الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث:
دفعُ المعارضاتِ المعاصرةِ للتَّفسيرِ النَّبويِّ لقوله تعالى:
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}
فأمَّا دعوى المعترضِ في المعارضةِ الأولى: بأنَّ قصدَ الآيةِ بالسُّجود مُطلق الطَّاعةِ وأداءِ الصَّلاة:
فمخالفٌ لظاهرِ الآية نفسِها، وسجودُ كلِّ شيءٍ بحسبه، وإذا أُطلِق في الإسنان فالأصل فيه أنَّه خروره بوجهِه على الأرضِ، خضوعًا منه لخالقِه، وتحتمِل الآيةُ أن يكون معناه السُّجودِ فيها انحِناءُهم خُضَّعًا مُتواضعين كالرَّاكع، ولم يُرَد به نفسُ السُّجودِ المعهودِ عندنا بالجبهة
(1)
.
وعلى كِلا المَعنَيين لا تَخالُف بين الآيةِ والحديثِ، والَّذي يتعارض والآيةَ حَقَّا تأويلُ المَعترضِ لها على مَعنى الطَّاعةِ وإقامِ الصَّلاة، فإنَّ الآية قَيَّدت السُّجودَ بلحظةِ دخولِ البابِ، ومطلق الطَّاعةِ ليس خاصًّا بتلكِ اللَّحظة، ولا بتلك البُقعة، فلا معنى لتقيِيده بذلك.
ليبقى المعنى الأجدرُ بالآيةِ: أنَّ الأمرَ فيها بالسُّجودِ أمرٌ لبَني إسرائيلَ بسُجودٍ جَسديٍّ حَقيقيٍّ عند دخولهم بابَ القريةِ، إظهارًا للافتقارِ إلى مَن مَنَّ عليهم بفتحِها، واستغفارًا منهم لما سَلَف مِن خَطاياهم.
(1)
«لباب التأويل في معاني التنزيل» للخازن (1/ 48).
فقيل لهم: قولوا حِطَّة، أي: حُطَّ عنَّا رَبَّنا ذنوبنَا، ولا تُعذِّبنا بما فيه أسرَفنا، لكنَّهم بدلَ ذلك استهزءوا بموسى عليه السلام، وقالوا:«ما يَشاء موسى أن يلعبَ بنا إلَّا لعِب بناَ؟ حِطَّة، حِطَّة، أيُّ شيءٍ حِطَّة؟! وقال بعضهم لبعض: حِنطة!»
(1)
.
و «الحِنطة» : القَمح، و «حَبَّة في شَعرة»: تَفسير لها، وفي بعضِ الرِّواياتِ:«حِطَة» دون «حِنطة»
(2)
،
أي قالوا هذه الكلمةَ بعينِها، وزادوا عليها مُستهزئين:«الحَبَّة في الشَّعرة»
(3)
، ضَمُّوا إليه هذا الكلامَ الخاليَ عن الفائدةِ، تتميمًا للاستهزاءِ، وزيادةً في العُتوِّ
(4)
.
فهم قد بدَّلوا السُّجودَ بالزَّحف، واستبدلوا تلك الكلمةَ الضَّارِعةَ الخاشِعةَ، بكلمةٍ أخرى قريبةِ اللَّفظ، لكن بمعنى آخرَ مُغاير، فبدَل أن يَتوجَّهوا إلى الله تعالى بالضَّراعة، تَوجَّهوا إليه بطلبِ القُوتِ! و «أُمِروا بالإخلاصِ لله نظرًا إلى حياةِ قلوبِهم، فطَلبوا الِحنطةَ نظرًا إلى حياةِ جُسومِهم!»
(5)
.
وفي هذا مِن التَّلاعب بدين الله تعالى والاستهزاءِ بأوامِره والعدولِ عن إرضاءِه إلى الإعلانِ بما يُرضي أهواءَهم، ويُشبع شهواتَ بطونهم، ما سطَّرَه الوَحيُ عنهم فضحًا لقبيحِ أخلاقِهم إلى يومِ القيامة.
(1)
«جامع البيان» للطبري (1/ 728).
