وكان يحلِف على ذلك، فلمَّا سُئِل عن حلِفه هذا قال:«إنِّي سمعتُ عمرَ يحلِف على ذلك عند النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلم يُنكِره النَّبي صلى الله عليه وسلم»
(6)
.
فالفَرض في حديث الجسَّاسةِ أن يكون قاطعًا للنِّزاع في ماهيَّة ابن صيَّاد بكونِه غير المَسيح الدَّجال، فإنَّ هذا مَحبوس في جزيرة، فلِم بَقوا على اعتقادِ ذلك فيه؟
(1)
ويُقال له: ابن صيَّاد أيضًا، وسُمِّي بهما في الأحاديث، واسمه: صاف، وقيل: عبد الله، وهو من يهود المدينة، أظهر إسلامَه بعدُ، قال العلماء: وقصَّتُه مشكلة، وأمره مُشتبه في أنَّه هل هو المسيح الدَّجال المشهور أم غيره؟! ولاشكَّ في أنَّه دجَّال من الدَّجاجلة، قالوا: وظاهر الأحاديث أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يُوحَ إليه بأنَّه المسيح الدَّجال ولا غيره، وإنَّما أوحي إليه بصفات الدَّجال، وكان في ابن صيَّاد قرائن محتملة، فلذلك كان النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يقطع بأنَّه المسيح الدَّجال ولا غيره، انظر «شرح النَّووي على مسلم» (18/ 46).
(2)
كما في «مسند» لأبي يعلى (9/ 132، رقم: 5207)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (7/ 387، رقم: 2943)، والطبراني في «المعجم الكبير» (10/ 109، رقم: 10119) بإسناد صحيح.
(3)
كما في «صحيح مسلم» (ك: الفتن، باب: ذكر ابن صياد، رقم: 2927).
(4)
في «سنن أبي داود» (ك: الملاحم، باب: في خبر ابن صائد، رقم: 4330) بإسنادٍ صحيح.
(5)
في «صحيح مسلم» (ك: الفتن، باب: ذكر ابن صياد، رقم: 2932) ..
(6)
كما في البخاري (ك: الاعتصام، باب من رأى ترك النكير من النبي صلى الله عليه وسلم حجة، لا من غير الرسول، رقم: 7355)، ومسلم في (ك: الفتن، باب: ذكر ابن صياد، رقم: 2929).
وما يُمكننا الجواب به عن هذا جوابان، يُكمِّل أحدُهما الآخر:
أمَّا الأوَّل: فيُقال فيه باحتمالِ جهلِ مَن ذُكِر بقصَّة تميمٍ: فإنَّا لا نَتَخرَّص القولَ بأنَّ حضورَ الخطبةِ كان غَفيرًا، بل لعلَّه مَشهدٌ قد فَوَّته كثيرٌ مِن الصَّحابة، خاصَّةً أنَّه كان فُجاءةً، ثمَّ بعض الغائِبين لم تبلُغه بعدُ مع ذلك، لغيابِه وقتَها عن المَدينة مدَّةً، أو لم يكُن من شأنِه الرِّواية أصلًا، إلى غيرِ ذلك مِن أعذارٍ رَبُّنا أعلَمُ بها.
وفي تقرير هذا الجواب يقول أبو جعفر الطَّحاوي:
«إنْ قال قائل: فكيف بَقِي ابن مسعود، وأبو ذرٍّ، وجابر رضي الله عنهم على ما كانوا عليه فيه مِمَّا قد رويتُه عنهم في هذا الباب مِمَّا قالوه فيه بعد النَّبي صلى الله عليه وسلم؟
فكان جوابُنا له في ذلك بتوفيقِ الله عز وجل وعونِه: أنَّه قد يحتمِل أنَّ ذلك كان منهم لأنَّهم لم يعلَموا بما كان مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم بِما حَدَّث به النَّاسَ عن تميم الدَّاري رضي الله عنه، ولا مِن سُرورِه به، فقالوا في ذلك ما قالوا .. »
(1)
.
وإلى مثلِه نحا البيهقيُّ في جوابِه، فقال:
«إنَّ الدَّجالَ الأكبرَ الَّذي يخرج في آخر الزَّمان غيرُ ابن صيَّادٍ، .. وكَأنَّ الَّذين يجزِمون بابنِ صيَّادٍ هو الدَّجال لم يسمعوا بقصَّة تميم، وإلَّا فالجمع بينهما بعيد جدًّا؛ إذْ كيف يلتَئِم أن يكون مَن كان في أثناءِ الحياةِ النَّبويَّة شِبهَ المُحتلِم، ويجتمعُ به النَّبي صلى الله عليه وسلم ويسألُه، أن يكون في آخرِها شيخًا كبيرًا مَسجونًا في جزيرةٍ من جزائر البحر، مُوثَقًا بالحديدِ، يَستفهِمُ عن خبر النَّبي صلى الله عليه وسلم هل خَرَج أو لا؟
فالأَوْلَى أن يُحمَل على عدمِ الاطِّلاع.
