الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثاني سَوْق المعارضاتِ الفكريَّة المعاصرة لحديث الجسَّاسةِ
تنقسم مواقف المخالِفين مِن المعاصرين مِمَّا دَلَّ عليه هذا الحديث إلى موقفين
(1)
:
الموقف الأوَّل: مَن ذهب إلى ردِّ الحديث ضِمنًا لا تصريحًا.
الموقف الثَّاني: مَن رَدَّهُ تَصْريحًا.
فأمَّا الموقف الأوَّل: فيتَمثَّل في كلِّ مَن ردَّ الأحاديث الدَّالَّة على خروجِ الدَّجال وطَعن فيها بعامَّة؛ فرَدُّ تلك الأحاديث يَلحَق بها مِن باب أَوْلى «حديثُ الجسَّاسة»
(2)
.
وأمَّا الموقف الثَّاني: فأوَّل مَن علِمتُ تَولَّى رَدَّ هذا الحديث صَراحةً: (محمَّد رشيد رضا)، مُجلِبًا عليه بأوقارٍ مِن المُعارَضات مِن كِلا جِهتي الرِّواية والدِّراية.
فكان مِمَّا قاله في هذا الحديث:
«إنَّ روايةَ الرَّسول صلى الله عليه وسلم عن تميم الدَّاري إنْ سَلِم سَندُها من العِلل: هل
(1)
«دفع دعوى المعارض العقلي» (ص/460).
(2)
وعلى هذا؛ فكلٌّ من طوائف الجهمية والخوارج، وجماعات من المعتزلة، هم ممن يأبى القبول بدلالة حديث الجسَّاسة.
تجعل الحديثَ مُلحَقًا بما حَدَّث به النَّبي صلى الله عليه وسلم مِن تلقاء نفسه، فيُجْزَمُ بصدق أصله، قياسًا على إجازته صلى الله عليه وسلم أو تقريره للعمل إذ يدلُّ [على] حلِّه وجوازه؟
والظَّاهرُ لنا أنَّ هذا القياسَ لا مَحَلَّ له هنا، والنَّبي صلى الله عليه وسلم ما كان يَعلم الغيب؛ فهو كسائرِ البَشر يحْمِل كلامَ النَّاس على الصِّدق؛ إذا لم تحُفَّ به شبهة، وكثيرًا ما صَدَّق المنافقين والكُفَّار في أحاديثِهم، وحديث العُرَنِيين
(1)
وأصحاب بئر مَعونة
(2)
ممَّا يدلُّ على ذلك، وإنمَّا كان يعرف كذِب بعضَ الكاذبين بالوَحي، أو بعض طرق الاختبار، أو أخبار الثِّقات، ونحو ذلك مِن طُرق العلمِ البشريِّ، وإنَّما يمتاز عن غيرهم بالوحي، والعصمة من الكذب، وما كان الوحي ينزل إلَاّ في أمر الدِّين، وما يتعلَّق بدعوتِه وحفظِه وحفظ ما جاء به؛ وتصديقُ الكاذب ليس كذبًا .. »
(3)
.
وممَّا قاله أيضًا:
(4)
.
وممَّن نَسج بعده على منوالِه: (محمَّد أبو ريَّة)، وسيأتي نصُّ كلامه -قريبًا-.
وجاء بعده (أبو الأعلى المَوْدودي) فنَبَز الحديثَ بأنَّه «أسطورةٌ ووَهْم» !
(1)
رواه البخاري في (ك: الوضوء، باب: أبوال الإبل والدواب والغنم ومرابضها، رقم: 233)، ومسلم في (ك: القسامة، باب: حكم المحاربين والمرتدين، رقم: 1671).
(2)
أخرجه البخاري في (ك: المغازي، باب: غزوة الرجيع، ورعل، وذكوان، وبئر معونة، رقم: 4088)، ومسلم في (ك: المساجد ومواضع لصلاة، باب: استحباب القنوت في جميع الصلاة، رقم: 677).
(3)
«مجلة المنار» (19/ 97).
(4)
«تفسير المنار» (9/ 495 - 497).
(1)
.
وآخر مَن علمتُه كتَبَ في هذا الحديث يردُّه د. حاكم المطيري في كُتَيِّبه «دراسة لحديث الجساسة، وبيان ما فيه من العلل في الإسناد والمتن» .
