الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَطلب الثَّالث دَفع المعارضاتِ الفكريَّة المعاصرةِ عن حديث: «مفاتح الغيب خَمسٌ»
أمَّا جواب الوجه الأوَّل مِن أوجهِ ردِّ هذا الحديث، في دعوى المُعترضِ مخالفةَ الحديثِ القرآنَ بتقييِده لمفاتح الغيب في خمسة:
فإنَّ المُتحقَّق علمُه عند الرَّاسخين في علمِ الوَحيَيْن، أنَّ أوْلى ما سَلكوه مِن طُرقٍ لتَفسيرِ كلامِ الله كلامُ الله نفسُه، ثمَّ تفسيرُهم إيَّاه بكلامِ أعلَمِ الخلقِ به صلى الله عليه وسلم.
ومِن جميلِ مُوافقاتِ هذا الحديثِ وفضائلِه، أنَّه جَمَع بين هذين المَسلَكينِ الحُسنيَيْن؛ فإنَّ فيه تفسيرًا نَبويًّا لِما أُجمِل في القرآنِ بالقرآنِ، وهذا الرَّبطُ النَّبويُّ بين الآيَتين لا ريبَ في حُرمةِ فَكِّه ولو باجتهاد، اللَّهم إلَّا عند مَن لا يرفعُ للسُّنةِ رأسًا، فهؤلاء حَقُّهم أن يُرجَع بهم إلى أصولِ الإسلامِ بقناعة، واستِتابتِهم عن غيِّهم وشذوذِهم عن الجماعةِ.
أقول هذا؛ لأنَّ مثلَ (جواد عفانة) حينَ تَأبَّط شرَّ هذه الشُّبهة، كان قد لهجَ بقدرِ السُّنة قبلُ وتبرَّم مِن إنكارها، ولا يَفتأ يُذَكِّر مُعجَبيهِ بـ «أنَّ الذِّكرَ هو القرآن، وأنَّ السُّنةَ هي بيانُه، بما يُفهَم منه أنَّ السُّنة تبيِّن القرآن: تُفصِّل بعضَ مُجملِه، وتقيِّد بعضَ مُطلقِه، وتخصِّصُ بعض عمومِه، ولا شيء غيره»
(1)
.
(1)
فأين تَقريرُه الحلوُ هذا مِن مَرارةِ إنكارِه تفسيرَ آيةٍ بسُنَّةٍ تَلقَّتها الأمَّة بالقَبول؟! لكنَّه الفَهمُ السَّقيم حين يَتجَرَّع الهَوى، فيجعلُ الدَّاءَ في أصلِ الدَّوَا؛ والهادي هو الله.
فلننظُر بعدُ إلى حديثِ أبي هريرة هذا: هل فيه حصرٌ لمَفاتح الغيبِ في خمسةٍ بعينِها، دون أن يشملَ ذلك عالمَ الغَيبِ كلِّه، كما يدَّعي المعترض؟
إنْ كان قولُه تعالى المُجمَل: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ
…
} دَالًّا على شُمولِ علمِ الله تعالى لكلِّ شيءٍ، بَدءً مِن الكُليَّات وما عَظُم منها -وهي مفاتح الغيب-، إلى الجزئياتِ الدَّقيقة وما خَفي منها: فغايةُ ما في الآيةُ الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ
…
} تفصيلُ أصولِ تلك الغَيبيَّاتِ في الآية السَّابقة، بحصرِها في خمسةٍ كبرى ترجع إليها سائر المُغيَّبات.
بيان ذلك:
في أنَّ تخصيصَ الحديثَ لتلكم الخمسةِ المذكورةِ فيه بلفظِ: «مَفاتح الغيب» ، إنَّما هو باعتبارِ أنَّ تلك الخمسة هي «الأمَّهات، فإنَّ الأمورَ إمَّا أن تَتَعلَّق:
بالآخرة: وهو عِلم السَّاعة.
أو بالدُّنيا: وذلك إمَّا مُتعلَّق: بالجمادِ المَأخوذِ مِن الغَيب.
أو بالحيوانِ في مَبدئِه: وهو ما في الأرحام.
أو معاشِه: وهو الكَسب.
أو معادِه: وهو المَوت»
(1)
.
وهذا ما قرَّره ابنُ عطيَّة مُرادًا للحديثِ بقوله: «لن تجِدَ مِن المُغيَّبات شيئًا إلَّا هذه -يعني الخمسة- أو ما يُعيده النَّظرُ والتَّأويلُ إليها»
(2)
.
(1)
«فيض القدير» للمناوي (5/ 525).
(2)
«المحرر الوجيز» (4/ 356).
أمَّا وجهُ التَّعبير عنها بالمفاتيحِ: فـ «لتقريبِ الأمرِ على السَّامع، لأنَّ كلَّ شيءٍ جُعل بينك وبينه حجابٌ فقد غُيِّب عنك، والتَّوصُّل إلى معرفتِه في العادةِ مِن الباب، فإذا أُغلِق الباب، احتِيج إلى المفتاح، فإذا كان الشَّيء الَّذي لا يُطلَّع على الغيبِ إلَّا بتوصيله لا يُعرَف موضعُه، فكيف يُعرف المُغيَّب؟!»
(1)
.
ثمَّ دعوى المُعترضِ في الوَجه الثَّاني عدمَ دلالةِ الآية على استئثارِ الله تعالى بعلمِ نزولِ الغيث وما في الأرحامِ:
لا يقوم على ساقِ العقلِ لكلامِ اللهِ ورسولِه، وهو مُنكر مِن القَولِ، لم ينبِس به أحدٌ مِن الأوَّلين والآخرين مِن أهلِ المِلَّة، وإجماعُ أهلِ السُّنة قائمٌ على اختصاصِ علمِ الله تعالى بهذه الخمسِ.