أمَّا عمر: فيحتمل أن يكون ذلك مِنه قبلَ أن يَسمع قصَّةَ تميم، ثمَّ لمَّا سمِعها لم يعُد إلى الحلِفِ المذكور»
(2)
.
وأمَّا الجواب الثَّاني: فلعَلَّ ظاهرَ حديث تميم رضي الله عنه لم يَكُن قاطِعًا في نفيِ كونِ ابن صيَّادٍ الدَّجالَ عند مَن رمَاه به من الصَّحابة، لِما ظَنَّه مِن قِرائن تقطعُ في مَجموعِها بكونِه هو، كما جَرى لجابرٍ في اعتقادِه، حيث شهِدَ حلِفَ عمر رضي الله عنه عند النَّبي صلى الله عليه وسلم بأنَّه هو، فاستصحَبَ ما كان اطَّلعَ عليه مِن عمر رضي الله عنه بالحضرة النَّبويَّة، فظَنَّ هذا إقرارًا قاطعًا على صدقِ المَحلوفِ عليه
(1)
.
وهذا بخلافِ قصَّةِ تَميم، إذْ كانت ظنيَّةَ في دلالتِها في نفيِ ذلك عنه؛ ذلك أنَّ ما رآه أمرٌ عَجيبٌ خارج عن العادة، فمُحتَملٌ أَن يكون ما لقِيَه شيطانًا صُوِّرَ له الدَّجالَ، أو كان قرينَه، فصارَ يتكَلَّم إلى تميمٍ بلسانِ الدَّجَال، كأنَّه مِن بابِ التَّمثيلِ له، وهذا أمرٌ عَجَبٌ لا شكَّ.
وأمرُ الدَّجال مُلتبِسٌ على كلِّ الأحوال، يُتوقَّع منه أيُّ شيء مخالفٌ للمَألوف.
(2)
.
(1)
هذا على فرضِ التَّسليم لجابر رضي الله عنه فهمَه هذا من سكوت النَّبي صلى الله عليه وسلم، وفيه نظر، فإنَّ مسألة ما إذا أُخبِر بحضرة النَّبي صلى الله عليه وسلم عن أمرٍ ليس فيه حكم شرعيٌّ، هل يكون سكوته صلى الله عليه وسلم دليلًا على مطابقةِ ما في الواقع، كما وقع لعمر هنا في حلفه على ابن صيَّاد هو الدَّجال ولم ينكِر عليه؟ فهل يدلُّ عدم إنكارِه على أنَّه هو الدَّجال كما فهمه جابر أو لا يدلُّ؟
(2)
«الأنوار الكاشفة» (ص/134).
نعم؛ كان بعضُ السَّلف مِمَّن عايَشَ تميمًا في الشَّامِ يعتقِدُ في الدَّجال المَحبوسِ في الجزيرة أنَّه شيطان، كجبير بن نفير
(1)
، وعمرو بن الأسود
(2)
، وكثير بن مُرَّة
(3)
، ويزيد بن شريح
(4)
، وشريح بن عبيد
(5)
، والمقدام بن مَعدي يَكْرِب وهو صَحابيٌّ رضي الله عنه! هؤلاء كلُّهم كانوا يقولون:«الدَّجال ليس إنسانًا، إنَّما هو شيطان في بعضِ جَزائر البحر، مُوثَق بسبعينَ حلْقةً، لا يُعلَم مَن أوثقه .. »
(6)
.
ولا أستبعدُ أنْ يكونَ أصلُ هذا الاعتقادِ في الدَّجالِ مَأخوذًا عن تميمٍ نفسِه، فإنَّ مِن هؤلاء مَن سمِع تميمًا، أو سَمِع مِمَّن سَمِع منه
(7)
؛ كما لا يبعُد أن يكون بعضُهم قد تَلَقَّاه أيضًا مِن بعضِ الكِتابيِّين
(8)
، لكنْ مُجرَّد تقريرِهم لطبيعةِ هذا الدَّجالِ المَحبوسِ كافٍ في عدمِ امتناعِ ذلك فيه.
