الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّاني
سَوْقُ دعاوي المُعارِضات الفكريَّةِ المُعاصرةِ
على أحاديثِ انشقاقِ القَمر
أَورَد بعض المُعاصرين على حديثِ انشقاقِ القمر جملةً مِن المعارضات؛ تَتلخَّص في ثلاثٍ رئيسةٍ:
المُعارِض الأوَّل: أنَّ انشقاقَ القمر لو وَقع لجاءَ متواترًا؛ إذْ يَستحيل أن يَقَعَ مثلُ هذا الحدَث الكونيِّ، ولا تَتوفَّر الدَّواعي على نقلِه وتدوينِه، ولا يَشتهر في سائرِ الأمصار؛ فخفاءُ ذلك يدلُّ على انتفاءِ وقوعِه.
وأوَّل مَن نُسبِت إليه هذه الشُّبهة إبراهيم النظَّام (ت 231 هـ) من كبار المعتزلة، وعَلَّل إنكارَه لهذا الانشقاقِ بأنَّه «لو كان قد انشَقَّ، لَعَلِم بذلك أهل الغرب والشَّرق؛ لمشاهدتهم له»
(1)
، ثمَّ بلَغت القِحة بنفسِه الأمَّارةِ أن كَذَّب ابنَ مسعود رضي الله عنه في روايته
(2)
.
ثمَّ تلقَّفها عنه تلميذُه وربيبُ نِحلته الجاحظُ (ت 255 هـ)؛ فقد نُقِل أنَّه كان يَنفي ذلك، ويقول:«لم يَتواتر الخَبر به»
(3)
.
(1)
ذكر ذلك القاضي عبد الجبَّار المعتزليُّ في «تثبيت دلائل النُّبوة» (1/ 55 - 56) في معرض الردِّ على النَّظَّام إنكارَه أحاديث الانشقاقِ.
(2)
انظر «الفصل» لابن حزم (1/ 57 - 58).
(3)
«الأزمنةُ والأمكنة» لأبي علي المرزوقي (ص/54).
وقد سَلَّم لهذه الشُّبهةِ مِن المتأخِّرين (محمَّد رشيد رضا)، ونظمَها في سِلك اعتراضاتِه على الحديث، قائلًا في إنكارها: «ذَكَر علماءُ الأصولِ أنَّ الَخبرَ اللُّغوي ما يحمل الصِّدقَ والكذبَ لذاتِه .. وذَكروا أنَّ مِمَّا يُقطعُ بكذبه: الخبرُ الَّذي لو كان صحيحًا لتَوفَّرت الدَّواعي على نقله بالتَّواتُر؛ إمَّا لكونه مِن أصول الشَّريعة، وإمَّا لكونه أمرًا غريبًا؛ كسقوطِ الخطيب عن المنبر وقتَ الخطبة.
ومِن المَعلوم بالبداهة أنَّ انشقاقَ القمرِ أمرٌ غريبٌ؛ بل هو في مُنتهى الغرابة الَّتي لا يُعَدُّ سقوط الخطيب في جانبها غريبًا؛ لأنَّ الإغماءَ كثيرُ الوقوع في كلِّ زَمَن .. وانشقاق القَمر غير مَعهودٍ في زَمَنٍ مِن الأزمان، فهو محالٌ عادةً وبحسب قواعد العلمِ مادام الكونُ ثابتًا، وإنْ كان ممكِنًا في نفسه لا يُعجِزُ الخالقَ تعالى إن أراده، فلو وقع لتوفَّرت الدَّواعي على نقله بالتَّواتر؛ لشدَّة غرابتِه عند جميع النَّاس في جميع البلاد، ومِن جميع الأُمَم»
(1)
.
المعارض الثَّاني: أنَّ هذه الأحاديث معارضة للقرآن الَّذي دلَّ على امتناعِ إرسالِ الآياتِ الحسيَّة، لأنَّ التَّكذيبَ بها مُوجبٌ لتعجيل العذابِ، كما حصلَ للأُممِ السَّابقةِ حين كَذَّبت، فلَّما لم يُستأصَلْ أهل مكَّة بالعذاب، علِمنا أنَّ آية انشقاقِ القمر لم تَقَع.
