الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني سَوق دعوى المعارضات الفكريَّة المعاصرة لأحاديث الموافقات القرآنية لعمر بن الخطاب
فأمَّا ما وَرد في الموافقة الأولى مِن الحديث الأوَّل:
فقد زَعَمَ (ابن قرناس) أنَّ آيةَ {وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] قد نزلت في السَّنة الأولى للهجرة، «في وقت لم يكن يُتوقَّع أن تُفتح مكَّة بعد سبع سنوات، وعندها يمكن أن يُتَّخذ المقام مُصلَّى باقتراح من عمر مزعوم»
(1)
.
والَّذي أوهَمه نفيَ تنزُّلها موافقةً لكلامِ عمر رضي الله عنه كونها «ضمن الحديث عن إبراهيم عليه السلام وما حدث له، أي أنَّها تخبر عن تاريخ مَضى، .. وقد أمر الله النَّاس بأن يتَّخذوا مقام إبراهيم مصلَّى منذ ذلك العهد»
(2)
.
وأمَّا عن الموافقة الثَّانية من الحديث الأوَّل نفسِه:
فأُورِد عليها جملةٌ مِن المعارضات، يرجع مُجملها إلى أمرين: دعوى التَّناقض بينها، والقدح في العلمِ الإلهيِّ.
أمَّا دعوى التَّناقض: فزعموا أنَّ الأحاديث في هذا الشَّأن متضاربة، فبعضها يشير إلى أنَّ الآية نزلت بعد أن طلب عمررضي الله عنه مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم حجبَ
(1)
«الحديث والقرآن» لابن قرناس (ص/442).
(2)
«الحديث والقرآن» لابن قرناس (ص/442).
نسائِه حين قال: «يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن، فإنَّه يكلِّمهنَّ البَرُّ والفاجر» ، ورواية أخرى تقول: إنَّها نزلت عندما لبَّى عمر دعوة النَّبي صلى الله عليه وسلم للأكل، وأصابت يده إصبعَ عائشة، فقال عمر:«حسّ! لو أُطاع فيكنَّ ما رأتكُنَّ عين»
(1)
.
ثمَّ حديث آخر يروي أنَّها نَزلت عندما أرادت سَودة أمُّ المؤمنين الخروجَ لقضاء الحاجة، فلمَّا رآها عمر، وكان حريصًا على نزولِ آية الحجابِ، ناداها:«يا سودة، أمَا والله ما تَخفين علينا، فانظري كيف تَخرجين .. »
(2)
.
ثمَّ رواية أخرى يجزم فيها أنس بن مالك رضي الله عنه أنَّها نزلت يوم أصبح النَّبي صلى الله عليه وسلم عروسًا بزينب بنت جحش، وقد دعا قومًا لطعامِه، فجعلَ النَّبي صلى الله عليه وسلم يخرج ثمَّ يرجع، وهم قعود يتحدَّثون، وكان النَّبي صلى الله عليه وسلم شديدَ الحياء، فخرج منطلقًا نحو حجرة عائشة رضي الله عنها، فأُخبر أنَّ القوم خرجوا فرَجع، يقول أنس رضي الله عنه:«حتَّى إذا وضَع رجلَه في أسكفَّة الباب داخلة، وأخرى خارجة، أرخى السِّترَ بيني وبينه، وأُنزلت آية الحجاب»
(3)
.
وفي تقرير دعوى التَّضارب بين هذه الرِّوايات، يقول (صادق النَّجمي): «هذه التَّناقضات في قصَّة واحدة -نزول آية الحجاب موافقة لرأي عمر- مصداق
(1)
أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» (رقم: 1053)، والنسائي في «السنن الكبرى» (ك: التفسير، باب: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم، رقم: 11355) وغيرهما من طريق مسعر، عن موسى بن أبي كثير، عن مجاهد، عن أم المؤمنين عائشة.
قال الدراقطني في «العلل» (14/ 338): «يرويه مسعر، واختلف عنه:
فرواه ابن عيينة، عن مسعر، عن أبي الصباح موسى بن أبي كثير، عن مجاهد، عن عائشة.