الشَّاهد عندي من هذا:
أنَّ حديث تميمٍ قد تَطرَّق إليه احتمالٌ في ماهيَّة أشخاصِه عند جابرٍ، بصرفِ النَّظر عن قوَّة هذه الاحتمالاتِ مِن ضعفِها؛ خلافًا لما وقعَ في نفسِ جابرٍ مِن ابن صيَّادٍ، إذْ كان انطباقُ صِفاتِ الدَّجال عليه، وجَزمُ عمر به، مع إقرارِ النَّبي صلى الله عليه وسلم له على حَلفِه فيما رآه، وكان الحقُّ يجري على لسانِ عمر وقلبِه: كلُّ
(1)
جبير بن نفير بن مالك بن عامر الحضرمي، ثقة جليل من كبار التابعين، توفي (80 هـ)، انظر «سير أعلام النبلاء» (4/ 76).
(2)
عمرو بن الأسود أبو عياض العنسي الحمصي، أدرك الجاهلية والإسلام، وكان من سادات التابعين دينًا وورعًا، توفي في خلافة عبد الملك بن مروان، انظر «سير النبلاء» (4/ 79).
(3)
كثير بن مرة الرهاوى، ثقة من كبار التابعين، توفي (81 هـ وقيل 90 هـ)، انظر «سير النبلاء» (4/ 46).
(4)
يزيد بن شريح الحضرمي الحمصي، تابعي ثقة، توفي (110 هـ)، انظر «تاريخ الإسلام» (3/ 179).
(5)
شريح بن عبيد الحضرمي الحمصي، تابعي ثقة، توفي بعد (100 هـ)، انظر «تاريخ الإسلام» (3/ 247)، وهذا ذكره ابن حجر في «الفتح» (13/ 328) نقلًا عن نعيم بن حماد وليس في أصل المطبوع من كتابه «الفتن» .
(6)
«الفتن» لنعيم بن حماد (2/ 541) بإسنادٍ صحيح إليهم.
(7)
فإنَّ كثيرَ بن مُرَّة مِن أصحابِ تميم رضي الله عنه، وجبير مِن أصحابِ المقدام رضي الله عنه، وسائر هؤلاء التابعين مِن أهلِ حِمص قد أخَذَ بعضُهم من بعض.
(8)
كما احتمله ابن حجر في «فتح الباري» (13/ 328)، ولعلَّ يزيد بن شريح منهم، فإنَّه مِمَّن سمِع من كعبِ الأحبار.
هذا أورثَ في نفسِ جابرٍ نوعَ قطعٍ بأنَّ ابن صيَّادٍ هو الدَّجال، فقَدَّم هذا القطعَ منه على ما في حديث تميم مِن ظَنٍّ في الماهيَّة، والله تعالى أعلم.
ويَغلِبُ على ظنِّي أنَّ هذا المَسْلكَ من جابرٍ في التَّرجيحِ عينَه هو ما مشى عليه البخاريُّ في كتابِه، فإنَّه لمَّا اشتدَّ التباس الأمرِ في هذه الأخبار، «اقتصَرَ في كتابِه على حديثِ جابر عن عمر في ابنِ صيَّاد، ولم يُخرِج حديثَ فاطمة بنت قيس في قصَّة تميمٍ»
(1)
كما قال ابن حَجَرٍ، وهذا مَنزعٌ منه حَسن في توجيهِ اختيارِ البخاريِّ.
وليس يَعني أنَّ البخاريَّ يُضعِّف حديثَ فاطمة
(2)
-كما تَوَهَّمه (رشيد رِضا) حين رَأى «الصَّحيحَ» خاليًا مِنه، فظَنَّه تضعيفًا مِن مُصَنِّفِه له- كلَّا؛ فإنَّه وإن لم يُخرِج حديثَ فاطمة بنت قيس رضي الله عنها إلَّا أنَّه قد نَطَق بتصحيحِه.
وذلك فيما نقَلَه عنه تلميذُه التِّرمذي؛ قال: «سألتُ محمَّدًا عن هذا الحديث -يعني: حديث الجسَّاسة- فقال: «يَرويه الزُّهري عن أبي سلمة، عن فاطمة ابنةِ قيس، .. وحديث الشَّعبي عن فاطمة بنت قيس في الدَّجال: هو حديث صحيح»
(3)
.
(1)
«فتح الباري» لابن حجر (13/ 328).
(2)
كما ظنَّه د. حاكم المطيري في بحثِه السَّابق ذكره.
(3)
«العلل الكبير» للترمذي (ص/328).
وما ذكره البخاريُّ هما الطَّريقان الوحيدان لحديث الجسَّاسة عن فاطمة بنت قيس، ويظهر من جوابِه أنَّه يُرجِّح طريقَ الشَّعبي على طريق الزُّهري عن أبي سلمة، وحقُّه ذلك، فإنَّ رواية الزُّهري جاءت عنه من طريقين:
ابن أبي ذئب، كما في «سنن أبي داود» (رقم: 4325)، وأبو يعلى في «معجمه» (رقم: 157)، والطبراني في «الكبير» (رقم: 922).
