الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال فى «المجموع» : وفى سن مسح وجهه بهما وجهان: أشهرهما:
نعم، وأصحهما، لا، قال البيهقى: ولا أحفظ فى مسحه هنا عن أحد من السلف شيئا. وإن روى عن بعضهم فى الدعاء خارج الصلاة. ومسح غير الوجه كالصدر مكروه.
وقال النووى فى «الأذكار» : اختلف أصحابنا فى رفع اليدين فى القنوت، ومسح الوجه بهما على ثلاثة أوجه: أصحها: يستحب رفعهما ولا يمسح الوجه، والثانى: يرفع ويمسح، والثالث: لا يمسح ولا يرفع، واتفقوا على أنه لا يمسح غير الوجه من الصدر ونحوه، بل قالوا ذلك مكروه.
انتهى.
ويجهر الإمام دون المنفرد بالقنوت وإن كانت الصلاة سرية للاتباع. رواه البخارى. قال الماوردى: وليكن جهره به دون جهره بالقراءة، فإن سمعه المأموم أمن كما كانت الصحابة يؤمنون خلف رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى ذلك.
رواه أبو داود بإسناد حسن. ويوافقه فى الثناء سرّا أو يسكت، لأنه ثناء أو ذكر لا يليق به التأمين، والدعاء يشمل الصلاة على النبى- صلى الله عليه وسلم فيؤمن فيها:
صرح به الطبرى.
وإن لم يسمع المأموم قنوت الإمام قنت معه سرّا كبقية الأذكار والدعوات، ولا قنوت لغير وتر وصبح، إلا لنازلة من خوف أو قحط أو وباء أو جراد أو نحوها، فيستحب أن يقنت فى مكتوبة غير الصبح. لا منذورة، وصلاة جنازة ونافلة. وفى البخارى من حديث أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم. جهر بالقنوت فى النازلة. انتهى ملخصا من شرح البهجة لشيخ الإسلام أبى يحيى زكريا الأنصارى، مع زيادة من غيره، والله أعلم.
الفصل الرابع فى سجوده ص للسهو فى الصلاة
اعلم أن السهو هو الغافلة عن الشئ، وذهاب القلب إلى غيره، قاله
الأزهرى. وفرق بعضهم- فيما حكاه القاضى عياض- بين السهو والنسيان من حيث المعنى، وزعم أن السهو جائز فى الصلاة على الأنبياء، - عليهم الصلاة والسلام-، بخلاف النسيان، قال: لأن النسيان غفلة وآفة، والسهو إنما هو شغل، فكان النبى- صلى الله عليه وسلم يسهو فى الصلاة ولا يغافل عنها، وكان يشغله عن حركات الصلاة ما هو فى الصلاة شغلا بها لا غفلة عنها، انتهى.
قال ابن كيكلدى: وهو ضعيف من جهة الحديث ومن جهة اللغة، أما من جهة الحديث فلما ثبت فى الصحيحين من قوله- صلى الله عليه وسلم:«إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» «1» ، وأما من جهة اللغة فقول الأزهرى الماضى، ونحوه قول الجوهرى وغيره.
وقال فى النهاية: السهو فى الشئ: تركه من غير علم، والسهو عنه:
تركه مع العلم، وهو فرق حسن دقيق، وبه يظهر الفرق بين السهو الذى وقع من النبى- صلى الله عليه وسلم غير مرة، والسهو عن الصلاة الذى ذم الله فاعله.
وقد كان سهوه- صلى الله عليه وسلم من إتمام نعم الله تعالى على أمته، وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو، وهذا معنى الحديث المنقطع الذى فى الموطأ- الآتى التنبيه عليه إن شاء الله تعالى- إنما أنسى أو أنسى لأسن «2» ، فكان- صلى الله عليه وسلم ينسى فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجرى على سهو أمته إلى يوم القيامة. واختلف فى حكمه: فقال الشافعية والمالكية:
مسنون كله، وعن المالكية قول آخر: السجود للنقص واجب دون الزيادة.
وعن الحنابلة: التفصيل بين الواجبات، فيجب لتركها سهوا، وبين السنن القولية فلا يجب، وكذا يجب إذا سها بزيادة فعل أو قول يبطل عمده.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (401) فى الصلاة، باب التوجه نحو القبلة حيث كان، ومسلم (572) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له.