(2)
جاء في «مطالع الأنوار» للقاضي عياض (2/ 275): «رواه المروزي: حِطَّة، بدلا من: حِنْطَة، وبالنُّون أصوب؛ لأنَّهم بدَّلوا اللَّفظ بزيادة النُّون، كما روي من قولهم: حِطى سمهاثا، معناه: حنطة حمراء» .
يقول ابن الدماميني في كتابه «مصابيح الجامع» (8/ 155) متعقبا هذا القول:
(3)
أي: حبة حنطة في شعرة الحطة، وهو السفاء، وهو شوك الحنطة، انظر «التوضيح» لابن الملقن (22/ 34).
(4)
انظر «الكواكب الدراري» للكرماني (17/ 8)، و «طرح التثريب» للعراقي (8/ 167).
(5)
«تراث أبي الحسن الحرالي المراكشي» (ص/225).
يقول البِقاعيُّ (ت 885 هـ): «ذَكَر تعالى عُدولَهم عن كلِّ ذلك، واشتغالهَم ببطونِهم وعاجلِ دنياهم، فطلبوا طعامَ بطونِهم الَّتي قد فرغ منها التَّقدير، وأظهَر لهم الغَناء عنها في حالِ التِّيه، بإنزال المَنِّ والسَّلوى، إظهارًا لبلادةِ طباعِهم، وغلبةِ حُبِّ العاجلةِ عليهم»
(1)
.
فتحريفُ القولِ عن مواضعِه سِمَة لا تُستغرب مِن يَهود، والله أخبرَ أنَّهم {مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء: 46]، وكانوا يَأتون النَّبي صلى الله عليه وسلم يقولون: رَاعِنا، يعنونَ الرُّعونةَ، لَيًّا بألسنتِهم، وإذا جاءوه حَيَّوه بما لم يُحَيِّه به الله، وقالوا: السَّام عليك يا محمَّد، يُوهِمون بسريعِ اللَّفظ أنَّهم سَلَّموا
(2)
.
فما يُستغربُ بعدُ أن يُحرِّفوا لفظَ أمرِه كما في خَبر أبي هريرة؟!
وأمَّا دعوى المُنكِر في المعارضةِ الثَّانية: أنَّ تحريفَ لفظِ (حِطَّة) إلى لفظِ (حِنطة) لا يُتأتَّى إلَّا بلِسانٍ عَربي مُبين، ولسان بني إسرائيل عبرانيٌّ، فجواب ذلك مِن وجوه:
أوَّلها: إن كان قصدُ المعترضِ بالعبرانيَّةِ اللُّغةَ العِبريَّة بما نعرفه اليوم: فإنَّها لم تكُن لسانَ قومِ موسى عليه السلام أصلًا على الصَّحيحِ مِن كلام المختصِّين في علمِ اللُّغاتِ العَتيقة؛ فإنَّ أولئك الإسرائيليِّين إن كانوا «يحتفظون بلغةٍ لأنفسِهم إلى جانبِ المصريَّة الَّتي هي لغةُ المَحَلِّ الَّذي سَكنوه لعدَّةِ قرونٍ، فإنَّ هذه اللُّغة الخاصَّة لا يُمكن أن تكون هي اللُّغة العِبريَّة المعروفةَ لدينا، فهذه لم تتبلوَر إلَّا بعدَ وفاةِ موسى بحوالي أربعةِ قرون» !
(3)
.
(1)
«نظم الدرر في تناسب الآيات والسور» (1/ 400).
(2)
كما في حديث عائشة في البخاري (ك: الجهاد والسير، باب: الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة، رقم: 2935)، وحديث ابن عمر في مسلم (ك: الآداب، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم، رقم: 2164).
(3)
«لغات الرسل وأصول الرسالات» لمجموعة من الباحثين الأكاديميين (ص/49).
