الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدنيا، وكلها عند إكمال طاعات مولاهم الملك الوهاب، وحيازتهم لما وعدهم من جزيل الأجر والثواب، فليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعاته تزيد، وليس العيد لمن تجمل باللباس والمركوب، وإنما العيد لمن غفرت له الذنوب، فى ليلة العيد تفرق خلع العتق والمغفرة على العبيد، فمن ناله منها شئ فهو له عيد، وإلا فهو مطرود بعيد.
وأما أعياد المؤمنين فى الجنة، فهى أيام زيارتهم ربهم عز وجل، فيزورونه ويكرمهم غاية الإكرام، ويتجلى لهم فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئا هو أحب إليهم من ذلك وهو الزيارة، فليس للمحب عيد سوى قرب محبوبه.
إن يوما جامعا شملى بهم
…
ذاك عيدى ليس لى عيد سواه
الباب الثانى فى النوافل المقرونة بالأسباب
وفيه أربعة فصول:
الفصل الأول فى صلاته ص الكسوف
الكسوف لغة التغير إلى السواد، يقال: كسفت الشمس: إذا اسودت وذهب شعاعها. عن قبيصة بن المخارق قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم فخرج فزعا يجر ثوبه وأنا معه يومئذ بالمدينة، فصلى ركعتين فأطال فيهما القيام، ثم انصرف وانجلت، ثم قال:«إنما هذه الآية يخوف الله بها عباده، فإذا رأيتموها فصلوا» «1» . رواه أبو داود والنسائى.
(1) ضعيف: أخرجه أبو داود (1185) فى الصلاة، عن قبيصة الهلالى وأصله فى الصحيح من حديث ابن عمر- رضى الله عنهما-، والحديث ضعفه الشيخ الألبانى فى «ضعيف سنن أبى داود» .
وفى قوله: صلى الله عليه وسلم «يخوف الله بها عباده» رد على من يزعم من أهل الهيئة أن الكسوف أمر عادى لا يتأخر ولا يتقدم، إذ لو كان كما يقولون لم يكن فى ذلك تخويف.
وقد رد عليهم ابن العربى وغيره، بما فى حديث أبى موسى عند البخارى، حيث قال فيه:«فقام فزعا يخشى أن تكون الساعة» قالوا: فلو كان الكسوف بالحساب لم يقع الفزع، ولو كان بالحساب لم يكن للأمر بالعتق والصدقة والصلاة معنى، يعنى كما فى حديث أسماء عند البخارى «لقد أمر النبى- صلى الله عليه وسلم بالعتاقة فى كسوف الشمس» «1» وكما عنده أيضا من حديث عائشة مرفوعا:«فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدقوا» «2» فإن ظاهر الأحاديث أن ذلك يفيد التخويف، وأن كلما ذكر من أنواع الطاعات يرجى أن يندفع به ما يخشى من أثر ذلك الكسوف.
ومما نقض به ابن العربى وغيره أنهم يزعمون: أن الشمس لا تنكسف على الحقيقة وإنما يحول القمر بينها وبين أهل الأرض عند اجتماعهما فى العقدتين. فقال: «هم يزعمون أن الشمس أضعاف القمر فى الجرم فكيف يحجب الصغير الكبير إذا قابله؟ أم كيف يظلم الكثير بالقليل لا سيما وهو من جنسه؟ وكيف تحجب الأرض نور الشمس.
وقد وقع فى حديث النعمان بن بشير وغيره للكسوف سبب آخر غير ما يزعم أهل الهيئة، وهو ما أخرجه أحمد والنسائى وابن ماجه، وصححه ابن خزيمة والحاكم، بلفظ:«إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله، وإن الله إذا تجلى بشئ من خلقه خشع له» «3» .
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1054) فى الجمعة، باب: من أحب العتاقة فى كسوف الشمس، من حديث أسماء- رضى الله عنها-.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (1044) فى الجمعة، باب: الصدقة فى الكسوف. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (1063) فى الجمعة، باب: الصلاة فى كسوف القمر، من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-، ومسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى الله عنها-، وليس فيها وأن الله إذا تجلى لشىء من خلقه خشع له.
وقد استشكل الغزالى هذه الزيادة، وقال: أنها لم تثبت، فيجب تكذيب ناقلها، قال: ولو صحت لكان تأويلها أهون من مكابرة أمور قطعية لا تصادم أصلا من أصول الشريعة.