قلتُ: ومِن المُتَحقَّق علمُه بين نُقَّاد الحديث صِحَّة إسنادِ حديثِ فاطمة بنت قيس، وبراءةُ متنِه ممَّا يُستنَكر، وإن كان فيه ما قد يُستشكَل على بعضِ الأذهان، ولا أعَلمُ حتَّى ساعتي هذه مَن رَدَّه وطَعَن فيه مِن الأئمَّة المُعتبَرين قديمًا أو حديثًا؛ بل البخاريُّ مع إعراضِه عن إخراجِه، واكتفائِه بإخراجِ حديثِ جابرٍ الواردِ في ابن صيَّاد
(2)
؛ سالِكًا في ذلك نوعًا مِن مسالِك التَّرجيح: قد صرَّحَ بصِحَّتِه، كما سيأتي عليه البَيانُ تفصيلًا في موضعِه مِن هذا المَبحث.
وكذا صَرَّح بصحَّتِه غيرُ واحدٍ مِن أئمَّة الحديثِ، منهم:
التِّرمذيُّ في قوله: «حَسن صَحيح غَريب»
(3)
.
وصَحَّحَه الدَّارقطنيُّ
(4)
، وابن عبد البرِّ
(5)
، بل عَدَّه أبو نُعيم الأصبهانيُّ مِن الأحاديث المُتَّفق على صِحَّتِها
(6)
؛ بل لا تَكاد تَرى مُصَنِّفًا في علومِ الحديثِ إلَّا مَثَّل به على روايةِ الأكابر عن الأصاغِر، لروايةِ النَّبي صلى الله عليه وسلم ما سمِعه عن تميمٍ للصَّحابة.
وعلى هذا؛ كان النَّظر مِنَّا مُتوجِّهًا إلى ما ثوَّره (رشيد رضا) وغيرُه على هذا الحديث مِن معارضات عقليَّةٍ، فكان أبرز ما وجدناه منهم عليه من نَقداتٍ مُنتظِمٌ في المعارضاتِ التَّالية:
(1)
«الرسائل والمسائل» لأبي الأعلى المودودي (1/ 47)، نقلًا عن «زوابع في وجه السنَّة» (ص/210).
(2)
سيأتي تخريجه قريبًا.
(3)
«جامع الترمذي» (4/ 521).
(4)
«المؤتلف والمختلف» للدراقطني (2/ 1058).
(5)
«الاستذكار» (8/ 333).
(6)
«حلية الأولياء» (8/ 136).
المعارضة الأولى: أنَّ الدَّواعي مُتوافرة لاستفاضةِ هذا الحديث لو كان حقيقةً، ورواية الآحادِ مِن النَّاس له مَظِنَّة قويَّة لنكارتِه.
وفي تقريرِ هذا الاعتراض، يقول (رشيد رضا):
(1)
.
المعارضة الثَّانية: على فرضِ صحَّة الواقعةِ، فإنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لم يُقِرَّ تميمًا رضي الله عنه على كلِّ حديثِه، وأنَّ في إبطالِه صلى الله عليه وسلم لبعضِ حديثِه نَزعًا للثِّقةِ مِن باقيه، وعلى فرضِ تصديقِ النَّبي صلى الله عليه وسلم لكلِّه، فليس هو مَعصومًا مِن تصديقِ الكَذَبة.
ولتقرير هذه الاعتراضِ المتفرِّع إلى اثنين، استشهدَ (رشيد رضا) بكلام للطيِّبي مَفاده: أنَّ ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: «ألَا إنَّه في بَحْرِ الشَّام، أو بَحْرِ الْيَمَنِ؛ لا، بَلْ مِن قِبَلِ الْمَشْرِقِ ما هو .. » ، يدلُّ على تصديقِه لتميمٍ أوَّلَ الأمر، ثمَّ كُوشِف صلى الله عليه وسلم في موقفِه بأنَّه في جهةِ المشرق، وليس في أحد البَحرين، فأعقبَ (رشيد رضا) هذا النَّقل عنه بقوله:
(2)
.
ثمَّ انتقلَ إلى تقريرِ الشُّبهةِ الثَّانيةِ في عدمِ عصمتِه صلى الله عليه وسلم مِن تصديق الكاذب، وقد سَبق كلامه في أصحابِ الموقفِ الثَّاني مِن حديث الجسَّاسة، فأغنى عن إعادتِه هنا.
(1)
«تفسير المنار» (9/ 410).
(2)
«تفسير المنار» (9/ 413).