ثانيها: لو افترَضنا أنَّ لغة القومِ زمنَ موسى عليه السلام كانت العِبريَّة -تنزُّلًا- فإنَّه لا تعارضَ بين ما وَرد في الحديث، بيانُ ذلك من جِهتين:
الجِهة الأولى: أنَّ العَربيَّة والعِبريَّة كِلاهما مِن الأسرةِ السَّامية
(1)
، والمُشترَك اللُّغوي بين اللُّغاتِ مِن أسرةٍ واحدةٍ يكون كبيرًا، فلا مانعَ مِن أن يكون لفظَا (حِطَّة) و (حِنطة) مَن هذا المشترَك
(2)
.
(3)
.
وعليه؛ فإنَّ وجود تشابه بين العربيَّة وغيرها من اللُّغات السَّامية في مفرداتها وقواعدها ليس بالمستنكر؛ خاصَّةً مع قولِ ثلَّة من الباحثين في علم اللُّغات والاجتماع بكونِ العربيَّة هي الأصل الَّتي تفرَّعت عنها باقي اللُّغات السَّامية
(4)
، بل باقي اللُّغات بإطلاق
(5)
.
(1)
السَّاميون شعوب عديدة، بعضها انقرض أو اندمج في غيره من الشعوب، كالبابليين، والآشوريين، والفينيقيين، والآراميين، وبعضها لا يزال باقيًا إلى يومنا هذا، كالعرب، واليهود، والأحباش السُّمر، وقلة من بقايا الآرامية، وأول من أطلق عليها هذه التسمية (سامية) عالم ألماني اسمه (شلوتسر) بناءً على أقدم محاولة لتقسيم البشر إلى عائلات، وهي تلك التي وردت في سفر التكوين، وفي الإصحاح العاشر، ومع أن هذا التقسيم غير دقيق، فقد أبقى عليه علماء التاريج والاجتماع، لعدم وجود مصطلح أفضل منه للدلالة على مجموعة الشعوب تربطها معًا وحدة اللغة والجنس والذهنية، انظر «في قواعد الساميات» لـ د. رمضان عبد التواب (ص/9 - 12).
(2)
هذا ما ذهب إليه الفخر الرازي في تفسيره «مفاتيح الغيب» (6/ 504).
(3)
«الإحكام» لابن حزم (1/ 31).
(4)
وهو ما ذهب إليه العالم الاجتماعي الإيطالي (ساباتينو موسكاتي) في كتابه الشهير «الحضارات السامية القديمة» .
(5)
ألَّفت الدكتورة تحية عبد العزيز إسماعيل -المختصة بعلم اللغويات- كتابًا حافلًا أسمته «اللغة العربية أصل اللغات» ، حشدت فيه دلائل كثيرة على أولية اللغة العربية، وأنها أصل اللغات، وشرحت فيه الكلمات اللاتينية واليونينية والهيروغليفية، وكشفت عن تراكيبها، وردتها إلى أصولها العربية فيما ترى، كما حشدت مزايا اختصت بها العربية عن غيرها، وقد بذلت فيه جهدا مشكورًا.
وكذا لـ د. عبد الرحمن البوريني بحث قيِّم بلغ فيه نفس النتيجة السابقة أسماه «اللغة العربية أصل اللغات كلها» ، مطبوع بدار الحسن للنشر - عمان، 1998 م.
الجهة الثَّانية: أنَّ العِبريَّة القديمة نفسَها خَليط مِن عدَّة لغاتٍ، أهمُّها الآراميَّة، والأكاديَّة البابِليَّة منها والآشوريَّة، والهيروغليفيَّة المِصريَّة، وكذا العَربيَّة، فوارِدٌ جدًّا أن يكون اللَّفظان الوارِدان في الحديثِ مِن المعجمِ العَربيِّ الَّذي اختلَط في ذاكَ المَزيجِ العِبْريِّ
(1)
!
وفي تقريرِ قريبٍ مِن هذا التَّأصِيلِ، يقول ابن تيميَّة:«الألفاظُ العِبريَّة تُقارب العربيَّة بعضَ المقاربة، كما تتقارب الأسماء في الاشتقاقِ الأكبر، وقد سمِعت ألفاظَ التَّوراة بالعِبريَّة مِن مسلمةِ أهل الكتاب، فوجدتُ اللُّغتين متقاربِتين غايةَ التَّقارب، حتَّى صِرتُ أفهم كثيرًا مِن كلامِهم العِبريِّ بمجرَّدِ المعرفة بالعَربيَّة .. »
(2)
.