وقال ابن بزبزة: وهذا عجب منه، كيف يسلم دعوى الفلاسفة ويزعم أنها لا تصادم الشريعة، مع أنها مبنية على أن العالم كرى الشكل، وظاهر الشرع يعطى خلاف ذلك والثابت من قواعد الشرع أن الكسوف أثر الإرادة القديمة وفعل الفاعل المختار، فيخلق فى هذين الجرمين النور متى شاء والظلمة متى شاء من غير توقيف على سبب أو ربط باقتران، والحديث الذى رده الغزالى قد أثبته غير واحد من أهل العلم، وهو ثابت من حيث المعنى أيضا، لأن النورية والإضاءة من عالم الجمال الحسى، فإذا تجلت صفة الجلال انطمست الأنوار لهيبته، ويؤيده قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا «1» ، انتهى.
ويؤيد هذا الحديث ما رويناه عن طاوس أنه نظر إلى الشمس وقد انكسفت فبكى حتى كاد أن يموت، وقال: هى أخوف لله منا. وقال ابن دقيق العيد: ربما يعتقد بعضهم أن الذى يذكره أهل الحساب ينافى قوله: «يخوف الله به عباده» ، وليس بشئ، لأن لله تعالى أفعالا على حسب العادة، وأفعالا خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، يقتطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم فى عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شئ غريب، حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن يكون هناك أسباب تجرى عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها. وحاصله: أن الذى يذكره أهل الحساب إن كان حقّا فى نفس الأمر لا ينافى كون ذلك مخوفّا لعباد الله تعالى. قاله فى فتح البارى.
وعن ابن عباس قال: انخسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم
(1) سورة الأعراف: 143.
فقام قياما طويلا، نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا، وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد، ثم قام قياما طويلا وهو دون قيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فقال:«إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله» ، فقالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئا فى مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت؟ قال:«إنى رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار فلم أر منظرا كاليوم قط أفظع، ورأيت أكثر أهلها النساء» ، قالوا: بم يا رسول الله؟ قال: «بكفرهن» ، قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير ويكفرن الإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت منك خيرا قط» «1» . رواه البخارى ومسلم.
وقوله: «ورأيت الجنة والنار» قال القاضى عياض: يحتمل أنه رآهما رؤية عين، كشف الله له عنهما، وأزال الحجاب بينه وبينهما، كما فرج له عن المسجد الأقصى حين وصفه، ويكون قوله- صلى الله عليه وسلم:«فى عرض هذا الحائط» - كما فى رواية-: فى جهته وناحيته، ويحتمل أن تكون رؤية علم وعرض وحى باطلاعه وتعريفه من أمورهما مفصلا ما لم يعرفه قبل ذلك اليوم. قال القاضى: والأول أولى وأشبه بألفاظ الحديث، لما فيه من الأمور الدالة على رؤية العين، كتناوله العنقود، وتأخره مخافة أن يصيبه لفح النار. انتهى.
واستشكل قوله: «ولو أصبته» مع قوله: «تناولت» . وأجيب: بحمل «التناول» على تكلف الأخذ، لا حقيقة الأخذ، وقيل: المراد تناولته لنفسى ولو أخذته لكم، حكاه الكرمانى، قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد، وقيل: المراد بقوله تناولت: وضعت يدى عليه، بحيث كنت قادرا على
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1052) فى الجمعة، باب: صلاة الكسوف جماعة، ومسلم (907) فى الكسوف، باب: ما عرض على النبى- صلى الله عليه وسلم فى صلاة الكسوف. من حديث ابن عباس- رضى الله عنهما-.
تحويله، لكن لم يقدر لى قطفه، ولو أصبته، أى لو تمكنت من قطفه، ويدل عليه من قوله فى حديث عقبة بن عامر عند ابن خزيمة «أهوى بيده ليتناول شيئا» وفى حديث أسماء عند البخارى «حتى لو اجترأت عليه» وكأنه لم يؤذن له فى ذلك فلم يجترئ عليه. قال ابن بطال: لم يأخذ العنقود لأنه من طعام الجنة، وهو لا يفنى والدنيا فانية لا يجوز أن يؤكل فيها ما لا يفنى. انتهى.
وفى حديث أسماء بنت أبى بكر، عند البخارى ومسلم ومالك والنسائى قال: ما من شئ كنت لم أره إلا رأيته فى مقامى هذا حتى الجنة والنار، ولقد أوحى إلىّ أنكم تفتنون فى قبوركم، مثل أو قريبا- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- من فتنة المسيح الدجال. يؤتى أحدكم فى قبره فيقال: ما علمك بهذا الرجل؟ فأما المؤمن أو الموقن- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا واتبعنا، هو محمد ثلاثا، فيقال: نم صالحا، قد علمنا إن كنت لموقنا، وأما المنافق أو المرتاب- لا أدرى أى ذلك قالت أسماء- فيقول: لا أدرى، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته.
