الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دفعُ دعوى المُعارضاتِ الفكريَّةِ المعاصرةِ
عن حديثِ الجاريةِ
فأمَّا دعوى المخالِفين في المعارضةِ الأولى قيامَ التَّعارضِ بين ألفاظِ الحديثِ تعارضًا يُفضي إلى اضطرابه:
فقولهم أوَّلًا: إنَّ بعض روايات الحديث عن معاوية بن الحكم تُثبِت أنَّ الجارية لِخَرسها كان الكلام بينها وبين النَّبي صلى الله عليه وسلم إشارةً، بخلافِ رواية مسلم الَّتي يظهر منها أنَّه كلام لفظيٌّ؛ فجوابه مِن وجهين:
الوجه الأوَّل: أنَّه إذا تَعارض حديثٌ في أحدِ «الصَّحيحين» مع حديثٍ خارجهما، مع انسدادِ وجوه الجمع بينهما، فالقواعد الحديثيَّة تَقتضي تقديمَ روايةِ «الصَّحيحين» على ما في باقي المُصنَّفات
(1)
؛ ولا يُقال هنا إذا تَعارضا تَساقطا، ولا أنَّه مُضطرب مِن الأساسِ، لأنَّ ذلك عند تساويهما في القوَّة، واتِّحادِ مخرجِهما
(2)
.
فإن قدَّرنا جدلًا تساوي الرِّوايتين في القوَّة كما يوهِمه المُعترض، وتعَذَّر الجمع بينهما: تَعيَّن التَّرجيح حينئذٍ، ولا ترجيحَ لغيرِ ما في «الصَّحيحين»! فتُقدَّم رواية مسلم الَّتي باللَّفظ:«أين الله؟» ، على الواردة بالإشارة خارجها؛ وهذا على
(1)
انظر «نزهة النظر» لابن حجر (ص/76)، و «النكت الوفية» للبقاعي (1/ 155 - 156).
(2)
انظر «هدي الساري» لابن حجر (ص/348).
التَّسليم بأنَّ الرِّواية المعارضِة مُساوية في القوَّة لما في «صحيح مسلم» ، فكيف وهي في حقيقتِها واهيةٌ لا تقوى على المدافعة؟! بيان ذلك في:
الوجه الثَّاني: أنَّ الرِّواية المُعارَض بها مِن قِبَل الكوثريِّ لا تنهض بحالٍ لمزاحمةِ ما في «الصَّحيح» ، فإنَّ الذَّهبي أوردَ روايةَ الإشارة في كتابه «العلوِّ» مُعلَّقةً مِن غير إسنادٍ، فقال:«عن عطاء بن يسار قال: حَدَّثني صاحب الجارية نفسُه قال: كانت لي جارية ترعى الحديث .. وفيه: فمدَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم يدَه إليها، وأشار إليها مستفهمًا: مَن في السَّماء؟ .. »
(1)
.
والكوثريُّ إنَّما احتجَّ فيما احتجَّ به على بطلانِ رواية مسلم بهذه الرِّواية الَّتي أوردها الذَّهبيِّ
(2)
؛ والعَجب منه؛ كيف استباح تقديمَها -وهي بغير إسنادٍ- على ما جاء في «الصَّحيح» بأصفى إسنادٍ وأصحِّه؟!
(3)
على أنَّ هذا الَّذي تمسَّك به الكوثريُّ لإسقاطِ لفظِ مسلمٍ -دون أن يعلمَ هو حقيقةَ إسنادِه- قد ذكرَ المزِيُّ إسنادَه كاملًا في «تحفة الأشراف» ! وذلك من طريق: سعيد بن زيد -أخي حمَّاد بن زيد-، عن توبة العنبري، عن عطاء بن يسار، قال: حدَّثني صاحب هذه الجارية نفسه .. ، فذكر الحديث
(4)
.
وهؤلاء ثقات، ما عدى سعيد بن زيد الَّذي اختلفَ النُّقاد فيه
(5)
؛ فكان
(1)
«العلو» للذهبي (ص/15).
(2)
تعليقه على «الأسماء والصفات ـ بتحقيقه» (ص/391).
(3)
يزول شيءٌ من العجب إذا أدركت صدقَ مقولة عبد الله الغُماري فيه في كتابه «سبيل التوفيق فى ترجمة عبد الله بن الصديق» (ص/38)، حيث وصفه بقوله:« .. أمَّا العلَّامة الشَّيخ محمَّد زاهد الكوثرى صديقنا ومُجيزنا: هو عالم بالفقه، والأصول، وعلم الكلام، ومتخصِّص في علم الرِّجال، .. لم يكن يعرف الحديث؛ نعم إذا أراد البحث عن حديث يعرف كيف يبحث عنه، ويعرف ما في رجاله من الجرح والتَّعديل بحكم تخصُّصه، لكن ليس هذا هو علم الحديث!» .
(4)
«تحفة الأشراف» (8/ 426).
(5)
بين مَن يُمشِّي حديثَه ويُحسِّنه، كأحمد بن حنبل، وسليمان بن حرب، والعجلي، انظر «الجرح والتعديل» (4/ 21 - 22)، و «الثقات» للعجلي (ص/184). وبين مَن يصرِّح بتضعيفِه ويُوهِّنه، كابن معين، والجوزجاني، والدارقطني، انظر «الجرح والتعديل» (4/ 21)، و «سؤالات الحاكم للدارقطني» (ص/213)، و «أحوال الرجال» (ص/114). بل كان يحيى القطَّان يضعِّفه جدًّا، كما في «الجرح والتعديل» (4/ 21).
