الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب السَّادس
موقف الألبانيِّ
(1)
(ت 1420 هـ) مِن «الصَّحيحين»
الألبانيُّ لونٌ آخر من رتوت المُحدِّثين وأفذاذ المُخرِّجين في هذا العصر، كرَّس حياتَه لمشروعِ «تقريب السُّنةِ بين يَدَي الأمَّة»
(2)
، فهو في هذا البابِ من التَّخريجِ نهاية لا تُقارَب، وهمَّةٌ في البحث لا تعُارَض، يحشُد لمِا يَراه حَقًّا مِن النُّقولاتِ ما يُحرِج المُخالفَ، ويُبهِرُ المُؤالِف.
أقول هذا إنزالًا له منزلته المُستحقَّة لا تحيُّزًا -معاذ الله- فلقد لامَستُ بنفسي قُوَّة عريضتِه النَّقديَّة أثناء دِراسَتي لمِا أعلَّه مِن أحاديثِ «الصَّحِيحين» ؛ فأخَذَ الرَّد عليه مِن جهدي وزادَ نقدُه في كَدِّي ما لم أجِده مِمَّن عرَّجتُ عليهم مِن مُعاصِريه مِمَّن ذكرتهم قريبًا.
(1)
محمد بن نوح نجاتي، الشهير بمحمد ناصر الدين الألباني: وُلد بمدينة أشقودرة بألبانيا 1914 م، هاجرت به أسرته إلى الشَّام هربًا بدينها بعد أن تولَّى حُكم ألبانيا العلمانيُّ أحمد زوغو، تعلَّم على والده هناك شيئًا من العربيَّة وفقه الحنفيَّة، ثمَّ حُبِّب إليه علم الحديث تأثُّرًا بمجلة المنار لرشيد رضا، فانكبَّ على دراسته حتَّى برع فيه واشتُهر به، وله العديد من المؤلَّفات، منها: سلسلتا الأحاديث الصحيحة والضعيفة، و «إرواء الغليل» ، و «جلباب المرأة المسلمة» ؛ انظر ترجمته في كتاب «حياة الألباني وآثاره» لمحمد الشيباني.
(2)
أفصح عن ذلك في مُقدمته لـ «مختصر صحيح مسلم» (ص/5).
الفرع الأوَّل: موقف الألبانيُّ من أحاديث «الصَّحيحين» .
الألبانيُّ مُعترِفٌ بعَظيمِ فضلِ «الصَّحيحين» ، شديدُ الحَفاوةِ بهما، وهو على جَلَده في التَّحقيق، وحرصِه على التَّدقيق، إذا بَدا له ضَعفُ شيءٍ فيهما، تَباطَأ في إصدارِ حُكمِه، وأنعمَ النَّظرَ تمحيصًا لنقدِه، هِيبةً منه للشَّيخينِ، وإجلالًا منه للكِتابين، خلافًا للثَّلاثةِ المعاصرين قبله!
فكان من جميل ما يقول في حقِّ البخاريِّ: «إنَّ حديثًا يخُرِجه الإمامُ البخاريُّ في «المسندِ الصَّحيح» ليسَ مِن السَّهلِ الطَّعن في صِحَّته لمُجرَّدِ ضعفٍ في إسناده، لاحتمالِ أن يكون له شَواهد تأخذُ بعضُدِه وتُقوِّيه»
(1)
.
وكلام الألبانيِّ هنا متوجِّهٌ فيه بالنَّصيحةِ إلى مَن يجري في مِضمارِ العلماءِ، ويستعمل أدَواتِ نقدهم الَّتي أصَلُّوها في كُتبِ المُصطَلح والتَّخاريج، فيُنبِيه بوعورةِ مَسالكِ النَّقدِ للصَّحِيحين؛ وأمَّا الحائدون عن منهجِ المُحدِّثين المُترامون على الكِتابينِ بشبهاتِ العقلنةِ وهوى النُّفوس، فقد كان الألبانيُّ لهم بالمِرصاد!
فهذا الكوثريُّ وهو الطُّلَعة اللَّوْذَعي، حين تَعَدَّى حَدَّه بإعلال حديث مُتَّفَق عليه في «الصَّحيحين» دون دليل مُعتبر، لم يَسكُت له الألبانيُّ، بل أخَذَ قلمَه يُسطِّرُ به غلطاته ويُبيِّن تَعالُمَه فيه، حَمِيَّةً منه لهذين الأصلين العظيمين من أصول السُّنَّة
(2)
.