وفي تقرير هذه الشُّبهة يقول (محمَّد الغزالي):
«عندما قَرأتُ حديثَ الانشقاقِ، شرعتُ أفكِّر بعمقٍ في موقف المشركين، إنَّهم انصرفوا مُكذِّبين إلى بيوتِهم ورِحالهِم، بعدما رَأوا القَمر فلقتين عن يمينِ الجبل وشماله، قالوا: سَحَرنا محمَّد، ومَضوا آمنين سالمين، لا عقابَ ولا عتابَ .. !
قلتُ: كيف هذا؟ .. إنَّ التَّكذيب بعد وقوع الخارقِ المَطلوب يوجِبُ هلاكَ المُكذِّبين! فكيف يُترَك هؤلاء المَكيُّون بدون توبيخٍ ولا عقوبةٍ بعد احتقارهم لانشقاق القمر؟! .. يؤكِّد القرآن الكريم هذا المنطق في سورة الإسراء: {وَمَا مَنَعَنَا
(1)
«مجلة المنار» (30/ 261).
أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]، فإذا كان إرسال الآيات ممتنعًا لتكذيبِ الأوَّلين بها، فكيف وَقَعَ الانشقاق؟!»
(1)
.
المعارض الثَّالث: أنَّ الثَّابتَ في القرآن الاكتفاء بالقرآنِ آيةً مُعجزةً واحدةً برهانًا على نبوَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم.
وفي تقرير هذا الاعتراض يقول (رشيد رضا) في مَعرضِ استبعادِه لحادثة انشقاقِ القمر:
وصرَّح الله في بعض آياته بأنَّ آيته الكتاب العزيز المشتمل على آياتٍ كثيرة في آيةِ الله الكبرى .. {وَقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 50، 51]»
(2)
.
هذا مُجمَل ما أوردوه مِن المعارضات المَسوقَةِ على أَحاديث انشقاق القمر؛ حيث جعله بعض الحَداثيِّين مِن «المُتخَيَّل» القابع في العقليَّة الإسلاميَّة، والَّذي نُسِج لسدِّ فراغ كبير في القرآن حيث لم يَتحدَّث البتَّة عن أيِّ معجزةٍ للنَّبي صلى الله عليه وسلم، خلافًا لما كان للأنبياء قبله!
(3)
(1)
«الطريق من هنا» (ص/58)، والشُّبهة متلقفة عن رشيد رضا في «مجلته المنار» (30/ 361).
(2)
«مجلة المنار» (30/ 362) بتصرف يسير في آخره.
(3)
انظر «المخيال العربي في الأحاديث المنسوبة إلى الرسول» لمنصف الجزار (ص/362)، و «دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/347).
يقول (بسَّام الجمل): «لقد عَدَّ المُفسِّرون وعلماء القرآنِ انْشِّقاقَ القمرِ حَدَثًا خارقًا للعادةِ، واعتبروه دليلًا على نُبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم، ومعجزةً من معجزاته؛ ولذلك فَسَّروا الآية تفسيرًا مُباشرًا، وسَلَّموا بحقيقة انشقاق القَمر نِصفين.
وجَليٌّ أَنَّ وظيفة المُتخيَّل في هذا الخبر: سَدُّ فراغٍ كبيرٍ في القرآن، فهو لم يَتحدَّث البتَّة عن أَيِّ معجزةٍ لمحمَّد صلى الله عليه وسلم، خلافًا لما كان لسابقيه مِن الأنبياء مِن معجزات، خاصَّة منهم موسى وعيسى، فنَقَّب المفسِّرون في نصِّ المُصحف عمَّا يَصلحُ شاهدًا على حُصول معجزاتٍ في طَورِ النُّبوَّة»
(1)
.
أَمَّا (حسن حنفي)؛ فقد جعل الغرض من هذا التَّخييل وسيلةً لإقناع جمهرةٍ مِن النَّاس يعيشون في مُجتمعٍ صحروايٍّ، لم يكن للآلهة أو للسَّحَرَة فيه أيُّ قُدرةٍ على خرق قوانين الطَّبيعة، مع جهلهم بقوانين العلم، فـ «كان مِن الطَّبيعي أن يكون انشقاقُ القَمَر، وتوقُّف الشَّمس، في الخيال الشَّعبي ولدى رُواة المدح: أحدَ وسائل التَّخييل، وطُرق الإقناع»
(2)
!