أعدل الأحكام فيه ما وُفِّق إليه ابن حبَّان بقولِه: «كان صَدوقًا حافظًا، مِمَّن كان يخطئ في الأخبار، ويَهِم في الآثار، حتَّى لا يُحتجَّ به إذا انفرد»
(1)
.
قلت: روايته هذه لحديث الجارية بالإشارةِ، قد خالفَ فيها ما رَوَاه الثِّقات بصيغة التَّلفظ، فقد انفردَ عنهم في ذلك وهم أوثق منه وأضبط؛ فهي بهذا الاعتبار مِن قَبيل المنكر أو الشَّاذ! ولفظ مسلمٍ:«أين الله؟» هو المَحفوظ الصَّحيح.
وأمَّا قول المعترضِ ثانيًا: أنَّ الرُّواة مِن الصَّحابة تَفرَّقوا في ألفاظِ الحديث، فتارةً يقولون:«أين الله؟» ، وتارةً:«مَن ربُّك» ، وتارةً:«أتشهدين ألَّا إله إلَّا الله» :
فجوابه: نفسُ ما دفعنا به المعارضةَ قبلَه: أنَّ رواية معاوية بن الحكم في «صحيح مسلم» ، وباقي الرِّوايات المُدَّعاة معارضتها له خارج «الصَّحيح» ، والمنهج الحديثيُّ يقتضي تقديم ما في «الصَّحيح» على ما في غيره عند التَّعارض.
هذا على فرضِ تساويِ جميع الطُّرق في القوَّة.
ودعوى الكوثريِّ إشارةَ البيهقيِّ إلى تركِ مسلمٍ ذكرَ قصَّة الجارية في حديث معاوية بن الحكم، ثمَّ تعليله لهذا التَّركِ منه باختلافِ الرُّواة في لفظِه: ففيه نظر لا يخفى؛ فإنَّ قصَّة الجارية قد ذكرها مسلم ضمنَ حديث معاوية بن الحكم في «صحيحه» حقيقةً، ونُسخ كتابِه شاهدة، ولم يَزَل العلماء يَنسبون القِصَّةَ إلى «صحيح مسلم» مِن قَبلِ عهدِ البيهقيِّ.
والتَّحقيق: أنَّ ما وَقع مِن اختلافٍ مُدَّعًى في بعضِ ألفاظِ هذا الحديث، ليس من الاختلاف المُفضي إلى الاضطرابِ -كما يريده الكوثريُّ- لمِا قام عليه الدَّليل مِن كونِ بعضِ تلك الرِّواياتِ إمَّا حكاية حادثةٍ مُستقِلَّة، أو ضعيفة لا تنتهض للمعارضةِ أصلًا، كما سيأتي تحقيقه.
(1)
«المجروحين» لابن حبان (1/ 320).
وبما أنَّ الحكم في هذا المَقامَ يفتقر إلى دراسةِ الأسانيد ومقارنتِها فيما بينها، ليُطَّرح منها ما لا يَصحُّ أن يُعارَض به، وما صَحَّ يُنظر في سياقِه ودعوى المخالفة فيه؛ ناسب أن يُحقَّق القول في ذلك لتنكشف الغُمَّة عن ضعيف الآلة في تمييز الصِّحاح عن الضِّعاف من الأخبار، فأقول:
أمَّا حديث معاوية بن الحكم الَّذي أخرجه مسلم، فقال في إسنادِه:
قلت: هذا الإسناد مُسلسل بالحُفَّاظِ الأثبات لِمن طالعَ تراجمهم في مظانِّها، قد أُجمِع على وثاقتهم مِن أئمَّة الفنِّ، غير أنَّ يحيى بن أبي كثير فيه -مع جلالتِه في الحديثِ- كثير الإرسال، بل نَعَته النَّسائي بالتَّدليس
(1)
؛ وهذا الوصف فيه مِمَّا اعتلَّ به الكوثريُّ لتضعيف هذا الخبر
(2)
!
وليس يَصفو له هذا الاعتلال، فإنَّ يحيى بن كثير قد صرَّح بالتَّحديث عند أحمد في «مسنده»
(3)
؛ وعلى افتراض عدم التَّصريح، فقد توبع يحيى عن شيخِه هلال بن أبي ميمونة مِن اثنين:
1 -
مالك بن أنس
(4)
؛ وكفى به إمامةً في الدِّين، وغُنيةً في المتابعات.
(1)
«تعريف أهل التقديس» لابن حجر (ص/36).
(2)
تعليق الكوثري على «الأسماء والصفات - بتحقيقه» (ص/390).
(3)
(39/ 184، برقم: 23767).
(4)
كما في «الموطأ» (ك: العتق والولاء، باب: ما يجوز من العتق في الرقاب الواجبة، رقم: 8)، إلا أنه قال:«عن عمر بن الحكم» بدل «معاوية بن الحكم» ، وقد وهم مالك في اسمه، كما بيَّنه تلميذه الشَّافعي في «الرسالة» (ص/73)، ومثله البزَّار، وغيرهما، كما نقله عنهم ابن عبد البر في «التمهيد» (22/ 76).
2 -
وفُليح بن سليمان، وحديثه في رتبة الصَّدوق -كما سبق بيانُه- ومتابعته ليحيى مختصرةُ المتن
(1)
.