ومثلُ ذلك فعَلَ بالغُماريِّ عبدِ الله حينَ أعَلَّ حَدِيثَيْن فيهما، واحدًا مُتَّفَقًا عليه، والآخَر في «مسلم» ؛ فتصدَّى له بأن نَفَى العِلَّة عن أسانيدهما، وبَرَّأهما مِن الشُّذوذِ في مَتْنَيهما، ودَلَّ على أنَّ المُعِلَّ أحقُّ بوصف الشُّذوذِ، إذ خالف فيهما أئمَّة الحديث
(3)
.
(1)
«السِّلسلة الصَّحيحة» (4/ 185).
(2)
انظر مقدمة تخريجه لـ «العقيدة الطحاوية» (ص/50 - 51).
(3)
انظر «السِّلسلة الصَّحيحة» (رقم: 2814)، و «آداب الزَّفاف» (ص/56 - 57).
إلى غير هذين مِمَّن تصدَّى الألبانيُّ لدفعِ مُعارضاتِهم عن «الصَّحيحين»
(1)
؛ قد بَلَغَ ما دافعَ عنه فيهما خمسةً وعشرين حديثًا
(2)
.
الفرع الثَّاني: المُآخذاتِ على نقداتِ الألبانيِّ لأحاديث «الصَّحيحين» .
ومعَ ما أظهرَه الألبانيُّ مِن مَوضوعيَّةٍ في النَّقدِ، وتَجرُّدٍ في الأحكامِ، وذَبٍّ عن «الصَّحِيحين» يُشكَر عليه؛ إلَّا أنَّه أُوخِذَ عليه في أحاديث رأى أنَّ البخاري ومسلمًا -مع جلالتِهما في الفنِّ- قد أخطآ في تصحيحها، والفرضُ أنَّهما غير معصومين في ما اجتهدا فيه، فجائز عنده الاستدراك عليهما مادام هذا النَّقد مبنيًّا على قواعده العلميَّة المعتبرة، بدليل نقد الحفَّاظ لهما على مرِّ القرون.
فلمَّا طبَّق ما دَرَسه مِن قواعدِ علمِ الحديث على ما مَرَّ به من أحاديث «صحيح البخاري» ، وَجَد بعضَها تقصُر عن مرتبةِ الصَّحيح أو الحسن؛ فضلًا عمَّا وَجَده من ذلك في «صحيح مسلم» .
يقول بعد حكمِه على جملةٍ من حديث في «البخاريِّ» بالشُّذوذ: «هذا الشُّذوذ في هذا الحديث مثال من عشرات الأمثلة الَّتي تدلُّ على جهل بعض النَّاشئين الَّذي يتعصَّبون لـ «صحيح البخاري» وكذا لـ «صحيح مسلم» تعصُّبًا أعمى، ويقطعون بأنَّ كلَّ ما فيهما صحيح! ويُقابل هؤلاء بعض الكُتَّاب الَّذين لا يقيمون لـ «الصَّحيحين» وزنًا، فيردُّون من أحاديثهما ما لا يوافق عقولهَم وأهواءَهم، .. وقد رددتُّ على هؤلاء وهؤلاء في غير ما موضع»
(3)
.
فهو يرى أنَّ من الواجبِ بيان حالِ مثل هذه الضِّعاف في «الصَّحيح» ، أداءً لأمانة العلمِ، ومنعًا لدخولِ ما ليس بسُنَّة في السُّنَّة، وردعًا لمن يُخرج منها ما هو ثابت فيها؛ فقد كان يُبدي هذه النيَّة أحيانًا أثناء تخريجِه لبعض أحاديث البخاريِّ،
(1)
راجع تَعقُّباته الكثيرةِ لحسَّان عبد المنَّان في تضعيفِه لعددٍ من أحاديث «الصَّحيحين» في كتابه «النَّصيحة، في التَّحذير من تخريب ابن عبد المنَّان لكُتب الأئمَّة الرَّجيحة» .
(2)
انظر «ردع الجاني» لطارق عوض الله (ص/52).
(3)
«السلسلة الصحيحة» (6/ 93).
كما تراه في تضعيفِه للفظٍ في البخاريّ، قال أثناءه:«لو جاز لنا أن نحابيَ الإمام البخاريَّ، لقُلنا: إنَّه قد توبع الفُضيل على لفظِه، ولكن مَعاذ الله أن نحابي في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدًا»
(1)
.
ولأجل الوقوف على منهج الألبانيِّ في نقد أحاديث «الصَّحيحين» ، ومدى مُوافقته في ذلك للمنهج النَّقدي عند المحدِّثين، تبيُّنًا لنسبةِ الصَّواب في أحكامِه الَّتي قَضى فيها بالضَّعف أو النَّكارة لما في «الصَّحيحين» ، فقد درستُ هذه الأحاديث المُعلَّة ممَّا وقفتُ عليه من تخريجاتِه لها في مُصنَّفاته المتنوِّعة
(2)
؛ ومشيتُ في تقسيم هذه المَعلولات على نفسِ الطَّريقة الَّتي ذكرها في جوابِه لبعضِ من سَأله عن حقيقةِ تضعيفِه لبعض ما في «البخاري» ، فقال خلالَه:«نقدي الموجود في أحاديث «صحيح البخاري» تارةً يكون للحديثِ كلِّه، يُقال: هذا حديث ضعيفٌ؛ وتارةً يكون نقدًا لجزءٍ من حديثٍ، وأصل الحديث صحيح، لكن يكون جزءٌ منه غير صحيح»
(3)
.
