الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّاني سَوق المعارضات الفكريَّة المعاصرة لحديث «إذا سمعتم صياحَ الدِّيَكة»
قد وَلغت في هذا الحديث الشَّريف ألسِنة كثيرٍ مِن أربابِ التَّمعقُل في زماننا، وشطحت فيه أقلام مَن ضاعت أعمارُهم في ردمِ ما شيَّدته جهابذة الرِّوايةِ مِن قواعِد وسَنَن؛ حتَّى صار شعارًا عند بعضِ أولاءِ المُحدَثين على زوغان منهج المُحدِّثين، وتقبُّلهم لمُنكراتِ المتونِ و «ما لا يقبله العقل، وما لا فائدة منها للإسلام والمسلمين» !
(1)
.
ترى مثال هذا العارِ مِن الشِّعارِ -مثلًا-:
في ما عنوَن به (جواد عفانة) كتابًا له، تعنَّى فيه ردَّ الصِّحاحِ بقوله:«الإسلام وصِياح الدِّيَكة» ! يُعلِّل ذلك في تقدِمَتِه بقوله: «قد قصدتُ بقولي (صياح الدِّيكة) لفتَ نظرِ القارئ الفَطين إلى إحدى الخرافات الَّتي نُظمت في قولِ نسَبه الرَّاوي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم زورًا وكذبًا»
(2)
.
وترجع مُجمل المعارضات الموجَّهة إلى الحديث إلى واحدة رئيسةٍ تتعلَّق بالواقع المُشاهد، وهي:
أنَّ تعليل صِياح الدِّيكة بكونها رأت مَلَكًا، مع تقرُّر أنَّ لكلِّ ابن آدم ملائكةً حَفَظة ومَلَكين يكتبان أعماله: يلزم منه أنْ تصيح الدِّيَكة ليلَ نهار كلَّما رأت
(1)
بذا حكم نضال عبد القادر على هذا الحديث في كتابه «هموم مسلم» (ص/126، 128).
(2)
«الإسلام وصياح الدِّيك» لعفانة (ص/6).
إنسانًا! لرؤيتها الملائكةَ مع كلِّ إنسان، وبما أنَّ هذا لا يحدث: فالحديث كذِبٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لتكذيبِ الواقعِ المحسوسِ له.
هذا ما يتعلَّق بتعليلِ صِياح الدِّيك.
وكذا تعليل نهيق الحِمار برؤيتِه الشَّيطان؛ فإنَّه يُشكل عليه أنَّ المتقرِّر شرعًا أنَّ لكلِّ إنسانٍ شيطانًا مُوكلًا به، وأنَّ الشَّيطان كثير الوَسوسة لبني آدم؛ فلو كانت العِلَّة كما ذكر في الحديث: لوجب أن تنهق الحُمر في الأوقات كلِّها لدى رؤيتها للنَّاس!
بل إذا وُضع الحديث بجانب حديث: «إذا نُودي للصَّلاة أدبرَ الشَّيطان وَلَهُ ضُرَاطٌ حتى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ .. »
(1)
، مع كثرة ما يصادف وجودَ حمار أو حمير عند المسجد، وحسب حديث المناداة وخروج الشَّيطان له ضراط، وحسب الحديث الآخر: أنَّ الحمار يرى الشَّيطان وينهق عند رؤيته! يلزم منه النَّهيق مع كلِّ أذان وإقامة، فلمَّا انتفى سماعِ نهيقِ الحمارِ حينئذٍ: لزم منه بطلان الحديث.
وفي تقرير هذا الاعتراض يقول (إسماعيل الكردي):
«وَرَد في الحديث استحباب الدُّعاء عند سماع صوت الدِّيك، خاصَّة أن الدِّيك يصيح عند الفجر، فيوقظ النَّاس لصلاة الفجر، وورَد أنَّ صياح الدِّيك تسبيحه، أمَّا كون صياح الدِّيك سببه أنَّه يرى مَلاكًا: فهذا مِن غرائب المرويَّات عن أبي هريرة رضي الله عنه، ويبدو لي أنَّه إضافة مُدرجة مِن حديث أبي هريرة، ظنَّ الرُّواة أنَّها مرفوعة.
ذلك لأَنَّ التَّعليل لسبب صياح الدِّيك يُشكِل عليه: أنَّ القرآن الكريم والحديث نصَّا على أنَّ لكلِّ ابن آدم ملائكةً حفَظَةً، ومَلَكين يكتبان أعماله، وعليه؛ فالمفروض أن تصيح الدِّيَكة ليلَ نهار كلَّما رأت إنسانًا؛ لأجلِ أنَّها ترى معه أولئك الملائكة، مع أنَّ شيئًا مِن هذا لا يحدث! ..
(1)
أخرجه البخاري في (ك: الأذان، باب: الأذان مثنى مثنى، رقم:583)، ومسلم في (ك: الصلاة، باب: فضل الأذان وهروب الشيطان عند سماعه، رقم: 389).
وكذلك تعليل نهيقِ الحمار برؤيته لشيطان؛ فإنَّه يُشكل عليه: ما ورد في صحيح الحديث: أنَّ لكل إنسانٍ شيطانًا موكلًا به، ومثله ما جاء في القرآن الكريم مِن وجود الَقرين للإنسان .. وقد بيَّن لنا الحقُّ تعالى أنَّ الشَّيطان كثير الوَسوسة للإنسان، وعلَّمنا أن نستعيذ بالله مِن شَرِّ الوسواس الخنَّاس
…
إلخ.
والحاصل أنَّ النَّاس في غالب أحوالهم مُعرَّضون لمحاولات الإضلال مِن قِبَل الشَّيطان ولوساوسه، فلو كان نهيق الحِمار سببه رؤية الشَّيطان: لوَجَب أن تنهق الحمير في الأوقات كلِّها، ولدى رؤيتِها للنَّاس! ويلزم: أنَّه إذا كان الإنسان راكبًا حمارًا، فكلَّما وسوس له الشَّيطان بشيءٍ، وَجب أن ينهق الحمار مِن تحتِه لرؤيتِه الشَّيطان!
وكذلك يُشْكِلُ متن الحديث إذا وضعناه بجانب الحديث الأخير؛ حيث كثيرًا ما يكون حمار أو حمير -في القُرى- على باب مَسْجد أو قريبًا منه، ثمَّ نرى أنَّ المؤذِّن يؤذِّن، ولكن لا نسمع نهيق الحمار! مع أنَّه مِن المفروض حسب الحديث الأوَّل: أنَّ الشَّيطان خرج مِن المسجد له ضراط، وحسب الحديث الثَّاني: أنَّ الحمار يرى الشَّيطان، وينهق عند رؤيته!»
(1)
.
هذا؛ ولم ينسَ (عفانة) أن يفتِّش لإسناد هذا الحديث عن عِلَّةٍ يُنيط بها ما اكتشفه في المتنِ مِن نكارة، فلم يجِد إلَّا أن يَتَّهم به: عبد الرَّحمن بن هرمز راويه عن أبي هريرة، وحدسُه أنَّه ما سمعه إلَّا مِن كعب الأحبار
(2)
.
(1)
«نحو تفعيل قواعد نقد الحديث» لإسماعيل كردي (ص/276 - 277).
(2)
«الإسلام وصياح الدِّيك» لعفانة (ص/75).