وإبراهيم بن إسماعيل بن مُجمع: كما في «الآحاد» لابن أبي عاصم (ص/3180)، والطبراني في «الكبير» (رقم: 923).
فأمَّا ابن أبي ذئب: وإن كان هو ثقةً في نفسِه، غير أنَّ روايته عن الزُّهري خاصَّةً مُتكلَّم فيها، فطَعن بعضُهم فيها بالاضطراب والمُخالفة، انظر «تهذيب الكمال» (25/ 635).
وأمَّا إبراهيم بن إسماعيل: فقال فيه البخاريُّ: كثير الوَهم، وقال ابن معين: ضعيف متروك الحديث، انظر «التهذيب» لابن حجر (1/ 105).
فلم يحمِلْهُ رجحانُ حديثِ جابرٍ رضي الله عنه عنده على الطَّعنِ في حديثِنا هذا.
وعلى ذلك نقول:
إنَّ الرُّجحانَ المقصودَ مِن كلامِ ابن حجرٍ فيما تَعَلَّق بترجيحِ البخاريِّ إنَّما هو رُجحانُ دَلالة، لا رُجحانٌ صِحَّةٍ أو ضعفٍ؛ قد أبانَ ابن حَجرٍ نفسُه عن مُراده من ترجيح البخاريِّ في بعضِ جَواباتِه المنشورة، مما يُزيل ذاكَ التَّوهُّمَ عن تقريرِه الَّذي في «الفتح» .
فقلد سُئِل عن حديثِ الجسَّاسةِ: هل فيه عِلَّةٌ لأجلِها لم يُخرِجه البخاريُّ، مع أنَّه ليس في البابِ شَيءٌ يُغني عنه؟
(1)
.
فكِلا الحديثين عند البخاريِّ في حيِّزِ القَبول -حديث فاطمة وحديث ابنِ صيَّا- كلُّ ما في الأمرِ، أنَّه اختارَ أحدَهما على الآخر ورَّجحه من حيث الدَّلالة على المَطلوب، فإنَّ «مِن عاداتِ البخاريِّ أنَّه إذا اختارَ جانِبًا، ذَهب يُهدِر جانبًا آخرَ، كأنَّه لم يَرِد فيه شيءٌ»
(2)
؛ فكذا شأنُه مع حديثِ الجسَّاسة، ترَك أن يُدخلَه «جامِعَه الصَّحيح» ، إذْ كان ظاهره مُعارِضًا لِما اختارَه مِن كونِ ابنِ صيَّادٍ هو الدَّجالَ.
وطالمَا أنَّ كتابَه «الصَّحيح» مَعنيٌّ فيه بالفقهِ وترجيح المعاني، اقتصرَ على الأرجحِ مِن حيث دلالتُه على المَطلوبِ دون الرَّاجحِ
(1)
، والله أعلم.
أمَّا عن المعارض الثَّاني: في دعوى (رشيد رضا) أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يقرَّ تميمًا رضي الله عنه على كلِّ حديثه، لمكاشفةِ الوحي له في ذلك، وفي هذا إبطال للثِّقة في باقيه .. إلخ:
فهذه دعوى مُبتناة على غير تريُّثٍ في تأمُّلِ الحديث، نَتاجَ تجافي صاحبِها عن أخبارِ الخوارقِ والغَرائبِ، أدَّى به إلى ردِّ هذا الحديث بمثلِ هذا الاعتراضِ الواهي؛ وإلَّا فهل يُعقَل أنْ يَنقُل النَّبي صلى الله عليه وسلم كَلامًا عن أحَدٍ مِن النَّاس ليستشهِدَ به على أمْرٍ غَيبيٍّ دينيٍّ كان يُخبِر به، ويجمَع له النَّاس، ويُشهِدهم عليه، ثمَّ هو في قرارةِ نفسِه غيرُ مُصَدِّقٍ به أصلًا ولا مُقِرٍّ له؟!
ويَعجبُ المرء مِن قولِ (رشيد رضا) أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم قد يُصدِّق الكاذب، في سياقِ كلامِه عن تصديقِ النَّبي صلى الله عليه وسلم لصحابيٍّ جليلٍ مثل تميمٍ الدَّاري!
ثمَّ يذهَبُ مَذهبًا بعيدًا حينَ يحمِلُ على الحديثِ، فيُؤدِّيه ذلك إلى الطَّعنِ بِراويه تميمٍ! وقد ثَبَتت صُحبَته رضي الله عنه، وحسُن إسلامُه، وزكَّاه عمر رضي الله عنه؛ هذا مع اعتِرافِ رشيدٍ بأنَّ أحدًا لم يذكُر فيه شبهةً، ومع ذلك بَقي رشيدٌ مُصِرًّا على الغَمزِ فيه بقولِه للقُرَّاء بعد كلِّ الفضائل فيه:« .. وستعلَمُ ما فيه!» ، مدَّعيًا «أنَّ نفيَ النَّبي صلى الله عليه وسلم لبعضِ قول تميمٍ يُبطِل الثِّقة به كلِّه» !