وأزيد علي هذين القسمين قسمًا آخر، وهو ما تكلَّم فيه في «الصَّحيحين» إسنادًا مع تصحيحِه للمتنِ، فوجدتُ النَّتائج التَّالية:
القسم الأوَّل: ما أعلَّه الألباني إسنادًا في «الصَّحيحين» والمتنُ صحيح عنده.
مثاله: كلامه في إسنادِ حديثَيْ أبي هريرة رضي الله عنه في «صحيح البخاري» : «مَنْ عادَى لي وَليًّا»
(4)
، و «ليس مِنَّا مَن لم يَتَغنَّ بالقرآن» مِن روايةِ أبي عاصم الضَّحاك
(5)
، وهو يُصحِّحهما من أوجه أخرى.
(1)
«السلسلة الصحيحة» (14/ 1055).
(2)
أرجو الله تعالى أن يوفقني لنشرها في رسالة مستقلة؛ آمين.
(3)
سلسلة الهدى والنور، الشريط الصوتي رقم:(739).
(4)
أخرجه البخاري (ك: الرقاق، باب: التواضع، رقم: 6502)، وتخريج الألباني له في «السلسلة الصحيحة» (4/ 183 برقم: 1640).
(5)
أخرجه البخاري (ك: التوحيد، باب: قوله تعالى: (وأسروا قولكم أو اجهروا به)، رقم: 7527)، وكلام الألباني عليه في «أصل صفة الصلاة» (2/ 585 - 586).
ومثلها في «صحيح مسلم» قد بَلغَت ثلاثة عشر حديثًا
(1)
منها تسعةُ أحاديث مِن طريقِ أبي الزُّبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، يُضَعِفُّ الألبانيُّ أسانيدَها بدعوى تدليسِ أبي الزُّبير وقد عَنْعَن، لكنَّ مُتونها صحيحةٌ عنده مِن أوجهِ أخرى.
فهذا القسم لا إشكال فيه، ما دام نقد الألباني متعلِّقًا برسومِ الإسنادِ البَحتة، مع إقرارِه بصحَّةِ المتونِ مِن وجوهٍ أخرى.
وأمَّا القسم الثَّاني: ما أعلَّه الألباني مُطلَقًا وهو في «الصَّحيحين» .
فمجموعُ ما أعَلَّ فيهما الحديثَ كاملًا: اثنا عشر حَديثًا:
سبعة منها في البخاريِّ: أخطأَ الألبانيُّ في تعليلِها جميعًا! ولم يكن له سَلَفٌ في ذلك.
وخمسة منها في مسلم: أخطأ في ثلاثة أحاديث ولم يكُن له سَلفٌ من المُتقدِّمين في تضعيفها؛ وأصاب في حديثين كان مسبوقًا في أحدهما إلى تعليله مِن بعضِ المُتقدِّمين، والآخر أخرَّه مسلم في الباب عن الرِّواية الأصحِّ إشارة إلى علَّته.
وأمَّا القسم الثَّالث: مِمَّا قد أعَلَّ الألباني فيهما جزءًا من حديث دون أصلِه: فبلغت ستة عشر حديثًا
(2)
.
ما كان مِن ذلك مُتَّفقًا عليه: فحديث واحد، وهو حديث أبي هريرة: «إن أمَّتي يُدعَون يوم القيامة غرًّا مُحجَّلين مِن آثارِ الوضوء، فمَن استطاعَ منكم أن
(1)
انظر «دراسات في صحيح مسلم» لعلي الحلبي (ص/104).
(2)
أعرضت عن إيرادِ كلامِ الألباني في حديث أبي الدَّرداء من طريق شعبة في «صحيح مسلم» مرفوعًا: «مَن حفظَ عشرَ آياتٍ من آخر سورة الكهف عُصم من الدجال» ، وحكمِه على لفظ «من آخر» بالشُّذوذ، وأنَّ المحفوظ قول الجماعة:«من أوَّل» ، لأجلِ أنَّ الألباني يعلمُ أنَّ مسلمًا نفسَه بيَّن شذوذه من طريق شعبة، وقد أورده بعد الرِّواية المحفوظةِ في «صحيحه» (1/ 556)، فهو تحصيل حاصل.