فبانَ بذا نَقاوةُ إسنادِ مسلمٍ، ويحيى بن كثير الذي فيه يكفيه فضلًا أنَّه «أحسنُ النَّاس سِياقًا له عن هلال بن أبي ميمونة»
(2)
.
وأمَّا عن الرِّوايات الأخرى الَّتي عورض بها حديث معاوية بن الحكم:
فأسمَنُ ما وقفتُ عليه -على غثاثتِه، ممَّا يستدعي نوعَ نظرٍ فيه- رِوايتان
(3)
:
أُولاها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه: أنَّ رجلًا أتى النَّبي صلى الله عليه وسلم بجاريةٍ سوداء أعجميَّة، فقال: يا رسول الله، إنَّ عليَّ عتقَ رقبةٍ مؤمنة، فقال لها رسول الله:«أين الله؟» ، فأشارت إلى السَّماء بإصبعها السَّبابة، فقال لها:«مَن أنا؟» ، فأشارت بإصبعها إلى رسول الله وإلى السَّماء، أي: أنتَ رسول الله، فقال:«أعتِقها»
(4)
.
(1)
أخرج حديثه من هذا الوجه: أبو داود في «السنن» (ك: الصلاة، باب: تشميت العاطس في الصلاة، رقم: 931) بذكر قصة العطاس فقط، وكذا البخاري في «خلق أفعال العباد» (ص/107) مختصرا جدا، ورواه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 446)، وأحال به على رواية يحيى بن أبي كثير، فقال:«ثم ذكر نحوه» .
(2)
شهد له به ابن عبد البر في «الاستيعاب» (3/ 1415)، حيث جاء الحديث في بعض المصنَّفاتِ تامًّا، وفي الأخرى مختصرًا، مع ما فيها مِن تقديم وتأخير فيما يختصُّ بالقِصَّة.
(3)
قد أعرضت عن إيراد رواية ثالثة، احتجَّ بها (السَّقاف) في كتابه «تنقيح الفهوم العالية بما ثبت وما لم يثبت في حديث الجارية» (ص/11) على إبطال لفظ حديث معاوية بن الحكم الَّذي في «مسلم» ، وهو ما أخرجه النسائي في «سننه» (3653) وغيره، من طريق: حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن الشريد، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إنَّ أمِّي أوصت أن تُعتق عنها رقبة، وإنَّ عندي جارية نوبيَّة، أفيجزئ عني أن أعتقها عنها؟ قال: ائتني بها، فأتيته بها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:«من ربُّك؟»
…
الحديث. فهذه الرِّواية كما تراها سندُها ومتنُها في وادي، وسند ومتنُ الَّتي في «صحيح مسلم» في وادٍ آخر! تلك أمُّ شريد من تريد إعتاقَ رقبةً، استفسر ابنُها النَّبي صلى الله عليه وسلم عن جوازِ ذلك في جاريةٍ له أعجمية، أمَّا الَّذي في «مسلم» فالمُعتِق هو معاوية، والمُعتَق جاريته هو لا أمُّه، تكفيرًا منه عن صكِّه لها، فأين هذا من ذاك؟!
(4)
أخرجه أحمد في «المسند» (13/ 285، رقم: 7906)
فهذا الحديث قد جاء مِن طريق: يزيد بن هارون، عن المسعودي، عن عون بن عبد الله، عن أخيه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وهذا إسناد رجاله ثقات، والمسعوديُّ وإن كان قد اختلطَ بأخرة
(1)
، وكان يزيد بن هارون -الرَّاوي عنه- مِمَّن أخذ عنه بعد الاختلاط
(2)
: فإنَّ هذا توبع عنه مِن عبد الله بن رجاء
(3)
، وهو مِمَّن أخذ عن المَسعوديِّ قبل اختلاطِه
(4)
؛ غير أنَّه رواه عن المَسعوديِّ بلفظ: «مَن ربُّك؟» ، فيُقدَّم على لفظِ يزيد عنه في السُّؤالِ عن الأينِ.
فالحديث بذا «مَحفوظٌ عن المَسعوديِّ»
(5)
، مُتردِّدٌ بين الصِّحة والحُسن
(6)
.
إذا تقرَّر هذا الحكم لهذه الرِّواية: أمكنَ الانفصالُ عن دعوى التَّعارض والاضطراب المزعومِ بينها وبين حديثِ معاوية بن الحكم بالنُّزوعِ إلى اختلاف الواقِعتين من الأساسِ! وهذا ظاهر لمِن تأمَّل سياقيهما:
أ- فإنَّ الرَّجل في حديثِ أبي هريرة: هو مَن جاء بالجارية ابتداءً دون طلب، وكان عتق رقبةٍ عليه واجبة؛ بخلافِ حديث ابن الحكم: حيث لم يَأتِ هو بجاريته إلَّا بعد طلب النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكانت رغبته في عتقها نَدبًا منه، تكفيرًا عن صَكِّها.
ب- والجارية في حديث أبي هريرة عَجماء لا تُفصِح، بينما جارية ابن الحكمِ فصيحة اللِّسانِ!
(1)
انظر «المختلطين» للعلائي (ص/72)، و «الاغتباط» لابن العجمي (ص/205).
(2)
انظر «الجرح والتعديل» (6/ 384 - 385)، و «الضعفاء» للعقيلي (2/ 336).
