الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دَفعُ دعاوى المعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن أحاديثِ الإسراءِ والمعراج
مُحصَّل ما مرَّ مِن الشُّبهاتِ آيلٌ إلى إحالةِ هؤلاء المُعترضين لما تضمَّنه الحديث، ومَناطُ إحالتِهم: خروجُ حادثة «الإسراء والمعراج» عن مقتضى العادة، وعدم مباشرة الحسِّ لها، فالتبس عليهم الأمرُ، فظنُّوا أنَّ ذلك يستوجبُ إحالة العقل لهذا الحديث، فلا يمكن على مقتضى ذلك التَّسليمُ بهذه الآية الَّتي أكرم الله جل جلاله نبيَّه صلى الله عليه وسلم بها.
فزلَّتْ بهم أقدامُهم إلى ردِّ الحديث، وتطلُّبُ العِلَل الواهية الَّتي لا تقوى على إبطال حقيقة ما دلَّت عليه هذه الآية العظيمة.
ومَن ألطَفَ النَّظرَ فيما انطوت عليه بعض هذه الطُّعون، تحصَّل لديه أنَّها لا تصدُر إلَّا مِمَّن يَشكُّ في قدرة الخالق سبحانه وتعالى على خَرْقِ سُنن الكون، لا ممَّن يؤمن بالله تعالى، وبكمال قُدرته
(1)
.
وقبل إِيراد المعارضات العقليَّة المعاصرة، وإسلافِ جواباتِ أهل العلمِ عن آحاد هذه الاعتراضات على الحديث؛ فإنَّه يَتعيَّن الإِشارة إلى مَلحظ مهمٍّ:
وهو انعقاد إجماع الأمَّة على وقوع الإسراء والمعراج، وأنَّ هذه الحادثة مِن البراهين والآيات الدالَّة على نبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لذلك ترى مدى احتفالِ أهلِ
(1)
انظر «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/377).
السِّيَر والحديث واحتفائِهم بهذه الحادثة، وعقْدهم المصنَّفات في بيانها، والتماس العِبَر منها، ونظْمها في دلائلِ النبوَّة
(1)
، وما ذاك إلَّا لكونها -كما أسلفتُ- مِن الدَّلائل العظيمة الَّتي أكرمَ اللهُ بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم.
وممَّن نقل الاتِّفاق على ذلك: القاضي عياض السَّبتي، حيث قال:«لا خلاف بين المسلمين في صحَّة الإسراء به صلى الله عليه وسلم .. »
(2)
، وأبو الخطَّاب ابن دِحية
(3)
، حيث قال:«حديثُ الإسراء أجمع عليه المسلمون، واعترض فيه الزَّنادقة المُلحِدون .. »
(4)
.
ومُرتكَز هذا الإجماع: القرآن والسُّنة، فقد نَصَّ الله سبحانه على الإسراء في موضعين من كتابه العزيز:
أولاهما: قوله جل جلاله: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الإسراء: 1].
فقد أخبر المولى أنَّه أسرَى بعبدِه، والعَبد مجموعُ الرُّوحِ والجَسد، ولم يُخبر أنَّه أَسرى بروحِه فقط، كما غَلِط في تأويلِه قِلَّةٌ مِن أهلِ العلم
(5)
، ولذا نراه
(1)
من تلك الأسفار التي خَصَّتْ هذه الحادثة بمزيد عناية: «الآيات العظيمة الباهرة في معراج سيد أهل الدنيا والآخرة» لشمس الدين محمد بن يوسف الشامي، وله عدَّة مصنفات في هذه الحادثة كلُّها مخطوطة، و «السراج الوهاج في ازدواج المعراج» لابن ناصر الدين الدمشقي، و «رسالة في المعراج» لأبي الحسن علي بن محمد اللخمي، و «الإسراء» لعبد الغني المقدسي، و «نور المسرى في تفسير آية الإسرا» لأبي شامة المقدسي، و «الآية الكبرى في شرح قصة الإسرا» لجلال الدين السيوطي، و «الإسراء والمعراج» للقاسمي، و «الإسراء والمعراج» لمحمد ناصر الدين الألباني، وغيرها كثير بين مطبوع ومخطوط، تجدها مسرودةً في «معجم الموضوعات المطروقة في التأليف الإسلامي» لعبد الله الحبشي (1/ 93 - 96).