يُطيل غُرَّته فليفعَلْ»
(1)
، فقد حكم الألبانيُّ على الجملة الأخيرة:«فمَن استَطاعَ .. » بالوقفِ على أبي هريرة، وذكر أنَّ بعضَ الرُّواةِ أدرَجَها في المرفوع
(2)
؛ وهو مَسبوق في هذا من عدَّة حفَّاظ متأخِّرين، والأمر عندي فيه محتمل.
وسبعة منها في البخاري: أخطأ الألبانيُّ في أربعةٍ منها، وأصابَ في ثلاثة، ثلاثتها خُرِّجَت في المتابعاتِ أو الشَّواهدِ، قد سُبق إلى تضعيف ذلك الجزء فيهما من متقدِّمين.
وتسعة منها في مسلم: أصاب الألبانيُّ في ثمانية، وأخطأ في واحد، لكن أغلبها في المتابعات.
والخلاصة: أنَّ الألبانيَّ لم يُصِبْ فيما أعَلَّه مِن أصول «الصَّحيحين» جملةً إلَّا في اثنين في «صحيح مسلم» قد سُبِق إلى تعليلهما من المُتقدِّمين؛ أمَّا ما كان كلمةً أو فقرةً مِن الحديث، فقد أصابَ في اثني عشر مِن مجموعِ سبعة عشر، وواحد محتمل، أغلبُها في «مسلم» ، وأغلبُ هذه عنده في المتابعات والشَّواهد لا في الأصول.
ومن تكلَّم فيهم من الرُّواة الَّذين احتجَّ بهم البخاري: الصَّحيحُ أنَّهم في درجةِ الصَّدوق، كفُليح بن سليمان، ويحيى بن سليم، وأبو شهاب الحنَّاط؛ أو تكون تهمة الاختلاط منتفية عن بعضهم، كحال أبي إسحاق السَّبيعي؛ فإن كانوا ضعفاء حقيقةً فيكونون متابعين في ما أخرجه لهم البخاريُّ، كفضيل بن سليمان وعبد الله بن عبد الرَّحمن بن دينار؛ ومَن ثبت عليه الضَّعف من غير متابعة، فقد سُبق الألبانيُّ إلى التَّنبيه عليه من المتقدِّمين، كحال شريك بن عبد الله.
(1)
أخرجه البخاري (ك: الوضوء، باب: الوضوء، ومسلم (ك: الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل، 246).
(2)
«السلسلة الضعيفة» (3/ 104).
وأمَّا الَّذين في صحيح مسلم، فمن ضعَّفهم الألبانيُّ فإمَّا أن يكون مسبوقًا في ذلك من المتقدِّمين، كحال عمر بن حمزة العمري؛ أو يكونوا مِمَّن أخرج لهم مسلم في المتابعات والشَّواهد لا الأصول، كهشام بن حسَّان وعياض بن عبد الله الفهريِّ.
لتصدُق بذا مقولةُ الذَّهبي في الرَّاوي الَّذي أخرج له الشَّيخان في الأصول: «تارةً يكون الكلام في تَليينِه وحفظِه له اعتبارٌ، فهذا حديثُه لا ينَحطُّ عن مرتبةِ (الحسن)، الَّتي قد نُسمِّيها: (مِن أدنى درجاتِ الصَّحيحِ)، فما في الكِتابين -بحمدِ الله- رجلٌ احتجَّ به البخاريُّ أو مسلم في الأصول ورواياتُه ضعيفة، بل حسنةٌ أو صحيحةٌ»
(1)
.
ولقد رأيتُ كيف أقدم في نقدِه للصَّحيحين على تعليلِ أحاديث كاملةٍ لم يُسبَق فيها مِن ناقدٍ متقدِّم، بل العلماء على الإقرارِ بصحَّتِها روايةً ودرايةً، ثمَّ تأكَّد هذا الغلط في التَّعليل من غير سلفٍ بخطئه فيها مِن حيث الصَّنعة الحَديثيَّة.
ولن أستدلَّ في هذا المقامِ على غلط الألبانيِّ بأكثر من أن أنقل كلامَه هو الموافقِ على منع تعليل ما تلقَّته العلماء بالقبول في «الصَّحيحين» ، وهو ما علَّق به على نصِّ ابن حجر لإفادة الحديث المتلقَّى بالقبول العلمَ، يقول فيه:
« .. وقد غفل عن هذا التَّلقي وأهميَّته كثير من النَّاس في العصر الحاضر، الَّذين كلَّما أشكل عليهم حديثٌ صحيحُ الإسناد لجؤوا إلى ردِّه، بحجَّة أنَّه لا يفيد القطع واليقين، فهم لا يقيمون وزنًا لأقوال الأئمَّة المتخصِّصين الَّذين قيَّدوا قولَهم بأنَّ حديث الآحاد يفيد الظَّن بقيود، منها: إذا كان مختلفًا في قبوله.