(2)
أخرجه مالك فى الموطأ (225) فى السهو، باب: العمل فى السهو.
وعن الحنفية: واجب كله، وحجتهم قوله- صلى الله عليه وسلم فى حديث ابن مسعود عند البخارى «ليسجد سجدتين» «1» والأمر للوجوب، وقد ثبت من فعله- صلى الله عليه وسلم، وأفعاله فى الصلاة محمولة على البيان، وبيان الواجب واجب، ولا سيما مع قوله- صلى الله عليه وسلم:«صلوا كما رأيتمونى أصلى» «2» انتهى.
وقد ورد عنه- صلى الله عليه وسلم السجود على قسمين: الأول: السجود قبل التسليم. فعن الأعرج عن عبد الله بن مالك بن بحينة أنه قال: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم ركعتين من بعض الصلوات، ثم قام فلم يجلس، فقام الناس، فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبر قبل التسليم فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلم «3» . رواه البخارى.
وهو رواية له عن يحيى بن سعيد عن عبد الله بن بحينة أيضا أنه قال:
إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظهر، لم يجلس بينهما، فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك.
وفى روايته أيضا عن الأعرج عنه، أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم قام فى صلاة الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين يكبر فى كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم، وسجدهما الناس معه مكان ما نسى من الجلوس.
ورواه مسلم أيضا. وزاد الضحاك عن الأعرج- عند ابن خزيمة- بعد قوله:
«ثم قام فلم يجلس» فسبحوا به، فمضى حتى فرغ من صلاته.
وفى رواية الترمذى: قام فى الظهر وعليه جلوس، فلما أتم صلاته سجد سجدتين، يكبر فى كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم.
(1) تقدم.
(2)
صحيح: أخرجه البخارى (631) فى الأذان، باب: الأذان للمسافر إذا كان جماعة، والدارمى (1253) فى الصلاة، باب: من أحق بالإمامة. من حديث مالك بن الحويرث- رضى الله عنه-.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (1225) فى الجمعة، باب: ما جاء فى السهو إذا قام من ركعتى الفريضة، ومسلم (570) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، من حديث عبد الله بن بحينة- رضى الله عنه-.
وفى هذا: مشروعية سجود السهو، وأنه سجدتان. فلو اقتصر على سجدة واحدة ساهيا لم يلزمه شئ، أو عامدا بطلت صلاته لأنه تعمد الإتيان بسجدة زائدة ليست مشروعة. وأنه يكبر لهما كما يكبر فى غيرهما من السجود. واستدل به على أن سجود السهو قبل السلام، ولا حجة فيه، فى كون جميعه كذلك، نعم يرد على من زعم أن جميعه بعد السلام كالحنفية.
واستدل به أيضا على أن المأمون يسجد مع الإمام إذا سها الإمام، وإن لم يسه المأموم.
وأن سجود السهود لا تشهد بعده، وأن محله آخر الصلاة، فلو سجد للسهو قبل أن يتشهد ساهيا أعاد عند من يوجب التشهد الأخير وهم الجمهور. وفيه أن من سها عن التشهد الأول حتى قام إلى الركعة، ثم ذكر لا يرجع، فقد سبحوا به- صلى الله عليه وسلم كما فى رواية ابن خزيمة- فلم يرجع، فلو تعمد المصلى الرجوع بعد تلبسه بالركن بطلت صلاته عند الشافعى.
عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال: صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم الظهر أو العصر، فسلم من ركعتين، فقال له ذو اليدين: الصلاة يا رسول الله أنقصت؟ فقال النبى- صلى الله عليه وسلم لأصحابه: «أحق ما يقول هذا؟» قالوا: نعم.
فصلى ركعتين أخراوين ثم سجد سجدتين. قال سعد: ورأيت عروة بن الزبير صلى من المغرب ركعتين فسلم وتكلم ثم صلى ما بقى منها، وسجد سجدتين وقال: هكذا فعل النبى- صلى الله عليه وسلم. رواه البخارى. وقوله: «صلى بنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم» ظاهر فى أن أبا هريرة حضر القصة.
