الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دَفعُ المعارضاتِ الفكريَّةِ المُعاصرةِ
عن حديث ذبح الموت بين الجنَّة والنَّار
فقد دَرجَ بعض أئمَّة السُّنة في مَطاوي مَعْلماتِهم الجامعةِ لأحرفِ الاعتقادِ، على عدِّ الإيمان بما تضَمَّنه حديثا ابنِ عمر وأبي سعيدٍ الخدري رضي الله عنهم مِن جُمَل عقائدِهم الَّتي يُجاهِرون بها أهلَ الأهواءِ والبِدَع، لِما صَحَّت عندهم في ذلك الأخبار عن النِّبي المختار صلى الله عليه وسلم، ودوَّنه الجهابذة الأخيار، ونقَلوه للأمَّةِ مِن غير إنكار.
يقول عبد الغنيُّ المقدسيُّ (ت 600 هـ): «نُؤمِن بأنَّ الموتَ يُؤتَى به يومَ القيامة فيُذبَح، كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه»
(1)
.
ويقول ابن قُدامة (ت 620 هـ): « .. ويُؤتى بالموتِ في صورةِ كبشٍ أملحٍ، فيُذبح بين الجنَّة والنَّار»
(2)
.
ويقول صدِّيق حسن خان (ت 1307 هـ): « .. والمَوت يُؤتى به يوم القيامة فيُذبح، كما روى أبو سعيد عن النَّبي صلى الله عليه وسلم»
(3)
.
(1)
«الاقتصاد في الاعتقاد» (ص/194).
(2)
«لمعة الاعتقاد» (ص/33).
(3)
«قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر» (ص/127).
وكثيرٌ مِن علماءِ الكلامِ -مع تسليمِهم بصحَّةِ الحديث- يُحيلون ظاهرَه، فيتأوَّلونه على المعنى الَّذي تَستسيغه العقول، ولا تنكره في نظرِهم:
فمرَّةً يتأوَّلون الموتَ فيه: على أنَّه ملَك الموت -كما سبق نقله قريبًا عن ابن العربيِّ وابن حجر-.
ومرَّةً يتأوَّلونه على كونِه شخصًا يخلُقه الله يُسمِّيه الموت!
(1)
ومرَّةً يحمِلونه على مجرَّد التَّمثيل والتَّشبيه، وأن لا حقيقة لذلك في الخارج
(2)
.
والَّذي يُستحسن بنا علمُه ابتداءً: أنَّا إذا وقفنا على أمرٍ من الغيوب المَحكيَّة في نصوص الوحيِ فلا نضرب له الأمْثالَ
(3)
؛ وجميع ما مرَّ من تلك التَّأويلات -وإن كانت خيرًا مِن جَلافةِ الطَّعنِ في الحديث بالمرَّة- لا داعيَ لها حيث أمكنَ حملُ معنى الحديثِ على الحقيقة؛ وليس مِن حقيقة الحديث تحوُّل الأعراضِ والمعاني نفسِها إلى أجسامٍ مَحسوسةٍ! هذا في بدائِه العقولِ مُمتنع لذواتِه، ولا نَطَق بهذا النَّبي صلى الله عليه وسلم ولا أراده.
وإنَّما معناه المُراد به: ما أجاد ابن قيِّم الجوزيَّة الإبانةَ عنه بأنصعِ عبارةٍ في قولِه:
«هذا الكبش، والإضجاع، والذَّبح، ومُعاينة الفَريقين: ذلك حقيقةٌ، لا خيالٌ ولا تمثيلٌ، كما أخطأَ فيه بعض النَّاس خطأً قبيحًا، وقال: الموت عَرَض، والعَرض لا يَتجسَّم، فضلًا عن أن يُذبَح! وهذا لا يصحُّ، فإنَّ الله سبحانه يُنشئ مِن الموتِ صورةَ كبشٍ يُذبَح، كما يُنشِئ مِن الأعمالِ صورًا مُعايَنةً يُثاب بها ويُعاقَب.
والله تعالى يُنشِئ مِن الأعراضِ أجسامًا تكون الأعراضُ مادَّةً لها، ويُنشِئ مِن الأجسامِ أعراضًا، كما يُنشِئ سبحانه وتعالى مِن الأعراضِ أعراضًا، ومِن الأجسامِ
(1)
ممن قال بذا أبو عبد الله القرطبي في «التذكرة» (ص/386).
(2)
وممن قال به: المازَري، نقله عنه السيوطي في «الحاوي للفتاوي» (2/ 182).
(3)
«فيض الباري» للكشميري (5/ 322).
أجسامًا، فالأقسام الأربعة مُمكنةٌ مَقدورةٌ للرَّبِ تعالى، ولا يَستلزم جمعًا بين النَّقيضين، ولا شيئًا من المُحال.