(3)
وهو ثِقة بصريٌّ، وقيل صدوق لا بأس به، انظر «تهذيب التهذيب» لابن حجر (5/ 210).
(4)
انظر «الكواكب النيرات» لابن الكيال (ص/294).
(5)
كما قال الدَّارقطني في «العلل» له (9/ 30)، بخلافِ من ضعَّف هذا الحديث مِن المعاصرين كونه من طريق المسعودي برواية يزيد بن هارون عنه، كما تراه عند الألباني في «مختصر العلو» (ص/81 - 82)، وتابعه عليه سليم الهلالي في كتابه «أين الله؟ دفاع عن حديث الجارية» (ص/23 فما بعده).
(6)
كما نحا إليه الذَّهبي في «العلو» له (ص/16).
ج- أضِف هذا إلى اختلافِ مَخْرَجَي الحديثين، وهو قرينةٌ قويَّةٌ على انفصالِ كلٍّ مِن الحديثين عن الآخر، وكونهما حادثتين مُستقلِّتين.
ثمَّ على فرضِ انسدادِ وجوه الجمعِ بينهما -كما يوهِمه الكوثريُّ-: فقد كرَّرنا مِرارًا أنَّ قواعد العلماءِ تقتضي الانتقالَ إلى التَّرجيح، وحينئذٍ لا مَحيد عن ترجيحِ رواية معاوية بن الحكم على رواية أبي هريرة، لعدَّة اعتبارات:
أولاها: أنَّ حديث ابن الحكمِ في «الصَّحيح» ، ورواية أبي هريرة خارجه.
ثانيها: لأنَّ رُواتَه أضبط وأكثر مِن رواةِ حديث أبي هريرة.
ثالثها: لأنَّ حديثه لم يُختلَف في سندِه، بخلافِ حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد اختُلف في وصلِه وإرسالِه
(1)
؛ ولا شكَّ أنَّ ما لم يُختلف فيه أرجح ممَّا اختُلف فيه
(2)
.
رابعها: أنَّ معاوية بن الحكم هو صاحب القِصَّة، فروايته لها مُقدَّمَة على روايةِ غيره
(3)
، وهذا كافٍ في التَّرجيح وحده.
وهذا -كما قدَّمنا- على تقديرِ كونِ الحديثين حادثةً واحدةً، وأنَّ الجمعَ بينهما عَويصٌ؛ وقد تبيَّن لك أنَّ الحديثين مُتغايران في الحادثة، مختلفان في المَخرجِ، فلا وجهَ لتكلُّف الاضطراب فيما بينهما.
وأمَّا ثاني الرِّوايات الَّتي عورض بها حديث معاوية بن الحكم:
فنفس حديث أبي هريرة السَّابق، لكن بسياقٍ مُغايرٍ له، جاء مِن رواية معمر بن راشد، عن الزُّهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن رجلٍ من الأنصار:
أنَّه جاء بأَمَةٍ سوداء إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، إنَّ عليَّ رقبةً مؤمنةً، فإن كنت ترى هذه مؤمنةً، فقال لها النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أتشهدين أن لا إله
(1)
ذكره الدراقطني في «العلل» (9/ 29)، وسيأتي ذكر هذا الاختلاف قريبًا.
(2)
انظر «فتح الباري» لابن حجر (2/ 38، 315).
(3)
انظر «الواضح في أصول الفقه» لابن عقيل (5/ 82)، و «العُدة» لابن الفراء (3/ 1025).
إلا الله؟» قالت: نعم، قال:«أتشهدين أني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟» قالت: نعم، قال:«أتؤمنين بالبعث بعد الموت؟» قالت: نعم، قال:«أعتِقها»
(1)
.
كذا رواه معمر عن الزُّهري مَوصولًا، وخالفه ثِقتان ثَبتان في الزُّهري، حيث أرسلَا الحديث، هما: مالك بن أنس
(2)
، ويونس بن يزيد الأيلي
(3)
،
فلا ريبَ بعدُ في تقديم رواية هذين المرسلة، على رواية مَعمر الَّتي ظاهرها الاتِّصال
(4)
.
وعليه؛ فالصَّواب في الرِّواية الثَّانية لأبي هريرة الإرسال
(5)
، والمُرسَل لا يَقوى على معارضةِ حديثِ معاوية بن الحكم، فضلًا عن أن يُرمَى بالاضطرابِ لأجلِه.
وحاصل القول:
أنَّ حديث الجاريةِ برواية مسلمٍ له راسخٌ في ثبوتِ سندِه، بليغٌ في استقامة متنِه، لم تقع الرِّواية فيه بالمعنى كما زعمه الكوثريُّ والغُماريُّ، بل السُّؤال فيه بـ «أين الله» هو عينُ لفظ النَّبي صلى الله عليه وسلم؛ وهذا ما أَقَرَّ به، لم ينهَض أحَدٌ من الحُفَّاظ النُّقَاد لمسلمٍ باعتراضٍ عليه في ذلك، حتَّى خَرَجَ علينا الاثنان بما يُناقض إجماعَهم بِما قد علِمتَه مِن وَاهِي العِلَل؛ والله يغفر لهما.
(1)
أخرجه عبد الرزاق في «المصنف» (ك: المُدبر، باب ما يجوز من الرقاب، رقم: 16814)، ومن هذا الطريق عن عبد الرزاق أخرجه غير واحد من المصنفين.