(2)
«الشِّفا» (1/ 177).
(3)
أبو الخطاب عمر بن الحسين بن دحية الكلبي (ت 633 هـ): المعروف بـ «ذي النَّسَبين» الأندلسيُّ السَّبتي، أحد الحُفَّاظ، من أعيان أهل العلم وفقه مالك، متقنا لعلم الحديث النبوي وما يتعلق به، عارفًا بالنحو واللُّغة وأيام العرب وأشعارها، من مصفاته «المطرب من أشعار أهل المغرب» ، و «عَلم النصر المبين، في المفاضلة بين أهل صفِّين» ، انظر «سير أعلام النبلاء» (22/ 389).
(4)
«الابتهاج في أحاديث المعراج» لابن دحية (ص/59).
(5)
انظر «زاد المعاد» لابن القيم (3/ 36)، حيث ردَّ على هذا القول، مع تنبيهه على أنهم لم يريدوا به أن الإسراء كان منامًا.
تعالى يُقدِّم التَّسبيحَ قبل سَوْقِ خَبر الإسراءِ، لبَيانِ أنَّ هذا الخبرَ مِن الأمورِ العِظام، فلو كان مَنامًا كما ظَنَّه ابن إسحاقَ
(1)
، لم يكُن مُستعظَمًا، ولم يكن للتَّسبيح معنى عنده
(2)
!
فقصْرُ الإسراءِ على الرُّوح تَعَدٍّ لِما قاله اللهُ إلى غيره، والقولُ به مخالفةٌ لظاهرِ القرآن، وما استفاضت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاءت به الآثار عن الصَّحابة والتَّابعين.
وثانيهما: ما أشار الله تعالى فيه إلى رؤية نبيِّه صلى الله عليه وسلم لجبريل على خلقتِه الأصليَّة حين عُرج به في السَّماء السَّابعة، في قوله:{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 13 - 18].
ولقد تواترَت الأخبار بحادثة الإسراء والمِعراج؛ فمِمَّن نقَلَ هذا التَّواتر:
أبو الخطَّاب ابن دِحية
(3)
، والزُّرقاني
(4)
،
(5)
.
مِمَّا دعا ابنَ جعفر الكتَّاني (ت 1345 هـ) لإيداعها كتابَه «نَظْم المُتَناثر»
(6)
.
(1)
انظر «سيرة ابن هشام» (1/ 399)، وقد أجاد ابن جرير في الرَّد عليه في «جامع البيان» (14/ 446).
(2)
انظر «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير (5/ 43).
(3)
«الابتهاج» لابن دحية (ص/59).
(4)
«شرح الزرقاني على المواهب اللَّدُنيَّة» (8/ 15).
والزُرقاني (ت 1122 هـ): هو محمَّد بن عبد الباقي الزُّرقاني، أبو عبد الله المالكي، إمام متفنِّن، من مؤلفاته «شرح موطأ مالك» ، انظر «شجرة النور الزكية» (1/ 460).
(5)
«الجواب الصحيح» لابن تيميَّة (6/ 168).
(6)
«نظم المتناثر» (ص/207).
وبعد تحقيق القولِ في ثبوتِ إجماعِ السَّلفِ على وقوعِ الإسراء والمعراج بجسده صلى الله عليه وسلم، لم يَبْقَ إلَّا قطعُ سُوقِ الشُّبهاتِ بسَيفِ البراهين، فدونك بيانُ ذلك في الأجوبةِ التَّالية.