المعارضة الثَّالثة: أنَّ الحِسَّ يَقضي بعدمِ صِحَّة هذا الحديث، وبيان ذلك:
أنَّ الجزيرة الَّتي رَفأَ إليها تميم رضي الله عنه وأصحابه بسفينِتهم لن تعدو أن تكون في إحدى البِحار المحيطة بالجزيرة العربيَّة أو القريبة منها، وكلُّها قد مسَحَها علماء البِحار في هذه الأزمنة مَسحًا؛ فلو صَحَّ وجود هذه الجزيرة، ووجود الدجَّال فيها: لتوافرت هِمَمهم على نقلِ ذلك، ولعَرَفه النَّاس.
وفي تقرير هذا، يتساءَل (رشيد رضا) سُؤالَ مستنكرٍ:
(1)
.
ومثله (محمود أبو ريَّة)، لكن بنبرةِ المُستهزِئ قال:«لعلَّ علماء الجغرافيا يَبحثون عن هذه الجزيرة، ويعرفون أين مكانها مِن البحر! ثمَّ يخبروننا؛ حتَّى نرى ما فيها من غرائب الَّتي حدَّثنا بها سيِّدنا تميم الداري رضي الله عنه .. »
(2)
.
أمَّا (محمَّد الغزاليُّ)، فقد عَبَّر عن هذه المعارضةِ نفسِها بأسلوبه الأدبيِّ المعهود، قائلًا:
«وهَاكُم مَوقفًا آخرَ مِن واعظٍ يحبُّ الحكايات، ويَستنصِتُ النَّاسَ بما تحوي من العجائب! قال: إنَّ الدجَّال موجود الآن في إحدى الجُزر ببحر الشَّام أو بحر اليَمن، مشدود الوِثاق، وقد رآه تميم الدَّاري بعدما غرق في السَّفينة الَّتي كان يركبها هو وصحبُه، وتحادثوا معه، وهو على وشك الخروج!
وقد حدَّثتْ بذلك فاطمة بنت قيس في سياقٍ طويلٍ!
قال لي طالب يسمع الدَّرس: هل يمكن أن نذهبَ في رحلةٍ إلى هذه الجزيرة؛ لنرى الدَّجال؟
قلتُ له: وماذا تفعل برؤيتِه؟ الدَّجالون كثيرون، وإذا تحصَّنت بالحقِّ نَجوتَ منهم، ومن كبيرِهم عندما يخرج!
قال: ألم يزُرْ أحدٌ هذه الجزيرة بعد تميم الدَّاري؟
فآثرتُ السُّكوتَ، وحرَّفْتُ الطَّالبَ عن الموضوع بلباقةٍ.
إنَّ أساطيلَ الرُّومان، والعرب، والتُّرك، والصَّليبيِّين؛ تجوب البحرَ الأبيض المتوسِّط والأحمر من بضعة عشر قرنًا، ولم ترَ هذه الجزيرة؛ وفي عصرنا هذا طُرِق كلُّ شِبرٍ في البرِّ والبحر، والتُقِطت صورٌ لأعماقِ المحيطات عن طريقِ الأقمار الصناعيَّة، فأين تقع هذه الجزيرة؟! .. »
(1)
.
المعارضة الرَّابعة: أنَّ الحديثَ مُعارَضٌ بقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لا تَأتي مائة سَنةٍ وعلى الأرض نفسٌ منفوسةٌ اليوم»
(2)
:
فلو كان الدَّجال مَوجودًا وقتَها لهلَك قبل تمامِ المائة، ولعارَضَ ما ثَبت قطعًا مِن خروجِه قُبيل السَّاعة.
يقول محمَّد العُثَيمين (ت 1421 هـ) في تقريرِ هذه المعارضة: «ثَبَت في «الصَّحيحين» عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّه على رأسِ مائةِ سنةٍ، لا يبقى على وجهِ الأرضِ مِمَّن هو عليها اليوم أحَد» ، فإذا طَبَّقنا هذا الحديث على حديثِ تميم الدَّاري رضي الله عنه، صارَ مُعارضًا له؛ لأنَّ ظاهرَ حديث تميم الدَّاري رضي الله عنه أنَّ هذا الدَّجال يبقى حتَّى يخرج، فيكون معارضًا لهذا الحديث الثَّابت في الصَّحيحين»
(3)
.
(1)
«السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث» (ص/203 - 204).
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه (برقم: 2573).
(3)
«مجموع فتاوى ورسائل العثيمين» (2/ 20).
المعارضة الخامسة: أنَّ في طلب النَّبي صلى الله عليه وسلم لتأييدِ رَجلٍ مِن أهل الكتاب لِما كان يحدِّث به: حَطٌّ من شأنِه، واستغنائِه بتصديقِ الله تعالى له في القرآن الكريم:
(1)
.
(1)
«الحديث بين الرواية والدراية» (ص/191).