(2)
أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 777، رقم: 9)، وعنه البيهقي في «السنن الكبرى» (7/ 638، رقم: 15271).
قال ابن عبد البرِّ في «التَّمهيد» (9/ 114): «لم يختلف رُواة الموطَّأ في إرسالِ هذا الحديث» .
(3)
أخرجه عنه البيهقي في «السنن الكبرى» (10/ 98، رقم: 19988).
ويونس ثقة، قال أحمد بن صالح:«نحن لا نقدِّم في الزُّهري على يونس أحدًا» ، انظر «تهذيب الكمال» (32/ 556).
(4)
قالَ الذَّهبي في مَعمر: «ما نزال نحتجُّ بمعمرٍ، حتَّى يلوح لنا خطؤه بمخالفةِ مَن هو أحفظُ منه، أو نعدُّه من الثِّقات» ، قاله في «الرُّواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم» (ص/166).
(5)
رواها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة مرسلةً، ولم يرد في طريق من طرق الحديثِ ما يدلُّ على أنَّ عبيد الله هذا قد سمعه من ذاك الأنصاريِّ، وهو ما استظهرَه الدَّارقطني من علَّةٍ في هذه الرواية، فقال في «العلل» (9/ 30):«الصَّحيح عن الزُّهري مرسلًا» .
وأمَّا دعواهم في المعارضة الثَّانية: أنَّ المَعهودَ مِن حال النَّبي صلى الله عليه وسلم تلقينُ الإيمان واختبارَ إسلام الإنسان بكلمة التَّوحيد، وليس بالسُّؤال عن الأيْنيَّة .. إلخ، فجواب ذلك:
أنَّ هذا التَّقعيدَ العامَّ لمثل هذا الحكم، إن كان مستندَه استقراءُ الأحاديث: فإنَّ حديث الجاريةِ واحدٌ مِن تلك الأحاديث! فعدم اعتبارِه في عمليَّة التَّقعيدِ للأحكامِ العامَّةِ انتقائيَّةٌ سِلبيَّة، وخَللٌ في منهجيَّة الاستقراءِ.
وما ردَّ به المُعترض مَبدأ السُّؤالَ النَّبويِّ للجاريةِ بكونِه على غير المَعهود منه صلى الله عليه وسلم: إنَّما كان ذلك مِنه صلى الله عليه وسلم تَنَزُّلًا إلى قدر فهم جاريةٍ نَاشئةٍ مع قومٍ مَعبوداتُهم في بيوتِهم، بما تَبصَّره مِن حالِها، وتبيَّن له مِن مِقدارِ عقلِها، حيث أرادَ صلى الله عليه وسلم أن يَتعرَّف منها بذاك الأسلوب ما يَدلُّ على أنَّها ليست مِمَّن يعبدُ الأصنام الَّتي في الأرض
(1)
.
فإن كانت هي مِن المشركين: تَبيَّن بأن تشير إلى صنمِ بلدٍ أو قوم
(2)
؛ فلمَّا أجابته بأنَّ مَعبودَها واحدٌ في السَّماء، عَلِم مِن ذلك أنَّها مُوَحِّدة، إذْ علامةُ الموحِّدين قصرُ العبوديَّة على الله في عَليائه، دون ما يُرى مِن الآلهةِ المعبودةِ في الأرضِ.
يقول أبو سليمان الخطابيُّ (ت 388 هـ): «إنَّ هذا السُّؤال هو عن أمارةِ الإيمان، وسِمَةِ أهلِه، وليس بسؤالٍ عن أصلِ الإيمانِ وصفةِ حقيقتِه.
ولو أنَّ كافرًا يريد الانتقالَ مِن الكفرِ إلى دين الإسلام، فوصفَ مِن الإيمان هذا القدرَ الَّذي تكلَّمت به الجارية: لم يصِر به مسلمًا حتَّى يشهد أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتبرَّأ من دينه الَّذي كان يعتقده.
وإنمَّا هذا كرجلٍ وامرأة يوجدان في بيتٍ، فيُقال للرَّجل: مَن هذه منك؟ فيقول: زوجتي، وتصدِّقه المرأة، فإنَّا نصدِّقهما في قولِهما، ولا نكشفُ عن أمرهِما، ولا نطالبهما بشرائطِ عقدِ الزَّوجيَّة، حتَّى إذا جاءانا وهما أجنبيَّان،
يريدان ابتداءَ عقدِ النِّكاح بينهما، فإنَّا نطالبهما حينئذٍ بشرائطِ عقدِ الزَّوجية، مِن إحضارِ الوليِّ والشُّهود وتسميةِ المهر.
كذلك الكافر إذا عُرِض عليه الإسلام، لم يُقتصر منه على أن يقول: إنِّي مسلم، حتَّى يصفَ الإيمانَ بكمالِه وشرائطِه، وإذا جاءنا مَن نجهلُ حالَه بالكفرِ والإيمانِ، فقال: إنِّي مسلم، قبِلناه، وكذلك إذا رأينا عليه أمارةَ المسلمين، مِن هَيئةٍ، وشارةٍ، ونحوهما: حَكمنا بإسلامه، إلى أن يظهر لنا منه خلاف ذلك»
(1)
.