ثالثها: يذهب عَدد من الباحثين إلى أنَّ اللُّغة الَّتي كُتِبت بها التَّوراة الأصليَّة كانت الآرَاميَّة، فإنَّه لابدَّ أنَّ ما أُوتيَه موسى عليه السلام مِن ألواحٍ قد كُتِب بلُغةٍ مُقعَّدةٍ مَفهومةٍ
(3)
، واللُّغة الَّتي كانت مُتداولة في الشَّامِ آنذاك هي الآراميَّة
(4)
، ومِنها تفرَّعَت السِّريانيَّة
(5)
، فلذا سُمِّيت باللُّغةِ المقدَّسة، وهاتان لُغتانِ قَريبتان في المعجمِ والقَواعد، ومنها أَخذت العِبريَّة قِسطًا وافرًا مِن لُغتها، وقد سبقت الإشارة إلى قريبٍ من هذا المعنى.
(1)
وهذا موسى عليه السلام مع علمهِ باللُّغة المصريَّة لغة المنشأِ ـ قد تعلَّم العربيَّة وتكلَّم بها حين ساكن أهل مَدين عدَّة سنين، وكانوا عربًا، وقد كان من آثار ذلك تضمُّن أسفارِ موسى الخمسة الموجودة في التَّوراة كلماتٍ كثيرةً من المصريَّة والعربيَّة.
(2)
«مجموع الفتاوى» (4/ 110).
(3)
ويبعُد جدًّا أن تكون التَّوراة قد كُتبت بالرُّموز الهيروغليفيَّة المصريَّة القديمة التي نشأ عليها موسى عليه السلام برسومها الحيوانيَّة وأشكالها المستغربة!
(4)
انظر «الحضارات السامية القديمة» لساباتينو موسكاتي (ص/180).
(5)
«في قواعد الساميات» لـ د. رمضان عبد التواب (ص/81).
يؤيِّد هذا: ما أورده جَمعٌ مِن المفسِّرين مِن أخبارَ تدلُّ على أنَّ قولَ الفَسَقة من بني إسرائيل: (حِنطة) قد كان بالنَّبطيَّة، حيث قالوا:«حِطَا سمقاثا» ، أي: حِنطة حمراء -كذا وَرَد عن ابن مسعود وابن عبَّاس وغيرهما
(1)
- والنَّبطَ كانت لُغتهم الرَّسميَّة الآراميَّة
(2)
!
والعَربيَّة والآراميَّة السِّريانيَّة يجتمِعان في الأصلِ السَّامي الغَربيِّ، وفي نفسِ هذا الحديث ما يشهدُ لذلك، حيث إنَّ لفظ (حِنطة) في آراميَّة العَهد القديم هكذا:(ح ن ط ه)
(3)
، فهو بنفسِ حروفه في العَربيَّة تمامًا، فلا يُستبعد بهذا أن يكونَ لفظُ الفعلِ العَربيِّ (حَطَّ) الواردِ في حديث أبي هريرة هو بنفسِ حروفِه في الآراميَّة.
فأخْلِق بهذه الحقائق أن يكون بها حديث أبي هريرة رضي الله عنه شاهدًا في علمِ تاريخِ اللُّغاتِ، لا مَطعونًا به مِن طالبي الهَناتِ من صِحاحِ الرِّواياتِ! والحمد لله.
(1)
انظر «جامع البيان» للطبري (1/ 728)، و «الهداية» لمكي بن أبي طالب (1/ 281)، و «الكشاف» للزمخشري (1/ 143)، و «مدارك التنزيل» للنسفي (1/ 92)، و «البحر المحيط» لأبي حيان الأندلسي (1/ 363).
(2)
ولذا تُصنف النَّبطية بأنها إحدى تفرعات الأبجديَّة الآراميَّة، انظر «تاريخ دولة الأنباط» لإحسان عباس (ص/18).
(3)
«معجم المفردات الآرامية القديمة» لسليمان الذييب (ص/106).