أمَّا جواب المعارضة الأولى: في دعوى أنَّ الهواءَ يُفقَد بعد أميالٍ فوق الأرض؛ وعلى هذا فلا يتأتَّى العيشُ لأحدٍ بعد انقطاع الهواء:
أنَّ حادثة الإسراء والمعراج وإن جَرى فيها مِمَّا هو خارج عن مَقدور الثَّقلين؛ ليتمَّ بها نَصْبُ الدَّلائل على نُبوَّته صلى الله عليه وسلم: إلَّا أنَّها ليست مُخالفةً لبدائِه العقلِ البتَّة، والعقل لا يَستعصي عليه تَصوُّر ذلك، فمَن خَلَق الإنسان مُفتقرًا إلى الهواء؛ قادرٌ على أن يجعَلَه مُستغنيًا عنه، وإِنَّما لعَدَم مُباشرةِ الحِسِّ لمثلِ ذلك، تراه يُنكر كلَّ ما لا يَقع في دائرةِ إدراكِه، وهذا هو القصور بعينِه.
فالتَّكذيبُ بهذه الأحاديث لكونِها أثبتَت وقوعَ أمرٍ خارقٍ لمِا اعتاده البَشَر من مُقوِّماتِ مَعيشتِهم: يؤُول إلى الطَّعنِ في كمالِ قدرةِ الله تعالى والإيمان به؛ فإنَّ مثل هذا الاعتراضِ لا يكاد يصدرُ إلَّا ممَّن لا يؤمن بالله أو ويشكُّ في قدرته جل جلاله، فمثل هؤلاء يكون الخطاب معهم في تثبيتِ هذا الأصل، فإذا ثَبت ثبتَ لازمه
(1)
.
أما قول المُعترضِ في الشُّبهة الثَّانية: إنَّ إثباتَ أخبارِ المِعراج يلزم منه تجويزُ الجهل على الله تعالى -تعالى الله عمَّا يقول الظَّالمون علوًّا كبيرًا- بما هو في مَقدرة عبادِه، وما ليس هو في مقدورهم .. إلخ:
فالجواب عن ذلك أن يُقال:
ليس في الحديث ما يَستلزم ذلك أبدًا؛ فليس في الخمسين صلاةً الَّتي فرضها الله تعالى على عبده وخليلِه محمَّد صلى الله عليه وسلم ما يكون في أدائِها استحالةٌ مِن جِهة تعذُّر قُدرةِ العبادِ على أدائها.
(1)
انظر «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/385).
أمَّا قول موسى عليه السلام في الحديث: «إنَّ أمَّتَك لا يستطيعون ذلك، فارجعْ إلى ربِّك، فاسأله التَّخفيف لأمَّتك .. » ، فلا يُحقِّق مَطلوبَهم؛ ذلك أَنَّ نفْيَ الاستطاعةِ مِن موسى عليه السلام لا يُرادِفُ الاستحالةَ بحالٍ في هذا المقام، وإِنَّما مقصوده عليه السلام مَشقَّةُ ذلك على أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم، برهان ذلك: أنَّه أطلق هذا اللَّفظ؛ حتَّى بعد صَيْرورة الصَّلاةِ مِن خمسين إلى خمس؛ فقال: «إنَّ أمَّتَك لا تستطيع خمسَ صلواتٍ كلَّ يوم»
(1)
!
يقول المُعَلِّمي: «كانت الصَّلاة قبل الهجرة رَكعتين رَكعتين؛ كما ثَبَت في الصَّحيح
(2)
، فخمسون صلاةً مائةُ ركعةٍ؛ وليسَ أداءُ مائةِ ركعةٍ في اليومِ واللَّيلة بمستحيل، وفي النَّاس الآن مَن يُصلِّي نحو مائةِ ركعةٍ، ومنهم مَن يزيدُ، وفي تراجم كثير مِن كبار المسلمين: أنَّ منهم مَن كان يصلِّي أكثرَ مِن ذلك بكثيرٍ
(3)
؛ بل إنَّ أداءَ مائةِ ركعةٍ في اليوم واللَّيلة ليس بعظيمِ المشقَّة في جانب الله عز وجل مِن الحقِّ، وما عنده مِن عظيم الجزاء في الدُّنيا والآخرة
…
فأمَّا الله تعالى؛ فالفرضُ في علمِه خمسُ صلواتٍ فقط؛ ولكنَّه سبحانه إذا أراد أن يرفعَ بعضَ عباده إلى مرتبةٍ، هَيَّأَ له ما يستحقُّ به المرتبة؛ ومن ذلك: أن يهيِّئ ما يَفهم منه العبدُ أنَّه مُكلَّفٌ بعمل مُعيَّن شاقٍّ، فيقبَل التَّكليف، ويستعدَّ لمحاولةِ الأداء، فحينئذٍ يُعفِيهِ اللهُ تعالى من ذلك العمل، ويكتبُ له جزاءَ قَبوله، ومحاولةِ الوفاء به، أو الاستعدادِ لذلك: ثوابَ مَن عمِلَه، ومِن هذا القبيل قصَّة إبراهيم عليه السلام في ذبحِ ابنه.