أمَّا إذا كان مُتَلقًّى مِن الأمَّة بالقبول، لا سيما إذا كان في «الصَّحيحين» على ما بيَّنه المؤلِّف رحمه الله: فهو يفيد العلمَ واليقينَ عندهم، ذلك لأنَّ الأمَّة معصومة عن الخطأ، .. فما ظنَّت صحَّته، ووجب عليها العمل به، فلا بدَّ أن يكون صحيحًا
(1)
«الموقظة» (ص/80).
في نفس الأمر، كما قال العلَاّمة أبو عمرو بن الصَّلاح في مقدِّمته، وتبعه الحافظ ابن كثير وغيره»
(1)
.
وفي كلامٍ له آخر أبْيَن في المقصود يقول: «خبر الآحاد يُفيد العلمَ واليقين في كثيرٍ من الأحيان، مِن ذلك: الأحاديث الَّتي تلقَّتها الأمَّة بالقَبول، ومنها ما أخرجه البخاريُّ ومسلم في صحيحَيهِما، ممَّا لم يُنتقَد عليهما، فإنَّه مَقطوع بصِحَّته، والعلمُ اليقينيُّ النَّظري حاصلٌ به .. »
(2)
.
فليتَ الألبانيَّ أخذَ بهذا التَّأصيل القويم بعينِ الاعتبارِ أثناء تعليلِه لبعضِ أحاديثِ «الصَّحيحين» ؛ والَّذي ظَهَر لي في سِرِّ هذا التَّناقض بين ما أصلَّه هنا في هذه المسألة، وبين تَضعيفِه ما ليس له فيه سَلَفٌ مِن المُتقدِّمين من آحاد «الصَّحيحين»:
أنَّ الألبانيَّ متابع لرشيد رضا في تسويتِه بين نوعين مِن النَّقدِ مختلفين في تعليلِ أحاديث «الصَّحيحين» ، كان ينبغي التَّفريق بينهما:
بين تضعيفِ كلمةٍ مِن حديثٍ، أو شطرٍ منه، لشذوذٍ ونحو لذلك: فهذا جائزٌ كما قدَّمنا تقريره لمِن تَأهَّل له بشروطه.
وتضعيفِ أصل حديثٍ بأكملِه من غير سلفٍ في ذلك! فهذا الَّذي نمنعُه.
ولعلَّ الألبانيَّ لمَّا رأى بعضَ المُحدِّثين المتأخِّرين مَشوا في نقدِ أحاديث «الصَّحيحين» على النَّوع الأوَّلِ -كابن القطَّان، وابن تيميَّة، وابن حجرٍ- قاسَ على ذلك النَّوع الثَّاني فاستجاز فيه ما استجازَ في الأوَّل!
ظَهر لي هذا التَّأليفُ منه بين هذين النَّوعين المُختلفين في مثالِ جوابِه لمِن سَألَه عمَّن سَبَقه إلى إعلالِ بعضِ أحاديث «البخاريِّ» ، حيث قال:« .. في أثناءِ البحثِ العلميِّ، تَمرُّ معي بعضُ الأحاديثِ في «الصَّحيحين» أو في أحدهما، فينكشِفُ لي أنَّ هناك بعضُ الأحاديث الضَّعيفة، لكن مَن كان في ريبٍ ممَّا أحكُم
(1)
«النكت على نزهة النظر» لعلي الحلبي (ص/74).
(2)
«الحديث حجة بنفسه في العقائد والأحكام» للألباني (ص/62).
أنا على بعضِ الأحاديث، فليَعُد إلى «فتحِ الباري» ، فسَيَجِدُ هناك أشياءَ كثيرةً وكثيرةً جِدًّا، يَنتقِدُها الحافظ أحمد ابنُ حَجَرٍ العَسقلاني»
(1)
.
وكنَّا قرَّرنا آنفًا أنَّ نقداتِ ابن حجر لبعضِ ما في «الصَّحيحين» هو مِن النَّوع الثَّاني المُتعلِّق بكلمةٍ أو بعضِ كلماتٍ في الحديث، لا أصل الحديث كما فَعَل الألبانيُّ!
وكان الألبانيُّ قد قدَّم لجوابه السَّالف بأن قال للسَّائل: «أمَّا ما يَتَعلَّق بغيري مِمَّا جاء في سؤالِك: وهو هل سَبَقك أحَدٌ؟ فأقول -والحمد لله- سُبِقت من ناسٍ كثيرين، هم أقعد منِّي وأعرفُ منِّي بهذا العلم الشَّريف، وقُدامى جدًّا بنحوِ ألفِ سنةٍ، كالإمام الدَّارقطني وغيره، فقد انتقدوا الصَّحيحين في عشرات الأحاديث، أمَّا أنا فلم يبلغ بي الأمر أن أنتقد عشرة أحاديث .. » .