ولا حاجة إلى تكلُّفِ مَن قال: أنَّ الذَّبح لملَكِ المَوتِ! فهذا كلُّه مِن الاستدراك الفاسدِ على الله ورسولِه، والتَّأويلِ الباطلِ الَّذي لا يُوجِبه عقلٌ ولا نقلٌ، وسببُه: قِلَّة الفهمِ لمُرادِ الرَّسول صلى الله عليه وسلم مِن كلامِه؛ فظنَّ هذا القائلُ أنَّ لفظَ الحديثِ يدلُّ على أنَّ نفسَ العَرَضِ يُذبح، وظنَّ غالطٌ آخر أنَّ العَرَضَ يُعدَم ويزول، ويصير مكانَه جسمٌ يُذبح!
ولم يهتدِ الفريقان إلى هذا القول الَّذي ذكرناه، وأنَّ الله سبحانه يُنشِئ مِن الأعراض أجسامًا، ويجعلها مادَّة لها، كما في الصَّحيح عنه:«تَجِيء البقرة وآل عمران يومَ القيامة كأنَّهما غَمامَتان» الحديث
(1)
، فهذه هي القراءة الَّتي يُنشِئها الله سبحانه وتعالى غَمامتين.
وكذلك قوله في الحديث الآخر: «إنَّ ما تذكرون مِن جَلال الله: مِن تسبيحِه، وتحميدِه، وتهليلِه، يتَعاطَفن حول العرشِ، لهن دَوِيٌّ كدَويِّ النَّحل، يُذكِّرنَ بصاحبهنَّ» ، ذكره أحمد
(2)
.
وكذلك قوله في حديث عذابِ القبر ونعيمه، للصُّورة الَّتي يراها فيقول:«مَن أنت؟ فيقول: أنا عملُك الصَّالح، .. وأنا عملُك السَّيء»
(3)
.
وهذا حقيقةٌ لا خيال، ولكنَّ الله سبحانه أنشأَ له مِن عملِه صورةً حسنةً وصورةً قبيحةً، وهل النُّور الَّذي يُقسَم بين المؤمنين يومَ القيامة إلَّا نفسُ إيمانهم؟!
(1)
أخرجه مسلم في (ك: الصلاة، باب: فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، برقم: 804).
(2)
أخرجه في «المسند» (30/ 337، رقم: 18388)، وقال مخرجوه في هامشه:«إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الصَّحيح، غير موسى بن مسلم الطحان، فمِن رجال أصحاب السُّنن عدا الترمذي، وهو ثقة» .
(3)
أخرجه أحمد في «المسند» (30/ 501، برقم: 18534)، والحاكم في «المستدرك» (ك: الإيمان، رقم: 107) وغيرهما، قال البيهقي في «الشُعب» (1/ 610):«هذا حديث صحيح الإسناد» ، وقال ابن منده في «الإيمان» (2/ 962):«هذا إسناد متصل مشهور، رواه جماعة عن البراء .. وهو ثابت على رسم الجماعة» .
أنشأ الله سبحانه لهم منه نورًا يَسعى بين أيديهم، فهذا أمرٌ مَعقولٌ لو لم يَرِد به النَّص، فورود النَّص به مِن باب تطابق السَّمع والعقل»
(1)
.
وإلى هذا المعنى نَزَع أحمد شاكر (ت 1377 هـ) في تخريجه لـ «المُسند» ، فبعد أن نَقل استشكالَ ابنَ العربيِّ للحديثِ ومحاولَته تأويلَه، قال مُعلِّقًا عليه:
(2)
.
والحمد لله.
(1)
«حادي الأرواح» (ص/401 - 402).
(2)
«مسند الإمام أحمد» بتخريج أحمد شاكر (5/ 333).
قلت: د. يوسف القَرضاوي -وهو مِمَّن نحا مَنحى الاستبعادِ والإحالةِ للحديث- بعدَ نقلِه إنكارَ أحمد شاكرٍ على ابنِ العربيِّ تأويلَ الحديث، اعترِفَ أنَّ مسْلكَ شاكرٍ يقوم على «مَنطقٍ قَويٍّ ومُقنِعٍ» ، لكنَّه رجَّح مع ذلك طريقةِ المُتأوِّلين للحديث، حيث قال في كتابه «كيف نتعامل مع السنة النبوية» (ص/182):
وقد سبق ترجيح النَّأي عن هذا المسلك في التَّعامل مع الحديث في أعطافِ كلامِ ابن القيِّم، ولَم أرَ د. القَرضاويَّ يشير إليه موافقةً أو مخالفةً، فلعلَّه لم يَرَه أو لم يُقنعه، والله أعلم.