إنَّ غايةَ ما أخبر به تميم رضي الله عنه النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وَصْفُ ما جرى له مع مَن خاطبَه بالدَّجال، فلم يُحدِّد هو مكانَ الدَّجالِ ولا حيث خروجُه حتَّى يُقال: أنَّ الوحيَ كاشفَ النَّبي صلى الله عليه وسلم في غلطِ كلامِه!
(1)
وكان غير البخاريِّ مِن العلماء مَن يذهب إلى كونِ الدَّجال هو ابن صيَّادٍ، وهم مع ذلك يُصحِّحونَ حديثَ الجسَّاسة، كابن بطَّال في «شرحه للبخاري» (10/ 386)، وأبي العبَّاس القرطبي في «التذكرة» (ص/1340)، وهو ظاهر كلامِ النَّووي في «شرحه لمسلم» (18/ 46 - 47)، والشَّوكانيِّ في «نيل الأوطار» (7/ 237 - 242).
فمكان الدَّجال وخروجه أمرٌ نَطَق به النَّبي صلى الله عليه وسلم ابتداءً مِن عندِه حيث اجتَهد، ولا علاقة لتميمٍ رضي الله عنه به.
وعلى فرضِ أنَّ المكاشفة كانت لكلامِ تميم رضي الله عنه نفسِه؛ فإنَّ بطلان كلامِ المعترضِ في تضاعيف دعواه نفسِها! إذْ لَولا أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قد أقرَّه على خبرِه، ما جَعَل بروزَ الدَّجال مِن بحرِ الشَّام أو بحر اليَمن، إذ هُما البَحْران المُتوَقَّع ضياع سَفينةِ تَميم فيهما، فظَنَّ النَّبي بمُقتضى كلامِ تميم رضي الله عنه أنَّ الدَّجال في هذين، فكان كالفرعِ مِن الأصل، حتَّى كاشفه الوَحي بخلافِ اجتهادِه هذا.
ثمَّ يُقال لـ (رشيد رضا): كيف للوحيِ أن يَتنزَّل على نبيِّنا صلى الله عليه وسلم ليُصحِّحَ له جِهةَ خروجِ الدَّجال، ثمَّ يسكتَ عن أكثرِ أباطيل القِصَّة لو كانت باطلة؟! فيتركَ النَّبيَ صلى الله عليه وسلم والمسلمين معه يُصدِّقون هذا الباطلَ، بل ويُوثِّقون تميمًا رضي الله عنه صاحبَ القصَّة، ويأخذون عنه بعدُ الأخبارَ مِن غير ريبةٍ؟!
بل العقل الحصيف يفرض علينا القول بأنَّ إخبار النَّبي صلى الله عليه وسلم عن تميم الدَّاري مُصِدِّقًا له، لمِن أجلى الأمثلةِ على أنَّ ما تَلقَّاه الرَّسول بالقَبول مِن الأخبارِ مُوجبٌ للعلمِ
(1)
.
هذا؛ وما كان لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم أن يُصدِّق دعاوي المنافقين هكذا بإطلاقٍ كما أفرطَ في دعواه (رشيد رضا)، وهو منه ذهولٌ عن قولِه تعالى:{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61]؛ فإنَّه هو صلى الله عليه وسلم يُصدِّق كلامَ المؤمنين، ولا يصدِّق المنافقين وإن سمِع قولَهم
(2)
.
العجيب في هذا الادِّعاء من (رشيد)، أنَّه قد نَقَضَ شبهتَه هذه بنفسِه عند تفسيرِه لهذه الآية السَّابقة! حيث قرَّر عندها أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم «كان يُعامل المنافقين بأحكامِ الشَّريعة وآدابها الَّتي يعامل بها عامَّة المسلمين، كما أمره الله تعالى ببناء
المعاملة على الظَّواهر، فظنُّوا أنَّه يصدِّق كلَّ ما يُقال له .. إي نعم؛ هو أُذن، ولكنَّه نِعم الأُذن؛ لأنَّه أُذن خيرٍ لا كما تزعمون، فهو لا يقبل ممَّا يسمعه إلَّا الحقَّ وما وافق الشَّرع .. ولا يصدِّق ما لا يجوز تصديقه شرعًا أو عقلًا»!