وهذا أُراه خطأً منهجيًّا في تسويغِ مذهبه هذا؛ فالألبانيُّ وإن سُبق من سلفِ المحدِّثين في أصلِ النَّقد والتَّعليل لأحاديثِ «الصَّحيحين» ، لكنَّه لم يُسبَق إلى تعليلِ أفرادٍ منها بعينِها! ومحلُّ النِزاع في هذا لا الأوَّل.
وهذا نفسُ ما وقع فيه (رشيد رضا) قبله، غير أنَّ هذا كان يلِج إلى ذلك من خلالِ طعونه العقليَّة في المتون، والألبانيُّ يلج إلى تعليلها من خلال الصَّنعة الإسناديَّة!
وقد ظهر مِن خلال دراسةِ أحاديث الأقسامِ الثَّلاثة السَّابقة، أنَّ الألبانيَّ قد أصابَ في بعضِ ما أعلَّه مِن أحاديث القسمِ الثَّالث، وأكثرها قد سُبِق إليه مِن الحفَّاظ، لكنَّه غلِطَ في تضعيفِ ما وَهَّنه مِن أحاديث «الصَّحيحين» بأكملِها، صَنعةً وانعدامَ سَلَف.
هذا وهو الألبانيُّ! وقد أمضى ستِّين سنةً مِن عُمره بين أسفارِ الحديثِ نقدًا وتخريجًا وتحقيقًا، فكيف بأقزامِ زمانِنا مِن أصاغر هذا العصر، مِمَّن توجَّهوا إلى «الصَّحيحين» بالطَّعنِ من غير عُدَّةٍ علميَّةٍ ولا سَلفٍ مِن الأُمَّة؟!
(1)
«فتاوى الشيخ الألباني» (ص/526) جمع عكاشة الطيبي.
حتَّى إذا جاءَهم عَالِمٌ ناصحٌ بالكَفِّ عن هذا العَبَثِ في الصِّحاح، أَخذتهُم العِزَّةُ بالإثمِ، وقالوا: أليسوا رجالًا ونحنُ رجال؟! فهذا الألبانيُّ طَعَنَ، فلِمَ التَّحجير علينا نحن؟!
تسمعُ مثل هذا القياسِ الباطل على نقدات الألبانيِّ مِن أحدِ المُتهوِّرين في نقد ما اتُّفق عليه بمحضِ الرَّأي، حيث يقول:«إنَّ نقدَ أحاديث بعينِها لن يكون مَطْعَنًا في السُّنَة، ولا في مَن قامَ بالنَّقد، وهذا الشَّيخ ناصر الألباني، قد نَقدَ عشراتِ الأحاديثِ في صحيحِ مسلمٍ، وشيئًا يَسيرًا في صحيح البخاري! .. »
(1)
.
فحينئذٍ نقول لأمثالِ هؤلاء: إن أبَيْتم إلَّا اقتحامَ أرضِ السِّباع، فاتركوا عنكم الاحتجاجَ بالألبانيِّ وأمثالِه مِن العلماءِ، فإنَّ عذرَ هذا فيما تَولَّاه مَعقول -على ما فيه من هناتٍ- صادرٌ في ذلك كلِّه عن تخصُّصه في قواعد النَّقد وخِبرةٍ، ثمَّ المُتخَصِّصون يَتَعقَّبونه بنفسِ تلك القواعد؛ فأين هذا مِن مَنهجكم؟!
فها هي أحاديث «الصَّحيحين» التَّي تَكلَّم فيها الألبانيُّ مبثوثة في كُتبه، فتأمَّلوها؛ هل رأيتموه يَطعن في أيٍّ من متونها لأنَّ عقلَه أو ذوقَه لم ترُقه كما تفعلون؟!
والألبانيُّ إذْ تكلَّم مِن ذلك في سِتَّة متونٍ -بصرفِ النَّظر عن صواب نقدِه من خطئه- قد كان مُتبِعًا لذلك بنقدِ أسانيدِها! مُعلِّلًا مصدر ذلك مِن النَّاحية الحديثيَّة كما هي الجادَّة عند المُتقدِّمين.
فاسمعوها منه يُعلِنها مُدْوِيةً في أذانِ المُتصَيِّدين لبعضِ اجتهاداتِه ذريعةً للطَّعن في أحاديث «الصَّحيحين» بمَحضِ التَّمَعقُلِ والتَّشهِّي، حيث يقول بعد تضعيفه لفقرةٍ مِن حديثٍ في البخاريِّ:
(1)
من مجموع مقالات لحمد سعيد حوَّا بعنوان: «منهجية التعامل مع السنة النبوية» برقم: 68، مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية، بتاريخ 12/ 4/2010 م.