ومجادلةُ المعترضِ بتَغايُرِ صِيَغِ الجُمَل في الآية، ليَتوَسَّل بذلك إلى نَفيِ الاشتراكِ في المَذكوراتِ في معنى الحصرِ: قولٌ أجنبيٌّ عن أهل اللُّغة، يَأباه سياق الآيةِ نفسِها.
فأمَّا لُغةً: فالأصل في (واو) العطفِ أن تفيد اشتراك المَعطوفِ في المعنى المُراد في المَعطوفِ عليه، ولا نزاع في دَلالةِ المعطوف عليه في قوله:{إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} على الحصرِ، ومقتضى ذلك أن يَدلُّ ما عُطِف عليه، مِن إنزالِ الغيثِ والعلم بالأرحامِ على الحصرِ أيضًا.
وأمَّا السِّياق: فالآية لم تُسَق إلَّا تمدُّحًا لله بالاختصاصِ، فإخراجُ بعضِ ما تشمَله دَلالةُ السِّياق إخلالٌ بما سِيق له، وهو منافٍ للبلاغة، وتفتيتٌ لتماسكِ الآية برُمَّتِها.
وفي تقرير هذا الجواب، يقول العِراقيُّ (ت 806 هـ): «إنَّه لو لم يكن مَعناه النَّفي
(2)
لقلَّت فائدتُه، لأنَّه تعالى عنده عِلم كلِّ شيء، فلا معنى لتخصيصِ هذه الأمورِ بالذِّكرِ إلَّا اختصاصُه بعلمِها»
(3)
.
(1)
نقله ابن حجر عن ابن أبي جمرة في «فتح الباري» (8/ 514).
(2)
يعني نفيَ العلم بهذه الأشياء الخمسة في الآية عن غير الله.
(3)
«طرح التثريب» (8/ 255).
أمَّا كون المَعطوفِ عليه جملةً اِسميَّة مُغايرًا لفعليَّةِ المَعطوف: فليس في ذلك إبطالًا لِما قرَّرناه مِن وجوبِ الاشتراكِ، بل هو مُثبتٌ لها مع زيادةِ فائدة، وذلك:
أنَّ الجملة الفِعليَّة المَعطوفة {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} تقديرُها: وإنَّ الله يُنزِّل الغيث، «وهذا يُفيد التَّخصيصَ بتنزيلِ الغَيثِ، والمقصود أيضًا عنده: علم وقتِ نزولِ الغيث، وليس المقصود مُجرَّد الإخبارَ بأنَّه يُنزِّل الغيث، لأنَّ ذلك ليس ممَّا يُنكرونه، ولكن نُظِمت الجملة بأسلوبِ الفعلِ المضارعِ، ليحصُلَ مع الدَّلالةِ على الاستئثارِ بالعلمِ به الامتنانُ بذلك المَعلوم الَّذي هو نعمة، وفي اختيارِ الفعلِ المضارعِ إفادةُ أنَّه يُجدِّد إنزالَ الغيثِ المرَّة بعد المرَّة عند احتياج الأرض ..
وعُطِف عليه {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ} ، وجِيء بالمضارع فيه: لإفادةِ تكرُّرِ العلمِ بتَبدُّل تلك الأطوار والأحوال، والمعنى: ينفرِد بعلمِ جميع تلك الأطوار الَّتي لا يعلَمُها النَّاس، لأنَّه عطفٌ على ما قُصِد منه الحَصر، فكان المُسنَد الفِعليُّ المتأخِّر عن المسند إليه مُفيدًا للاختصاصِ بالقرينة»
(1)
.
وأمَّا رَدُّ المُعترِض للحديثِ في الوجهِ الثَّالث من المُعارضاتِ، بدعوى أنَّ الحديث استعملَ لفظَ (المطر)، فخالفَ استعمالَ القرآنِ له في العَذابِ:
فإنَّ قولَنا بأنَّ السُّنة وَحي ثاني، لا يَلزم منه تطابُق ألفاظِه مع ألفاظِ الوَحي الأوَّل، فلِكلٍّ خَصائصه الَّتي تُميِّزه، ومَفادُهما واحدٌ لا اختلافَ فيه.
وألسنةَ العَرب قد جَرت على الإبدالِ بين لَفظي (المَطَر) و (الغَيثِ) بلا غَضاضة
(2)
، وجاءت بذا الأخبار النَّبويَّة نفسُها عن الجَمٍّ الغَفيرٍ مِن أربابِ البَيانِ وفَصيحِ اللِّسانِ، ما سمِعنا أحدًا منهم اعترَض على الحديثِ كاعتِراضِ مَن ابتُلينا به مِن مُتفيهِقةِ الزَّمَان.
(1)
«التحرير والتنوير» لابن عاشور (21/ 197).
(2)
انظر «معجم مقاييس اللغة» لابن فارس (5/ 332)، و «لسان العرب» لابن منظر (5/ 178).
وأمَّا دعوى أنَّ لفظَ (المَطر) لم يَجِئ في القرآن إلَّا للعذابِ: فإنَّ استعمال القرآنِ للمَطرِ في العَذابِ أغْلَبيٌّ
(1)
، ودعوى الاطِّرادِ يَرُدُّها القرآنُ في نحرِه، ويُكذِّبُ صاحِبَها في وجهِه، صادِحًا في أُذنِه بقولِه:{فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24]!
وبقولِه: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102]!
فإنْ جَعَل الإمطارَ في الآيتين عَذابًا، فقد تُوُدِّع مِن عقلِه، وانتهت مقاولةُ مثلِه.
والحمد لله على هدايتِه بفضلِه.
(1)
انظر «التحرير والتنوير» (8/ 184).