وأمَّا جواب المعارضة الثَّالث: في دعواهم أنَّ البخاريَّ تركَ إخراجَ الحديث في «صحيحه» ، وأخرجه في جزء «خلق أفعال العباد» دون ذكر ما يتعلَّق بكونِ الله في السَّماء .. إلخ:
فليس يخفى على مُبتدئٍ في التحصيل أنَّ البخاريَّ لم يقصد في «صحيحِه» إخراجَ كلِّ الصَّحيح، وهو مَن أشارَ إلى قصدِ الاختصارِ في عنوانِ كتابِه نفسِه، تبصرةً لمن عَمِي عن هذا المقصد مِن تأليفه، فسمَّاه «الجامعَ المسندِ الصَّحيح (المختصرِ) مِن أمورِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وُسنَنه وأيَّامِه» .
وكذا إخراجُه للحديثِ في كتابه «خلق أفعال العباد» مختصرًا، لا يلزمه فيه التَّصريح باختصارِه، فقد أخرج في هذا الجزءِ نفسِه غيرَه ممَّا اختصَره دون إشارةٍ منه إلى اختصاره، مع ورودِه كاملًا في مواضع أخرى مِن كُتبه
(2)
!
وأمَّا جواب المعارضة الرَّابعة: في دعواهم أنَّ مسلمًا أخرج الحديث في باب تحريم الكلام في الصَّلاة، ولم يروه في كتاب الإيمان .. إلخ:
فدعوى الكوثريِّ فيها تزيُّد ظاهرٌ على مسلم؛ وقد تقدَّم البيان على أنَّ مسلمًا لم يَتَصَدَّ لمِا تَصدَّى له البخاريُّ مِن استنباطِ الأحكامِ وتقطيع الأحاديث
(1)
«معالم السنن» للخطابي (1/ 222 - 223).
(2)
مثاله: حديث هانئ بن يزيد رضي الله عنه قال: قلت للنَّبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني بشيء يدخلني الجنة، قال: عليك بحسن الكلام، وبذل الطعام»، هكذا رواه مختصرًا في «خلق أفعال العباد» (ص/68)، دون أن يشير إلى اختصاره، مع أنَّ في الحديث قصة حذفها منه، قد أسندها البخاري بنفس إسناد المختصرةِ في «الأدب المفرد» (ص/436، رقم: 353)، وانظر «تكحيل العين» (ص/142).
على أبوابِها المناسبة، بل مسلمٌ يجمعُ طرق الحديث في أنسب مكانٍ، لا يكاد يكرِّر الحديث في أكثرَ من بابٍ إلَّا نزرًا يسيرًا.
فلمَّا كان أغلب لفظِ حديث معاوية بن الحكم هذا مندرجًا في الفقهيَّات، ارتأى مسلمٌ وضعَه في كتابٍ فِقهيٍّ، فيما اختاره مِن كتاب الصَّلاة والمساجد.
وإذْ لم يرُق للكوثريِّ إلَّا تبويب مسلمٍ لهذا للحديث في الفقهيَّات، فإنَّ غيره مِن أربابِ المصنَّفاتِ قد احتسَبوه في أبوابِ الاعتقاد وما تعلَّق بها
(1)
! بل منهم مَن استدلَّ بهِ في العَقديَّات والفقهيَّات مَعًا
(2)
! فأين هو من هؤلاء؟!
وأمَّا دعوى المخالف في المعارضة الخامسة: أنَّ الله لا يُسأل عنه بأين، وأنَّ في إثباتِ علوِّ الله وفوقيَّته على خلقِه تحيِيزًا له في جهة، وتموضعًا في مكان، وهذا ينافي تنزيهَه .. إلخ؛ فجوابه:
أنَّ ما جاء في هذا الحديث وأمثالِه مِن إثباتِ العلوِّ لله تعالى وجوازِ السُّؤال عنه بأينَ والإشارة له في جِهة العلوِّ، ليس هو قول المجسِّمة ولا المُشبِّهة، بل قول ربِّنا في كتابه ونبيِّنا في سُنِّته؛ وهو ما اجتمع على الإيمانِ به علماء المسلمين وعوامُّهم صدر هذه الأمَّة المباركة، كما قاله نجمُهم مالك بن أنس:«إنَّ الله فوق السَّماء، وعلمُه في كلِّ مكان»
(3)
.
يقول ابن عبد البرِّ (ت 463 هـ): «قوله في هذا الحديث للجارية أين الله: على ذلك جماعةُ أهل السُّنة، وهم أهل الحديث، ورواتُه المتفقِّهون فيه، وسائر نقلَتِه كلِّهم، نقول ما قال الله تعالى في كتابه .. » ، وبعد أن سَرَد بعضَ الآيات في إثبات العلوِّ قال: « .. ولم يزل المسلمون إذا دَهَمهم أمرٌ يُقلِقهم فزَعوا إلى
(1)
منهم النَّسائي حين أخرجه في «السنن الكبرى» ، في بابِ تفسير قوله تعالى:{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} ، برقم:11401.
(2)
كابن خزيمة، حيث أورده في كتابِ الصَّلاةِ من «صحيحه» (2/ 35، رقم: 859)، والبيهقيِّ، حيث أورده في كتاب «الأسماء والصِّفات» (1/ 278)، ثمَّ احتجَّ به في كِتاب الظِّهار وكِتاب الأَيمانِ مِن «سُننه الكبرى» (2/ 325، رقم: 890).
(3)
رواه عنه أحمد بسنده في «العلل ومعرفة الرجال» (3/ 180)، و «مسائل الإمام أحمد ـ رواية أبي داود» (ص/353).