وحمله الطحاوى على المجاز، فقال المراد به: صلى بالمسلمين. وسبب ذلك قول الزهرى: إن صاحب القصة استشهد ببدر، فإن مقتضاه أن تكون القصة وقعت قبل بدر وقبل إسلام أبى هريرة بأكثر من خمس سنين. لكن اتفق أئمة الحديث- كما نقله ابن عبد البر وغيره- على أن الزهرى وهم فى ذلك، وسببه أنه جعل القصة لذى الشمالين، وذو الشمالين هو الذى قتل ببدر، وهو خزاعى، واسمه عمير، وأما ذو اليدين فتأخر بعد النبى- صلى الله عليه وسلم-
بمدة لأنه حدث بهذا الحديث بعد النبى- صلى الله عليه وسلم كما أخرجه الطبرانى وغيره، وهو سلمى، واسمه الخرباق، كما سيأتى، فلما وقع عند الزهرى بلفظ «فقام ذو الشمالين» وهو يعرف أنه قتل ببدر، قال لأجل ذلك: إن القصة وقعت قبل بدر.
وقد جوز بعض الأئمة أن تكون القصة وقعت لكل من ذى الشمالين وذى اليدين، وأن أبا هريرة روى الحديثين فأرسل أحدهما، وهو قصة ذى الشمالين، وشاهد الآخرى وهى قصة ذى اليدين، وهذا محتمل فى طريق الجمع. وروى البخارى أيضا عن ابن سيرين عن أبى هريرة قال: صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتى العشى- قال محمد بن سيرين: وأكثر ظنى العصر- ركعتين ثم سلم، ثم قام إلى خشبة فى مقدم المسجد فوضع يده عليها، وفيهم أبو بكر وعمر، فهابا أن يكلماه، وخرج سرعان الناس، فقالوا قصرت الصلاة، ورجل يدعوه النبى- صلى الله عليه وسلم ذا اليدين، فقال: أنسيت أم قصرت الصلاة؟ فقال: «لم أنس، ولم تقصر» ، فقال: بلى قد نسيت، فصلى ركعتين ثم سلم فكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر، ثم وضع رأسه فكبر وسجد، فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر «1» .
وعن ابن عمران بن حصين أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم صلى العصر فسلم من ثلاثة ركعات ثم دخل منزله فقام إليه رجل يقال له الخرباق، وكان فى يديه طول، فقال: يا رسول الله، فذكر صنيعه وخرج غضبان يجر رداءه حتى انتهى إلى الناس، فقال:«أصدق هذا؟» قالوا: نعم، فصلى ركعة ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم «2» . رواه مسلم وهو من أفراده لم يروه البخارى.
ورواه أحمد وأبو داود.
(1) صحيح: أخرجه البخارى (482) فى الصلاة، باب: تشبيك الأصابع، وفى الجمعة، باب: من يكبر فى سجدتى السهو، من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه-.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (574) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، وأبو داود (1018) فى الصلاة باب: السهو فى السجدتين، من حديث عمران بن حصين- رضى الله عنه-.
و «الخرباق» بكسر الخاء المعجمة، وسكون الراء، بعدها موحدة، وآخره قاف، هو اسم ذى اليدين، كما ذهب إليه الأكثر، وطول يديه يمكن أن يحمل على الحقيقة، أو كناية عن طولهما بالعمل أو البذل.
قال الحافظ ابن حجر: الظاهر فى نظرى توحد حديث أبى هريرة، وإن كان قد جنح ابن خزيمة ومن تبعه إلى تعدد هذه القصة، والحامل لهم على ذلك الخلاف الواقع فى السياقين، ففى حديث أبى هريرة أن السلام وقع من اثنتين، وأنه- صلى الله عليه وسلم قام إلي خشبة فى المسجد، وفى حديث عمران هذا: أنه سلم من ثلاث، وأنه دخل منزله لما فرغ من الصلاة. فأما الأول فقد حكى كيكلدى العلائى أن بعض شيوخه حمله على المراد به أنه سلم فى ابتداء الركعة الثالثة، واستبعده، ولكن طريق الجمع يكتفى فيها بأدنى مناسبة، وليس بأبعد من دعوى تعدد القصة، فإنه يلزم منه كون ذى اليدين فى كل مرة استفهم النبى- صلى الله عليه وسلم عن ذلك، واستفهم النبى- صلى الله عليه وسلم الصحابة عن صحة قوله. وأما الثانى: فلعل الراوى لما رآه تقدم من مكانه إلى جهة الخشبة ظن أنه دخل منزله، لكون الخشبة كانت فى جهة منزله، فإن كان كذلك وإلا فرواية أبى هريرة أرجح لموافقة ابن عمر له على سياقه، كما أخرجه الشافعى وأبو داود وابن ماجه وابن خزيمة. انتهى.