وأمَّا محمَّد صلى الله عليه وسلم فكان يعلم أنَّ الأداء ممكِنٌ -كما مَرَّ-، وكان في ذلك المقام الكريم مُستغرقًا في الخضوعِ والتَّسليم، ووَفَّقه الله عز وجل لقبولِ ما فهمه في
(1)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/385 - 386).
(2)
أخرجه البخاري في (ك: الصلاة، باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء، رقم: 350)، ومسلم في (ك: صلاة المسافرين وقصرها، باب: صلاة المسافرين وقصرها، رقم: 685).
(3)
كما تراه -مثلًا- في «مناقب الإمام أحمد بن حنبل» لابن الجوزي (ص/382) بإسناده إلى عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: «كان أبي يُصلِّي في كلَّ يوم وليلة ثلاث مئة رَكعة، فلمَّا مَرض من تلك الأسواط أضعفته، فكان يُصلِّي كلَّ يوم وليلة مئة وخمسين ركعة، وقد كان قُرب من الثَّمانين» .
فرْضِ خمسين، والاستعدادِ لأدائِها؛ ليكونَ هذا القبول والاستعداد مقتضيًا لاستحقاقِ ما أراد الله عز وجل أن يعطيَه وأمَّتَه مِن ثوابِ خمسين صلاة
…
فأمَّا المراجعة للتَّخفيف بعد مشورةِ موسى عليه السلام: فإِنَّما كانت بعد أن استقرَّ القَبول والعزمُ على الأداء، وعلى وجه الرَّجاء؛ إنْ خفَّف به فذاك، وإلَّا فالقبول والاستعداد بحاله.
ولم يُذكَر في الحديث أنَّ أحدًا من الرُّسل اطَّلع على فرض الصَّلاة، وإِنَّما فيه: أنَّه لمَّا مرَّ محمَّد بموسى عليهما السلام سأله موسى، فأخبره .. واختُصَّ موسى بالعناية؛ لأنَّه أقرب الرُّسل حالًا إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ كُلًّا منهما رسولٌ مُنَزَّلٌ عليه كتابٌ تشريعيٌّ سائسٌ لأمَّة أريد لها البقاء، لا أنْ تُصْطَلَم بالعَذاب»
(1)
.
وبهذا يتقرَّر انتفاءُ هذا اللَّازم عمَّن يُثبِت أخبارَ المعراج؛ إذ لا ريب في شمول علم الله تعالى لأحوال عباده وما يصلحهم، «ولكنَّ الباري جل جلاله أراد أن يُظهِر فضيلةَ محمَّد صلى الله عليه وسلم في خضوعِه وتسليمِه، وفضيلة موسى عليه السلام، بأن جعَلَه سَببًا للتَّخفيفِ عن هذه الأمَّة، مع إبرازِ عظيمِ رحمتِه بهذه الأمَّة، ومع ما في هذه المُراجعةِ مِن كريمِ المُناجاة بين الله تعالى ونبيِّه صلى الله عليه وسلم»
(2)
.