ربِّهم، فرَفعوا أيديَهم وأوجهَهم نحوَ السَّماء يدعونه، ومخالفونا ينسبونا في ذلك إلى التَّشبيه، والله المستعان، ومَن قال بما نَطق به القرآن فلا عيبَ عليه عند ذوي الألباب»
(1)
.
فعلى أيِّ أساسٍ نَقليٍّ يُقال بأنَّ المسلمين على تحريمِ السُّؤال عن الله بأين؟ بل كيف يُجتَرؤ على حديثه صلى الله عليه وسلم أن يُوصف سؤالُه فيه بـ «أنَّه اللَّفظ المستشنع»
(2)
؟!
فأمَّا ظاهر ما أفاده حديث الجارية: فليس فيه من كونِ الله تعالى في السَّماء أنَّه في جَوفِها! أو أنَّ السَّموات تحصره وتحويه؛ هذا لم يقُله أحدٌ مِن سَلف الأمَّة ولا عاقل باقٍ على فطرتِه؛ بل العلماء متَّفقون على أنَّ الله فوق سمواته، مُستوٍ على عرشه، بائنٌ مِن خلقه؛ ليس في مخلوقاته شيءٌ مِن ذاته، ولا في ذاته شيء مِن مخلوقاته، ويعلمون أنَّ الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا أفعاله.
بل عقلاء المسلمين يؤمنون بأنَّ مَن اعتقدَ أنَّ الله في جوفِ السَّماء، محصورٌ محُاط به، تحويه المصنوعات، وتحصره السَّموات، فيكون بعض المخلوقات فوقه، وبعضها تحته، أو أنَّه مُفتقِر إلى العرش أو غير العرش مِن المخلوقات: أنَّه ضالٌّ مُبتدِعٌ، إن لم يكن زنديقًا!
ونقول -في مُقابِل ذلك- فيمَن اعتقدَ أنَّه ليس فوق السَّموات إله يُعبَد، ولا على العرش رَبٌّ يُصَلَّى له ويُسجد! وأنَّ محمَّدًا صلى الله عليه وسلم لم يُعرَج به إلى ربِّه؛ ولا نَزل القرآن الكريم مِن عنده: أنَّه مُعطِّل مبتدع.
وقد احتجَّ مُجَوِّزو الأيْنيَّة -مع ما قد وَرَد في ذلك من النُّصوص الشَّرعيَّة وإجماعِ السَّلف- بأنَّه لا يُعقَل الوجود بدونِها، وأنَّه مِن أجلى البَديهيَّات وأوضحِ الضَّروريَّات
(3)
؛ والله جل جلاله قد فَطَر العبادَ عرَبهم وعجَمهم على أنَّهم إذا دَعوا الله توجَّهت قلوبهم إلى العلوِّ؛ لا يقصدونه عن أيمانهم ولا عن شمائلهم أو تحت
(1)
«الاستذكار» (7/ 337).
(2)
تعليق السقاف على «دفع شبه التشبيه» (ص/188).
(3)
«القائد إلى تصحيح العقائد» للمعلمي (ص/208).
أرجلهم؛ فِطرةً أفحمَ بها أبو جعفر الهمدانيُّ (ت 351 هـ)
(1)
أبا المعالي الجوينيَّ (ت 478 هـ)، وذلك فيما حكاه عنه قال:
«سمعتُ أبا المعالي الجوينيَّ وقد سُئِل عن قولِه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، فقال: كان الله ولا عرش .. ، وجَعَل يتخبَّط في الكلام.
فقلتُ: قد علِمنا ما أشرتَ إليه، فهل عندك للضَّرورات مِن حِيلة؟
فقال: ما تريد بهذا القول، وما تعني بهذه الإشارة؟
فقلت: ما قال عارفٌ قطُّ: يا رَبَّاه، إلَّا قبل أن يتَحرَّك لسانُه، قامَ مِن باطنه قصدٌ لا يلتفت يمنةً ولا يسرةً، يقصد الفوق! فهل لهذا القصد الضَّروري عندك مِن حيلة؟ ..
وبكيتُ وبَكى الخلقُ، فضَربَ الأستاذ بكمِّه على السَّرير، وصاح: يا للحيرة! وخرق ما كان عليه، .. ونَزلَ ولم يُجبني، .. فسمعتُ بعد ذلك أصحابَه يقولون: سمعناه يقول: حيَّرني الهَمداني!»
(2)
.
فهذه الفطرة الَّتي ما بُعث الرُّسل إلَّا بتكميلها وتقريرها، لا بتحويلها وتغييرها كما يفعل مَن خالفَ سُنَّتهم، مِن الحلوليَّة والجهميَّة ونحوهم، فيستنكرون أن يُشارَ إلى الله بأين، ويَورِدون على النَّاس شُبهاتٍ، بكلماتٍ مشتبهاتٍ، لا يفهم كثير من النَّاس مقصودَهم بها؛ ولا تُحسن مع ذلك أن تُجيبَهم.