وعن معاوية بن حديج- بضم الحاء المهملة آخره جيم- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم صلى يوما فانصرف وقد بقى من الصلاة ركعة، فأدركه رجل فقال:
نسيت من الصلاة ركعة؟ فرجع فدخل المسجد، فأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بالناس ركعة، فأخبرت بذلك الناس، فقالوا: أو تعرف الرجل؟ قلت:
لا، إلا أن أراه، فمر بى فقلت: هو هذا، فقالوا: هذا طلحة بن عبيد الله «1» . رواه أبو داود والبيهقى فى سننهما، وابن خزيمة فى صحيحه، وعين الصلاة المغرب.
(1) صحيح: أخرجه أبو داود (1023) فى الصلاة، باب: إذا صلى خمسا، والنسائى (2- 12) فى الأذان، باب الإقامة لمن نسى ركعة من الصلاة، من حديث معاوية بن حديج- رضى الله عنه-، والحديث صححه الشيخ الألبانى فى «صحيح سنن أبى داود» .
وقال ابن خزيمة: وهذه القصة غير قصة ذى اليدين، لأن المعلم للنبى- صلى الله عليه وسلم فى هذه القصة طلحة بن عبيد الله، ومخبره فى تلك القصة ذو اليدين، والسهو منه- صلى الله عليه وسلم فى قصة ذى اليدين إنما كان فى الظهر أو العصر، وفى هذه القصة إنما كان السهو فى المغرب لا فى الظهر ولا فى العصر.
وعن محمد بن سيرين عن أبى هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم انصرف من اثنتين، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «أصدق ذو اليدين؟» فقال الناس. نعم، فقام- صلى الله عليه وسلم فصلى اثنتين أخريين ثم سلم، ثم كبر فسجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع ثم كبر فسجد مثل سجوده للصلاة أو أطول، ثم رفع.
وفى رواية سلمة بن علقمة، قلت لمحمد- يعنى ابن سيرين- فى سجدتى السهو تشهد؟ فقال: ليس فى حديث أبى هريرة. رواه البخارى ومسلم ومالك وأبو داود والترمذى والنسائى. قال الحافظ ابن حجر: لم يقع فى غير هذه الرواية لفظ «القيام» وقد استشكل بأنه- صلى الله عليه وسلم كان قائما.
وأجيب: بأن المراد بقوله: «فقام» أى اعتدل، لأنه كان مستندا إلى الخشبة كما أمر.
وقد يفهم من قول محمد بن سيرين عن التشهد: «ليس فى حديث أبى هريرة» أنه ورد فى حديث غيره. وهو كذلك: فقد رواه أبو داود والترمذى وابن حبان والحاكم من طريق أشعث بن عبد الملك عن محمد بن سيرين عن خالد الحذاء عن أبى قلابة أبى المهلب عن عمران بن حصين أن النبى- صلى الله عليه وسلم صلى بهم، فسها فسجد سجدتين ثم تشهد ثم سلم. قال الترمذى: حسن غريب، وقال الحاكم: صحيح على شرطهما. وقال ابن حبان: ما روى ابن سيرين عن خالد غير هذا الحديث، وضعفه البيهقى وابن عبد البر وغيرهما.
ووهموا رواية أشعث لمخالفته غيره من الحفاظ عن ابن سيرين، فرواية أشعث شاذة.
لكن قد ورد فى التشهد فى سجود السهو عن ابن مسعود عند أبى داود والنسائى، وعن المغيرة عند البيهقى، وفى إسنادهما ضعف. فقد يقال إن الأحاديث الثلاثة فى التشهد باجتماعها ترتقى إلى درجة الحسن، قال العلائى: وليس ذلك ببعيد، وقد صح ذلك عن ابن مسعود من قوله. أخرجه ابن أبى شيبة. انتهى ملخصا من فتح البارى.
وفى رواية أبى سفيان عن أبى هريرة عند مسلم: صلى لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، فسلم فى ركعتين، فقام ذو اليدين فقال: أقصرت الصلاة يا رسول الله أم نسيت؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: «كل ذلك لم يكن» ، فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله.
وفى رواية أبى داود من طريق حماد بن زيد عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبى هريرة فى هذا الحديث قال: فكبر ثم كبر وسجد للسهو.