وغيره يرويه عن مسعر، عن أبي الصباح، عن مجاهد مرسلًا، والصَّواب المرسل» ا. هـ
(2)
أخرجه البخاري أخرجه البخاري (ك: تفسير القرآن، باب: باب قوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}، رقم: 4795)، ومسلم (ك: السلام، باب: إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان، رقم: 2170).
(3)
أخرجه البخاري (ك: تفسير القرآن، باب: باب قوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَاّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ}، رقم: 4791 - 4794) ومسلم (ك: النكاح، باب: باب زواج زينب بنت جحش، ونزول الحجاب، وإثبات وليمة العرس، رقم: 1428).
بارزٌ، ودليل بيِّن على صحَّةِ المثَل المعروف الَّذي يقول: الكذَّاب كثير النِّسيان! ولا حافظة للكذاب!»
(1)
.
وأمَّا عن دعوى القدحِ في العِلمِ الإلهيِّ:
فيقول (ابن قرناس) في آية الحجاب
(2)
(3)
.
وأمَّا عن الموافقة الثَّالثة المتعلِّقةِ بآية سورة التَّحريم:
فقد عورِضت بنفسِ المعارضةِ الثَّانية للموافقة الأولى، بدعوى أنَّها لم تنزل لوحدها، «ولكن ضمنَ خمسِ آياتٍ افتُتحت بها سورة التَّحريم، وتَتحدَّث عن مشاكلَ أُسريَّة بين الرَّسول وزوجاتِه»
(4)
.
وأمَّا فيما يتعلَّق بصلاةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم على ابنِ سَلول:
فقد اعتُرِض على متنِه بعدَّةِ اعتراضات، قد كانت مثارَ جدلٍ قديمٍ بين بعضِ الطَّوائف الإسلاميَّة، مِن أبرزِها:
ما أورَده (رشيد رضا) في «تفسيرِه» وناقشه، مع كونِه أمْيلَ إلى ردِّ الحديثِ، مع إعذاره لِمن أثبتَه؛ حيث كان أقوى ما عَوَّل عليه في موقفِه منه دعوى أنَّ ظاهرَ الأمرِ في قوله تعالى:{اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] وَاردٌ للتَّسوية بين الأمرين، أي: أنَّ الاستغفار وعدَمه سيَّان، وبها استدَلَّ عمر رضي الله عنه على تركِ
(1)
«أضواء على الصحيحين» (ص/313).
(2)
وقد جعلَ كلامَه هذا في سبب نزولها ينطبق على الموافقتين الأخريين أيضًا.
(3)
«الحديث والقرآن» لابن قرناس (ص/443 - 445).
(4)
«الحديث والقرآن» لابن قرناس (ص/444).
الصَّلاة على ابن سلول، لكنَّ الحديثَ بخلافِ هذا الظَّاهر القرآنيِّ، حيث فيه حَملُ (أو) على التَّخيير.
فلقد كان هذا الخَبر بحقٍّ مَزلَّةَ أقدامِ لبعضِ المُتقدِّمين مِن أهل العلمِ! حتَّى أنكر أبو بكر الباقلَّاني صحَّته بقوله: «هذا الخبر مِن أخبارِ الآحادِ الَّتي لا يُعلَم ثُبوتها»
(1)
.
وقال الجُوَينيُّ: «هذا لم يصححه أهل الحديث»
(2)
.
وقال الغزالي: «الأظهر أنَّه غير صَحيح»
(3)
.
وقال الدَّاودي وهو شارحُ البخاريِّ: «هذا الحديث غير مَحفوظ»
(4)
.