(1)
فالظَّاهر أنَّ «هدفَ الشَّيخ رشيد كان نزعَ صِبغة الإلزامِ الشَّرعيِّ عن الحديث مهما كلَّف الأمر، فإن لم يكُن مصنوعًا، فهو ليس بمرفوعٍ كلُّه»
(2)
؛ والله يغفرُ له.
وأمَّا جواب المعارضة الثَّالثة في دعوى أنَّ البِحارَ قد مَسَحَها البَحَّارة في هذه الأزمنة مسحًا
…
إلخ ما قالوا:
فهذا اعتراضٌ شبه الرِّيح، لأنَّ العلم الحديث مع بلوغِه في الاتِّساع والتَّطوُّر شأوًا عظيمًا؛ إلَّا أنَّه مع هذا الترقِّي في العلوم، ما زال الحِسُّ يقضي بقصورِ مُنجَزاته عن الإحاطةِ بكلِّ شيءٍ، وليس عَدمُ علمِ البحَّارةِ بما غُبِّي عليهم بقاضٍ لِأَن يَنفي ما لم يعلموا؛ لأنَّ عدمَ العِلم بالشَّيءِ لا يسلبُه حقيقةَ الوجود.
والَّذي ينبغي الإقرار به: أنَّ الشَّرعَ الحكيم لا يأمر المُكَلَّف بالإيمانِ بأمرٍ لا وَاقع له؛ فإنَّ هذا مُنتَفٍ في تضاعيفِ الأدلَّة الشرعيَّة، لكنَّه يأمر امتحانًا وابتلاءً بالإيمان لواقعٍ مُغيَّبٍ غيرِ مَشهود، والمغالطة تَنشأ حين يُخلط بين البَابين
(3)
.
فإذا كان الأمر كذلك؛ فإنَّ قَبول أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم ليس مَرهونًا بتصحيح علوم بعض البَشر القاصرة لها، بل علوم البَشر مَرهونٌ قَبولُها بألَّا تُخالفَ ما صَحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلا يُترَكَ المقطوع بصحَّته لأمرٍ تَعتوِرُه الظُّنون، وتحيط به مِن كلِّ جانب؛ والمتأمِّل في أحوال العلوم -مع تطوُّرِها نسبيًّا- يجدُ أنَّها في طَوْر المَهْد بالنِّسبة لما يخْفى علينا.
مثال على ذلك: ما نَراه مِن اكتشافاتٍ للكهوف، ومَعالم، وآثارٍ كانت في حيِّز المجهول، عَجَزت التِّكنولوجيا مِن قبلُ عن اكتشافها؛ مع وقوعِ هذه
(1)
«تفسير المنار» (10/ 446).
(2)
«موقف المدرسة العقلية الحديثة من السنة النبوية» لـ د. شفيق شقير (ص/324).
(3)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/468)
المكتشفاتِ في دائرةِ أراضي هؤلاء المُكتشفِين
(1)
، فأوْلَى أن يخفى عليها ما هو خارجٌ عن أرضها!
ومَّما يدلُّك على تهافت هذا الادِّعاء أيضًا: ما يَربو إلى سمعكِ بين الفَينة والأخرى عبر وسائل إعلامٍ عالميَّةٍ مِن أخبارِ كشوفاتٍ جديدةٍ لجُزرٍ نائيةٍ، قد عَمِي عنها العَالَم المتقدِّم حِقبًا مَديدة.
فهذه جزيرة بركانيَّة تُكشَف جنوبَ طوكيو عاصمةِ اليابان قبل سِنين قليلة
(2)
!
وأخرى تظهر في نفسِ سنةِ الأولى في ساحلِ باكستانَ الجنوبيِّ مِن بحرِ العَرب
(3)
!
وثالثة تُكشَف في شواطئِ محافظةِ (أبْيَن) باليَمن، مِن قِبَل صيَّادٍ عن طريق الصُّدفة!
(4)
بعد أن أعمى الله عنها مَن تَبجَّحوا بأنَّهم أحاطوا بكلِّ بَحرِيٍّ خُبْرًا.
ولِم نذهب بعيدًا؟! فهذا كتاب ربِّنا يُخبر عن انحباسِ يأجوجَ ومأجوجَ في السَّدِ منذ عهد ذي القَرنين! وأنَّهم خارجون من رَدمِهم قبل قيام السَّاعة، وهذا بإجماع المسلمين، كما في قولِه تعالى:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُم مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 96 - 97].
ولا أخال أحدًا ذا دين وعقلٍ يرتابُ في هذه الآيات مِن سورة الكهف
(5)
، بدعوى أنَّ علماء الجيولوجيا قد مَسَحوا الأرضَ مسحًا، وجابوا سطحَ قارَّاتها طولًا وعرضًا، فلم يجدوا هذا السَّد، وأنَّ أحدًا منهم لم يلحَظ ذاك الحَفر.