وفى رواية: فرأى امرأة تخدشها هرة، ربطتها حتى ماتت جوعا وعطشا. وفى رواية: فرأى عمرو بن مالك يجر قصبه فى النار، وكان أول من غير دين إبراهيم، ورأى فيها سارق الحاج يعذب «1» .
قوله: «قصبه» بضم القاف وسكون الصاد، أى أمعاءه. وفى رواية عائشة: ثم قال: «يا أمة محمد، والله ما من أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزنى أمته، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا، ألا هل بلغت» «2» .
أى لو تعلمون من عظم انتقام الله من أهل الجرائم وشدة عقابه وأهوال
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1053) فى الجمعة، باب: صلاة النساء مع الرجال فى الكسوف، من حديث أسماء بنت أبى بكر، - رضى الله عنهما-.
(2)
صحيح: وقد تقدم.
القيامة ما أعلم، وما بعدها. كما علمت وترون النار كما رأيت فى مقامى هذا وفى غيره لبكيتم كثيرا، ولقلّ ضحككم لتفكركم فيما علمتوه. وفى حديث عائشة عند البخارى. فخرج إلى المسجد، فصف الناس وراءه، فكبرنا فاقترأ رسول الله- صلى الله عليه وسلم قراءة طويلة، ثم كبر فركع ركوعا طويلا، ثم قال:
«سمع الله لمن حمده» فقام ولم يسجد، وقرأ قراءة طويلة، وهى أدنى من القراءة الأولى، وزاد فى رواية:«ربنا ولك الحمد» «1» .
واستدل به على استحباب الذكر المشروع فى الاعتدال فى أول القيام الثانى من الركعة الأولى. واستشكله بعض متأخرى الشافعية من جهة كونه قيام قراءة لا قيام اعتدال، بدليل اتفاق العلماء ممن قال بزيادة الركوع فى كل ركعة على قراءة الفاتحة فيه، وإن كان محمد بن مسلمة المالكى خالف فيه.
والجواب: إن صلاة الكسوف جاءت على صفة مخصوصة، فلا مدخل للقياس فيها، بل كل ما ثبت أنه- صلى الله عليه وسلم فعله فيها كان مشروعا، لأنها أصل برأسها. وبهذا المعنى رد الجمهور على من قاسها على صلاة النافلة، حتى منع من زيادة الركوع فيها، فصلاة الكسوف أشبه شئ بصلاة العيد ونحوها، مما يجمع فيه من مطلق النوافل، فامتازت صلاة الجنازة بترك الركوع والسجود، وصلاة العيد بزيادة التكبيرات، وصلاة الخوف بزيادة الأفعال الكثيرة واستدبار القبلة، فكذلك اختصت صلاة الكسوف بزيادة الركوع، فالآخذ به جامع بين العملين بالنص والقياس بخلاف من لم يعمل به.
وقد تبين أن لصلاة الكسوف هيئة تخصها من التطويل الزائد على العادة فى القيام وغيره، ومن زيادة ركوع فى كل ركعة، وقد وردت زيادة فى ذلك من طرق أخر، فعند مسلم من وجه آخر عن عائشة، وآخر عن جابر أن فى كل ركعة ثلاث ركوعات «2» ، وعنده من وجه آخر عن ابن عباس: أن فى كل ركعة أربع ركوعات، ولأبى داود من حديث أبى بن كعب، والبزار من
(1) صحيح: وقد تقدم.
(2)
أخرجه مسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، و (904) باب: ما عرض على النبى- صلى الله عليه وسلم فى صلاة الكسوف من أمر الجنة.
حديث على: أن فى كل ركعة خمس ركوعات ولا يخلو إسناد منها من علة «1» .
ونقل ابن القيم فى «الهدى» عن الشافعى وأحمد والبخارى: أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين فى كل ركعة غلطا من بعض الرواة، فإن أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها أن ذلك كان يوم مات إبراهيم- عليه السلام وإذا اتحدت القصة تعين الأخذ بالراجح.
وقال ابن خزيمة وابن المنذر والخطابى وغيرهم من الشافعية: يجوز العمل بجميع ما ثبت من ذلك. وهو من الاختلاف المباح، وقواه النووى فى شرح مسلم.