وهذا يؤيد من قال لا بد من تكبيرة الإحرام فى سجود السهو بعد السلام، والجمهور على الاكتفاء بتكبيرة السجود، وهو ظاهر غالب الأحاديث.
وقال أبو داود: لم يقل أحد: «كبر ثم كبر» إلا حماد بن زيد، فأشار إلى شذوذ هذه الزيادة. ويحتمل أن تكون الخشبة المذكورة فى هذا الحديث الجذع الذى كان- صلى الله عليه وسلم يستند إليه قبل اتخاذ المنبر. وإنما وقع الاستفهام «هل قصرت الصلاة؟» لأن الزمان كان زمان النسخ.
وقوله: فقال: «لم أنس ولم تقصر» صريح فى نفى النسيان ونفى القصر. وفيه تفسير للمراد بقوله فى رواية أبى سفيان المتقدمة «كل ذلك لم يكن» ، وتأييد لما قاله أصحابه المعانى بأن لفظة «كل» إذا تقدمت وعقبها النفى كان نفيا لكل فرد لا للمجموع، بخلاف ما إذا تأخرت، كأن يقول: لم يكن كل ذلك، ولهذا أجاب ذو اليدين فى رواية أبى سفيان بقوله: قد كان بعض ذلك، وأجابه فى هذه الرواية بقوله:«بلى قد نسيت» لأنه لما نفى الأمرين وكان مقررا عند الصحابة أن السهو غير جائز عليه فى الأمور البلاغية جزم بوقوع النسيان لا القصر.
وهو حجة لمن قال إن السهو جائز على الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- فيما طريقه التشريع. قال ابن دقيق العيد: وهو قول عامة العلماء والنظار، وشذت طائفة فقالوا: لا يجوز على النبى السهو، وهذا الحديث يرد عليهم- يعنى حديث ابن مسعود- فإن فيه «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون» . وإن كان القاضى عياض نقل الإجماع على عدم جواز دخول السهو فى الأقوال التبليغية، وخص الخلاف بالأفعال. لكنهم تعقبوه.
نعم اتفق من جوز ذلك على أنه لا يقر عليه، بل يقع له بيان ذلك، إما متصلا بالفعل أو بعده، كما وقع فى هذا الحديث من قوله:«لم أنس ولم تقصر» ثم تبين أنه نسى.
ومعنى قوله: «لم أنس» أى فى اعتقادى، لا فى نفس الأمر، ويستفاد منه: أن الاعتقاد عند فقد اليقين يقوم مقام اليقين، وفائدة السهو فى مثل ذلك بيان الحكم الشرعى إذا وقع مثله لغيره. وأما من منع السهو مطلقا، فأجابوا عن هذا الحديث بأجوبة:
فقيل: قوله «لم أنس» نفى للنسيان، ولا يلزم منه نفى السهو، وهذا قول من فرق بينهما، وقد تقدم تضعيفه، ويكفى فيه قوله فى هذه الرواية:
«بلى قد نسيت» وأقره على ذلك.
وقيل: قوله: «لم أنس» على ظاهره وحقيقته، وكان يتعمد ما يقع منه من ذلك ليقع التشريع منه بالفعل، لكونه أبلغ من القول.
وتعقب: بحديث ابن مسعود عند البخارى ومسلم بلفظ «صلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم فزاد أو نقص، شك بعض الرواة، والصحيح أنه زاد، فلما سلم قيل له: يا رسول الله أحدث فى الصلاة شئ؟ قال: «وما ذاك؟» قالوا:
صليت كذا وكذا، قالوا فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، فلما أقبل علينا بوجهه قال: «إنه لو حدث فى الصلاة شئ لنبأتكم به، ولكن
إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون. فإذا نسيت فذكرونى، وإذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين» «1» .
ففيه: إثبات العلة قبل الحكم، بقوله:«إنما أنا بشر مثلكم» ولم يكتف بإثبات وصف النسيان له، حتى دفع قول من عساه يقول: ليس نسيانه كنسياننا فقال: «كما تنسون» .
وبهذا الحديث أيضا يرد قول من قال: «معنى قوله لم أنس» إنكار اللفظ الذى نفاه عن نفسه حيث قال: «إنى لأنس أو أنسّى لأسن» «2» وإنكار للفظ الذى أنكره على غيره حيث قال: «بئسما لأحدكما أن يقول نسيت آية كذا وكذا» «3» .
