الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الأوَّل
المعايير المُصحِّحة لأيِّ نقدٍ مُعاصرٍ لأحاديث «الصَّحيحين»
توجَّه بعضُ المُشتغلينَ بالنَّقدِ الحديثيِّ في عصرنا إلى «الصَّحيحين» ببيانِ ما ظَهر لهم من عِلَلٍ أحاديثهما، مُتمرِّسين في ذلك بقواعدِ «علم المُصطلَح» ؛ قد ساروا فيها على مناهجَ مُتباينةٍ مِن حيث التَّنزيل، حتَّى تَبايَنَت أحكامُهم على المَنقودِ مِن أحاديث الكِتابينِ، حسبَ تمكُّنِ كلٍّ منهم مِن آلاتِ النَّقدِ، وتمكُّنِ النَّزعةِ الفِكريَّة أو المَذهَبِيَّة من هواه.
فقد كان أبرزَ هؤلاءِ المُعاصرينَ الَّذين تَكلَّموا في بعضِ أحاديثِ «الصَّحيحين» ، وأمْكَنَ أقرانهمأقرانهم مِن الصَّنعةِ الحديثيَّة، وكان لآرائِهم النَّقديَّة الوَقْعَ الأكبرَ على أبناءِ زمَنِهم ومِن جاء بعدَهم، وتُذرِّع بأقوالِهم كثيرًا مِن أربابِ النِّحَلِ الفكريَّةِ المختلفةِ في للكلام في «الصَّحيحين»: محمَّد زاهد الكَوثريُّ، ثمَّ أحمد بن الصِّديق الغُمَاري، وشقيقه عبد الله بن الصِّديق، ثمَّ محمَّد ناصر الدِّين الألباني، آخر الأربعةِ وَفاةً.
ومنعًا لأيِّ خَطلٍ مَنهجَيٍّ يُودِي بالصِّحاحِ المُتَّفق عليها، وقبل دراسة ما أعلَّه هؤلاء المعاصرون من الصَّحيحين: وجبَ التَّنبيه إلى ثلاثةِ مَعايِير شَرطيَّة، لا بدَّ لكلِّ من تعنَّى النَّظر في «الصَّحيحين» أن يَعتبِر بها قبل الاستعلَانِ بحُكمِه، فأيُّ نقدٍ لم تتحقَّق فيه عُدَّ هملًا، ولم يكُن له قيمةٌ عند المُحقِّقين من أهل الحديث، وهي على النَّحو التَّالي:
المعيار الأوَّل: الانضباطُ بقواعدِ الأئمَّة المُتَقدِّمينَ في التَّعليلِ وقواعِد النَّقد؛ وهذا لا أُرى خلافًا عليه بين من تحقَّق علوم الحديث على أصولها.
المعيار الثَّاني: مُراعاة طريقةِ تَصنيفِ «الصَّحيحين» ، ومَنهجُ الشَّيخينِ في انتقاء أحاديثهما؛ فمِن غير اللَّائقِ -مثلًا- أن يُقَدَم على تَضعيفِ ما عَلَّقه البخاريُّ في «صحيحه» بصيغةِ التَّمريضِ، أو أن يُنكِرَ عليهما ما أخرجَاه على وجهِ التَّعليل له، أو ما ذَكروا له أوجُهًا مُتباينةً إشارةً إلى عِلْمِهما بالخلافِ، فيأتي مَن لا يَفهم عوائدَهما في التَّصنيفِ، ليَستدرِكَ عليهما مثلَ هذه الأمثلةِ.
المعيار الثَّالث: أن يكون تعليلُ الحديث في أحدِهما مَسبوقًا إليه مِن أحَدِ الحُفَّاظِ المتقدِّمين بعد الشَّيخين؛ وهنا نحتاج إلى نوعِ تفصيلٍ لهذا الشَّرط، للتَّفريقِ بين وَجْهين مِن أوجهِ التَّعليلِ لأخبارِ «الصَّحيحين» ، فنقول:
إنَّ تعليلَ المُعاصِرين لِما في «الصَّحيحين» لا يخرج عن حالَتين:
الأولى: أن يُعِلَّ أحدهم أصلَ حديثٍ بتَمامِه، احتَجَّ به الشَّيخان في «الصَّحيحين» ، دون أن يُسبق إلى ذلك مِن أحدِ الحفَّاظِ المُتقدِّمين:
فهذا مِمَّا لا يُقبل مِن صاحبِه؛ وعِلَّة ذلك: أنَّ الكِتابين قد تَلقَّت الأمَّة جملةَ أخبارهما بالقَبول؛ وليس مِن المَقبول اعتقادُ قُدرةِ أحَدِنا على استدراكِ حديثٍ بالتَّعليلِ، وقد مَرَّ على أعيُنِ أكابرِ النُّقادِ والحُفَّاظِ والفقهاءِ طيلةَ قرونٍ مُتتابعةٍ، معتقدين لمُقتضاه؛ بخلاف ما يُنازع فيه بعضُ النُّقاد، فقد بيَّنا قبلُ أنَّ ذلك مِن مَوارِدِ الاجتهادِ في التَّصحيحِ، كمَوارِدِ الاجتهادِ في الأحكامِ الفقهيَّة.
يقول ابن تيميَّة: «ما اتَّفَقَ العلماءُ على صِحَّته، فهو مثل ما اتَّفَق عليه العلماء في الأحكام، وهذا لا يكون إلَّا صِدقًا، وجمهور مُتون «الصَّحيح» مِن هذا الضَّربِ، وعامَّة هذه المتون تكون مَروِيَّةً عن النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن عِدَّة وجوهٍ، رَوَاها هذا الصَّاحِب، وهذا الصَّاحِب، مِن غير أن يَتَواطآ، ومثلُ هذا يُوجِب العِلمَ القَطعيَّ»
(1)
.
