الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّاني
سَوْق المعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
لأحاديثِ رؤيةِ الله تعالى في الجنَّة
حاصِلُ ما ساقَه المخالفون لأهلِ السُّنةِ على نصوصِ الرؤيَّةِ مِن معارضاتٍ عقليَّةٍ، يمكننا إجماله في مَقامَين:
الأوَّل: مُعارضات مُورَدةٌ على أصل الرُّؤية.
الثَّاني: مُعارضات سِيقت على بعضِ الألفاظِ الواردةِ في أحاديثِ الرُّؤية، تستلحقُ ردَّ الحديثِ كلِّه.
فأمَّا المَقام الأوَّل: فمِمَّا أُورِد على أصلِ الرُّؤية: دعواهم أنَّ ما تضمَّنته تلك الأحاديث مُصادِمٌ للدَّلائلِ العقليَّة والنَّقليةِ:
أمَّا العقليَّة: فادَّعوا أنَّ البَصر لا يُدرِك إلَّا الألوانَ والأشكال، والله تعالى ذاتٌ غير ماديَّة، فمِن المستحيل إذن أن يَقع عليه بَصرٌ سبحانه، والقول به هدْمٌ للتَّنزيه، وتَشبيهٌ لذاتِ الله؛ ذلك أنَّ الرُّؤية لا تحصل إلَّا بانطباعِ صورة المَرئيِّ في الحَدقة، ومِن شرطِ ذلك انحصارُ المَرئيِّ في جِهةٍ معيَّنةٍ مِن المكان، حتَّى يمكن اتِّجاه الحَدقة إليه، وهذا شأن الأجسام، والله تعالى ليس بجسمٍ، ولا تحدُّه جِهةٌ من الجِهات، ولو جاز أن يُرَى في الآخرةِ لجازت رؤيتُه الآن، فشروط الرُّؤيةِ لا تَتغيَّر في الدُّنيا والآخرة
(1)
.
(1)
انظر مجمل شبهات المعتزلة لنفي الرؤية في «الأصول الخمسة» للقاضي عبد الجبار (ص/74).
وأمَّا الدَّلائل النَّقلية: فاستدلَّ نُفاة أحاديث الرُّؤية ببعض الأدلَّة القرآنيَّة، زعموا تأكيدَها لما دلَّ عليه نظرهم العقليُّ، مِن أشهرِها:
قول الله تعالى: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، والمعنى عندهم: لا تراه الأبصار.
وقول الله تعالى لموسى عليه السلام بعد طلبِه النَّظرَ إليه: {لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143]، و (لن) تفيد التَّأبيد.
وفي تقرير هاتين المُعارَضين لتلكم الأحاديث، يقول (جعفر السُّبحاني):
(1)
.
وعلى هذا أطلقَ سَمِيٌّ له في مِلَّة الرَّفضِ
(2)
دعوى عريضةً على أهل السُّنة، يتَّهِمهم فيها بتوليةِ ظهورِهم عن الآيات النَّافية للرُّؤية، وانجرارِهم وراءَ سرابِ أحاديثِ «الصَّحيحين» ، كما تراها في قول (صادق النَّجمي):
(3)
.
(1)
«الحديث النَّبوي بين الرواية والدراية» (ص/243).
(2)
ذهبت الشيعة الإماميَّة إلى نفي الرُّؤية مجاراةً للمعتزلة، وجاءت رواياتٌ عديدة ذكرها ابن بابويه في كتابه «التوحيد» ، وجمع أكثرها صاحب «بحار الأنوار»: تنفي ما جاءت به النُّصوص من رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة، حتَّى جعل الحرُّ العامليُّ في كتابه «الفصول المهمَّة في أصول الأئمَّة» (ص/12) نفيَ الرُّؤية مِن أصول الأئمَّة الاثني عشر الَّتي يكفُر من قال بخلافها.
ونفيُ الاثنا عشريَّة لرؤية المؤمنين ربَّهم في الآخرة هو خروج عن مذهب أهل البيت أنفسِهم! فقد اعترفت بعض رواياتهم بذلك، منها ما رواه ابن بابويه القمِّي: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قلتُ له: أخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم»، انظر «مختصر التحفة الاثني عشرية» (ص/97)، و «أصول مذهب الشيعة الإمامية الإثني عشرية» (2/ 551 - 552).
(3)
«أضواء على الصَّحيحين» (ص/143).