(1)
انظر «دفاع عن السنة» (ص/96).
(2)
موقع قناة «سكاي نيوز العربية» ، الخميس 21 نوفبر 2013 م، والجزيرة اكتُشفت قبل بث الخبر بيوم، أي الأربعاء.
(3)
موقع «قناة العربية الفضائية» ، يوم الأربعاء 25 سبتمبر 2013 م.
(4)
صحيفة «26 سبتمبر» اليمنيَّة، يوم الأحد 27 يونيو حزيران 2004 م.
(5)
فما كان جواب المُعترضِ عن هذه الآية، فهو الجواب نفسُه عن الحديث؛ والَّذي قَدِر على إطلاع تميم رضي الله عنه على هذه الجزيرة، قادرٌ على أن يُضِلَّ سائر النَّاس عنها، ليَجرِيَ قدَرُه على وِفق ما قضى وأراد
(1)
.
وحسمًا لمادَّة هذه المعارضةِ يُقال:
إنَّ الربَّ تبارك وتعالى إذا أراد شيئًا هيَّأَ أسبابَه، فالله جل جلاله من حكمته أن أطلَعَ تميمًا الدَّاري رضي الله عنه على أمر الدجَّال؛ ليكون ذلك توكيدًا لما كان يُحدِّث به النَّبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه من شأنَ الدجَّال، ولحِكَمٍ أخرى نجهلُها، «فيزداد المسلمون وثوقًا به، وهذا بيِّنٌ في الحديث»
(2)
.
وأمَّا دعوى المعارض الرَّابع: أنَّ الحديث مُعارَضٌ بقولِ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لا تأتي مائة سنةٍ وعلى الأرض نفسٌ منفوسةٌ اليوم» ؛ فيُمكن كشفُ إشكالِه بجوابين:
الأوَّل: أن يكونَ النَّبي صلى الله عليه وسلم إنَّما أراد بهذا الحديث «الآدميِّين المَعروفين، وأمَّا مَن خَرج عن العادة، فلم يَدخُل في العُموم، كما لم تدخل الجنُّ، وإن كان لفظًا يَنتظِم الجنَّ والإنسَ، وتخصيصُ مثل هذا مِن مثلِ هذا العمومِ كثيرٌ مُعتاد»
(3)
.
والجواب الثَّاني: فيما حَرَّره محمَّد الأمين الشَّنقيطي بعدَ ذكرِه لحديثِ تميمٍ، قال:
(4)
.
(1)
انظر «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/467 - 468).
(2)
«الأنوار الكاشفة» (ص/134).
(3)
«مجموع الفتاوى» (4/ 340).
(4)
«أضواء البيان» (3/ 337).
وحيث أورَد العُثيمين حديثَ انخرامِ القرنِ إشكالًا على حديثِ الجسَّاسة، فإنَّه مع ذلك لم يجزِم بنُكرانِه كدأبِ المُتعجِّلين مِن مُنكري السُّنَن، بل اختارَ طريقَ السَّلامة، والتَّوقُّفَ في ما أشكلَ عليه؛ فعبارتُه قال فيها:«في نفسِه منه شيءٌ» ، مُعترفًا بتقصيره في تتبُّع أقوال العلماء في هذه المسألة
(1)
؛ فلعلَّه لو فعلَ، لانحازَ إلى صَفِّهم في قَبولِهم له.
فإن قيل تفريعًا عن هذا الإشكال:
أليس في هذا الطُّول المفرطِ في عمرِ الدَّجال، من عهد النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى قربِ قيامِ السَّاعة، ما يُثبت له الخلود، وهو ما قد نَفاه الله تعالى عن عموم البَشر؟
فيُقال في الجوابِ عليه: إنَّ للخلودِ مَعنيَين:
المعنى الأوَّل: ما يُراد به انتفاء الموتِ عن الشَّخصِ، «وهو البَقاء الدَّائم»
(2)
، وهو المُراد مِن كونِ أهلِ الجَنَّة وأهلِ النَّارِ المُشركين خالدين فيهما، فإنَّهم باقونَ فيهما أبَدًا مِن غير مَوتٍ ولا تحوُّل.
المعنى الثَّاني: ما يُراد به الطُّول المفرِط في المَكثِ متجاوزًا المَعهود، وإن استتبَعَ عدمَ بقاء، وهو المَقصود بآياتِ خلودِ بعضِ أهلِ الكبائر في النَّار مِن غيرِ أهلِ الشِّرك.