ونظرًا إلى مقام هؤلاء القائلين قال ابن حجر: «استُشكِل فهمُ التَّخيير مِن الآية، حتَّى أقدمَ جماعةٌ مِن الأكابر على الطَّعنِ في صحَّةِ هذا الحديث! مع كثرةِ طُرقِه، واتِّفاقِ الشَّيخين وسائرِ الَّذين خرَّجوا الصَّحيحَ على تصحيحِه، وذلك يُنادي على مُنكري صحَّتِه بعدمِ معرفة الحديثِ، وقِلَّةِ الاطِّلاع على طُرقِه»
(5)
.
والسَّبب في إنكارهم صحَّتَه: ما تَقرَّر عندهم -وهو الَّذي فهمه عمر رضي الله عنه مِن أنَّ أداة (أو) تُحمل على التَّسويةِ، لمِا يقتضيه سياقُ القِصَّة، ولفظ (السَّبعين) يُحمل على المبالغةِ؛ وأهل البيانِ لا يتردَّدُون في أنَّ التَّخصيصَ بالعددِ في هذا السِّياق غير مُراد، ومِن هنا شكَّك (رشيد رضا) في صحَّةِ الحديث، فقال:
«إنمَّا يظهر التَّخييرُ لو كانت الآية كما ذُكر في الحديث ولم يكن فيها بَقيَّتُها، أي: التَّصريح بأنَّه لن يغفر الله لهم بسببِ كفرِهم، وأنَّ الله لا يهدي القوم الفاسقين، ومِن ثَمَّ كان المتبادَر مِن (أو) فيها أنَّه للتَّسوية بين ما بعدها وما
(1)
«التقريب والإرشاد» للباقلاني (3/ 344).
(2)
«البرهان» لأبي المعالي الجويني (1/ 170).
(3)
«المستصفى» (ص/267).
(4)
«التَّوضيح» لابن الملقن (9/ 484).
(5)
«فتح الباري» (8/ 338).
قبلها لا للتَّخيير، وبه فَسَّرها المحقِّقون، كما فهِمها عمر، واستشكلوا الحديثَ، إذْ لا يُعقل أن يكون فهمُ عمر أو غيره أصحُّ مِن فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخطابِ الله له! ولذلك أنكرَ بعضهُم صحَّته»
(1)
.
وقد تَوارد مِن بعد رشيد رضا على فهمِ الآيةِ على هذا المعنى من التَّسوية فئامٌ أنكروا أن تكون للتَّخيِير، وهو ما جنح إليه من طعن في الحديث من المعاصرين، كـ (جعفر السُّبحاني)
(2)
، و (صادق النَّجمي)
(3)
، و (فتح الأصبهاني)
(4)
، و (الكُردي)
(5)
، وغيرهم.
فأمَّا (السُّبحاني)، فكان أسهبَ هؤلاءِ في تفصيلِ هذا الفهمِ دليلًا على نُكرانِه للحديث
(6)
، فناسبَ إيرادُ معارضاتِه، وفي ضمنها كلامُ (رشيد رضا)، ليتمَّ الرَّد على كلِّ فرعٍ منه على حِدَة، ويستتِمَّ لنا دحض مُعارضتها جملةً، فنقول مُستعينين بالله
(7)
:
يقول هذا المُعترِض:
«أوَّلًا: إنَّ المتبادر مِن لفظة (أو) في الآية من قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] أنَّها للتَّسوية، أي الاستغفار وعدمه سيَّان، لأنَّ المحلَّ غير قابل للاستفاضة، لكنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم حسب الرِّواية حملها على التَّخيير، حيث قال: إنَّما خيَّرني الله .. فكيف خفي على النَّبي مفاد الآية؟!
(1)
«تفسير المنار» (10/ 496).
(2)
«الحديث النبوي بين الرواية والدراية» (ص/518 - 520).
(3)
«أضواء على الصحيحين» (ص/318 - 319).
(4)
«القول الصراح في البخاري وصحيحه الجامع» (ص/115 - 116).
(5)
«نحو تفعيل قواعد نقد المتن» (ص/154).
(6)
ومَن يطالع كلام رشيدٍ عن الحديث في «تفسير المنار» ، يعلم أنَّ (السُّبحاني) قد اختلسَ من كلام (رشيد رضا) ما ناسب طعنَه في الحديث، متغافلًا عن المناقشات المفيدة الَّتي سجَّل (رشيد رضا) أكثرَها عن ابن حجر في الدِّفاع عن الحديث!