وأبدى بعضهم أن حكمة الزيادة فى الركوع والنقص كان بحسب سرعة الانجلاء وبطئه، فحين وقع الانجلاء فى أول ركوع اقتصر على مثل النافلة، وحين أبطأ زاد ركوعا، وحين زاد فى الإبطاء زاد ثالثا، وهكذا إلى غاية ما ورد فى ذلك. وتعقبه النووى وغيره: بأن إبطاء الانجلاء وعدمه لا يعلم فى أول الحال، ولا فى الركعة الأولى، وقد اتفقت الروايات على أن عدد الركوع فى الركعتين سواء، وهذا يدل على أنه مقصود فى نفسه، منوى من أول الحال. انتهى ملخصا من فتح البارى.
وعند الإمام أحمد: أنه لما سلم حمد الله وأثنى عليه، وشهد أن لا إله إلا الله، وشهد أنه عبد الله ورسوله، ثم قال:«يا أيها الناس، أنشدكم بالله إن كنتم تعلمون أنى قصرت عن شئ من تبليغ رسالات ربى لما أخبرتمونى ذلك» فقام رجل فقال: نشهد أنك قد بلغت رسالات ربك ونصحت لأمتك وقضيت الذى عليك، ثم قال:«وايم الله لقد رأيت منذ قمت أصلى ما أنتم لاقون من أمر دنياكم وآخرتكم، وإنه والله لا تقوم الساعة حتى يخرج ثلاثون كذابا، آخرهم الأعور الدجال، من تبعه لم ينفعه صالح من عمله» «2» .
(1) انظره فى «فتح البارى» (2/ 532) .
(2)
أخرجه أحمد (5/ 19) قال: حدثنا أبو كامل حدثنا زهير حدثنا الأسود بن قيس حدثنا ثعلبة بن عباد العبدى من أهل البصرة قال: شهدت يوما خطبة لسمرة بن جندب فذكر فى خطبته حديثا عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال: بينا أنا وغلام من الأنصار نرمى فى غرضين
وفى البخارى: وقالت عائشة وأسماء: خطب النبى- صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف فى الخطبة فيه، فاستحبها الشافعى وإسحاق وأكثر أهل الحديث. وقال ابن قدامة لم يبلغنا عن أحمد ذلك. وقال صاحب الهداية من الحنفية ليس فى الكسوف خطبة لأنه لم ينقل. وتعقب بأن الأحاديث ثبتت فيه، وهى ذات كثرة.
والمشهور عند المالكية أنه لا خطبة لها، مع أن مالكا روى الحديث وفيه ذكر الخطبة، وأجاب بعضهم: بأنه- صلى الله عليه وسلم لم يقصد بها الخطبة بخصوصها، وإنما أراد أن يبين لهم الرد على من يعتقد أن الكسوف لموت بعض الناس.
وتعقب: بما فى الأحاديث الصحيحة من التصريح بالخطبة، وحكاية شرائطها من الحمد والثناء والموعظة وغير ذلك مما تضمنته الأحاديث، فلم يقتصر على الإعلام بسبب الكسوف، والأصل مشروعية الاتباع، والخصائص لا تثبت إلا بدليل، انتهى.
وعن المغيرة بن شعبة عند البخارى: كسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم يوم مات إبراهيم، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم:«إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتموهما فصلوا وادعوا الله» «1» .
وإبراهيم هو ابن النبى- صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر جمهور أهل السير أنه مات
لنا على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانت قيد رمحين أو ثلاثة فى عين الناظر اسودت حتى آضت كأنها تنومة قال: فقال أحدنا لصاحبه انطلق بنا إلى المسجد فو الله ليحدثن شأن هذه الشمس رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى أمته حدثا قال: فدفعنا إلى المسجد فإذا هو بارز، قال: ووافقنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الناس فاستقدم فقام بنا كأطول ما قام بنا فى صلاة قط لا نسمع له صوتا ثم ركع كأطول ما ركع بنا فى صلاة قط لا نسمع له صوتا ثم فعل فى الركعة الثانية مثل ذلك فوافق تجلى الشمس جلوسه فى الركعة الثانية: قال زهير حسبته قال: فسلّم فحمد الله وأثنى عليه
…
الحديث.
(1)
صحيح: أخرجه البخارى (1043) فى الجمعة، باب: الصلاة فى كسوف الشمس، من حديث المغيرة بن شعبة- رضى الله عنه-.