(1)
«مجموع الفتاوى» (18/ 22).
فهؤلاءِ الَّذين يَتذَرَّعون مِن المُعاصِرينَ بقواعدِ المصطلح ليَتَسلَّطوا بها على أخبارِ «الصَّحيحين» بالإعلالِ، لشيءٍ ظهر لهم في أسانيدها، هم مخالفون بادي الرَّأي لأولئك العلماء الَّذين أخذوا عنهم تلك القواعد! فلكم أعلموهم أنَّ أحاديثَ الكِتابينِ قد جاوَزَت القنطرة، وفُرِغَ مِن دراستِها، وتُلقِّيت بالتَّصديقِ لجملةِ ما فيها.
يقول العلائيُّ (ت 761 هـ): «إذا جَزَم المحدِّث بالخَبرِ وصَحَّحه، واطَّلع غيرُه فيه على عِلَّةٍ قادحةٍ فيه، قُدِّمت على تَصحيحِ ذاك، ما عَدا تصحيح الشَّيخين، لاتِّفاقِ الأمَّةِ على تَلقِّي ذلك منهما بالقبول»
(1)
.
فكان حقًّا مِن الجَهل بالحقيقةِ والشَّرع في الحكمِ، أن يَخضع الدَّارسون للأحاديث لتلك القواعدِ المَرسومةِ المَحدودةِ الَّتي جاءت في كُتبِ مَن تأخَّر زمانه عن زمانِهم، وانحَطَّ مَكانُه عن مكانهم، فيُؤخَذ «تهذيب الكمال» للمِزِّي -مثلًا- أو مُختصراتِه للحافظِ ابنِ حَجر، أو «ميزان الاعتدال» للذَّهبي -على فَضلِ هذه الكُتب، وفَضلِ مُؤلِّفيها على المُشتغلين بهذا العلمِ- فيَحكُم على «الجامعِ الصَّحيح» للبخاريِّ، أو «الجامع الصَّحيح» لمسلم، أو «الموطَّأ» للإمامِ مالكٍ.
فيُعادَ الأمرُ جذعًا! ويُستَأنف النَّظرُ في هذه الكُتبِ الَّتي تَلقَّتها الأمَّة بالقَبول، وبَلغ أصحابُها إلى أقصى دَرجاتِ التَّحقيقِ والدِّقةِ والتَّحرِّي، وتُشرحَ تشريحَ الأجسام، وتُسَلَّطَ عليها المَقاييسُ المَحدودة، الَّتي تَقبل النِّقاشَ، ويَتَّسع فيها مَجال الكلام.
فهذا النَّوع مِن القسوةِ العِلميَّة، والجَفافِ الفكريِّ، والعَملِ التَّقليديِّ -على حدِّ تعبير النَّدْوي- «سيُحدِثُ فوضَى تَزلزلُ بها أركانُ الدِّين، وتَتَضعضَعُ بها العقيدةُ واليَقين، ويَتَورَّط المسلمون في اضطرابٍ قد أغناهم الله عنه، وكفاهم شَرَّه»
(2)
.
الحالة الثَّانية: أن يكون كلام المُعاصِر فيما يَتَعلَّق ببعضِ الألفاظِ اليَسيرةِ في أخبارِ «الصَّحِيحَين» ، لا في أصلِ الخَبرِ:
فهذا باب مَفتوحٌ لِمن انطبقَ عليه المِعيارانِ الأوَّلان مِن مَعايير نقدِ المعاصرين «الصَّحيحين» ، لأنَّ الأمَّة إنَّما تَلقَّت أخبارَ «الصَّحيحين» بالقَبول في الجملة، ولم تُطبق على تصديقِ ما فيهما بكلِّ الحروفِ والألفاظِ! فهذا ليس إلَّا لكتابِ الله، فهو الَّذي قَبوله فَرضٌ بحروفِه وألفاظِه؛ وما نُقل إلينا مِن أحاديثِ -سواء في «الصَّحيحين» أو غيرهِما- لم يَكُن النَّبي صلى الله عليه وسلم تَلَفَّظ بها جميعَها بحروفِها، بل منها ما رُوِي بالمعنى كما هو مَعلوم.
فمَن بانَ له عِلَّة لفظٍ في حَديثٍ لا تُؤثِّر في أصله ومَعناه، أو زيادةٌ يراها ضَعيفةً في مَبناه، فله أن يُفصِح عن ذلك بشرطِه المُتقدِّم؛ وعلى هذا جَرى المُحَقِّقون مِن الحفَّاظِ المتأخِّرين في نَقدِ «الصَّحِيحَين» ، منهم النَّوَويُّ، وابنُ القطَّان الفَاسيُّ، وابن تَيميَّة، وابن القَيِّم، والذَّهبي، وابنُ حَجر، وغيرهم كثير، لمِنَّ تَأمَّل مَواطنَ ذلك في مُصَنَّفاتِهم.
فبهذه المَعايِير الثَّلاثةِ المُقرَّرة على ناقدِ الكِتابين، مُعتمَدنا في اسْتِكناهِ مَوقفِ المَشايخ الأربعةِ المعاصرين مِن أخبارِ «الصَّحِيحين» ، ونقد تعليلاتِهم لما أعلُّوه منها، اختبارًا لسلامةِ المنهج الَّذي سَلكوه في ذلك، وتبيُّنًا لمَدى وهاء الفكرةِ الَّتي عَوَّل عليها مَن سَوَّلت له نفسُه الطَعنَ في أحاديثِ «الصَّحِيحين» في تذرُّعه بهؤلاء المُعاصرين؛ فنقول مُستعينين بالله تعالى: