الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث
دراسة ما أعلَّه الشَّافعي (ت 204 هـ) وهو في أحد «الصَّحيحين»
الحديث الأوَّل:
روى الشَّيخان مِن طريقِ عمرو بن ميمون، عن سليمان بنِ يَسار، عن عائشة رضي الله عنها قالت:«كنتُ أغسِلُ الجنابةَ مِن ثوبِ النَّبي صلى الله عليه وسلم، فيخرجُ إلى الصَّلاة، وإنَّ بُقَع الماء على ثوبِه»
(1)
.
فأورَدَ (الكرديُّ)
(2)
و (القنُّوبي)
(3)
و (جمال البنَّا)
(4)
كلامًا للشَّافعي على الحديث، يقول فيه:«هذا ليس بثابتٍ عن عائشة، هم يَخافون فيه غَلطَ عمرو بن ميمون، إنَّما هو رأيُ سليمان بن يَسار، كذا حَفِظه عنه الحُفَّاظ أنَّه قال: (غُسْلُه أحَبُّ إليَّ)؛ وقد رُوِيَ عن عائشة خلافُ هذا القول، ولم يَسمع سليمان -عَلِمناه- مِن عائشةَ حرفًا قَطُّ، ولو رَواه عنها كان مُرسلًا»
(5)
.
(1)
أخرجه البخاري (ك: الوضوء، باب: غسل المني وفركه وغسل ما يصيب من المرأة، برقم: 227)، ومسلم (ك: الطهارة، باب: حكم المني، برقم: 289)، واللفظ للبخاري.
(2)
«نحو تفعيل نقد متن الحديث» (ص/60).
(3)
«السيف الحاد» (ص/126)
(4)
«تجريد البخاري وسلم» (ص/20).
(5)
«الأم» للشافعي (1/ 74).
قلت: فأمَّا قولُ الشَّافعي: «لم يَسمَعْ سليمانُ -عَلِمناه- مِن عائشة حرفًا قطُّ» ، فهو مِن ورَعِه في الحيطَة، فقد قيَّد كلامَه بحسبِ ما يَعلمُه من ذلك
(1)
؛ كما أنَّ في قولِ الشَّافعيِّ: « .. هم يَخافون فيه غلطَ ميمون» ، ما يوحي بعدمِ جزمِه بذلك أيضًا.
لكن الصَّحيح سماعُ سليمان مِن عائشة رضي الله عنها مِن وجوهٍ عدَّة، منها ما هو ما مُصرَّح به عند الشَّيخين في «صَحِيحَيْهما»
(2)
؛ وعليه بَوَّب ابنُ حبَّان بقوله: «ذِكرُ الخَبرِ المُدْحِضِ قولَ مَن زَعَم أنَّ سليمان بن يسار لم يَسمع هذا الخبَر مِن عائشة»
(3)
.
وعمرو بن ميمون راويه عن سليمان -وهو مَن خاف الشَّافعي غلَطه فيه- مِن الثِّقاتِ المَشهورين
(4)
، قد رَواه عنه أحدَ عشرَ راويًا فيهم أئمَّةٌ كِبار
(5)
؛ فضلًا عن ورودِ الحديث مِن طُرقٍ أخرى عن غيرِ سليمان بنِ يَسار
(6)
.
فالحديث بهذا ثابتٌ عنه بلا رَيبٍ.
وأمَّا شُبهة احتمالِ غَلَطِ (عمرو بن ميمون)، فمبعثها: مَجيء روايةٍ عنه أنَّها فتوًى لسليمانَ؛ وهذا الاختلاف قد أجابَ عنه ابنُ حَجر بقوله: «ليس بين فَتواه ورِوايته تَنافٍ، وكذا لا تأثيرَ للاختلافِ في الرِّوايتين، حيث وَقَع في إحداهما أنَّ عمرو بن ميمون سألَ سليمانَ، وفي الأخرى: أنَّ سليمان سأل عائشة، لأنَّ كلًّا منهما سَأَل شيخَه، فحفظ بعضُ الرُّواة ما لم يحفظ بعضٌ، وكلُّهم ثِقات»
(7)
.
(1)
وجَزَم بنَفيِ السَّماع البزَّارُ، نقله ابن الجوزي في «التَّحقيق» (2/ 162).
(2)
جاء في البخاري (برقم: 228) بإسناده عن سليمان قال: «سمعت عائشة .. » وفي لفظ: «سألت عائشة .. » ، وكذا في مسلم (برقم: 289) عن سليمان قال: «أخبرتني عائشة .. » .
(3)
«صحيح ابن حبان» (4/ 222، برقم: 1382)، أورده فيه من طريق يزيد بن هارون.
(4)
انظر «الكاشف» للذهبي (2/ 89)، و «تقريب التهذيب» لابن حجر (ص/427) وقال:«ثقة فاضل» .
(5)
انظر أسمائهم في «المسند الجامع» لمحمود خليل (19/ 300).
(6)
تجدها في «السنن» للدراقطني (1/ 125)، و «شرح معاني الآثار» للطحاوي (1/ 51)، و «المسند» لأبي عوانة (1/ 174).
(7)
«فتح الباري» (1/ 334).
وأمَّا قول الشَّافعي: «وقد رُوي عن عائشة خلاف هذا القول» ، فيعني به روايةَ فَرْكِ المنيِّ بدلَ غسلِه
(1)
.
وكثيرٌ مِن الفقهاءِ آلَفوا بين الرِّوايتين، ونَفوا التَّضاَد بينهما بأوجهٍ مُتعدِّدة
(2)
، مِن ذلك: ما ذكره الشَّافعي نفسُه بقولِه: «إنْ جَعَلناه ثابتًا، فليس بخلافٍ لقولها: «كنتُ أفركُه مِن ثوبِ رسولِ صلى الله عليه وسلم ثمَّ يُصلي فيه» ، كما لا يكون غَسله قَدمَيْه عُمرَه، خلافًا لمسحِهِ على خُفَّيه يومًا مِن أيَّامه، وذلك أنَّه إذا مَسَح عَلِمنا أنَّه تُجزئ الصَّلاة بالمسحِ، وتُجزئ الصَّلاة بالغسل، وكذلك تجزئ الصَّلاة بِحَتِّه، وتجزئ الصَّلاة بغسلِه، لا أنَّ واحدًا منهما خلاف الآخر»
(3)
.
فبانَ خطأ الشَّافعيِّ في تضعيف هذا الحديث، والشَّافعيَّة من بعده على خلاف قوله فيه.
الحديث الثَّاني:
أخرجَ مسلمٌ مِن حديثِ أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «صَلَّيتُ خلف النَّبي صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بـ (الحمد لله ربِّ العالمين)، لا يذكرون (بسم الله الرَّحمن الرَّحيم) في أوَّل قراءةٍ ولا في آخرِها»
(4)
.
فقد زعمَ (الكرديُّ)
(5)
أنَّ الشَّافعي ضَعَّف الحديثَ هو وعَددٌ مِن الحفَّاظ.
والحَقُّ أنَّ الشَّافعيَّ مُثبِتٌ لأصلِ الحديث، إنَّما تَكَلَّم في الجملة الأخيرة فقط:«لا يذكرون (بسم الله الرَّحمن الرَّحيم) .. إلخ» ، حيث انفردَ مسلم بإخراجها مِن حديث أنسٍ بهذا اللَّفظ المُصرِّح بنفيِ قراءةِ البسملة.
(1)
1) أخرجه مسلم في (ك: الطهارة، باب: حكم المني، رقم: 288).
(2)
انظر «جامع» الترمذي (1/ 201)، و «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة (ص/255).
(3)
«الأم» للشافعي (1/ 74).
(4)
أخرجه مسلم (ك: الصلاة، باب: حجة من قال لا يجهر بالبسملة، برقم: 399).
(5)
«نحو تفعيل نقد متن الحديث» (ص/60).
فأعَلَّ الشَّافعي
(1)
وبعضُ النُّقادِ
(2)
روايةَ اللَّفظ المُصَرِّح بالبسملة، لِما رأوه مِن الأكثرينَ أنَّهم قالوا فيه:«فكانوا يَستفتحون القراءةَ بالحمدُ لله ربِّ العالمين» ، مِن غيرِ تَعرُّضٍ لذكرِ البسملةِ، وعليها اقتصر البخاريُّ في «صَحيحِه»
(3)
.
وهؤلاء رأوا أنَّ مَن رواه باللَّفظ الزَّائدِ المَذكورِ إنَّما رواه بالمعنى الَّذي وَقَع له، حيث فَهِم مِن قولِه:«كانوا يَستفتحون بالحمد لله» نفيَ البسملة، فرَوَاه على ما فهِم، ورَأوه قد أخطأَ في فهمِه، إذ المعنى المُراد عندهم: أنَّ السُّورةَ الَّتي كانوا يَفتَتِحون بها هي «الفاتحة» ، وليس فيه تَعرُّضٌ لذكرِ الجهرِ بالبَسملةِ
(4)
.
والحديث بهذه الجملة أخرجه مسلم في المُتابعات لا الأصول، وغيره مِن بعض الحُفَّاظ قد صَحَّحوا الحديث بتلك الجملة، فلم يَرَوها مُخالفةً للرِّوايةِ الأخرى
(5)
؛ كما أنَّ ابن حَجرٍ قد دافع على صحَّتها أيضًا، نافيًا عنها وصف
(1)
«معرفة السنن والآثار» للبيهقي (2/ 379).
(2)
كالدراقطني وتبعه البيهقي كما في «السنن الكبرى» (2/ 74)، وابن عبد البر في «التمهيد» (2/ 228).
(3)
أخرجه البخاري (ك: الصلاة، باب: ما يقال بعد التكبير، برقم: 743)، عن أنس رضي الله عنه بلفظ:«إن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر رضي الله عنهم كانوا يفتتحون الصلاة بـ (الحمد لله رب العالمين» ).
(4)
انظر «التقييد والإيضاح» للعراقي (ص/118).
قلت: ذهب ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (22/ 413) إلى أنَّ حمل الافتتاح بـ (الحمدُ لله رب العالمين) على السُّورة لا الآية ممَّا تستبعده القريحة، وتمجُّه الأفهام الصحيحة، لأنَّ هذا من العلم الظَّاهر الَّذي يعرفه العام والخاص، كما يعلمون أن الفجر ركعتان، وأن الظهر أربع، وأن الركوع قبل السجود، والتشهد بعد الجلوس إلى غير ذلك، فليس في نقل مثل هذا فائدة، فكيف يجوز أن نظن أن أنسًا قصد تعريفهم بهذا، وأنهم سألوه عنه؟ وإنما مثل هذا مثل من يقول: فكانوا يركعون قبل السجود، أو فكانوا يجهرون في العشاءين والفجر، ويخافتون في صلاة الظهر والعصر .. إلى غير ذلك من الأدلَّة الَّتي ذكرها ابن تيمية في ردِّ هذا القول، وقد نقلها عن ابن تيمية العَينيُّ في شرحه لـ «سنن أبي داود» (3/ 403) بنفسِ عباراتِ ابن تيمية دون أن يعزوها إليه!
(5)
صحَّح الحديث بهذه الجملة في آخره: مالك في «الموطأ» (ص/81)، وابن خزيمة في «صحيحه» (1/ 149 - 150) من حديث حميد الطويل عن أنس بمعناه، وحسَّنه الترمذي من حديث عبد الله بن مغفل في «جامعه» (2/ 12) وقال:«والعَمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم» .
وصحَّحه أيضًا: ابن تيمية في «مجموع الفتاوى» (22/ 414)، وابن كثير في «الأحكام الكبير» (3/ 46)، وابن رجب في «فتح الباري» (6/ 389)، وابن عبد الهادي في «المحرر في الحديث» (1/ 187).
الاضطرابِ أو الإدراجِ أو الشُّذوذ
(1)
.
فإذا سَلَّمنا لتعليلِ الشَّافعي وغيره من الحفَّاظ لهذه الجملةِ، فإنَّها بذلك تندرج في الحروف اليسيرة من «الصَّحيحين» التي تُستثنى مِن تَلقَّي الأمَّة، لوقوع الخلاف فيها قديمًا بين المُعتبرين من النُّقاد؛ فلا حرج على مَن أخذَ بأحدِ القَوْلين بدليله؛ والحمد لله.
(1)
«فتح الباري» (2/ 228).