فى السنة العاشرة من الهجرة، فقيل فى ربيع الأول، وقيل فى رمضان، وقيل فى ذى الحجة، والأكثر على أنها وقعت فى عاشر الشهر، وقيل فى رابعه وقيل فى رابع عشره، ولا يصح شئ منها على قول ذى الحجة، لأن النبى- صلى الله عليه وسلم كان إذ ذاك بمكة فى الحج، وقد ثبت أنه شهد وفاته، وكانت بالمدينة بلا خلاف.
نعم قيل إنه مات سنة تسع، فإن ثبت فيصح، وجزم النووى بأنها كانت سنة الحديبية فلعل ذلك كان فى آخر ذى القعدة حين رجع منها.
وفى هذا الحديث إبطال ما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من تأثير الكواكب فى الأرض. قال الخطابى: كانوا فى الجاهلية يعتقدون أن الكسوف يوجب حدوث تغير فى الأرض، من موت أو ضرر، فأعلم النبى- صلى الله عليه وسلم أنه اعتقاد باطل، وأن الشمس والقمر خلقان مسخران لله، ليس لهما سلطان فى غيرهما، ولا قدرة للدفع عن أنفسهما.
وعن عبد الله بن عمرو قال: لما كسفت الشمس على عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم نودى: أن الصلاة جامعة «1» . رواه البخارى: وقوله: «أن» بفتح الهمزة وتخفيف النون، وهى المفسرة. وفى رواية له ولمسلم، من حديث عائشة: بعث النبى- صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى: الصلاة جامعة «2» .
قال ابن دقيق العيد: هذا الحديث حجة لمن استحب ذلك. وقد أجمعوا على أنه لا يؤذن له ولا يقام. وروى ابن حبان أنه- صلى الله عليه وسلم صلى فى كسوف الشمس والقمر ركعتين مثل صلاتكم «3» ، وأخرجه الدار قطنى أيضا. وفيه: رد
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1045) فى الجمعة، باب: النداء بالصلاة جامعة فى الكسوف، ومسلم (910) فى الكسوف، باب: ذكر النداء بصلاة الكسوف الصلاة جامعة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص- رضى الله عنهما-.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (1066) فى الجمعة، باب: الجهر بالقراءة فى الكسوف، ومسلم (901) فى الكسوف، باب: صلاة الكسوف، من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(3)
صحيح: أخرجه النسائى (3/ 146) فى الكسوف، من حديث أبى بكرة- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن النسائى» .
على من أطلق- كابن رشيد- أنه- صلى الله عليه وسلم لم يصل فى كسوف القمر، ومنهم من أول قوله:«صلى» أى أمر بالصلاة، جمعا بين الروايتين.
وقال ابن القيم فى «الهدى» : لم ينقل أنه- صلى الله عليه وسلم صلى فى كسوف القمر فى جماعة، لكن حكى ابن حبان فى السيرة له: أن القمر خسف فى السنة الخامسة، فصلى النبى- صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الكسوف، فكانت أول صلاة كسوف فى الإسلام، وهذا إن ثبت انتفى التأويل المذكور. وقد جزم به مغلطاى فى سيرته المختصرة، وتبعه الحافظ زين الدين العراقى فى نظمها.
وفى البخارى من حديث عائشة: جهر النبى- صلى الله عليه وسلم فى صلاة الخسوف بقراءته. فإذا فرغ من قراءته كبر فركع، فإذا فرغ من الركعة قال:«سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد» ثم يعاود القراءة فى صلاة الكسوف، أربع ركعات وأربع سجدات «1» .
واستدل به على الجهر فيها بالنهار، وحمله جماعة ممن لم ير ذلك على كسوف القمر. قال الحافظ ابن حجر: وليس بجيد، لأن الإسماعيلى روى هذا الحديث من وجه آخر عن الوليد بلفظ كسفت الشمس فى عهد رسول الله- صلى الله عليه وسلم، وفى مسند أبى داود الطيالسى أنه- صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة فى صلاة الكسوف «2» . وقد ورد فيها عن على مرفوعا وموقوفا. أخرجه ابن خزيمة وغيره.
وقال به صاحبا أبى حنيفة وأحمد وإسحاق وابن خزيمة وابن المنذر وغيرهما من محدثى الشافعية وابن العربى من المالكية. وقال الطبرى:
يخير بين الجهر والإسرار. وقال الأئمة الثلاثة: يسر فى الشمس ويجهر فى القمر.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (1047) فى الجمعة، باب: هل يقول كسفت الشمس أو خسفت، وأبو داود (1180) فى الصلاة، باب: من قال أربع ركعات. من حديث عائشة- رضى الله عنها-.
(2)
أخرجه أبو داود الطيالسى (1466) من حديث عائشة- رضى الله عنها-.