يقول ابن كُلَّاب: «لو لم يشهد لصحَّةِ مذهبِ الجماعةِ في هذا الفنِّ خاصَّة إلَّا ما ذكرتُ من هذه الأمور، لكان فيه ما يكفي، كيف وقد غُرس في بَنية الفطرة، وتَعَارفِ الآدميِّين مِن ذلك، ما لا شيء أبين منه ولا أوكد؟ بل لا تسأل أَحدًا مِن النَّاس عنه، عَربيًّا ولا عَجميًّا ولا مؤمنًا ولا كافرًا، فتقول: أين ربُّك؟
(1)
محمد بن أبي علي الحسن بن محمد الهمذاني الحافظ، قال السمعاني:«ما أعرف أن في شيوخ عصره سمع أحد أكثر مما سمع هو» ، وقال الذهبي:«الحافظ الرَّحال الزاهد، بقية السلف والأثبات» ، انظر «سير أعلام النبلاء» (20/ 101).
(2)
أخرجها الذهبي في «العرش» (1/ 153)، و «العلو» (ص/259)، بإسناد رواته ثقات حفَّاظ.
إلَّا قال: في السَّماء، إن أفصح، أو أوْمأَ بيدِه، أو أشار بطرْفِه، إن كان لا يفصح، لا يشير إلى غير ذلك من أرضٍ ولا سهلٍ ولا جبلٍ.
ولا رأينا أحدًا داعيًا له إلَّا رافعًا يديه إلى السَّماء، ولا وجدنا أحدًا غير الجهميَّة يُسأل عن ربِّه فيقول: في كلِّ مكان! كما يقولون، وهم يدَّعون أنَّهم أفضل النَّاس كلِّهم، فتاهت العقول، وسقطت الأخبار، واهتدى (جهمٌ) وحده وخمسون رجلًا معه! نعوذ بالله من مضلات الفتن»
(1)
.
ومن ثمَّ نقول: إنَّ أصلَ ضلال مَن طَعن في مثل هذا الحديث تكلمُّه فيه بكلماتٍ مُجملةٍ لا أصل لها في الشَّرع؛ ولا قالها أحدٌ مِن أئمَّة المسلمين، كما تراه في نصِّ ما مرَّ عليك من هذه المعارضةِ الخامسةِ، كلفظ التَّحيز، والجسم، والجِهة، ونحو ذلك.
ومنشأ الغلطِ عند هؤلاء النُّفاة: خلطُهم بين نَوعي الأمكنة: الوجوديَّة المخلوقة، والعَدميَّة، فلم يفهموا مِن كونِه فوق السَّماوات إلَّا بالمعنى الأوَّل للمكان المخلوقِ الَّذي يعهدونه في الشَّاهد! وهذا لم يقُل به إمام للسُّنة قطُّ.
وتفصيل الردِّ على هذه الشُّبهة في دفع المعارضات الواردة على حديث «رؤية الله في الجنَّة» من هذا البحث.
وأمَّا دعواهم في المعارضة السَّادسة: أنَّ اعتقاد علوِّ الله تعالى في السَّماء على خلقِه عقيدةٌ للعَرب القدامى في جاهليَّتهم .. إلخ؛ فجواب ذلك:
أنَّ إيمانَ المشركين العرب بأنَّ الله تعالى فوق السَّماء هو من القضايا المركوزة في الفِطَر، فليس للعرب الجاهليِّين اختصاصٌ بذلك، ما هو إلَّا كإقرارِهم بباقي مُقتضياتِ ربوبيَّته سبحانه، كالخلق، والإحياء، والإماتة، والتَّدبير، ونحو ذلك مِمَّا جاء في مثل قول الله تعالى:{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61].
(1)
نقله ابن تيمية عن كتاب «الصِّفات» لابن فورك في كتابه «بيان تلبيس الجهمية» (1/ 91).
ثمَّ إنَّا إذْ نقرُّ بسؤالِ النَّبي صلى الله عليه وسلم للجاريةِ عن الأينيَّة في مقامِ استكشافه لدينها، فلسنا ندَّعي أنَّ الإقرار بعلوِّ الله تعالى دليل على الإيمان بمُجرَّده! ولا هذا ما رَمى إليه النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن سؤاله ذاك.
بل نقول: إنَّ الإيمان بالعلوِّ هو (مِن) الإيمان وليس الإيمان كلَّه؛ وإنَّما استحضره صلى الله عليه وسلم في سؤالِه للجاريةِ بخاصَّة استجلابًا لأمارةِ إيمانها، بمِا سبق شرحه مِن مُلابساتٍ في جوابِ المعارضةِ الثَّانيةِ، بما لم يجري به لسانه صلى الله عليه وسلم إلَّا مرَّةً أو مرَّتين طولَ حياتِه لاعتبارٍ ضيِّق.
فما أرى مِن الكياسة اختبارُ العامَّة بمثلِ هذا السُّؤال، فضلًا عن أن يكون سُنَّة! -كما قد يعتقده بعضُ المُتنطِّعة- بل هو بباب الكراهة والتَّحريم ألصق إن آلَ أمره إلى الخصومات وانفكاكِ الجماعات، في زمنٍ صار النَّاس ينسلخون فيه مِن دين الله سِراعًا!
والأصل في مثل هذه المقامات -كما يقرِّره ابن تيميَّة- أن يُمنع العامَّة عن الخوضِ في التَّفاصيل الَّتي تُوقِع بينهم الفُرقةَ والتَّناحر، وجمعُهم على الجُمَلِ الثَّابتة بالنصِّ والإجماع، فإنَّ الفُرقةَ والاختلاف مِن أعظم ما نَهى الله عنه ورسولُه
(1)
؛ والله أعلم.
(1)
انظر «مجموع الفتاوى» (12/ 237)، و «الاستقامة» (1/ 192) لابن تيمية.