وأمَّا قول القائلِ في المعارضةِ الثَّالثةِ: أنَّ في ثبوتِ هذا الخَبرِ ما يَستلزم التَّناقضَ؛ إذْ كيف يَرى النَّبيُ صلى الله عليه وسلم الأنبياء في بيت المقدس ويُصلِّي بهم، ثمَّ يكون في الوقتِ ذاتِه في السَّماء؟ وكيف يكون موسى عليه السلام في السَّماء السَّادسة، ويراه في الوقتِ نفسِه في قبره يصلِّي؟
فيُقال له: ليس هناك تَناقضٌ إلَّا في ذهنه؛ فإنَّ شرطَ التناقُضِ وَحدةُ الزَّمان؛ وهذا غير مُتحقِّق هنا، ذلك أنَّه صلى الله عليه وسلم حينما أُسْرِي به إلى بيتِ المَقدس، أَمَّ الأنبياءَ -عليهم الصَّلاة والسَّلام-، ومِن المَعلوم أنَّ وقتَ صلاتِه بهم لم يكُن وقتَ رؤيتِه لهم في السَّماء حينما عُرِج به.
وفي بيان انتفاءِ هذا التَّناقض، يقول عَقِيل القُضاعِيُّ المُرَّاكشي (ت 608 هـ)
(1)
متعقِّبًا الحُميديِّ (ت 488 هـ) في استشكاله ما حَصَل مِن رؤيتِه صلى الله عليه وسلم لإخوانِه الأنبياءِ في مَواطِن مختلفة حين قال: «ومِن المحال أَن يكونوا في مكانين مختلفين في وقت واحدٍ!» ؛ فقال القُضاعِيُّ:
«قولُ الحُميديِّ .. قولٌ صَحيح في نفسِه، مَعلومٌ ببديهةِ العقلِ .. إنَّ كونهم -أي الأنبياء- تلك اللَّيلة في السَّماوات، إِنَّما كان بسبب عروج النَّبي صلى الله عليه وسلم إلى السَّماوات، فيكون كونهم هنالك، ككونهم ببيتِ المقدس، وككونِ موسى في قبره يُصلِّي، ثمَّ ينتقلون مِن ذلك الموضع إلى حيثُ شاء الله من الجنَّة، أو من غيرها.
ويجوز أن يكون ذلك مَوضعهم في الغالب، ولا نقول إنَّه مَوضعهم على الدَّوامِ بسبب كونهم ببيت المقدس تلك الَّليلة، وكما جاز في تلك اللَّيلة يجوز في غيرها؛ وعلى الجُملة: فالدُّخول في مثل هذه المَضايقِ لا يَنبغي لعاقِلٍ، فإنَّها مُغيَّبة عنَّا، وإِنَّما نتكلَّم فيها بِحَسَبِ ما فهمناه مِن الشَّريعة»
(2)
.
فإن قيل: فكيف لموسى عليه السلام أن يصلِّي في قبرِه وهو مَيِّت، وروحه في السَّماء؟
فيُقال: إنَّ لِعالَم الأرواح خصوصيَّةً تختلف عن شأنِ البَدَن، وقد بيَّن ابن تيميَّة جواب هذا السُّؤال في قوله:«وأمَّا كونُه صلى الله عليه وسلم رأى موسى عليه السلام قائمًا يُصلِّي في قبره، ورآه في السَّماء أيضًا: فلا منافاة بينهما؛ فإنَّ أمرَ الأَرواحِ مِن جِنس أَمرِ الملائكة، في اللَّحظة الواحدة تصعدُ وتهبِطُ كَالمَلَكِ، ليست في ذلك كالبَدَنِ»
(3)
.
(1)
عقيل بن عطية القُضاعي الطَّرطوشيُّ ثمَّ المرَّاكشيُّ: حافظ متقن، مُتصرف في فنون من العلم، مع حسن الخطِّ والمشاركة في الأدب، وليَ قضاء غرناطة وسجلماسة، من مصَّفاته:«شرح مقامات الحريري» ، و «رد على ابن عبد البر في بعض تواليفه وتنبيه على أغلاطه» ، انظر «التكملة لكتاب الصلة» لابن الأبَّار (4/ 33)، وانظر مُقدِّمة مصطفى باحو لتحقيق كتابه «تحرير المقال» .
(2)
«تحرير المقال» لعقيل بن عطية (1/ 107 - 108).
(3)
«مجموع الفتاوى» (4/ 329).
وبهذا تنجلي غيوم الشُّبهات عن نور هذه الآية النَّبويَّة الرَّفيعة، والحمد لله على توفيقه وهدايته.