وقد تعقبوا هذا أيضا بأن حديث «لا أنسى» لا أصل له، فإنه من بلاغات مالك التى لم توجد موصولة بعد البحث الشديد، وهى أربعة، قاله ابن عبد البر. وأما الآخر فلا يلزم من ذم إضافة نسيان الآية ذم إضافة نسيان كل شئ، فإن الفرق بينهما واضح جدّا.
وقيل: إن قوله «لم أنس» راجع إلى السلام، أى سلمت قصدا بانيا على اعتقادى أنى صليت أربعا، وهذا جيد، وكأن ذا اليدين فهم العموم فقال:«بلى قد نسيت» ، وكأن هذا القول أوقع شكّا احتاج معه إلى استثبات الحاضرين.
وبهذا التقرير يندفع إيراد من استشكل كون ذى اليدين عدلا ولم يقبل خبره بمفرده، فسبب التوقف فيه كونه أخبر عن أمر يتعلق بفعل المسئول مغايرا لما فى اعتقاده.
(1) تقدم.
(2)
أخرجه ملك فى الموطأ (225) فى السهو، باب: العمل فى السهو.
(3)
صحيح: أخرجه البخارى (5032) فى فضائل القرآن، باب: استذكار القرآن وتعهده، بلفظ (نسيت آية كيت وكيت) ، ومسلم (790) فى صلاة المسافرين، باب: الأمر بتعهد القرآن وكراهة قول نسيت آية كذا. من حديث ابن مسعود- رضى الله عنه-.
وبهذا يجاب من قال: إن من أخبر بأمر حسى بحضرة جمع لا يخفى عليهم ولا يجوز عليهم التواطؤ، ولا حامل لهم على السكوت، ثم لم يكذبوه أنه لا يقطع بصدقه، فإن سبب عدم القطع كون خبره معارضا باعتقاد المسئول خلاف ما أخبر به.
وفيه: أن الثقة إذا انفرد بزيادة خبر وكان المجلس متحدا، وامتنع فى العادة غفلتهم عن ذلك أنه لا يقبل خبره.
وفيه: جواز البناء على الصلاة لمن أتى بالمنافى سهوا. وقال سحنون:
إنما يا بنى من سلم من ركعتين كما فى قصة ذى اليدين، لأن ذلك وقع على غير القياس، فيقتصر فيه على مورد النص. وألزم بقصر ذلك على إحدى صلاتى العشى، فيمنعه مثلا فى الصبح، والذين قالوا بجواز البناء مطلقا قيدوه بما إذا لم يطل الفصل.
وفيه: أن الكلام سهوا لا يقطع الصلاة، خلافا للحنفية، واستدل به على أن تعمد الكلام لمصلحة الصلاة لا يبطلها.
وتعقب: بأنه- صلى الله عليه وسلم لم يتكلم إلا ناسيا، وأما قول ذى اليدين له:
«بلى قد نسيت» وقول الصحابة له: «صدق ذو اليدين» فإنهم تكلموا معتقدين للنسخ فى وقت يمكن وقوعه، فتكلموا ظنّا أنهم ليسوا فى صلاة. كذا قيل، وهو فاسد، لأنهم تكلموا بعد قوله- صلى الله عليه وسلم:«لم تقصر» .
وأجيب: بأنهم لم ينطقوا، وإنما أومؤوا، كما عند أبى داود فى رواية ساق مسلم إسنادها، وهذا اعتمده الخطابى، وقال: حمل القول على الإشارة مجاز سائغ، بخلاف عكسه، فينبغى رد الروايات التى فيها التصريح بالقول إلى هذه الرواية، وهو قوى، أقوى من قول غيره: يحمل على أن بعضهم قال بالنطق وبعضهم قال بالإشارة. لكن يقول قول ذى اليدين: «بلى قد نسيت» .
ويجاب عنه وعن البقية على تقدير ترجيح أنهم نطقوا: بأن كلامهم كان
جوابا للنبى- صلى الله عليه وسلم، وجوابه لا يقطع الصلاة. وتعقب: بأنه لا يلزم من وجوب الإجابة عدم قطع الصلاة.