ومِن قِحة ما تقحَّمه الإماميَّة في خصومتِهم مع أهل السُّنة، أن احتجُّوا عليهم في بطلانِ أحاديث الرُّؤية بكلامِ أمِّهم عائشة رضي الله عنها وهم يطعنونَ فيها! فزَعموا استدلالَها على نفيِ رؤيةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم لربِّه بقوله سبحانه:{لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} ، وهو نفس ما استدلُّوا به على نفيِ عمومِ الرُّؤية أيضًا، حيث سُألِت:«يا أَمَتاه؛ هل رأى محمَّد صلى الله عليه وسلم ربَّه؟ فكان مِمَّا قالته: .. مَن حَدَّثك أنَّ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم رأى ربَّه فقد كَذب، ثمَّ قرأت: {لَاّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}»
(1)
.
فأمُّ المؤمنين عائشة إذ أنكرت هذا القولَ في رؤيةِ محمَّد صلى الله عليه وسلم ربَّه ليلة المعراج، تمسَّكت في نصرةِ مَذهبِها بهذه الآية، فلو لم تكن هذه الآية مفيدةً للعمومِ بالنِّسبة إلى كلِّ الأشخاصِ وكلِّ الأحوالِ لما تمَّ ذلك الاستدلال عندها.
وفي تقرير هذه الشُّبهة يقول (هاشم معروف): «هذه الرِّواية تَتنافى مع الرِّوايات الَّتي تنصُّ على أنَّه يُرى كما يُرى القمر ليلة تمامِه، .. ولا بدَّ من تكذيب إحدى الطَّائفتين، ولا شكَّ أنَّ رواية السَّيدة عائشة تتَّفق مع الكتاب، ويؤيِّدها العقل، فهي أولى بالقَبول والاعتبار»
(2)
.
وأمَّا المَقام الثَّاني مِن المعارضات المستنكرةِ لبعضِ ألفاظِ أحاديث الرُّؤية، فأهمُّهما اثنتان، تتلخَّصان في الآتي:
الأولى: ادَّعى فيها (حسن السَّقاف) بأنَّ حديث أبي موسى الأشعريِّ في الرُّؤية: «جنَّتَان مِن فضَّة، آنيتهما وما فيهما .. » ، مُعارَضٌ بمِا ورَد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في وصفِ الجنَّة أنَّها «لبِنة من ذهبٍ، ولبِنة من فضَّة»
(3)
، فليست ذهبًا خالصًا،
(1)
أخرجه البخاري هكذا مختصرًا في (ك: تفسير القرآن، باب: قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}، رقم: 4855)، وأخرجه مسلم في (ك: الإيمان، باب: معنى قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} ، وهل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء، رقم:287).
(2)
«دراسات في الكافي وصحيح البخاري» لهاشم معروف (ص/208).
(3)
أخرجه الترمذي في «جامعه» (ك: صفة الجنة، باب: باب ما جاء في صفة الجنة ونعيمها، رقم: 2526)، وأحمد في «المسند» (رقم: 8747)، وصحَّحه ابن حبان في «صحيحه» (باب: وصف الجنة وأهلها، ذكر الإخبار عن وصف بناء الجنة التي أعدها الله عز وجل لأوليائه وأهل طاعته، رقم: 7387)، وأشار إليه مخرِّجو «مسند الإمام أحمد» (13/ 410) بالصَّحة لشواهده.
أو فضَّةً خالصةً، كما في حديث أبي موسى، ولذا قال هذا السَّقاف:«والجمع بينهما مُتكلَّف، لا ينتظِم مع عِلمنا به»
(1)
.
الثَّانية: ادَّعى فيها نفسُ (السَّقاف) بأنَّ ما في حديث أبي موسى مِن قوله صلى الله عليه وسلم: « .. وما بَين القومِ وبين أن ينظروا إلى ربِّهم إلَّا رداء الكِبْر على وجهِه في جنَّة عَدن» : دالٌّ على خلافِ مقصودِ أهلِ السُّنة، إذ فيه أنَّ الرِّداءَ حاجبٌ عن الرُّؤية، فيقول:« .. فالحديث ليس فيه إثبات رؤية النَّاس لربِّهم، والله مُنزَّه عن الحلول في جنَّة عَدن، وهذا الحديث غريب الإسناد، باطل المتن، والله المستعان»
(2)
.
(1)
«مسألة الرؤيا» لحسن السقاف (ص/28).
(2)
«مسألة الرؤيا» لحسن السقاف (ص/29).