« .. قد أطَلتُ الكلامَ على هذا الحديثِ وراويه، دفاعًا عن السُّنة، ولِكَي لا يَتَقوَّل مُتقوِّل، أو يقول قائلٌ مِن جاهلٍ أو حاسدٍ أو مُغرضٍ: إنَّ الألبانيَّ قد طَعَن في «صحيح البخاريِّ» وضَعَّف حديثَه! فقد تَبيَّن لكلِّ ذي بصيرةٍ، أنَّني لم أُحَكِّم عقلي أو رأيِي، كما يفعل أهلُ الأهواء قديمًا وحديثًا، وإنَّما تمسَّكَت بما قاله العلماء في هذا الرَّاوي، وما تَقتضيه قواعدُهم في هذا العلم الشَّريف ومُصطلحِه مِن ردِّ حديثِ الضَّعيف، وبخاصَّةٍ إذا خالَف الثِّقة، والله وليُّ التَّوفيق»
(1)
.
ويقول في موضعٍ آخر:
(2)
.
الفرع الثالث: بيان ما أقرَّه الألبانيُّ من كلام الغُماري بوجود مَوضوعاتٍ في «الصَّحيح» .
يَزعُمُ بعض المعاصرين
(3)
مُوافقةَ الألبانيِّ لما سبق من كلامِ أبي الفيضِ الغُماريِّ في أحاديث «الصَّحيحين» من «أنَّ فيها ما هو مَقطوعٌ ببُطلانه، فلا تغترَّ
(1)
«السلسلة الضعيفة» (3/ 465).
(2)
مقدمته لـ «مختصر صحيح الإمام البخاري» (2/ 8).
(3)
كما تراه مثلًا عند القنُّوبي الإباضيِّ في كتابه «السَّيف الحاد» (ص/106).
بذلك، ولا تتهيَّب الحُكم عليه بالوضعِ لِما يذكرونه مِن الإجماعِ على صحَّة ما فيهما .. »
(1)
.
فيزعمون أنَّه قد أقرَّ الغُماريَّ على وجودِ المَوضوعاتِ في «الصَّحيحين» ، وأنَّه لا ينبغيِ التَّهيُّبِ مِن الحكمِ بذلك فيهما، يَعْنونَ ما عقَّب به الألبانيُّ كلامِ الغُماريِّ حيث قال:«وهذا مِمَّا لا يَشكُّ فيه كلُّ مُتمرِّس في هذا العلمِ، وقد كنتُ ذَكرتُ نحوَه في مُقدِّمة «شرح العقيدة الطَّحاوية» .. غير أنِّي أتَخوَّف مِن قولِ الغُماري أخيرًا: « .. لمُخالفتِها للواقع» ، لِما يُخشَى مِن التَّوسُّع في ذلك»
(2)
.
هذا كلامُ الألبانيِّ؛ وعند نظري في سياقِه وباقي نصوصِه في هذه المسألةِ، خلُصت إلى أنَّ الألبانيَّ -وإن أخطأ في عباراته تلك الَّتي توهم الموافقة للغُماريِّ! إذ كان ينبغي في مثل هذه المضايق التَّفصيل والاحتراز والدِّقة في انتقاء الألفاظ كما عهدناه من مزايا الألبانيِّ في الجملة- غير أنِّي أحيد بتعليقه ذاك أن يكون صريحًا في مُوافقة كلامِ الغُماريِّ كلِّه؛ ذلك أنَّ كلام الغُماريِّ تَضَمَّن عدَّة أفكار:
أولَاها: القطع ببطلان أحاديثَ في «الصَّحيحين» لمخالفتِها للواقع.
ثانيها: لزوم الحكم على مثل هذه الأحاديث فيهما بالوضعِ.
ثالثُها: نفي الإجماع على صحَّة كلِّ أحاديثهما.
رابُعها: أنَّ هذه الأباطيل والمُنكرات ليست سِمةً في الكتابين، وليس كثيرةً فيهما.
والَّذي يَتأمَّل تعليقَ الألبانيِّ -مع استحضار ما نقلناه من نصوص كلامه آنفًا في موقفه من الصَّحيحين- سيظهر له أنَّه إنَّما استشهد بالفِكرتين الأخيرتين من كلام الغُماريِّ فحسب، والدَّليل استعمالُه لهذا النصِّ الغُماريِّ في مَعرضِ الرَدِّ
(1)
سبق نقله (1/ 740).
(2)
«آداب الزفاف» للألباني (ص/59 - 60).