وأجيب: بأنه ثبتت مخاطبته فى التشهد، وهو حى، بقولهم: السلام عليك أيها النبى، ولم تفسد الصلاة، والظاهر: أن ذلك من خصائصه. وعن عبد الله أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا، فقيل له: أزيد فى الصلاة؟ فقال: «وما ذاك؟» قالوا: صليت خمسا، فسجد سجدتين بعد ما سلم. رواه البخارى ومسلم وأبو داود والترمذى والنسائى بهذا اللفظ، إلا أن مسلما لم يقل فيه:«بعد ما سلم» وعبد الله هذا هو ابن مسعود. ففى هذه الأحاديث السجود بعد السلام. وقد اختلف فى ذلك.
فقال مالك والمزنى، وأبو ثور- من الشافعية- بالتفرقة إذا كان السهو بالنقصان أو بالزيادة، فى الأول يسجد قبل السلام، وفى الزيادة يسجد بعده.
وزعم ابن عبد البر أنه أولى من قول غيره، للجمع بين الخبرين، قال: وهو موافق للنظر، لأنه فى النقص جبر، فينبغى أن يكون من أصل الصلاة، وفى الزيادة ترغيم للشيطان، فيكون خارجها.
وقال ابن دقيق العيد: لا شك أن الجمع أولى من الترجيح وادعاء النسخ، ويترجح الجمع المذكور بالمناسبة المذكورة، وإذا كانت المناسبة ظاهرة وكان الحكم على وفقها فيعم الحكم جميع محالها فلا يتخصص إلا بنص.
وتعقب بأن كون السجود فى الزيادة ترغيما للشيطان فقط ممنوع، بل هو جبر أيضا لما وقع من الخلل، فإنه وإن كان زيادة فهو نقص فى المعنى.
وقال الخطابى: لم يرجع من فرق بين الزيادة والنقصان إلى فرق صحيح. وأيضا فقصة ذى اليدين وقع فيها السجود بعد السلام وهى عن نقصان.
وأما قول النووى: أقوى المذاهب قول مالك ثم أحمد، فقد قال غيره:
بل طريق أحمد أقوى، لأنه قال: يستعمل كل حديث فيما يرد فيه، وما لم يرد فيه شئ يسجد قبل السلام، قال: ولولا ما روى عن النبى- صلى الله عليه وسلم فى ذلك لرأيت كله قبل السلام، لأنه من شأن الصلاة فيفعل قبل التسليم. وعند
إمامنا الشافعى: سجود السهو كله قبل السلام. وعند الحنفية: كله بعد السلام، واعتمد الحنفية على حديث ابن مسعود هذا.
وتعقب: بأنه لم يعلم بزيادة الركعة إلا بعد السلام حين سألوه: هل زيد فى الصلاة، وقد اتفق العلماء فى هذه الصورة على أن سجود السهو بعد السلام لتعذره قبله، لعدم علمه بالسهو، وإنما تابعه الصحابة لتجويزهم الزيادة فى الصلاة، لأنه كان زمان توقع النسخ.
وأجاب بعضهم: بما وقع فى حديث ابن مسعود من الزيادة. وهى:
«إذا شك أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب، فليتم عليه ثم يسلم، ثم يسجد سجدتين» «1» .
وأجيب: بأنه معارض بحديث أبى سعيد عند مسلم، ولفظه:«إذا شك أحدكم فى صلاته فلم يدر كم صلى، فليطرح الشك وليبن على ما استيقن، ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم» «2» . وبه تمسك الشافعية.
وجمع بعضهم بينهما بحمل الصورتين على حالتين، ورجح البيهقى طريقة التخيير فى سجود السهو قبل السلام أو بعده. ونقل الماوردى الإجماع على الجواز، وإنما الخلاف فى الأفضل، وكذا أطلق النووى.
وتعقب: بأن إمام الحرمين نقل فى «النهاية» الخلاف فى الإجزاء عن المذهب: واستبعد القول بالجواز. ويمكن أن يقال: الإجماع الذى نقله الماوردى والنووى قبل هذه الآراء فى المذاهب المذكورة والله أعلم، قاله الحافظ ابن حجر- رحمه الله. ولو سها سهوين فأكثر، كفاه عند الشافعى ومالك وأبى حنيفة وأحمد سجدتان للجميع. والجمهور: أنه يسجد للسهو فى التطوع كالفرض.
(1) تقدم.
(2)
صحيح: أخرجه مسلم (571) فى المساجد، باب: السهو فى الصلاة والسجود له، من حديث أنس- رضى الله عنه-.