وكِلا هذين المَعنيينِ قرَّرهما الرَّاغب الأصفهانيُّ تعريفًا للفظِ الخلودِ، فقال:«الخلود: هو تبَرِّي الشَّيء مِن اعتراضِ الفسادِ، وبقاؤُه على الحالةِ الَّتي هو عليها؛ وكلُّ ما يَتباطَأ عنه التَّغيير والفساد، تصِفُه العَربُ بالخلودِ، كقولِهم للأثافي: خَوالِد، وذلك لطولِ مَكثِها، لا لدوامِ بقائِها»
(3)
.
فعلى هذا نقول:
إنْ كان المقصود بالخلودِ في هذا الاعتراضِ ما كان بالمعنى الأوَّل: أي انتفاء الموت عن الشَّخص ودوام بقائِه: فليسَ في جميعِ أخبارِ الدَّجال ما يُفهِم
(1)
كما في الجزء الثَّامن من برنامج «اللِّقاء المَفتوح» ، وعنوان المسألة:«حال حديث الجسَّاسة» .
(2)
«التفسير البسيط» للواحدي (15/ 69).
(3)
«المفردات» للرَّاغب الأصفهاني (ص/291).
ذلك، بل الوارد فيها مَقتَلُه على يَدِ المَسيح ابن مريم عليه السلام بُعيد نزولِه آخر الزَّمان، ثمَّ يعيشُ النَّاس بعدَ موتِه سَنواتٍ مَديدة.
وإن كان المقصودُ بالخلودِ معنَى اللَّبثِ الطَّويلِ الخارجِ عن العادة: فليس في الشَّرعِ ما يَنفي ذلك عن أحدٍ إذا ما صَحَّ فيه الخَبر؛ والدَّجال كلُّ أمرِه خارقٌ للعادة، وقد علِمتَ حالَه من العَجب، فلا يصِحُّ أن يُقاسَ على سائرِ الأسواءِ من البَشر
وعليه نفهمُ أنَّ نفيَ الله عز وجل لخلودِ أحدٍ مِن بني آدم في قولِه: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: 34]
(1)
، إنَّما هو نَفيٌ للخُلدِ بالمعنى الأوَّل، أي نفيَ البقاءِ في الدُّنيا مِن غيرِ مَوتٍ، أي: أنَّه «لا يخلُد في الدُّنيا بَشَر، فلا أنتَ يا محمَّد ولا هُم إلَّا عُرضةٌ للمَوتِ؛ فإذا كان الأمرُ كذلك، فإنْ مِتَّ أنتَ أيبقَى هؤلاء؟»
(2)
، ولذلك أُعقِبَت الآيةُ بقولِه:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35].
وأمَّا جوابُ المعارض الخامس؛ في دعوى أنَّ استشهادَ النَّبي صلى الله عليه وسلم برجلٍ كِتابيٍّ على ما كان يحدِّث المُسلمين به: حَطٌّ مِن شأنِه .. إلخ، فيُقال فيه:
إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يكُن المُبادر ابتداءً إلى إشهادِ تميمٍ الدَّاري رضي الله عنه لمِا كان يخبر به عن الدَّجال، بل تميم رضي الله عنه هو مَن وَفَد إليه فأخبره عفوًا بما جَرى له مع الدَّجال؛ فلمَّا أن وافقَ ما كان يحدِّث به النَّبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه، أعجبَه صلى الله عليه وسلم ذلك، فأخبرَ بالقصَّة استزادةً في يقينِ السَّامِعين، وتثبيتًا لإيمانِهم؛ وليسَ مَن رَأى كمَن سمِع!
ثمَّ ما العيب، وهذا القرآن نفسُه قد أمرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بإشهادِ بعضِ أهلِ الكتابِ على صِدقِ نُبوَّتِه، مع أنَّ نُبوَّته قد شهِد له بها الوَحيُ نفسُه، فقال تعالى:{قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} [الرعد: 43]؛ ولكن
(1)
وبهذه الآية نفى حاكم المطيري في جملة ما نفى به جواز المكث الطويل للدجال كما يُفهم من حديث الجسَّاسة، وبه أنكر الحديث.
(2)
«الكشَّاف» للزمخشري (3/ 116)، وانظر «جامع البيان» للطبري (16/ 268).
الغرض إقامة الحجَّة على الكافِرين، وزيادة يقين المؤمنين، وهذا أمرٌ مَطلوب شرعًا.
فإذا كان استشهاد النَّبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكتابِ جائزًا في خبرٍ كُليٍّ مُتعلِّقٍ بأصلِ النُّبوة، فكيف لهذا المُعترض أن يُنكرَ استشهادَ النَّبي صلى الله عليه وسلم بأحدِ المسلمينَ في خَبر جُزئيٍّ مُتعلِّق بخبرٍ فرعيٍّ مِن أخبار النُّبوة؟!
والله المُوفِّق للحقِّ.