على مَن أنكرَ عليه إعلالَه لبعضِ أحاديثِ «صحيح مسلم»
(1)
، بدعوى أنَّ العلماء أجمعوا على صِحَّة كلِّ ما فيه.
فتقصَّد الألبانيُّ نسفَ هذا الادِّعاءَ من مُدَّعيه بإثباتِ انتقادِ العلماء لأحاديث «الصَّحيحين» قديمًا وحديثًا، واختصَّ منهم أبا الفيضِ الغُماريَّ بالتَّمثيلِ لكونِه مُبجَّلًا عند المُنكرِ عليه وأنَّه تلميذ لمدرسته!
فكأنَّه يُحاجُّ هذا الدَّعِيَّ بشيوخِه الغُماريِّين أنَّهم كذلك يعلُّون في الصَّحيحين كما أعلَّ الألبانيِّ، بل أشدَّ! ليُلزِمَه الإنكارَ عليهما كما فعل معه، أو السُّكوتَ والتَّبرُّم مِن أصلِ الفكرةِ الَّتي لأجلها أنكر عليه مِن الأساسِ.
وقد تَتبَّعتُ الأحاديث الَّتي تَكلَّم فيها الألبانيُّ في أحدِ «الصَّحيحين» ، فلم أجَدْ له في مؤلَّفاته كلِّها حديثًا حَكَم عليه بالوضعِ؛ قُصارى حُكمِه لا يُجاوز دائرةَ التَّضعيفِ؛ فليس مِن المعقولِ أن يترك هو الأحاديثَ الموضوعةَ دون بيانٍ، ليتَّجه إلى بيانِ ما دونها في الضَّعف!
ومن ثمَّ فإنَّ عبارة الألبانيِّ لا يُمكن بحالٍ أن يُستشهد بها على ادِّعاءِ وجودِ موضوعاتٍ في البخاريِّ مِن جِهة الواقع العلميِّ للمتمرِّسين؛ بل على العكسِ مِن ذلك نجدُ الألبانيَّ يَنفي عن نفسِه ما اتَّهمه به بعضِ أقرانِه من العلماء من أنَّه يُسَوِّي بين «الصَّحيحين» وباقي كتبِ السُّنَن في التَّوقُّف حتَّى يُعلم درجة كلِّ حديثٍ فيها
(2)
، بل دافع عن نفسِه بالإقرارِ بأنَّ «الصَّحيحين» أصحُّ الكتب بعد كتابِ الله تعالى باتِّفاقِ علماء المسلمين مِن المحدِّثين وغيرِهم، يقول فيهما: «قد امتازا على غيرهِما مِن كُتب السُّنة بتفرُّدِهما بجمع أصحِّ الأحاديث الصَّحيحة، وطرحِ الأحاديث الضِّعيفة والمتونِ المنكرة، على قواعد متينةٍ وشروط دقيقةٍ، وقد وُفِّقوا في ذلك توفيقًا بالغًا لم يُوفَّق إليه من بعدهم ممَّن نحا نحوَهم في جمع الصَّحيح،
(1)
وهو محمود سعيد ممدوح المصريَّ، في كتابه «تنبيه المسلم، إلى تعدِّي الألبانيِّ على صحيح مسلم» .
(2)
من كلام عبد الفتاح أبو غدة في الألبانيُّ كما نقله عنه في مقدمة «شرح الطَّحاوية» (ص/23).
كابن خزيمة، وابن حبَّان، والحاكم، وغيرهم، حتَّى صار عرفًا عامًّا أنَّ الحديث إذا أخرجه الشَّيخان أو أحدهما فقد تجاوز القنطرة ودخلَ في طريقِ الصِّحة والسَّلامة، ولا ريب في ذلك، وأنَّه هو الأصل عندنا»
(1)
.
فلقد كان -إذن- مِن الأمانة والمروءة على مَن يَنقلُ تعليقَ الألبانيِّ على كلامِ الغُماريِّ يوهِم بذلك إقرارَه، أن ينقُلَ في مُقابلِه تشنيعَ الألبانيِّ على الغُماريِّ تضعيفَه لأحاديثِ «الصَّحيحين» بمَحضِ الهَوى والتَّحُكم! ولْيَذكُر أيضًا قولَه عنه:«بعضُ المُشتَغلين بهذا العِلم، لغَلَبة التَّعصُّبِ المَذهبيِّ عليهم، وتَمكُّن الأهواءِ منهم، فإنَّهم في كثيرٍ مِن الأحيانِ يُضعِّفون الأحاديثَ الصَّحيحة، كالشَّيخِ الكوثريِّ، وعبدالله الغُماري، وأخيه الشَّيخ أحمد .. »
(1)
!
والله الهادي إلى سواء الصِّراط.