(7)
غايرت بين ترتيب الشبهتين الأوليين في الأصل لأن الرد على الثاني مضمن جزء منه في الأول كما سيأتي.
ثانيًا: المتبادر مِن الآية عند النَّاطقين بالضَّاد، هو أنَّ عدد السَّبعين فيها كناية عن الكثرة، بمعنى أنَّ الاستغفار لا يُجدي لهم مهما بلغ عددها، سواء أكان أقلَّ من سبعين أو أزيد منه، وهذا ما يفهمه العَربي الصَّميم مِن الآية، ويؤيِّد ذلك أنَّه: سبحانه علَّل عدم الجدوى بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 80].
ولكن الظَّاهر أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم فهِم من الآية أنَّ لعدد السَّبعين خصوصيَّة! وأنَّه ما أقدم على الصَّلاة على عبد الله بن أُبيٍّ وهو رأس المنافقين إلَّا لأجلِ أن يستغفر له أزيدَ مِن السَّبعين، الَّذي ربَّما تكون الزِّيادة نافعة لحاله، ولا خفاءَ في أنَّه على خلاف ما يفهمه العربيُّ الصَّميم من الآية، فكيف بنبيِّ الإسلام، وهو أفصح مَن نَطق بالضَّاد؟!
ثالثًا: كيف قام النَّبي صلى الله عليه وسلم بالصَّلاة على المنافق وهو يشتمل على الاستغفار، مع أنَّ المَرويَّ في الصِّحاحِ أنَّه سبحانه نَهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار للمشركين وهو في مكَّة المكرمة؟! قال:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113].
رابعًا: أنَّه سبحانه نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الاستغفار في سورة المنافقين، وقد نزلَت في غزوة بني المُصطلق، وغزاهم النَّبيُّ في العامِ السَّادس مِن الهجرة، قال سبحانه:{سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6].
ومع هذا البيان الصَّريح، كيف أقدم النَّبي صلى الله عليه وسلم على الصَّلاة على المنافق، والَّتي لم تكن إلَّا عملًا لغوًا غير مفيد؟
وما ربَّما يُتوهَّم أنَّه صلى الله عليه وسلم قدم على الصَّلاة استمالةً لقلوب عشريتِه، فهو كما ترى، لأنَّ القرآن يخبر بصراحةٍ أنَّ الصَّلاة والاستغفار لا تفيد بحالِه، أفيكون عملُ النَّبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا التَّصريح سببًا للاستمالة؟!»
(1)
.
(1)
«الحديث النبوي بين الرواية والدراية» (ص/518 - 520).
ثمَّ أتانا (صادق النَّجمي) مُتبرِّعًا من كيسِ فهمِه بشُبهةٍ أخرى، يقول فيها:
الخامسة: إنَّ القول بموافقةَ اللهِ لعمر في تركِ الصَّلاة على ابن أبيٍّ منافٍ للعقل، «ذلك أنَّ قبولَه يستلزم أن يكون هناك مَن هو أعلم مِن النَّبي صلى الله عليه وسلم بالأحكام والتَّعاليم السَّماوية، وأدرى منه في معرفةِ فلسفةِ الأحكامِ الإلهيَّة وأسرارها، وأعرف بالمصالح والمفاسد المترتِّبة على التَّعاليم الإسلاميَّة، لأنَّنا نشاهد في الحديث أنَّ الله تعالى قد أنزل آيةً تؤيِّد فكرةَ فردٍ ما غير النَّبي صلى الله عليه وسلم، وتُفنِّد عملَ رسولِ الله، وتنهاه، وتمنعه! .. ألم يكن مِن الأفضل أن يُنزَّل الوحي على هذا الرَّجلِ بدلًا مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!»
(1)
.
(1)
«أضواء على الصحيحين» لصادق النجمي (ص/317).